المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

به وبكتابه، ومن الأعمال الصالحة. ومعنى الآية (1): ذلك الأمر وهو - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: به وبكتابه، ومن الأعمال الصالحة. ومعنى الآية (1): ذلك الأمر وهو

به وبكتابه، ومن الأعمال الصالحة.

ومعنى الآية (1): ذلك الأمر وهو إضلال أعمال الكفار، وتكفير سيئات المؤمنين، كائن بسبب اتباع الكفار الباطل، واتباع المؤمنين الحق من ربهم؛ أي: وإنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لأنّ الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق، بما وسوس به إليهم الشيطان، ولأنّ الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم، فأنار بصائرهم، وهداهم إلى سبيل الرشاد {كَذَلِكَ}؛ أي: مثل الضرب والبيان المذكور {يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} ؛ أي: يبيِّن الله للناس أمثالهم؛ أي: أحوال الفريقين، وأوصافهما الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، وهي: اتباع الأولين الباطل وخيبتهم، وخسرانهم، واتباع الآخرين الحق، وفوزهم وفلاحهم. وفي الخبر:"اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه". قال الزجاج: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ} ؛ أي: يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين؛ يعني: أنّ من كان كافرًا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنًا كفّر الله سيئاته.

والمعنى: أي كما بيَّنت لكم فعلي بفريقي الكفار والمؤمنين، كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبه لهم الأشباه، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها.

والخلاصة: أنه جعل اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، وإضلال أعمالهم مثلًا لخيبتهم، واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم، وهكذا شأن القرآن، يوضِّح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال، كما ضرب المثل بالنخل والحنظل في سورة أخرى.

‌4

- ولمّا بيّن سبحانه حال الفريقين .. أمر بجهاد الكفار، فقال:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} والمراد بالذين كفروا: المشركون، ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتب، و {الفاء} فيه: للإفصاح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر، من إضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وإصلاح

(1) الخازن.

ص: 129

أحوال المؤمنين وفلاحهم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم .. فأقول لكم: إذا لقيتم الذين كفروا، وقابلتموهم في المحاربة يا معشر المسلمين {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}؛ أي: فاضربوا الرقاب منهم ضربًا، فحذف الفعل وأنيب المصدر منابه مضافًا إلى المفعول، والألف واللام في {الرِّقَابِ}: بدل من المضاف إليه؛ أي: فاضربوا رقابهم بالسيف، والمراد: فاقتلوهم.

وإنّما عبَّر (1) عن القتل بضرب الرقاب، لما في التعبير به من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل، وهي: حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأعلاه وأشرفه، وإرشادًا للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، وفي الحديث:"أنا لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله، وإنما بعثت بضرب الرقاب وشدِّ الوثاق"؛ أي: فاقتلوهم كيفما أمكنكم {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} ؛ أي: أضعفتموهم بالجراح، أو بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل فيهم.، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ}؛ أي: وثاق الأسير منهم؛ أي: اربطوا الأسير منهم على كتفه كيلا ينفلت عنكم، والوثاق: الحبل الذي يربط به الأسير، وقال أبو الليث: يعني: حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم .. فاستوثقوا أيديهم واربطوها من خلفهم كيلا يفلتوا، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل.

قرأ الجمهور: {فَشُدُّوا} بضم الشين، وقرأ السلميّ: بكسرها {فَإِمَّا} تمنون عليهم {مَنًّا} بإرسالهم من غير فداء {بَعْدُ} ؛ أي: بعد أسرهم، وشد وثاقهم {وَإِمَّا} تفدونهم {فِدَاءً} بمال أو بأسرى مسلمين.

وقرأ الجمهور (2): {فِدَآءً} بالمدّ، وقرأ ابن كثير في رواية شبلٍ:{فدًى} بالقصر. والمنُّ: أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا. والفداء: أن يترك الأمير الأسير الكافر، ويأخذ مالًا، أو أسيرًا مسلمًا في مقابلته، وإنما قدم المنّ على الفداء؛ لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم:

(1) روح البيان.

(2)

البحر المحيط.

