الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأولياء جاؤوا وذهبوا من طريق البلاء، وقد ثبت أن النار لا ترتفع من الدنيا أبدًا، فكيف يؤمل العاقل الراحة في الدنيا، فهي دار محنة، وقد ورد:"الدنيا سجن المؤمن" فالمؤمن لا يستريح في الدنيا، ولا يخلو من قلة أو علة أو ذلة، وله راحة عظمى في الآخرة، والكافر خاسر في الدنيا والآخرة، فعلى العبد أن يمشي على الصراط السوي، ويخاف من الزلق، ومن مكر الله تعالى.
وفي "فتح الرحمن": قال هنا (1): {ثُمَّ كَفَرْتُمْ} عاطفًا بثم، وفي الأحقاف قال:{وكَفَرْتُمْ} عاطفًا بالواو، فما الفرق بين الموضعين قلتُ: عطف هنا بـ {ثُمّ} لأن المعنى: ثم كان عاقبة أمركم بعد الإمهال، للنظر والتدبر الكفر، فناسب ذكر {ثُمَّ} الدالة على الترتيب، وما في الأحقاف لم ينظر فيه إلى ترتيب كفرهم على ما ذكر، بل عطف على {كَفَرْتُمْ} و {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} بالواو، فناسب ذكرها لدلالتها على مطلق الجمع.
والمعنى (2): أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن، الذي جئتهم به من عند ربك: أخبروني أيها القوم: إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون، من عند ربي، ثم كفرتم به .. أفلا تكونون مفارقين للحق، بعيدين من الصواب، وقد كانوا كلما سمعوا القرآن، أعرضوا عنه، وبالغوا في النفرة منه، حتى قالوا {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} ، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر، والتأمل فيه، فإن دلّ دليل على صحته قبلوه، وإن أرشد إلى فساده تركوه، أما قبل ذلك، فالإصرار على الإعراض والإنكار، بعيدان عن الصواب وعما يحكم به العقل، فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.
وخلاصة ذلك: قل لهم: من أشد ذهابًا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله، وخلاف له، وبعد عنه.
53
- وبعد أن ذكر أدلة التوحيد، والنبوة، أجاب عن شبهات المشركين، وتمويهات الضالين، فقال:{سَنُرِيهِمْ} ؛ أي: سنري كفار قريش {آيَاتِنَا} ؛ أي:
(1) فتح الرحمن.
(2)
المراغي.
دلائلنا الدالة على قدرتنا. ووحدانيتنا المذكورة في القرآن، المبينة لهم فيما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، من الحكمة الدالة على صدق القرآن وحقيقته، وكونه من عند الله تعالى حالة كون تلك الآيات {فِي الْآفَاقِ}؛ أي: في آفاق الأرض ونواحيها والمراد (1) بالآيات الآفاقية: ما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية، كغلبة الروم على فارس في بضع سنين، وآثار النوازل الماضية، الموافقة لما هو المضبوط، المقرّر عند أصحاب التواريخ، والحال، أنه صلى الله عليه وسلم أميّ لم يقرأ، ولم يكتب، ولم يخالط أحدًا، وما يسر الله له، ولخلفائه من الفتوح، والظهور على آفاق الدنيا، والاستيلاء على بلاد المشارق، والمغارب، على وجه خارق للعادة، إذا لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم {و} حالة كونها {فِي أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: في أنفس أهل مكة، والمراد بالآيات التي في أنفسهم، هو ما ظهر بين أهل مكة من القحط والخوف، وما حل بهم يوم بدر ويوم الفتح من القتل والمقهورية، ولم ينقل إلينا أن مكة فتحت على يد أحد، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قتل أهلها وأسرهم.
وقيل (2): المراد بالآفاق: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم وما يترتب عليها من الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات ومن النبات والأشجار والأنهار، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة في تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتراكيب الغريبة، كقوله تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} .
واعتذر بأن معنى السين - مع أن اراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك - أنه تعالى سيطلعهم على تلك الآيات زمانًا فزمانًا، ويزيدهم وقوفًا على حقائقها يومًا فيومًا، قالوا: الآفاق هو العالم الكبير، والأنفس هو العالم الصغير {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} ويتضح {لَهُم}؛ أي: لأهل مكة بما أريناهم من تلك الآيات. المذكورة في القرآن، أو في الحكمة {أَنَّهُ}؛ أي: أنّ القرآن أو الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم،
(1) روح البيان.
(2)
روح البيان.
فالقصر المستفاد من تعريف المسند حقيقي ادعائي، أو الله أو التوحيد فالقصر إضافي تحقيقي؛ أي: لا الشركاء ولا التشريك، والأول أولى، والضمائر في {سَنُرِيهِمْ} {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} {وَلَهُمْ} للمشارفين منهم على الاهتداء، أو للجميع، على أنه من وصف الكل بوصف البعض.
والمعنى (1): أي سنري هؤلاء المشركين، وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة، وبمكة بما أجريناه على يدي نبينا، وعلى يدي خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإِسلام وأهله، ووهن الباطل وحزبه، حتى يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأن وعده صادق، وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.
والخلاصة: سنيسر لهم من الفتوح، ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة، ونجري على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود الخارقة للعادة، فيستبين لهم أنّ هذا القرآن هو الحق، ومن ثمّ نصر حامليه، وأظهرهم على أعدائهم في قليل من الزمان.
ثمّ وبّخهم على إنكارهم تحقّق هذه الإراءة وحصولها فقال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} استئناف وارد (2) لتوبيخهم على تردّدهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى والهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف يقتضيه السياق، والباء مزيدة للتأكيد؛ أي: ألم يغن، ولم يكف ربك {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بدل منه؛ أي: ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة، المبينة لحقّية القرآن، ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء، وقد أخبر بأنه من عنده، فعدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم، كما يصرحه قوله الآتي:{أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} وقرىء (إن) بكسر الهمزة على إضمار القول، أو على الاستئناف.
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.