الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الآية (1): احتباك، حيث أثبت الإشفاق أولًا، دليلًا على حذف الأمن ثانيًا، وأثبت الجنات ثانيًا، دليلًا على حذف النيران أولًا، كما سيأتي في مبحث البلاغة.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ} إلى ما ذكر للمؤمنين، وهو مبتدأ، خبره جملة قوله:{هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير} ؛ أي: ذاك المذكور من أجر المؤمنين، هو الفضل العظيم، والمن الجسيم، الذي يصغر دونه ما لغيرهم من الدنيا، أو تحقر عنده الدنيا بحذافيرها من أولها إلى آخرها. وهذا في حق الأمة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فمخصوص بالفضل العظيم، كما قال تعالى:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} .
23
- {ذَلِكَ} ؛ أي: الفضل الكبير، وهو مبتدأ، خبره قوله:{الَّذِي} ؛ أي: ذلك الفضل المذكور هو الثواب الذي {يُبَشِّرُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى به {عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ؛ أي: يبشرهم به على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول؛ لأنهم لا يجوزون حذف المفعول الجار والمجرور، إلا على التدريج، بخلاف مثل: السمن منوان بدرهم؛ أي: منه؛ أي (2): ذلك الذي أخبرتكم بأني أعددته في الآخرة من النعيم، والكرامة، لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال. هي البشرى التي أبشركم بها في الدنيا، ليتبين لكم أنها حق، وأنها كائنة لا محالة.
والخلاصة: أن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل، بما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، هم المبشرون بتلك البشارة.
يقول الفقير: حكمة تخصيص الروضة، وتعميم المشيئة، أن أكثر بلاد العرب خالية عن الأنهار الجارية والروضات، وأنهم لا يجدون كل المشتهيات، فيشوقهم بذلك ليكونوا على أهبة وتدارك، ولا يقيسوا الآخرة على الدنيا، فإن الدنيا محل البلاء والآفات، والآخرة دار النعيم والضيافات، وتدارك كل ما فات، فمن أحب مولاه اجتهد في طريق رضاه.
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
قال شقيق البلخي رحمه الله تعالى: رأيت في طريق مكة مقعدًا، يزحف على الأرض، فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من سمرقند، قال: قلت: وكم لك في الطريق؟ فذكر أعوامًا تزيد على العشرة، فرفعت طرفي انظر إليه متعجبًا، فقال لي: يا شقيق، مالك تنظر إليّ، فقلت: متعجبًا من ضعف مهجتك، وبعد سفرتك، فقال لي: يا شقيق، أما بعد سفرتي فالشوق يقربها، وأما ضعف مهجتي فمولاها يحملها، يا شقيق، أتعجب من عبد ضعيف يحمله المولى اللطيف، فمن وصل إليه بشارة الله بفضله وجوده .. هان عليه بذل وجوده.
قرأ الجمهور (1): {يُبَشِّرُ} : بتشديد الشين من بشر المضاعف، وعبد الله بن يعمر، وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة، في رواية: والكسائي وحمزة {يبشر} ثلاثيًا، وقرأ حميد بن قيس ومجاهد:{يبشر} بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر الرباعي، وهو معدى بالهمزة، من بشر، اللازم المكسور الشين، وأما بشر بفتحها فمتعد، وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية؛ لأن المتعدي إلى واحد، وهو مخفف لا يعلى بالتضعيف إليه، فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية.
وبعد أن ذكر سبحانه، ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الأحكام، التي اشتمل عليها كتابه، أمره أن يخبرهم: بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرًا، فقال:{قُلْ} يا محمد لقريش قومك {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} ؛ أي: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة {أَجْرًا} ؛ أي: جعلا ولا نفعًا، كما لا يطلب الأنبياء من قبلي أجرًا على تبليغهم الرسالة {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} المودة (2) مودة الرسول صلى الله عليه وسلم، والقربى مصدر، كالزلفى بمعنى القرابة، التي هي بمعنى الرحم. و {فِي} للسببية، أو بمعنى اللام، متعلقة بالمودة، ومودته كناية عن ترك أذيته، والجري على موجب قربته سمى عليه السلام المودة أجرًا، واستثناها منه تشبيهًا لها به، والاستثناء من قبيل قول من قال:
(1) البحر المحيط.
(2)
روح البيان.
وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُوْلٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائبِ
وذلك لأنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب الأجر، أيًا كان على تبليغ الرسالة؛ لأن الأنبياء لم يطلبوه، وهو أولى بذلك؛ لأنه أفضل، ولأنه صرح بنفيه في قوله:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} ، ولأن التبليغ واجب عليه، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق به، ولأن متاع الدنيا أخس الأشياء، فكيف يطلب في مقابلة تبليغ الوحي الإلهي الذي هو أعز الأشياء؛ لأن العلم جوهر ثمين، والدنيا خزف مهين، ولأن طلب الأجر يوهم التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة. وقرأ الجمهور {إِلَّا الْمَوَدَّةَ} وقرأ زيد بن علي {إلا مودة} .
