الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند ربي في الآخرة {لَلْحُسْنَى} ؛ أي: للحالة الحسنة من الكرامة، فظنّ أنه استحقّ خير الدنيا بما فيه من الفضل، واستحق خير الآخرة بذلك الفضل، الذي اعتقده في نفسه، وأثبته لها، فقاس أمر الآخرة على أمر الدنيا بالوهم المحض، والأمنية الكاذبة، وهو اعتقاد باطل، وظن فاسد.
وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال، ذكر أنه سيظهر لهم، أنّ الأمر بعكس ما يظنون وبضد ما يعتقدون، فقال:{فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ أي: فعزتي وجلالي، لنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون فيه إلينا، وهو يوم القيامة {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا من المعاصي، واجترحوا من الآثام، وما دسوا به أنفسهم من الخطايا، ثمّ لنجازينهم عليها، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار، لا بالكرامة والإحسان {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} ، أي: من عذاب شديد، بسبب ذنوبهم، لا يعرف كنهه، ولا يمكنهم التفصي ولا الفكاك منه، لغلظته وإحاطته بجميع جهاتهم، وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها، ولا يجدون عنها حولًا، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة للقسم. وفي "بحر العلوم" غليظ؛ أي؛ شديد أو عظيم، بدل ما اعتقدوه لأنفسهم من الإكرام والإعزاز من الله تعالى.
51
- وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه، بعد وقوعه في الجهد الجهيد، حكى أفعاله فقال:{وَإِذَا} نحن {أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ} ؛ أي: على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده، فكشفنا عنه المرض، ووهبنا له الصحة والعافية، ورزقناه سعة العيش {أَعْرَضَ} عمّا دعوناه إليه: من طاعتنا، وعن الشكر على نعمتنا، كأنه لم يلق شدة قط، فنسي المنعم، وكفر بنعمته بترك شكره وطاعته {وَنَأَى}؛ أي: تباعد بنفسه عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأمرنا بكليته، لا {بِجَانِبِهِ} وعطفه فقط، ولم يمل إلى الشكر والطاعة تكبرًا وتعظمًا فالجانب مجاز عن النفس، كما في قوله تعالى:{فِي جَنبِ اللهِ} ، ويجوز (1) أن يراد به عطفه، فيكون على حقيقته، وهو عبارة عن الانحراف والازورار؛ لأنّ نأى الجانب عن الشكر،
(1) روح البيان.
يستلزم الانحراف عنه، كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه، فالباء للتعدية، والمعنى: حينئذٍ انحرف عن شكرنا. وقرأ يزيد بن القعقاع (1): {وناء بجانبه} بالألف قبل الهمزة.
{وَإِذَا مَسَّهُ} ؛ أي: وإذا مس هذا الإنسان المعرض المتكبر {الشَّرُّ} ؛ أي: جنس الشر كالبلاء والمحنة، وإنما جيء بلفظ الماضي، {وإذا} لأنّ المراد: الشر المطلق، الذي حصوله مقطوع به {فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}؛ أي: فهو ذو دعاء كثير؛ أي: وإذا مسه البلاء والجهد والفقر والمرض، فذو دعاء كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة مجازًا، يقال: أطال فلان الكلام وأعرض الدعاء إذا أكثر، فهو مستعار مما له عرض متسع، للإشعار بكثرته، فإن العريض يكون ذا أجزاء كثيرة وامتداد فمعنى الاتساع يؤخذ من تنكير عريض، فإنه يدل على التعظيم ومعنى: الامتداد يؤخذ من معنى الطول اللازم للعرض.
وإنما قال: {عَرِيضٍ} (2) ولم يقل: طويل، مع أن كلًّا منهما كناية عن الكثرة؛ لأنّ قوله: عريض أبلغ من قوله: طويل إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك؛ أي: متسعًا فما ظنك بطوله، وقد استعير (3) العرض هنا لكثرة الدعاء ودوامه، وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب، ولا منافاة بين قوله: فيؤوس قنوط، وبين قوله: فذو دعاء عريض؛ لأنّ الأول في قوم، والثاني في آخرين، أو قنوط في البر وذو دعاء عريض في البحر، أو قنوط بالقلب، وذو ودعاء عريض باللسان، أو قنوط من الصنم، ذو دعاء عريض لله تعالى كما مر.
والمعنى: أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله، واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به واستكثر من ذلك فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء، واستغاث به عند نزول النقمة، وتركه عند حصول النعمة، وهذا صنيع الكافرين، ومن كان غير
(1) الشوكاني.
(2)
روح البيان.
(3)
النسفي.