المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الحجرات سورة الحجرات مدنيّة، قال القرطبي: بالإجماع، وأخرج ابن الضريس - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٢٧

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ‌ ‌سورة الحجرات سورة الحجرات مدنيّة، قال القرطبي: بالإجماع، وأخرج ابن الضريس

‌سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنيّة، قال القرطبي: بالإجماع، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس وابن الزبير: أنها نزلت بالمدينة بعد سورة المجادلة، وهي ثماني عشرة آيةً، وثلاث مئة وثلاث وأربعون كلمةً، وألف وأربع مئة وستة وسبعون حرفًا، وكلها محكمة لا ناسخ ولا منسوخ فيها، كما قاله ابن حزم، وسمّيت بالحجرات؛ لذكر لفظ الحجرات فيها.

ومناسبتها لما قبلها من وجوه (1):

1 -

ذكر في هذه قتال البغاة، وفي تلك قتال الكفار.

2 -

أنّ السابقة ختمت بالذين آمنوا، وافتتحت هذه بهم.

3 -

أنّ كلًّا منهما تضمّن تشريفًا وتكريمًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في مطلعيهما.

قال أبو حيان (2): مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة؛ لأنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثمّ قال:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فربما صدر من مؤمن عمل الصالحات بعض شيء ممّا ينبغي أن يجتنب عنه، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وكانت عادة العرب وهي إلى الآن الاشتراك في الآراء، وأن يتكلم كل بما شاء، ويفعل ما أحبّ، فجرى من بعض من لم يتمرن على آداب الشريعة بعض ذلك، قال قتادة: فربّما قال قوم: ينبغي أن يكون كذا لو أنزل في كذا.

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 330

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} .

ص: 331

المناسبة

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

} الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (1): أنه ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال؛ لأنّ الأولى كالمقدمة، والثانية كالنتيجة، وذكرت هذه بعد الفتح لأنّ الأمّة إذا جاهدت ثم فتح الله عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم بينها، واستتب الأمر .. وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكيف يعاملونه، وكيف يعامل بعضهم بعضًا، فطلب إليهم أن لا يقطعوا أمرًا دون أن يحكم الله ورسوله به، وأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن لا يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعهض، لما في ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدّي إلى الكفر المحيط للأعمال.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا نهى عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم .. أردفه بذمّ الذين ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وهو في بيوت نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، ثمّ أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم في دينهم ودنياهم، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ

} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذمّ المنادين من وراء الحجرات .. أردفه بتأديب عباده المؤمنين بأدب نافع لهم في دينهم ودنياهم، وهو أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر .. لا يصدّقونه بادىء ذي بدءٍ، حتى يتثبّتوا ويتطلّبوا انكشاف الحقيقة، ولا يعتمدوا على قوله، فإنّ من لا يبالي بالفسق لا يبالي بالكذب الذي هو من فصيلته كراهة أن يصيبوا بأذى قومًا هم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرّط منكم، وتتمنّوا أنه لم يكن قد وقع.

قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا

} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا (2) حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق .. بيَّن

(1) المراغي.

(2)

المراغي.

ص: 332

هنا ما ربّما ترتب على خبره من النزاع بن فئتين، وقد يؤول الأمر إلى الاقتتال، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه، وأن يصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى .. فقاتلوا التي تبغي حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرةً إن أمكن، أو باستعداء الحاكم عليها، وإن كان الباغي هو الحاكم .. فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها، بشرط أن لا تثير فتنة أشد من الأولى، ثمّ تيمم الإرشاد، وأبان أنَّ الصلح كما يلزم بين الفئتين يجب بين الأخوين، ثم أمرهم بتقوى الله، ووجوب اتباع حكمه، وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره.

قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ

} مناسبة هذه

الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى، ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع من يخالفهما ويعصيهما، وهو الفاسق .. بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن، فذكر أنه لا ينبغي أن يسخر منه، ولا أن يعيّبه بالهمز واللمز، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه، فبئس العمل هذا، ومن لم يتب بعد ارتكابه .. فقد أساء إلى نفسه، وارتكب جرمًا كبيرًا.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ

} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه أدّب عباده المؤمنين بآداب، إن تمسّكوا بها .. دامت المودّة والوئام بينهم، منها: ما تقدم قبل هذا، ومنها: ما ذكره هنا من الأمور العظام، التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإِسلامي قوَّةً، وهي:

1 -

البعد عن سوء الظن بالناس، وتخوينهم في كل ما يقولون ويفعلون؛ لأن بعض ذلك قد يكون إثمًا محضًا، فليجتنب كثير منه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملًا.

2 -

عدم البحث عن عورات الناس ومعايبهم.

3 -

عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون في غيبتهم، وقد مثّل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعًا له، قال قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة

ص: 333

ممدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ

} الآية، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا نهى فيما سلف عن السخرية بالناس، والازدراء بهم، وعن اللمز والتنابز بالألقاب .. ذكر هنا ما يؤكّد النهي، ويؤيّد ذلك المنع، فبين أنّ الناس جميعًا من أب واحد وأمّ واحدة، فكيف يسخر الأخ من أخيه، إلى أنه تعالى جعلهم شعوبًا وقبائل مختلفة ليحصل بينهم التعارف والتعاون في مصالحهم المختلفة، ولا فضل لواحد على آخر إلَّا بالتقوى والصلاح وكمال النفس لا بالأمور الدنيويّة الزائلة.

قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا

} إلى آخر السورة، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا حّث (1) الناس على التقوى .. وبّخ من في إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإِسلام وقلوبهم وغلة؛ لأنّهم كانوا يريدون المغانم، وعرض الدنيا إذ جاؤوا في سنة مجدبة، وكانوا يقولون لرسوله صلى الله عليه وسلم: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان؛ يريدون بذكر ذلك: الصدقة والمنّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاطلع الله نبيّه صلى الله عليه وسلم على مكنون ضمائرهم، وأنهم لم يؤمنوا إيمانًا حقيقيًّا، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان، وأمرهم أن يقولوا: استسلمنا وخضعنا.

ثمّ أخبرهم بأنهم إن اتقوا الله حق تقاته .. وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة.

ثمّ بيّن أنّ من علامة الإيمان الكامل: التضحية بالنفس والمال في سبيل الله، ببذلهما في تقوية دعائم الدين، وإعلاء شأنه، وخضد شوكة العدوّ بكل السبل الممكنة.

ثمّ أعقب هذا: بأن الله يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف أو قويّ، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه لا ينبغي للمؤمن أن يمتّن على

(1) المراغي.

ص: 334

الرسول بإيمانه، بل من حق الرسول أن يمتن عليه بأن وفق للهداية على يديه، إن كان صادق الإيمان.

ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه في السموات والأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرّة فيهما، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شرّ.

أسباب النزول

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه البخاري وغيره (1)، من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} .

وأخرج ابن المنذر عن الحسن: أنّ أناسًا ذبحوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا ذبحًا، فأنزل الله قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

}.

وأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب الأضاحي" بلفظ: ذبح رجل قبل الصلاة .. فنزلت.

وأخرج الطبراني في "الأوسط" عن عائشة: أنّ ناسًا كانوا يتقدّمون الشهر، فيصومون قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا

}.

وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فأنزل الله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

}.

(1) لباب النقول.

ص: 335

وأخرج عنه قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل الله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ

} الآية.

وأخرج أيضًا عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: لما نزلت هذه الآية {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ

} قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي، فمرّ به عاصم بن عديّ بن العجلان، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية، أتخوّف أن تكون نزلت في، وأنا صيّت رفيع الصوت، فرفع عاصم ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا به، فقال:"أما ترضى أن تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا، وتدخل الجنة؟ " قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدًا على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ

} الآية.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ

} الآيتين، سبب نزولهما: ما أخرجه الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم، قال: جاء ناس من العرب إلى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله تعالى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ

} الآية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أنّ رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد إنّ مدحي لزين، وإنّ شتمي لشين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ذاك هو الله" فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ

