الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة محمد
سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمّى سورة القتال، وسورة الذين كفروا. وهي مدنية، قال الماوردي في قول الجميع إلا ابن عباس، وقتادة، فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنًا عليه، فنزل قوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} . وقال الثعلبيُّ (1): إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك، وسعيد بن جبير وهو غلطٌ من القول، فالسورة مدنية كما لا يخفى. وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: نزلت سورة القتال بالمدينة، وأخرج النحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عنه قال: نزلت سورة محمد بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا.
وهي (2) ثمان أو تسع وثلاثون آية، وخمس مئة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاث مئة وتسعة وأربعون حرفًا، نزلت بعد سورة الحديد.
تسميتها: سمّيت سورة محمد؛ لبيانها تنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، بقوله:{وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} ، ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا في أربع مواضع: في سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} . وفي سورة الأحزاب: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} . وأما في غير هذه المواضع الأربعة، فيذكر بصفة الرسول أو النبيّ.
وسميت أيضًا سورة القتال؛ لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} .
مناسبتها لما قبلها: قال أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة
(1) الشوكاني.
(2)
المراح.
جدًّا. اهـ. وفي "التفسير المنير": هذه السورة يرتبط أولها ارتباطًا قويًا بآخر سورة الأحقاف {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} حتى لو أسقطت البسملة بينهما لكان الكلام متصلًا مباشرةً بما قبله اتصالًا لا تنافر فيه كالآية الواحدة، ولكان بعضه آخذًا بحجز بعض.
فضلها: ما أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها في صلاة المغرب.
الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جميعها محكم إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} نسخ المنّ والفداء بآية السيف، وقيل: في سورة محمد صلى الله عليه وسلم آيتان منسوختان الثانية منهما: قوله تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (الآية 36). نسخت بقوله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)} (الآية 37).
والله أعلم
* * *
واعلم: أنّ الله سبحانه قسم الناس في أول هذه السورة إلى فريقين (1):
أهل الكفر الذين صدّوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم، سواء كانت حسنةً كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصدّ عن سبيل الله، فالأولى يبطل الله ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملًا شريفًا، فإنّ مآله الخذلان.
وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، أولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم، ويوفّقهم في الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها.
ثم علل ما سلف بأنّ أعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة بأنّ الحق منصور، وأنّ الباطل مخذول، سواء كان في أمور الدين أم في أمور الدنيا، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها، ويؤثرونها؛ لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق، وهكذا الشأن في المزروعات، والمصنوعات المتقنة الجيّدة، والسياسات الحكيمة.
والصناعات المرذولة، والسلع المزجاة، لن يكون حظها إلا الكساد والبوار؛ لأنّ الباطل لا ثبات له، والحق هو الثابت، والله هو الحق فينصر الحقّ، والعلم الصحيح، والدين الصحيح، والصناعات الجيّدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة، وضدّها عاقبته الشقاء والبوار.
وقصارى ذلك: أنّ الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق، وعلى قوانين ثابتة منظمة، فكل ما قرب إلى الحق كان باقيًا، وكل ما ابتعد عنه كان هالكًا، فرجال الجدّ والنشاط مؤيَّدون، ورجال الكسل والتواكل مخذولون، والمُحِقُّون في كل شيء محبوبون منصورون.
قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ
…
} الآيات، مناسبة هذه
(1) المراغي.
الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (1) فيما سلف أنّ الناس فريقان:
أحدهما: متّبعٌ للباطل، وهو حزب الشيطان.
وثانيهما: متّبعٌ للحق، وهو حزب الرحمن .. ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرجع عن غيِّه، وتخضد شوكته.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
…
} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما نعى على الكافرين مغبّة أعمالهم، وأنّ النار مثوى لهم .. أردف هذا أمرهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة، ورؤية آثارهم، لما للمشاهدت الحسّية من آثار في النفوسّ، ونتائج لدى ذوي العقول إذا تدبّروها واعتبروا بها.
قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ
…
} الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا بينّ الفارق بين الفريقين في الاهتداء والضلال .. ذكر الفارق بينهما في مرجعهما ومآلهما، فذكر ما للأوّلين من النعيم المقيم، واللذات التي لا يدركها الإحصاء، وما للآخرين من العذاب اللازب في النار، وشرب الماء الحار الذي يقطّع الأمعاء.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
…
} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر حال المشركين، وبيّن سوء مغبّتهم .. أردف هذا ببيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونًا واستهزاء به، حتى إذا خرجوا من عنده .. قالوا للواعين من الصحابة: ماذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟. وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه، وأقبلوا على جمع حطام الدنيا.
ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا، وألهمهم وبهم ما يتقون به النار، ثم عنف
(1) المراغي.
أولئك المكذّبين، وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجيء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، والذكرى لا تنفع حينئذٍ.
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله، وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والله هو العلم بمنصرفكم في الدنيا، ومصيركم إلى الجنّة أو إلى النار في الاخرة.
أسباب النزول
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
…
} أخرج (1) ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل مكة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} قال: هم الأنصار.
وأخرج عن قتادة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: ذكر لنا أنّ هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذٍ: أعل هبل، ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فقال المشركون: إنّ لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم".
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً
…
} إلخ. سبب نزولها: ما أخرجه أبو يعلى عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاء الغار .. نظر إلى مكة فقال: "أنت أحبّ بلاد الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك .. لم أخرج منك، فأنزل الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
…
} الآية.
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
…
} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيسمع المؤمنون منه ما يقول ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا
(1) لباب النقول.