المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًا، عليهم السلاح، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًا، عليهم السلاح،

فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابًا، عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانًا؟ " فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية.

{وَكَانَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} ؛ أي: بأعمالكم وأعمالهم، بصيرًا لا يخفى عليه شيء منها، وهو مجازيكم، ومجازيهم بها.

وقرأ الجمهور (1): {بِمَا تَعْمَلُونَ} على الخطاب؛ أي: من مقاتلتكم وهزمكم إياهم أولًا طاعة لرسوله، وكفّكم عنهم ثانيًا؛ لتعظيم بيته الحرام، وصيانة أهل الإِسلام. {بَصِيرًا}؛ أي: عالمًا لا يخفى عليه شيء، فيجازيكم بذلك، وقرأ أبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار.

‌25

- {هُمُ} ؛ أي: قريش الأقوام {الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله ورسوله {وَصَدُّوكُمْ} ؛ أي: منعوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؛ أي: عن أن تطوفوا بالبيت {و} صدّوا {الْهَدْيَ} وهو بالنصب عطف على الضمير المنصوب في {صَدُّوكُمْ} والهدي بسكون الدال: (2) جمع هدية، كتمر وتمرة، وجدي وجدية، وهو: مختص بما يهدى إلى البيت تقرّبًا إلى الله تعالى من النعم، أيسره: شاة، وأوسطه: بقرة، وأعلاه: بدنة، ويجوز تشديد الياء، فيكون جمع هديّة.

وقرأ الجمهور (3): {الْهَدْيَ} بالنصب، عطفًا على الضمير في:{صدّوكم} ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه. {الهدي} بالجر عطفًا على {الْمَسْجِدِ} ولا بد من تقدير مضاف؛ أي: وعن نحو الهدي، وقرىء: بالرفع على تقدير: وصد الهدي، وقرأ الجمهور:{الهدي} بفتح الهاء وسكون الدال، وهي لغة قريش، وقرأ ابن هرمز والحسن وعصمة عن عاصم واللؤلؤيّ وخارجة عن

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

(3)

البحر المحيط والشوكاني.

ص: 296

أبي عمرو: {الهدي} بكسر الدال، وتشديد الياء، وهم لغتان، وانتصاب {مَعْكُوفًا} على الحال من {الهدي}؛ أي: وصدّوا الهدي عن دخول الحوم، حال كونه محبوسًا عن {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}؛ أي: مكانه الذي يحلّ فيه نحوه؛ أي؛ يصح ويجب فيه نحوه، وهو الحرم، فالمحل: اسم للمكان الذي ينحر فيه الهدي، وقوله:{أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} : بدل اشتمال من {الْهَدْيَ} أو منصوب بنزع الخافض.

قال في "بحر العلوم": الحديبية: طرف الحرم على تسعة أميال من مكة، وروي: أنّ خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحلّ، ومصلاه في الحرم، وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم، وهي سبعون بدنة.

والمراد: صدّها عن محلّها المعهود الذي هو مني للحاج، وعند الصفا للمعتمر، وعند الشافعي لا يختص دم الإحصار بالحرم، فيجوز أن يذبح في الموضع الذي أحصر فيه.

والمعنى: أي هم الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوكم أيّها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام، وصدّوا الهدي محبوسًا أن يبلغ محلّ نحوه، وهو الحرم عنادًا منهم وبغيًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة.

واعلم (1): أنه تعالى بيَّن استحقاق كفّار مكة للعقوبة بثلاثة أشياء: كفرهم في أنفسهم، وصدِّ المؤمنين عن إتمام عمرتهم، وصدّ هديهم عن بلوغ المحلّ، فهم مع هذه الأفعال القبيحة كانوا يستحقّون أن يقاتلوا أو يقتلوا، إلا أنه تعالى كفّ أيدي كل فريق عن صاحبه، محافظة على ما في مكة من المؤمنين المستضعفين ليخرجوا منها، أو يدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} ؛ أي: لم تعرفوهم أيّها المؤمنون بأعيانهم؛ لاختلاطهم بالمشركين،

(1) روح البيان.

