المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هذا كله. والخلاصة: بئس الاسم الفسوق مع الإيمان، وفي هذا إيماء - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: هذا كله. والخلاصة: بئس الاسم الفسوق مع الإيمان، وفي هذا إيماء

هذا كله.

والخلاصة: بئس الاسم الفسوق مع الإيمان، وفي هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين، كما تقول: بئس الصبوة بعد الشيخوخة؛ أي: معها.

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} عمّا نهى الله عنه {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنفسهم بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب، والظالم أعم من الفاسق، والفاسق أعم من الكافر. أو المعنى (1): ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه.

وفيه (2) دلالة بينة على أنَّ الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمة، فلا بدّ من توبة نصوح من جميع القبائح والمعاصي، لا سيما ما ذكر في هذا المقام، ومن أصرّ .. أخذ سريعًا؛ لأنّ أقرب الأشياء سرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.

‌12

- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} ؛ أي: كونوا على جانب منه، وابعدوا عنه ولا تقربوه، والظنّ هنا هو مجرد التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، فالمراد به: ظن السوء بأهل الخير والصلاح، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنّه، حتى يعلم أنه من أيّ القبيل، فإنّ من الظنّ ما يجب اتباعه، كالظنّ حيث لا قاطع فيه من العمليات، فإنّ أكثر الأحكام الشرعية مبنيّة على الظنّ، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم، ولكن هذا الظنّ الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به، فارتفع عن الشك والتهمة وكحسن الظنّ بالله تعالى، وفي الحديث:"إنّ حسن الظنّ من الإيمان". ومن الظنّ ما يحرم: كالظنّ في الإلهيات؛ أي: بوجود الإله وذاته وصفاته، وما

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 370

يليق به من الكمال، وفي النبوات، فمن قال: آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم آدم نبي أم لا .. يكفر، وكذا من آمن بأنَّ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول، ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة .. لا يكون مؤمنًا، وكالظن حيث يخالفه قاطع: كالظن بنبوة علي كرم الله وجهه أو بنبوة واحد من خلفاء هذه الأمة مع وجود قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبيّ بعدي". فإنَّ مثل هذا الظنّ حرام، ولو قطع كان كفرًا، وكظنّ السوء بالمؤمنين، خصوصًا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبورثته الكمَّل: كالعلماء بالله تعالى، قال تعالى:{وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"إنّ الله حرّم من المسلم: عرضه، ودمه، وأن يظنَّ به ظن السوء". ومن الظنّ ما يباح: كالظنّ في الأمور المعاشية، وفي "كشف الأسرار": ومن المباح: الظن في الصلاة، والصوم، والقبلة، أمر صاحبه بالتحريّ فيها، والبناء على غلبة الظن، فلا يدخل (1) في الظن المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإنَّ الله قد تعبَّد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كيادًا للدين، وشذوذًا عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة، بل في أكثرها.

والمعنى (2): أي يا أيّها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلًا، ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور: كمن يدخل أو يصاحب الغواني الفواجر .. فلا يحرم سوء الظنّ به، وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: أنَّ الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظنّ القبيح بمن ظاهره القبيح.

وجملة قوله (3): {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ؛ أي: ذنب فيه عقوبة، تعليل لما

(1) الشوكاني.

(2)

المراغي.

(3)

الشوكاني.

ص: 371

قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظنّ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير، والإثم: هو ما يستحق الظانَّ به العقوبة، قال الزجاج: هو أن يظنّ بأهل الخير سوءًا، فأمَّا أهل السوء والفسوق، فلنا أنّ نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم، قال مقاتل بن سلمان ومقاتل بن حيان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءًا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن، وأبداه .. أثم.

قال سفيان الثوري: الظن ظنّان (1):

أحدهما: إثم: وهو أن يظنّ ويتكلم به.

والآخر: ليس بإثمٍ: وهو أن يظنّ ولا يتكلم به، وقيل: الظنُّ أنواع: واجبٌ ومأمورٌ به، وهو الظن الحسن بالله عز وجل، ومنه: مندوب إليه، وهو الظنّ الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة، ومنه: حرام محذور، وهو سوء الظن بالله عز وجل، وسوء الظن بالأخ المسلم.

ودلت الآية على أنّ أكثر الظنون من قبيل الإثم؛ لأنّ الشيطان يلقي الظنون في النفس، فتظنّ النفس الظن الفاسد، ودلت أيضًا على أن بعض الظن ليس بإثم، بل هو حقيقة، وهو الذي لم يكن من قبيل النفس، بل كان بالفراسة الصحيحة بأن يرى القلب بنور اليقين ما جرى في الغيب فيظنه. اهـ من "الروح".

ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن .. نهاهم عن التجسس، فقال:{وَلَا تَجَسَّسُوا} ؛ أي: ولا تبحثوا أيها المؤمنون عن عورات المسلمين ومعايبهم، نهى الله سبحانه عن البحث عن المستور من أمور الناس، وتتبع عوراتهم، حتى لا يظهر على ستره الله منها.