ص: 130

وَلَا نَقْتُلُ الأَسْرَى وَلَكِنْ نَفُكُّهُمْ

إِذَا أَثْقَلَ الأَعْنَاقَ حِمْلُ الْمَغَارِمِ

قال الشيخ الرضيُّ: المطلوب (1) من شدّ الوثاق: إمّا قتلٌ، أو استرقاق، أو منّ، أو فداء. فالإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخصال الأربع، وهذا التخيير ثابت عند الشافعي، ومنسوخ عند الأحناف بقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، قالوا: نزل ذلك يوم بدر، ثم نسخ. والحكم إما القتل أو الاسترقاق. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لمَّا كثر المسلمون، واشتدّ سلطانهم

أنزل الله تعالى في الأسارى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وكان عليه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من بعده.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خيرٌ، إن تقتلني .. تقتل ذا دم، وإن تُنْعِم .. تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال .. فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما عندك يا ثمامة؟ " قال: عندي ما قلت لك، قال:"أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبُّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبَّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم،

(1) روح البيان.

ص: 131

ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف، وأما الفداء بالمال .. فقد وقع يوم بدر، كما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة.

والظاهر (1): أنّ قوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} غاية لقوله: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} ؛ لأنه قد غيَّا، فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان، فلا يمكن أن يُغيّا بغاية أخرى، لتدافع الغايتين، إلا أن تكون الثانية مبيّنة للأولى، ومؤكدة لها فيجوز.

والمعنى: فشدوا وثاق الأسير وربطه، حتى تضع أهل الحرب أوزارها وأحمالها وأسلحتها، ويتركوا حمل سلاحها؛ أي: حتى تنقرض الحرب وتنعدم بالكليَّة، بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفار يحارب حزبًا من أحزاب الإِسلام.

والأوزار (2): جمع وزر، والوزر بالكسر: الثقل، وما يحمله الإنسان، فسمى الأسلحة أوزارًا؛ لأنها تحمل، فيكون جعل مثل الكراع من الأوزار من التغليب، و {حَتَّى} غاية عند الشافعي لأحد الأمور الأربعة، أو للمجموع. والمعنى حينئذٍ: إنهم لا يتركون ذلك أبدًا، حتى لا يكون مع المشركين حرب، بأن لا يبقى لهم شوكة، وأما عند أبي حنيفة فإنه حمل الحرب على حرب بدر، فهي غاية للمنّ والفداء، والمعنى: يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها وتنقضي، وإن حملت الحرب على الجنس .. فهي غاية للضرب والشد، والمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها، بأن لا يبقى للمشركين شوكة.

ومعنى الآية: أي فإذا واجهتم المشركين في القتال .. فاحصدوهم حصدًا بالسيوف، حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم، وصاروا في أيديكم أسرى .. فشدّوهم في الوثاق كي لا يقاتلوكم، أو يربوا منكم، ثم أنتم بعد انتهاء الحرب وانتهاء المعارك بالخيار في أمرهم، إن شئتم .. مننتم عليهم

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

ص: 132

فأطلقتموهم بلا عوضٍ من مال أو غيره، وأن شئتم.، فاديتموهم بمال تأخذونه منهم حتى لا يكون حرب مع المشركين، ولا قتال بزوال شوكتهم.

واعلم (1): أنَّ للحرب فوائد، وللسلم أخرى، فالأمم في حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشابّ المراهق، الذي لم يبلغ الحلم، تراه يقاتل الصبيان، ويشاجرهم، ويوقع الأذى بهم، وهم يزيدون في أذاه، وينكلون به، وهذه هي حال الأمم اليوم.

ألا إنَّ الحرب تقوِّي الأبدان، وترقي الصناعات، وتجعل الأمم تنمو وتوقظ الشعور، وتفتح المغلق، وتيسر العسير، قال أرسطو للإسكندر: إنّ الراحة مضرة للأمم، ومن ثم قيل: إذا أردت رقي أمةٍ .. فاجعلها تخوض الحروب، فذلك يفتح لها باب السعادة، والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير، معرَّضة للزوال، كما رأينا ذلك في بعض من عليه الاستئمار من أفريقيا، فإذا كملت أخلاف الأمم ومواهبها .. فإنّ نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها، فكما يفرح الرجل في الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء، وشفاء الغليل، وجمع الرجال والسلاح والكراع، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها، وانشراح صدورها، بظهور أمم أخرى تكافح معها في ميدان الحياة، ويكون كل فرد في الأمم المقبلة أشبه بالأب، يكدح لمساعدة أبنائه، وهذا الكدح والجد في العمل لفائدة الجميع، يجد العامل فيه لذّةً وفرحًا أشدَّ من فرح المنتصر في ميادين القتال.