} الآية. مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء، وغيره عند الترمذي بدون نزول الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن، وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس: أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فلم يجبه، فقال: يا محمد إنّ حمدي لزين، وانّ ذمّي لشين، فقال:"ذلك الله". وقال قتادة: نزلت في وفد تميم، وكانوا سبعين رجلًا منهم: الزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم، جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم للمفاخرة، فنادوا على الباب: اخرج إلينا يا محمد، فإنّ مدحنا لزين، وإنّ ذمّنا لشين، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:"إنما ذلكم الله الذي مدحه زين، وذمّه شين" فقالوا: نحن ناس من تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا" فقام

ص: 336

شابّ منهم، فذكر فضله وفضل قومه، فقال صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شمّاس، وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم:"قُمْ فأجبه" فأجابه، وقام الزبرقان بن بدر فقال .... إلى أن قال:

نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا

مِنَّا الْمُلُوْكُ وَفِيْنَا تُنْصَبُ البِيَعُ

فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ يُفَاخِرُهُمْ

إِلَّا اسْتَفَادُوْا فَكَانُوْا الرَّأْسَ يُقْطَتَعُ

فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِيْ ذَاكَ نَعْرِفُهُ

فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت: "أجبه" فقال:

إِنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ

قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ

يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيْرَتُهُ

تَقْوَى الإِلَهِ وَكُلُّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ

قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوْا عَدُوَّهُمُ

أوْ حَاوَلُوْا النَّفْعَ فِيْ أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوْا

سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ

إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ

في قصيدة طويلة.

فلمّا فرغ حسان من قوله .. قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤنَّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما يضرُّك ما كان من قبل هذا" ثم جوزهم فأحسن جوائزهم.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

} الآية، سبب نزولها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ليأخذ الصدقات، فلمَّا أتاهم الخبر .. فرحوا به، وخرجوا يستقبلونه، فلمّا حدث بذلك الوليد .. حسب أنهم جاؤوا لقتاله، فرجع قبل أن يدركوه، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا: يا رسول الله إنّا حدثنا أن

ص: 337

رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ

} الآية. أخرجه أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، وقال ابن كثير: وهذا من أحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية.

وقال الرازي: هذه الرواية ضعيفة؛ لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد؛ لأنّه توهم وظن فأخطا، والمخطىء لا يسمى فاسقًا، كيف والفاسق في أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . اهـ.

قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا وانطلق إلى عبد الله بن أبيّ، فقال: إليك عنّي، فقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحماره أطيب ريحًا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} .

وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير عن أبي مالك قال: قال: تلاحى رجلان من المسلمين، فغضب قوم هذا لهذا، وهذا لهذا، فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ

} الآية.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ

} الآية، روي: أنّ الآية نزلت في وفد تميم، إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة، وسلمان الفارسي وسالم مولى أبي حذيفة في آخرين غيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، وروي: أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ النساء يقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها:"هلّا قلت: أبي هارون وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم ".

ص: 338

قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ

} سبب نزوله: ما أخرجه أصحاب "السنن" الأربعة، عن أبي جبير بن الضحاك، قال: كان الرجل منّا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت:{وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . قال الترمذي: حسن. وأخرج الحاكم وغيره من حديثه أيضًا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول الله، إنّه يكرهه، فأنزل الله: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ

}.

قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسيّ، أكل ثم رقد فنفخ، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى

} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه أبو داوود: أنّ هذه الآية نزلت في أبي هند، وكان حجّام النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أنّ يزوّجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نزوّج بناتنا موالينا، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ

} الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة، قال: لمّا كان يوم الفتح .. رقى بلال على ظهر الكعبة فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة وقال بعضهم: إن يرد الله شيئًا يغيّره فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى

}.

قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا

} سبب نزوله: ما أخرجه الطبراني بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى: أن ناسًا من العرب قالوا: يا رسول الله، أسلمنا ولم نقاتلك، وقاتلك بنو فلان، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا

} الآية، وأخرج البزّار من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: قدم عشرة نفر من بني أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه، فسلّموا وقال متكلّمهم: يا رسول الله إنّا شهدنا أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا سلم، فأنزل الله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ

ص: 339