والمعنى (2): أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره

(1) الخازن.

(2)

المراغي.

ص: 372

يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا، أو ذموا لا على ما لا تعلمون به من الخفايا.

وفي "الصحيحين": عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.

وقرأ الجمهور: {وَلَا تَجَسَّسُوا} بالجيم، وقرأ الحسن وأبو رجاء، وابن سيرين:{تحسسوا} بالحاء، وهما متقاربان؛ لأنَّ التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل:(1) إن التجسس بالجيم: هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه، وقيل: إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولًا لغيره. قاله ثعلب، والتناجش: الشراء على شراء غيرك بالزيادة، والتدابر: الهجر والقطيعة.

وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّ من اتبع عوراتهم .. يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته .. يفضحه في عقر بيته".

وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن"، فقال رجل: وما يذهبن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حسدت .. فاستغفر الله، فإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت .. فامض".

وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبيّن لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات

(1) الشوكاني.

ص: 373

مرتفعة ولغطٌ، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أميّة بن خلف، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنَّا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى:{وَلَا تَجَسَّسُوا} وقد تجسسنا، فانصرف عمر، وتركهم.

وقال أبو قلابة: حُدِّث عمر بن الخطاب: أنَّ أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إنَّ هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه.

وقيل لابن مسعود: هل لك في فلان تقطر لحيته خمرًا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء .. أخذنا به، وفي الحديث:"إنّ الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس .. أفسدهم".

{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ؛ أي (1): ولا يذكر بعضكم أيها المؤمنون بعضًا بما يكرهه في غيبته وخلفه، والمراد بالذكر: الذكر صريحًا، أو إشارةً، أو نحو ذلك مما يؤدّي مؤدَّى النطق لما في ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور، وتفريق شمل الجماعات، فهي النار تشتعل فلا تبقي ولا تذر، والمراد بما يكره: ما يكرهه في دينه أو دنياه، أو خلقه أو خلقه، أو ماله أو ولده أو زوجته، أو خادمه أو ملبسه، أو غير ذلك مما يتعلق به.

قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك، والبهتان، فأمّا الغيبة بالكسر، وفتح الغين غلط، كما سيأتي. فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأمّا البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه، وهو الذي يترك الديار بلاقع، كما في حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح": أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"ذكرك أخاك بما يكره". فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال:"إن كان فيه ما تقول .. فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه .. فقد بهتّه".

(1) المراغي.

ص: 374

ولا خلاف (1) بين العلماء في أنّ الغيبة من الكبائر، وأنّ على من اغتاب أحدًا التوبة إلى الله تعالى، أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه، وعن شعبة قال: قال لي معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع - مقطوع اليد - فقلت هذا أقطع .. كان غيبة، قال شعبة: نعم، فذكرته لأبي إسحاق، فقال: صدق.

ثم ضرب سبحانه مثلًا للغيبة للتنفير والتحذير منها، فقال:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} أيها المؤمنون {أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} حال كون الأخ {مَيْتًا} وقرأ نافع: بتشديد الياء، وهو حال من اللحم أو من الأخ، والاستفهام للإنكار، فهو بمعنى النفي؛ أي: لا يحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا {فـ} لو عرض عليكم لحمه {كَرِهْتُمُوهُ} ؛ أي: كرهتم أكله، فكما تكرهون أكل لحمه ميتًا .. فاكرهوا أكل لحمه حيًا، وهو اغتيابه، وقرىء:{كَرِهْتُمُوهُ} بغير فاء؛ أي: جبلتم على كراهته، فـ {الفاء} فيه: عاطفة على منفيّ مقدر معلوم من الاستفهام الإنكاري، كما قدّرنا، وقيل: لفظه خبر، ومعناه: الأمر، ولذلك عطف عليه {وَاتَّقُوا اللَّهَ}. و {الفاء} حينئذٍ: فصيحية؛ أي: فإذا كرهتم أكل لحمه ميتًا .. فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك ما أمرتم باجتنابه، وبالندم على ما صدر منكم من قبل.

وقرأ الجمهور (2): {فَكَرِهْتُمُوهُ} بفتح الكاف وتخفيف الراء، وقرأ أبو سعيد الخدري وأبو حيوة:{فَكرَّهْتموه} بضم الكاف وتشديد الراء المكسورة، ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره أبو حيان في "البحر".

والمعنى: أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته، فإذا كنتم لا تحبون ذلك، بل تكرهونه؛ لأنَّ النفس تعافه .. فاكرهوا أن تغتابوه في حياته.

والخلاصة: أنكم كما تكرهون ذلك طبعًا، فاكرهوا ذلك شرعًا، لما فيه من

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 375

شديد العقوبة.

