الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قادر متمكن منه. وقوله: {هُوَ} (1) مبتدأ. و {قَدِيرٌ} خبره. و {عَلَى جَمْعِهِمْ} متعلق بقدير، وإذا مجردة عن معنى الشرط، متعلقة بجمعهم لا بقدير، لفساد المعنى. فإن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته، و {إذا} عند كونها بمعنى الوقت، مجردة عن الشرط كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، كقوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} .
والمعنى (2): أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر، خلق السموات والأرض، وما نشر فيهما من دابة، تدب وتتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وهو يجمعهم يوم القيامة، فيجمع الأولين والآخرين، وسائر الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل، وهو اللطيف الخبير.
وقصارى ذلك: أنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة، إذا شاء جمعه، كما لم يتعذر خلقه وتفريقه.
30
- ثم ذكر سبحانه دستورًا للناس في أعمالهم، إذا تأملوه .. أقلعوا عما يرتكبونه من الآثام، فقال:{وَمَا أَصَابَكُمْ} ؛ أي (3): والذي وصل إليكم أيها الناس {مِنْ مُصِيبَةٍ} أي مصيبة كانت، من الآلام والأسقام والقحط والخوف، حتى خدش العود وعثرة القدم واختلاج العرق وغير ذلك، في البدن، أو في المال، أو في الأهل والعيال، ويدخل فيه الحدود على المعاصي، كما أنه يدخل في قوله:{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ما لم يجعل له حد {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ؛ أي: فهو واقع بكم بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، فإن ذكر الأيدي لكون أكثر الأعمال، مما يزاول بها، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق، أقله التقصير.
وفي الحديث: "لا يرد القدر إلا بالدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن
(1) روح البيان.
(2)
المراغي.
(3)
روح البيان.
الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقوله: لا يرد القدر إلخ؛ لأن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لدفع البلاء، وجلب الشرح؛، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، وقال الضحاك: ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب، وأي معصية أقبح من نسيان القرآن، وتلا الآية.
وقرأ نافع وابن عامر (1): {بما كسبت} بغير فاء، وقرأ الباقون بالفاء. و {ما} في قوله:{وَمَا أَصَابَكُمْ} هي الشرطية، ولهذا دخلت الفاء في جوابها، على قراءة الجمهور، ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور، وجوز الأخفش الحذف كما في قوله:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، وقول الشاعر:
مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
…
وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ الله مِثْلَانِ
وقيل: هي الموصولة، فيكون الحذف والإثبات جائزين، والأول أولى، وقال الزجاج: إثبات الفاء أجود؛ لأن الفاء مجازاة جواب الشرط، ومن حذف الفاء، فعلى أن {ما} في معنى الذي، وقال بعضهم:{ما} موصول مبتدأ، دخلت الفاء في خبره، لتضمنه معنى الشرط.
والمعنى: والذي أصابكم، فواقع بما كسبت أيديكم، قال الحسن: المصيبة هنا: الحدود على المعاصي، والأولى العمل على العموم، كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي، ودخول من الاستغراقية عليها.
{وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} من الذنوب التي يفعلها العباد، فلا يعاقب عليها، ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة، وهذا من تتمة قوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .
والمعنى (2): أي وما يحل بكم أيها الناس، من المصائب في الدنيا، فإنما تصابون به عقوبة لكم، على ما اجترحتم من الآثام، واقترفتم من الشرور والمعاصي، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم، فلا يعاقبكم بها، وقد ثبتت الأدلة
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
الصحيحة، أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا. يؤجر عليه، أو يكفر عنه من ذنوبه، وقيل: هذه الآية مختصة بالكافرين، على معنى أن ما يصابون به، بسبب ذنوبهم، من غير أن يكون ذلك مكفرًا عنهم لذنب، ولا محصلًا لثواب، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم، فلا يعاجلهم في الدنيا، بل يمهلهم إلى الدار الآخرة، والأولى حمل الآية على العموم، والعفو يصدق على تأخير العقوبة، كما يصدق على هو الذنب ورفع الخطاب به.
فالله سبحانه (1) جعل للذنوب أسبابًا، لها نتائجها ومسبباتها، فشارب الخمر، يصاب بكثير من الأمراض الجسمية، والعقلية في الدنيا، وهي أثر من آثار ما اجترح من الذنوب، والتاجر غير الأمين، أو الكذاب، تصاب تجارته بالكساد، ويشهر بين الناس بالخيانة، فيحجمون عن معاملته، والحكام المرتشون، الظلمة، الذين يجمعون أموالهم بالسحت، يصابون بالفقر والعدم، ويصبحون مثلًا بين الناس، وإن لم يصبهم الفقر .. يصب أولادهم، فيصبحوا بحال يرثى لها، ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة، والأمم الظالمة، التي لا تناصر بين أفرادها، بل بينها التقاطع، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر، تصاب بالمهانة بعد العظمة، والذلة بعد العزة، وما الأمثال في ذلك بعزيزة.
وقد تقدم أن قلنا في غير موضع: إن عقاب الأفراد في الدنيا ليس بالمطرد، إذ كثيرًا ما نرى سكيرًا عربيدًا، لا يصاب بأذى مما يفعل، ونرى تاجرًا يخون الأمانة، ولا يصاب بكساد في تجارته، وحينئذٍ يكون عقاب كل منهما مؤجلًا ليوم الحساب، إن شاء ربك عاقب، وإن شاء عفا بعد التوبة، عما فرط منهما من الذنوب، والآثام.
وأما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات، فهو محقق في الدنيا، ولدينا عظة التاريخ في القديم والحديث، فما من أمة تركت أوامر دينها، وخالفت نواميس العمران، إلا زالت وصارت كأمس الدابر، وأصبحت عبرة للباقين. ومثلًا
(1) المراغي.