فمعنى الآية (1): قل لا أسألكم على التبليغ أجرًا أصلًا، إلا أن تودوني لأجل قرابتي منكم وبسببها، وتكفوا عني الأذى، ولا تعادوني إن كان ذلك أجرًا يختص بي، لكنه ليس بأجر؛ لأنه لم يكن بطن من بطونكم يا قريش، إلا وبيني وبينها قرابة فإذا كانت قرابتي قرابتكم، فصلتي، ودفع الأذى عني لازم لكم في الشرع والعادة والمروءة، سواء كان مني التبليغ أو لا، وقد كنتم تتفاخرون بصلة الرحم، ودفع الأذى عن الأقارب، فما لكم تؤذونني والحال ما ذكر.
ويجوز أن يراد بالقربى: أهل قرابته صلى الله عليه وسلم على تقدير المضاف وبالمودة مودة أقربائه، وترك أذيتهم، فكلمة {فِي} على هذا للظرفية، والظرف حال من المودة، والمعنى: إلا أن تودوا أهل قرابتي، مودةً ثابتة، متمكنة فيهم. وقد اختلف في هذه الآية اختلافًا كثيرًا، يرجع إليه في المطولات، وأحسن ما قرأناه في صددها، ما ذكره مجاهد وقتادة.
وخلاصته: أنكم قومي، وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك، فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي، ولا تؤذوني.
وفي "الخازن": فإن قلت (2): طلب الأجر على تبليغ الرسالة والوحي، لا
(1) روح البيان.
(2)
الخازن.
يجوز، لقوله في قصة نوح عليه السلام وغيره من الأنبياء:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)} .
قلت: لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على تبليغ الرسالة، بقي الجواب عن قوله:{إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فالجواب عنه من وجهين:
الأول: معناه لا أطلب منكم إلا هذا، وهذا في الحقيقة ليس بأجر، نظير قوله:(وَلَا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوْفَهُمْ)، البيت، معناه: إذا كان هذا عيبهم، فليس فيهم عيب بل هو مدح فيهم؛ ولأن المودة بين المسلمين أمر واجب، وإذا كان كذلك في حق جميع المسلمين، كان في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أولى. فقوله:{لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فالمودة في القربى ليست أجرًا في الحقيقة؛ لأن قرابته قرابتهم، فكانت مودتهم وصلتهم لازمة لهم، فثبت أن لا أجر البتة.
والوجه الثاني: أن هذا الاستثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} ، ثم ابتدأ فقال:{إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ؛ أي: لكن أذكركم المودة في قرابتي، الذين هم قرابتكم، فلا تؤذوهم.
واختلف أهل العلم في قرابته صلى الله عليه وسلم. فقيل: علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، وقيل: أهل بيته من تحرم عليهم الصدقة من أقاربه، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين لم يفترقوا في الجاهلية، ولا في الإِسلام.
روى مسلم عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى، واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:"وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"، فقال له حصين: من أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرمت عليه الصدقة بعده، قال: ومن هم قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، انتهى.
{وَمَنْ يَقْتَرِفْ} ويكتسب {حَسَنَةً} ؛ أي حسنة (1) كانت سيما مودة قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن السدي: أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ومودته فيهم، والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولًا أوليًا لذكرها عقب ذكر المودة في القربى؛ أي: ومن يكتسب حسنة واحدة، ولو مثقال ذرة {نَزِدْ لَهُ}؛ أي: لذلك العامل {فِيهَا} ؛ أي: في جزاء تلك الحبسنة {حُسْنًا} ؛ أي: فضلًا وزيادة على قدر ما يستحقه، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، فما فوق، كقوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} .
وقرأ الجمهور (2): {نَزِدْ لَهُ} بالنون، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي:{يزد} بالياء؛ أي: يزد الله. وقرأ الجمهور: {حُسْنًا} : بالتنوين، وعبد الوارث عن أبي عمرو:{حسنى} بغير تنوين، على وزن رجعى وبشرى، وزيادة حسنها مضاعفة أجرها.
والمعنى (3): أي ومن يعمل عملًا فيه طاعة الله ورسوله، نزد له فيه أجرًا وثوابًا، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أمثالها، إلى سبع مئة ضعف إلى ما فوق ذلك، فضلًا منا ورحمة. ونحو الآية قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} .
{إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {غَفُورٌ} ؛ أي: كثير المغفرة للمذنبين {شَكُورٌ} ؛ أي: كثير الشكر للمطيعين بتوفيقه الثواب، والتفضل عليه بالزيادة، فالشكر (4) من الله مَجَازٌ عن هذا المعنى؛ لأن معناه الحقيقي، وهو فعل ينبيء عن تعظيم المنعم، لكونه منعمًا لا يتصور من الله سبحانه، لامتناع أن ينعم عليه أحد، حتى يقابل بالشكر، شبهت الإثابة والتفضل بالشكر، من حيث إن كل واحد منهما يتضمن الاعتداد بفعل الغير، وإكرامًا لأجله؛ أي: إنه تعالى يغفر الكثير من
(1) النسفي.
(2)
البحر المحيط.
(3)
المراغي.
(4)
روح البيان.