الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العالم العاقل.
واعلم: أيها الأخ الكريم، أنّ العلم إنما يزداد بصحبة أهله، ولمَّا تخلف المنافقون عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وصفهم الله سبحانه بعدم الفقه، فلا بدَّ من مجالسة العلماء العاملين، حتى تكون الدنيا وراء الظهر، ويجعل الرغبة في الآخرة. وقدورد في الأخبار:"اطلبوا العلم ولو بالصين".
وعن بعضهم قال: رأيت في الطواف كهلًا قد أجهدته العبادة، وبيده عصا، وهو يطوف معتمدًا عليها، فسألته عن بلده، فقال: خراسان، ثم قال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين أو ثلاثة، فقال: أفلا تحجون كلّ عام؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: مسيرة خمس سنين، قلت: هذا والله هو الفضل المبين، والمحبّة الصادقة، فضحك وأنشأ يقول:
زُرْ مَنْ هَوَيْتَ وَإِنْ شَطَّتْ بِكَ الدَّارُ
…
وَحَالَ مِنْ دُوْنِهِ حُجْبٌ وَأَسْتَارُ
لَا يَمْنَعَنَّكَ بُعْدٌ عَنْ زِيَارَتِهِ
…
إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ
16
- {قُل} يا محمد {لِلْمُخَلَّفِينَ} المذكورين من الأعراب، كرّر ذكرهم بهذا العنوان؛ لذمّهم مرّة بعد أخرى، فإنّ التخلّف عن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم شناعة أي شناعة: إنكم {سَتُدْعَوْنَ} وتندبون {إِلَى} قتال {قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ؛ أي: أصحاب قوّة شديدة في الحرب، فعليكم أن تخيروهم بين أمرين: إما السيف، وإما الإسلام، وهذا حكم عام في مشركي العرب والمرتدين، يجب اتباعه، كما بيَّن الأمرين بقوله: إما {تُقَاتِلُونَهُمْ} أبدًا {أَو يُسْلِمُونَ} : كلام مستأنف، كأنّه قيل: لماذا يدعون؟ فأجيب: ليكون أحد الأمرين: إما المقاتلة أبدًا، أو الإسلام لا غير، وأما من عدا المرتدين والمشركين من العرب فينتهي قتالهم بالجزية، كما ينتهي بالإسلام.
يعني: أنّ المراد بـ {قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : المرتدّون والمشركون مطلقًا، سواء كانوا مشركي العرب أو العجم، بناءً على أنّ من عدا الطائفتين المذكورتين، وهم: أهل الكتاب والمجوس، ليس الحكم فيهم أن يقتلوا إلى أن يسلموا، بل تقبل منهم الجزية، بخلاف المرتدّين، ومشركي العرب والعجم، فإنه لا تقبل منهم
الجزية، بل يقاتلون حتى يسلموا، وهذا عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة: فمشركوا العجم تقبل منهم الجزية، كما تقبل من أهل الكتاب والمجوس، والذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إنما هم مشركوا العرب والمرتدون فقط عنده.
واختلف العلماء في تعيين هؤلاء القوم، فقال الزهريّ ومقاتل وجماعة: المراد بالقوم أولي العباس شديد: بنو حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذّاب، وقال قتادة: هم هوازن وغطفان، وقال ابن عباس، ومجاهد: هم أهل فارس، وقال الحسن: هم فارس والروم، قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل، ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين. اهـ.
أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، أو الإسلام، لا ثالث لهما.
وقرأ الجمهور (1): {أَوْ يُسْلِمُونَ} مرفوعًا، وقرأ أبيّ وزيد بن عليّ: بحذف النون منصوبًا بإضمار أن بعد {أَوْ} العاطفة لمصدر متصيد، على مصدر متوهّم؛ أي: يكون قتال أو إسلام، والرفع على العطف على:{تُقَاتِلُونَهُمْ} أو على القطع؛ أي: أو هم يسلمون دون قتال.
ثمّ وعدهم إذا أجابوا بقوله: {فَإِنْ تُطِيعُوا} ؛ أي: فإن تستجيبوا وتنفروا أيّها المخلّفون للجهاد، وتؤدُّوا ما طلب منكم أداؤه .. {يُؤْتِكُمُ الله}؛ أي: يعطكم ربّكم {أَجْرًا حَسَنًا} وثوابًا جزيلًا، فتنالوا المغانم في الدنيا، وتدخلوا الجنة في الآخرة، كما وعد من نكص على عقبه بقوله:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} ؛ أي: تعرضوا عن الدعوة، وتعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته، وتخالفوا أمره، فتتركوا قتال أولي النجدة والبأس الشديد إذا دعيتم إلى قتالهم {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} في الحديبية؛ أي: كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ؛ أي: عذابًا شديدًا بالمذلّة في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والنار في
(1) البحر المحيط.