المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفي الآية دليل على أنّ من كان مؤمنًا، لا يحبّ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وفي الآية دليل على أنّ من كان مؤمنًا، لا يحبّ

وفي الآية دليل على أنّ من كان مؤمنًا، لا يحبّ الفسق والمعصية، وإذا ابتلي بالمعصية .. فإنّ شهوته وغفلته تحمله على ذلك، لا لحبّه للمعصية، بل ربّما يعصي حال الحضور؛ لأنّ فيه نفاذ قضائه تعالى.

‌9

- {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ؛ أي: تقاتلوا، والجمع حيث لم يقل: اقتتلتا على التثنية والتأنيث باعتبار المعنى؛ لأنّ كل طائفة جمع، فهي بمعنى القوم، نظير قوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، وبه قرأ الجمهور (1). وقرأ ابن أبي عبلة:{اقتتلتا} بالتثنية والتأنيث اعتبارًا بلفظ {طَائِفَتَانِ} ، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير:{اقتتلا} بالتثنية، وتذكير الفعل باعتبار الفريقين والرهطين، والطائفة من الناس: جماعة منهم، لكنها دون الفرقة، كما دلّ عليه قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} . و {طَائِفَتَانِ} : فاعل فعل محذوف وجوبًا؛ لا مبتدأ؛ لأنّ حرف الشرط لا يدخل إلا على الفعل لفظًا أو تقديرًا، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فحذف الأول؛ لئلا يلزم اجتماع المفسّر والمفسّر، وأصل القتل: إزالة الروح عن الجسد بأيّ طريق كان.

{فَأَصْلِحُوا} أيها المؤمنون {بَيْنَهُمَا} ؛ أي: بين تينك الطائفتين بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى، وثنّى الضمير باعتبار لفظ الطائفتين، والصلاح: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والإصلاح: جعل الشيء على تلك الحالة، والإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا من أعظم الطاعات، وأتمّ القربات، وكذا نصرة المظلوم، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من وصل أخاه بنصيحة في دينه، ونظر له في صلاح دنياه .. فقد أحسن صلته، وقال مطرّف: وجدنا أنصح العباد لله الملائكة، ووجدنا أغشّ العباد لله الشياطين، ويقال: من كتم السلطان نصحه، والأطبّاء مرضه، والأخوان بثّه .. فقد خان نفسه.

{فَإِنْ بَغَتْ} ؛ أي: تعدّت واستطالت {إِحْدَاهُمَا} ؛ أي: إحدى الطائفتين وكانت مبطلة {عَلَى الْأُخْرَى} وكان محقة، ولم تتأثر الباغية بالنصيحة {فَقَاتِلُوا الَّتِي

(1) البحر المحيط.

ص: 359

تَبْغِي}؛ أي: قاتلوا الطائفة الباغية {حَتَّى تَفِيءَ} ؛ أي: حتى ترجع عن بغيها، فإنّ الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة. {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ؛ أي: إلى حكمه الذي حكم به في كتابه العزيز، وهو المصالحة، ورفع العداوة، أو إلى ما أمر به، وهو الإطاعة المدلول عليها بقوله:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . فأمر الله على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر.

وإنّما أطلق (1) الفيء على الظل؛ لرجوعه بعد نسخ الشمس؛ أي: إزالتها إيّاه، فإنّ الشمس كلما ازدادات ارتفاعًا .. ازداد الظل انسلاخًا وزوالًا، وذلك إلى أن توازي الشمس خطّ نصف النهار، فإذا زالت عنه، وأخذت في الانحطاط .. أخذ الظل في الرجوع والظهور، فلمّا كان الزوال سببًا لرجوع ما انتسخ من الظل .. أضيف الظل إلى الزوال، فقيل: فيء الزوال.

ومرَّ الأصمعي بحيّ من أحياء العرب، فوجد صبيًا يلعب مع الصبيان في صحراء، وبتكلّم بالفصاحة، فقال الأصمعي: أين أباك يا صبيّ؟ فنظر إليه الصبي ولم يجب، ثم قال: أين أبيك؟ فنظر إليه ولم يجب كالأول، ثمّ قال: أين أبوك؟ فقال: فاء إلى الفيفاء لطلب الفيء، فإذا فاء الفيء .. فاء؛ أي: رجع.

وقرأ الجمهور (2): {حَتَّى تَفِيءَ} مضارع فاء بفتح الهمزة، وقرأ الزهريّ {حتى تفى} بغير همزة وفتح الياء، وهذا شاذ، كما قالوا في مضارع جاء: ينبغي بغير همز، فإذا أدخلوا عليه الناصب .. فتحوا الياء، وأجروه مجرى يفي مضارع وفى شذوذًا.

{فَإِنْ فَاءَتْ} الباغية، ورجعت إليه، وأقلعت عن القتال حذارًا من قتالكم {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} أي: بين الطائفتين: الباغية والمحقّة {بِالْعَدْلِ} والإنصاف بفصل ما بينهما على حكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر.

(1) روح البيان.

(2)

البحر المحيط.

ص: 360