ص: 297

وقيل: لم تعلموا أنهم مؤمنون، وهو صفة لـ {رِجَالٌ} و {نِسَاءٌ} جميعًا، وكانوا بمكة. وهم اثنان وسبعون نفسًا، يكتمون إيمانهم {أَنْ تَطَئُوهُمْ}: بدل اشتمال من {رِجَالٌ} و {نِسَاءٌ} ولكنّه غلّب المذكور، أو بدل من الضمير المنصوب في {تَعْلَمُوهُمْ}. والتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وعلى الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر: محذوف؛ أي: ولولا رجال ونساء موجودون؛ أي: لم تعلموا أن تطؤوهم، وتدوسوهم بالقتل، وتهلكوهم؛ وإن الوطء؛ عبارة عن الإيقاع والإهلاك والإبادة {فَتُصِيبَكُمْ}؛ أي: فيتسبب عن هذا الوطء أن تصيبكم {مِنْهُمْ} ؛ أي: من جهتهم وبسببهم معطوف على قوله: {أَنْ تَطَئُوهُمْ} ، {مَعَرَّةٌ}؛ أي: مشقة ومكروه، كوجوب الدية، والكفارة بقتلهم، والتأسّف عليهم، وتعيير الكفار لكم بذلك، والإثم بالتقصير في البحث عنهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: متعلق بـ {أَنْ تَطَئُوهُمْ} ؛ أي: أن تطؤوهم غير عالمين بهم، فيصيبكم بذلك مكروه لما كفّ أيديكم عنهم، وفي الحذف دليل على شدة غضب الله تعالى على كفار مكة، كأنه قيل: لولا حق المؤمنين موجود .. لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف.

والمعنى (1): لولا كراهة أن تهلكوا أناسًا مؤمنين، بين أظهر الكافرين، غير معروفين لكم، كالوليد وسلمة بن هشام وعيّاش بن ربيعة وأبي جندلٍ، حال كونكم جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقّة .. لأذن لكم في دخول مكة عنوةً، أو لما كفّ أيديكم عنهم. اهـ "بيضاوي".

أي (2): ولولا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم، وهم بين أظهرهم .. لسلّطناكم عليهم، فقتلتموهم، وأبدتم خضراءهم، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل، ولو قتلتموهم .. للحقتكم المعرة والمشقة بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب.

والخلاصة: أنه لولا وجود المؤمنين مختلطين بالمشركين، غير متميزين

(1) البيضاوي.

(2)

المراغي.

ص: 298

منهم .. لوقع ما كان جزاءهم لصدِّهم وكفرهم، ولو حصل ذلك .. لزمكم العيب، إذ يقول المشركون: إنّ المسلمين يقتلون أهل دينهم.

و {اللام} في قوله: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} : متعلِّقة بما يدل عليه الجواب المقدّر؛ أي: ولكن لم يأذن لكم، أو كف أيديكم ليدخل الله سبحانه {مَنْ يَشَاءُ} من عباده المؤمنين في رحمته بتوفيقه لزيادة الخير والطاعة، أو من المشركين بدخوله في الإِسلام، والمراد بمن يشاء من عباده: هم (1) المؤمنون والمؤمنات، الذين كانوا في مكة، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار، ويفكّ أسرهم، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب، وقيل: إنّ {مَنْ يَشَاءُ} عباده ممن رغب في الإِسلام من المشركين، وقيل:{اللام} : متعلقة بمحذوف غير ما ذكر، تقديره: لو قتلتموهم .. لأدخلهم الله في رحمته، والأول: أولى.

والمعنى (2): أي هم الذين كفروا، الذين استحقوا التعجيل في إهلاكهم، ولولا مؤمنون مختلطون بهم .. لعجَّل الله بهم، ولكن كفَّ الله أيديكم عنهم لكي يكرم الله المؤمنين، بزيادة الخير والطاعة لله تعالى، والمشركين بدخولهم في دين الإِسلام؛ أي: ليخرج المؤمنين من مكة، ويهاجروا إلى المدينة، وليؤمن من المشركين من علم الله أنه يؤمن في تلك السنة؛ لأنّهم إذا شاهدوا رحمة الله في شأن طائفة من المؤمنين، بأن منع الله من تعذيب أعداء الدين بعد الظفر بهم؛ لأجل اختلاطهم بهم، رغبوا في مثل هذا الدين.

والخلاصة: قد حال بينكم وبين دخول مكة لقتالهم، إخراج المؤمنين من بين أظهرهم، وليدخل في دينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها.

والضمير في قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} عائد إلى الفريقين المؤمنين والمشركين؛ أي: لو يتميز المؤمنون عن المشركين، وتفرَّقوا عنهم، وخرجوا من بين أظهرهم {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ}؛ أي: من أهل مكة {عَذَابًا أَلِيمًا} بالقتل والأسر والقهر؛ أي: لعذَّبنا كفار مكة بتسليط المؤمنين عليهم بقتلهم، وسبي ذراريهم.

(1) الشوكاني.

(2)

المراح.

ص: 299