وقد شبهت (1) الغيبة بأكل اللحم؛ لما فيها من تمزيق الأعراض، المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب في كلامهم، قال المقنع الكندي:

فَإنْ أَكَلُوْا لَحْمِيْ وَفَرْتُ لُحُوْمَهُمْ

وَإِنْ هَدَمُوْا مَجْدِيْ بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا

وقد زادت الآية، فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرًا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعًا، وقد ثبت في "الصحيح" من غير وجه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال حين خطب في حجة الوداع: "إنّ دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} : معطوف على مقدر، كما مر؛ أي: فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به، ونهاكم عنه، وراقبوه، واخشوه حقَّ خشيته.

ثم علَّل هذا بقوله: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه {تَوَّابٌ} يتوب على من تاب إليه عمَّا فرط منه من الذنب. {رَحِيمٌ} به أن يعذّبه بعد توبته.

وعبارة "الروح" هنا: قوله {فَكَرِهْتُمُوهُ} {الفاء} (2): لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل، كأنه قيل: وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه، فأضمر كلمة قد لتصحيح دخول الفاء في الجزاء، فالمقصود من تحقيق استكراههم، وتقذّرهم من المشبه به: الترغيب، والحث على استكراه ما شبَّه به، وهو الغيبة، كأنه قيل: إذا تحققتم كراهتكم له .. فليتحقق عندكم كراهة نظيره الذي هو الاغتياب، وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميت من جهة أنّ الحيّ المغتاب لا يعلم بغيبة من اغتابه، كما أن الميت لا يعلم بأكل من أكل لحمه. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} باجتناب ما نهيتم عنه، وهو معطوف على ما تقدم من الأوامر والنواهي. {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}؛ أي: مبالغ في قبول التوبة، وإفاضة الرحمة، حيث يجعل التائب

(1) المراغي.

(2)

روح البيان.

ص: 376

كمن لم يذنب، ولا يخص ذلك بتائب دون تائب، بل يعم الجميع، وإن كثرت ذنوبهم، فصيغة المبالغة باعتبار المتعلقات. انتهى.

واعلم (1): أنّ الاغتياب كأكل لحم الآدميّ ميتًا، ولا يحل أكله إلا لمضطر بقدر الحاجة، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعًا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، ففي هذه الآية نهي عن اغتياب المؤمن دون الكافر، أما الفاسق، فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة، فمن نقص مسلمًا أو ثلم عرضه .. فهو كأكل لحمه حيًّا. ومن اغتابه .. فهو كآكل لحمه ميتًا؛ لأنَّ الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه.

واعلم: أنّ الله سبحانه ذكر في هذه الآية أمورًا ثلاثًا مرتبة، فكأنّه تعالى قال: لا تقولوا في حقّ المؤمنين ما لم تعلموه فيهم، بناء على الظن، ثم إذا سئلتم عن المظنونات .. فلا تقولوا: نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن علمتم منها شيئًا من غير تجسس .. فلا تقولوه، ولا تفشوه عنهم.

ففي الأول نهى عن التكلم بما لم يعلم، ثم نهى عن طلب علم عيب الناس، ثمّ نهى عن ذكر ما علم مثله، روي: أنّ رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطلب منه لهما طعامًا، فقال له: انطلق إلى أسامة بن زيد، واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده، وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحله وطعامه، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، فأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة شيء ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة، فلم يجد عندهم شيئًا، فلمّا رجع .. قالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سحيمة .. لغار ماؤها، وسحيمة بوزن جهينة بالحاء المهملة: بئر بالمدينة، غزيرة الماء، على ما في "القاموس". ثمّ انطلقا يتجسّسان، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام؟ فلمّا راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحمًا في يومنا هذا، فقال صلى الله عليه وسلم

(1) المراح.

ص: 377

اغتبتما سلمان وأسامة، فنزلت هذه الآية.

ويجب (1) على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها، ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزمًا مؤكّدًا على أن لا يعود إلى مثل ما فرط منه، ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعًا لا يتوصّل إليه إلا بها، وينحصر ذلك في ستة أمور:

الأول: التظلم، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.

الثالث: الاستفتاء، فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فهل يجوز له ذلك؟

الرابع: تحذير المسلمين من الشرّ، كجرح الشهود والرواة، والمتصدين للإفتاء مع عدم أهليّتهم لذلك، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج، أو مخالطة غيره في أمر دينيّ أو دنيوي، ويقتصر على ما يكفي، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين .. ذكر ذلك.

الخامس: أن يجاهروا بالفسق، كالمدمنين على شرب الخمور، وارتياد محالّ الفجور، ويتباهوا بما يفعلون.

السادس: التعرف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش والأعرج والأعلم، ونحو ذلك، إذا لم تمكن المعرفة بغيره.

والأمة مجمعة على قبح الغيبة، وعظم آثامها مع ولوع الناس بها، حتى إنّ بعضهم ليقولون: هي صابون القلوب، وإنّ لها حلاوةً كحلاوة التمر، وضرارةً كضرارة الخمر، وفي الحديث:"الغيبة أشدّ من الزنا" قالوا: وكيف؟ قال: "إنّ الرجل يزني، ثمّ يتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له، حتى يغفر

(1) المراغي.

ص: 378