وإنَّ الأمم لا تزال في الطور الأول، فهي تسعى لإسعاد نفسها، بإهلاك سواها، وسيأتي حينٌ تسعى فيه لإسعاد الجميع، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء، ويكون الناس جميعًا بعضم لبعض كالآباء والأبناء.

واعلم (2): أنه قد اختلف العلماء في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة في أهل الأوثان، وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن

(1) المراغي.

(2)

الشوكاني.

ص: 133

عليهم، والناسخ لها قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} . وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} . وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج. وكثير من الكوفيين قالوا: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الأدلّة على تركه، من النساء، والصبيان، ومن تؤخذ منه الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة، وقيل: إنَّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} روي ذلك عن عطاء وغيره، وقال كثير من العلماء: إنّ الآية محكمة، والإمام مخيّر بين القتل والأسر، وبعد الأسر مخيَّر بين المنِّ والفداء. وبه قال مالك والشافعي والثوريّ والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم، وهذا هو الراجح؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك، وقال سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره.

ثمّ بين الله سبحانه وتعالى الحكمة في شرع القتال، فقال:{ذَلِكَ} محلُّه: إما رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك، وإما نصبٌ على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: ذلك حكم الكفار؛ أي: (1) هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم في حرب، وشد وثاقهم في أسرهم، والمن والفداء حتى تضع الحرب أوزارها، هو الحق الذي أمركم به ربكم، وهو السنة التي شرعها لإصلاح حال عباده، وهي التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت في طور طفولتها، حتى يتمّ نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها، إذ لا يكون هناك حاجة إليها؛ لأنّ العالم كلَّه كأسرة واحدة، سعادته بسعادة أفراده جميعًا، وشقاؤه بشقائهم.

(1) المراغي.

ص: 134

{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} {لو} : (1) للمضيّ، وإن دخلت على المستقبل؛ أي: ولو شاء الله سبحانه وتعالى الانتصار والانتقام من الكفار {لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} ؛ أي: لانتصر من هؤلاء المشركين، وانتقم منهم بعقوبة عاجلة، وكفاكم أمرهم؛ أي: لانتقم منهم بغير قتال، بأن يكون ببعض أسباب الهلكة والاستئصال، من خسف أو رجفة أو حاصب أو غرق أو موت ذريع أو نحو ذلك، ويجوز أن يكون الانتقام بالملائكة، بصيحتهم أو بصرعهم أو بقتالهم، من حيث لا يراهم الكفار، كما وقع في بدر. {وَلَكِنْ} أمركم بقتالهم {لِيَبْلُوَ} ويختبر {بَعْضَكُمْ} أيها الناس {بِبَعْضٍ} آخر؛ أي: أمركم بالقتال، وبلاكم بالكافرين، لتجاهدوهم فتستوجبوا الثواب العظيم؛ بموجب الوعد، فيعلم المجاهدين في سبيله، والصابرين على ابتلائه، وبلاء الكافرين بكم ليعاجلهم على أيديكم ببعض عقوبتهم، ويتّعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق، فالحكمة من القتال هي امتحان الناس، واختبار صبرهم على المكاره، وفي الجهاد تقوية لأبدانكم، ورقي لعقولكم، ونفاذ لكلمتكم، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم، إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها.

ثم ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء المجاهدين في سبيله، فقال:{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ} ؛ أي: استشهدوا يوم بدر، ويوم أحد وفي سائر الحروب {فَلَنْ يُضِلّ} الله سبحانه، ويضيع {أَعْمَالَهُمْ} بل يثيبهم عليها؛ أي: والذين جاهدوا أعداء الله في طاعة الله، وطلب مرضاته، ونصرة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى، سواء قتلوا في الجهاد أو لم يقتلوا، فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضائعة سدى، كما أذهب أعمال الكافرين، وجعلها عديمة الجدوى.

روى أحمد عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: تكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويأمن من الفزع

(1) روح البيان.

ص: 135