الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيه إشارة، إلى أن كل من عمل بمتابعة هواه، وترك لله حدًّا، ونقض له عهدًا، فهو متخذ الشياطين أولياء؛ لأنه يعمل بأوامرهم، وأفعاله موافقة لطباعهم، الله حفيظ عليهم بأعمال سرهم وعلانيتهم، إن شاء عذّبهم، وإن شاء عفا عنهم، وما أنت عليهم بوكيل، لتمنعهم عن معاملتهم، فعلى العاقل أن لا يتخذ من دون الله أولياء، بل يتفرد بمحبة الله تعالى وولايته، كما قال تعالى:{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} حتى يتولاه في جميع أموره. وما أحوجه إلى أحد سواه.
حكاية: وقال الأستاذ أبو علي الدقاق - رحمه الله تعالى -: ظهرت علة بالملك يعقوب بن الليث، أعيت الأطباء، فقالوا له: في ولايتك رجل صالح، يسمى سهل بن عبد الله، لو دعا لك، لعل الله يستجيب له، فاستحضره فقال: ادع الله لي، فقال: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي حبسك مظلومون، فأطلق كل من حبسه، فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية، فأره عز الطاعة، وفرج عنه، فعوفي، فعرض مالًا على سهل، فأبى أن يقبله، فقيل له: لو قبلته ودفعته إلى الفقراء، فنظر إلى الحصباء في الصحراء، فهذا هي جواهر فقال: من يُعطى مثل هذا، يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ فالمعطي والمانع والضار والنافع هو الله، الولي، الوكيل، الذي لا إله غيره.
والمعنى: أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام، والأوثان، يعبدونها، الله هو المراقب لأعمالهم، المحصي لأفعالهم، وأقوالهم، المجازي لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون، ولست أنت أيها الرسول، بالحفيظ عليهم، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم، إن عليك إلا البلاغ، وعلينا الحساب، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم، إلا إذا شاء ربك.
7
- والإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} إلى مصدر أوحينا، ومحل الكاف النصب على المصدرية. وقرآنًا عربيًا مفعول به لأوحينا؛ أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع، الواضح المفهم، أوحينا إليك إيحاء لا لبس به، عليك وعلى قومك.
والمعنى (1): أي أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا، بلسان قومك، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه. {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى}؛ أي (2): لتخوف أهل مكة بعذاب الله، على تقدير إصرارهم على الكفر، والعرب تسمي أصل كل شيء بالأم، سميت أم القرى تشريفًا لها، وإجلالًا لاشتمالها على البيت المعظم، ومقام إبراهيم عليه السلام، ولما رُوي من أن الأرض دحيت من تحتها، فمنزلة القرى منها. البنات من الأمهات {وَمَنْ حَوْلَهَا}؛ أي: حول أم القرى من العرب، وتفسير من حولها بالعرب لا ينافي عموم رسالته صلى الله عليه وسلم؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا ينافي حكم ما عداه. وقيل: من أهل الأرض كلها شرقًا وغربًا، وبذلك فسره البغوي فقال: من قرى الأرض كلها، وكذا القشيري حيث قال: العلم محدق بالكعبة ومكة؛ لأنهما سرة الأرض.
والمعنى (3): أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البيّن، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا بلسان قومك، لاخفاء فيه عليك، ولا عليهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، ولتنذر به أهل مكة، وما حولها من البلاد، إلى منقطع الأرض كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه.
وقصارى ذلك: أنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم، ولا بالوكيل، أوحينا إليك قرآنًا عربيًا، لتنذر أهل مكة وما حولها، وخص هؤلاء بالذكر؛ لأنهم أول من أنذروا، ولأنهم أقرب الناس إليه، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة، كيف وقد جاء في آية أخرى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} .
وهذا الإنذار يعم شؤون الدنيا وشؤون الآخرة، ثم خصَّ من بينها أمور الآخرة، بيانًا لعظيم أهوالها، وشديد نكالها فقال:{وَتُنْذِرَ} أهل مكة ومن حولها {يَوْمَ الْجَمْعِ} ؛ أي (4): بيوم القيامة وما فيه من العذاب، سمي يوم الجمع:
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
(3)
المراغي.
