المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يعمّ كل أحد، غير أنّ المنيب يأكل ذاكرًا وشاكرًا للإنعام، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: يعمّ كل أحد، غير أنّ المنيب يأكل ذاكرًا وشاكرًا للإنعام،

يعمّ كل أحد، غير أنّ المنيب يأكل ذاكرًا وشاكرًا للإنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام، ولذلك لم يخصص الرزق بقيد.

{وَأَحْيَيْنَا بِهِ} ؛ أي: بذلك الماء {بَلْدَةً مَيْتًا} تذكير {مَيْتًا} باعتبار البلد والمكان؛ أي: أرضًا جدبة لا نماء فيها أصلًا، بأن جعلناها بحيث ربت، وأنبتت أنواع النبات والأزهار، فصارت تهتز بها بعدما كانت جامدة.

وقرأ الجمهور: {مَيْتًا} (1) بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر، وخالد: بالتثقيل؛ أي: وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها، فتربو وتنبت من كل زوج بهيج.

ثمّ جعل ما سلف كالدليل على البعث؛ لأنّه شبيه به، فقال:{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} جملة قدّم فيها الخبر للقصد إلى القصر، وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء؛ أي: مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن إحياء الموتى بالخروج؛ تفخيم لشان الإنبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى، لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه لأفهام الناس، وقد روي:"أنّ الله يمطر السماء أربعين ليلة كمنيّ الرجال، يدخل في الأرض، فينبت لحومهم وعروقهم وعظامهم، ثم يحييهم، ويخرجهم من تحت الأرض".

‌12

- ثم ذكر سبحانه الأمم المكذّبة لرسلها، فقال:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} ؛ أي: قبل أهل مكة {قَوْمُ نُوحٍ} ؛ أي: كذبوا نوحًا وجميع الرسل؛ لأنّ تكذيبه تكذيب لهم لاتفاقهم في أصول الدين. {و} كذّب قبلهم {أَصْحَابُ الرَّسِّ} رسولهم، قيل: كانت الرس (2) بئرًا بعدن لأمة من بقايا ثمود، وكان لهم ملك عدل حسن السيرة، يقال له: العنيس بوزن زبير، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك؛ لأنّها كانت بكرات كثيرة منصوبة

(1) البحر المحيط.

(2)

روح البيان.

ص: 433

عليها، جمع بكرة بالفتح: وهي خشبة مستديرة في وسطها محزٌّ يستقى عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وأبازن بالزاي والنون من رخام، وهي تشبه الحياض كثيرة تملأ للناس، قال في "القاموس": الأبزن مثلثة الأول: حوض يغتسل فيه، وقد يتخذ من نحاس، معرب آب زن، انتهى. وآخر للدواب، وآخر للبقر والغنم والهوام يستقون عليها بالليل والنهار، يتداولون ولم يكن لهم ماء غيره، فطال عمر الملك، فلمّا جاءه الموت .. طلي بدهن لتبقى صورته ولا تتغير، وكذلك كانوا يفعلون إذا مات منهم الميت، وكان ممن يكرم عليهم، فلمّا مات .. شقَّ ذلك عليهم، ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا جميعًا بالبكاء، واغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة، فكلمهم وقال: إني لم أمت، ولكني قد تغيبت عنكم، حتى أرى صنيعكم بعدي، ففرحوا أشد الفرح، وأمر لخاصته أن يضربوا حجابًا بينه وبينهم، ويكلمهم من ورائه، كيلا يعرف الموت في صورته، فنصبوه صنمًا من وراء حجاب لا يأكل ولا يشرب، وأخبرهم أنه لا يموت أبدًا، وأنه إله لهم، وذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم، وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب منهم أقل من المصدق، فكلما تكلم ناصح منهم .. زجر وقهر، فاتفقوا على عبادته، فبعث الله لهم نبيًّا كان الوحي ينزل عليه في النوم دون اليقظة، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فأعلمهم أنَّ الصورة صنم لا روح له، وأنّ الشيطان فيه، وقد أضلَّهم الله سبحانه، وأنّ الله تعالى لا يتمثل بالخلق، وأنَّ الملك لا يجوز أن يكون شريكًا لله، وأوعدهم ونصحهم، وحذَّرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه، وهو يتعهدهم بالموعظة والنصيحة حتى قتلوه، وطرحوه في بئر، وعند ذلك حلت عليهم النقمة، فباتوا شباعى رواء من الماء، وأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطلى رشاؤها، وهو بالكسر الحبل، فصاحوا بأجمعهم، وضج النساء والولدان، وضجت البهائم عطشًا، حتى عمهم الموت، وشملهم الهلاك، وخلفهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت لهم جناتهم وأموالهم بالسدر والشوك شوك العضاة بالكسر: أم غيلان أو نحوه، والقتاد بوزن سحاب: شجر صلب شوكه كالإبر، فلا تسمع فيها إلا عزيف الجن؛ أي: صوتهم، وهو جرس يسمع في

ص: 434