(4)
روح البيان.
لأنه يجمع فيه الخلائق من الأولين والآخرين، وأهل السموات وأهل الأرض، أو الأرواح والأشباح أو الأعمال والعمال، أو الظالم والمظلوم، فالباء محذوف من اليوم، كا قال: لتنذر بأسًا شديدًا؛ أي: ببأس شديد. كما قاله أبو الليث. فيكون مفعولًا به لا ظرفًا، كما في "كشف الأسرار". وقد سبق نظير ذلك في سورة المؤمن: عند قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} .
وجملة قوله: {لَا رَيْبَ فِيهِ} ؛ أي: لا شك في يوم الجمع، جملة معترضة، مقررة لما قبلها، لا محل لها من الإعراب، أو صفة ليوم الجمع، أو حال منه، أي: لا بدّ من مجيء ذلك اليوم، وليس بمرتاب فيه في نفسه وذاته، لأنه لا بدّ من جزاء العاملين من المنذرين وأهل الجنة والنار، وارتياب الكفار فيه لا يعتد به. أو لا شك في الجمع أنه كائن، ولا بد من تحققه.
والمعنى (1): أي ولتنذر الخلائق كافة، عقاب الله، يوم جمعهم للعرض والحساب، وهو يوم لا شك فيه، لتظاهر الأدلة على تحققه، عقلًا ونقلًا، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، ولما فيه من نصوص قاطعة، على وجوده، لا تحتمل تأويلًا، ولا تفسيرًا.
ثم ذكر عاقبة العرض والحساب، فقال:{فَرِيقٌ} منهم، وهم المؤمنون {فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ} منهم وهم الكافرون {فِي السَّعِيرِ}؛ أي: في النار سميت بها لالتهابها، وذلك بعد جمعهم في الموقف؛ لأنهم يجمعون فيه أولًا، ثم يفرّقون بعد الحساب، وقرأ الجمهور (2): برفع {فَرِيقٌ} : في الموضعين، إما على أنه مبتدأ، وخبره الجار والمجرور، وسوّغ الابتداء بالنكرة، كونه في معرض تفصيل، أو كونه موصوفًا بصفة محذوفة؛ أي: فريق منهم، كما قدّرناه أولًا في حلنا، أو على أن الخبر مقدّر قبله، أي: منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير. وجاز حينئذٍ الابتداء بالنكرة لأمرين تقديم خبرها، وهو الجار والمجرور المحذوف، ووصفها بقوله في الجنة، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو ضمير
(1) المراغي.
(2)
الشوكاني.
عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع؛ أي: هم فريق في الجنة وفريق في السعير، وقرأ زيد بن عليّ {فريقًا} بالنصب في الموضعين على الحال، من جملة محذوفة؛ أي: افترقوا حال كونهم فريقًا كذا وفريقًا كذا. وجوّز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقًا. والضمير المجرور في منهم للمجموعين، لدلالة لفظ الجمع عليه، فإن المعنى يوم يجمع الخلائق في موقف الحساب.
وفي "التأويلات النجمية"(1): وتنذر يوم الجمع بين الأرواح والأجساد، لا شك في كونه، وكما أنهم اليوم فريقان: فريق في جنة القلوب، وراحات الطاعات، وحلاوات العبادات، وتنعّمات القربات، وفريق في سعير النفوس، وظلمات المعاصي، وعقوبات الشرك، والجحود، فكذلك غدًا، فريق هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء والبلاء.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، قابضًا على كفّه، ومعه كتابان، فقال:"أتدرون ما هذان الكتابان" قلنا: لا يا رسول الله، فقال: للذي في يده اليمنى "هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وعشائرهم، وعدّتهم، قبل أن يستقرّوا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفًا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم، إلى يوم القيامة"، ثم قال: للذي في يساره: "هذا كتاب من رب العالمين، بأسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وعشائرهم، وعدّتهم، قبل أن يستقروا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة. فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذًا؟ قال: اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيّ عمل، ثمّ قال: فريق في الجنة وفريق في السعير، عدل
(1) روح البيان.