المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مَجْمُوعَةٌ فِي بَائِهَا، وَمَعْنَاهَا: بِي كَانَ مَا كَانَ وَبِي يَكُونُ - حاشية البجيرمي على الخطيب = تحفة الحبيب على شرح الخطيب - جـ ١

[البجيرمي]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي تَعْرِيفِ الْحُجَّةِ وَالْحُكْمِ وَتَقْسِيمِهِ إلَى تَكْلِيفِيٍّ وَوَضْعِيٍّ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَارِعِ تَصْنِيفٍ وَمَا يُسَنُّ صِنَاعَةً]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي الْمُبَالَغَةِ النَّحْوِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي الْخُلَّةِ وَالْمَحَبَّةِ]

- ‌[مَبْحَثُ عَدَدِ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[مَبْحَثُ تَقْدِيمِ الِاسْمِ عَلَى اللَّقَبِ وَعَكْسِهِ]

- ‌[مَبْحَثُ الْكَلَامِ عَلَى لَفْظِ ابْنِ]

- ‌[مَبْحَثُ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ]

- ‌[مَبْحَثُ تَعْرِيفِ الْجِنَاسِ اللَّاحِقِ]

- ‌[مَبْحَثُ الرَّجَاءِ وَالْأَمَلِ وَالتَّمَنِّي وَالطَّمَعِ]

- ‌[مَبْحَثُ الْحَسَدِ وَالْغِبْطَةِ وَالْقَنَاعَةِ]

- ‌[مَبْحَثُ الْجِنَاسِ الْمُضَارِعِ]

- ‌[مَبْحَثُ الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ]

- ‌[مَبْحَثُ الِاشْتِقَاقِ وَأَقْسَامُهُ]

- ‌[مَبْحَثُ الْغَلَبَةِ وَتَقْسِيمُهَا]

- ‌[مَبْحَثُ النَّحْتِ]

- ‌[مَبْحَثُ فِي قَوْلِهِ أَمَّا بَعْدُ]

- ‌ كِتَابُ بَيَانِ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَطْهُرُ بِدِبَاغِهِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْآنِيَةِ وَمَا يَمْتَنِعُ]

- ‌فَصْلٌ: فِي السِّوَاكِ

- ‌فَصْلٌ فِي الْوُضُوءِ

- ‌تَتِمَّةٌ: يُنْدَبُ إدَامَةُ الْوُضُوءِ

- ‌فَصْلٌ: فِي الِاسْتِنْجَاءِ

- ‌فَصْلٌ: فِي بَيَانِ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْوُضُوءُ

- ‌فَصْلٌ: فِي مُوجِبِ الْغُسْلِ

- ‌تَتِمَّةٌ: يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ مَا حَرُمَ بِالْحَدَثِ الْأَصْغَرِ

- ‌فَصْلٌ: فِي أَحْكَامِ الْغُسْلِ

- ‌[فَرْعٌ اجْتَمَعَ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلُ حَيْضٍ وَجَنَابَةٍ]

- ‌[فَرْعٌ قُطِعَ عُضْوُ مُسْلِمٍ ثُمَّ ارْتَدَّ وَمَاتَ مُرْتَدًّ]

- ‌فَصْلٌ: فِي الْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ

- ‌فَصْلٌ: فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ

- ‌فَصْلٌ: فِي التَّيَمُّمِ

- ‌شَرَائِطُ التَّيَمُّمِ)

- ‌[فَرَائِضُ التَّيَمُّمِ]

- ‌ مُبْطِلَاتِ التَّيَمُّمِ

- ‌[الْمَسْحُ عَلَى الْجَبِيرَة]

- ‌[تَتِمَّةٌ فَاقِدِ الطَّهُورَيْنِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ]

- ‌فَصْلٌ: فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ

- ‌تَنْبِيهٌ: النَّجَاسَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ حُكْمِيَّةٍ وَعَيْنِيَّةٍ

- ‌ حُكْمِ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ

- ‌فَصْلٌ: فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ

- ‌(دَمُ الْحَيْضِ

- ‌[دَمُ النِّفَاسُ]

- ‌ أَحْكَامِ الْحَيْضِ

- ‌كِتَابُ الصَّلَاةِ

- ‌[وَقْتَ الظُّهْرِ]

- ‌ وَقْتُ الْعَصْرِ

- ‌[وَقْتُ الْمَغْرِب]

- ‌وَقْتُ الْعِشَاءِ

- ‌[وَقْتُ الْفَجْرِ]

- ‌فَصْلٌ: فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَفِي بَيَانِ النَّوَافِلِ

- ‌شَرَائِطُ وُجُوبِ الصَّلَاةِ

- ‌الصَّلَاةُ الْمَسْنُونَةُ)

- ‌[فَصْلٌ فِي شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ]

الفصل: مَجْمُوعَةٌ فِي بَائِهَا، وَمَعْنَاهَا: بِي كَانَ مَا كَانَ وَبِي يَكُونُ

مَجْمُوعَةٌ فِي بَائِهَا، وَمَعْنَاهَا: بِي كَانَ مَا كَانَ وَبِي يَكُونُ مَا يَكُونُ، زَادَ بَعْضُهُمْ: وَمَعَانِي الْبَاءِ فِي نُقْطَتِهَا.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) بَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ ثُمَّ بِالْحَمْدَلَةِ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ.

وَعَمَلًا بِخَبَرِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ» أَيْ حَالَ يُهْتَمُّ بِهِ «لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ

ــ

[حاشية البجيرمي]

لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ الْإِلَهِيَّاتِ فِي الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فِي مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَالْعِبَادَاتِ كُلَّهَا مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي فِي إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَالشَّرِيعَةَ كُلَّهَا فِي الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَالْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ فِي قَوْلِهِ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ، وَذِكْرَ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ فِي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ شَيْخُنَا. اهـ. سُيُوطِيٌّ.

قَوْلُهُ: (وَمَعْنَاهَا بِي إلَخْ) أَيْ إنَّهَا تُشِيرُ إلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا مَعْنَاهَا الْمَوْضُوعَةُ هِيَ لَهُ قَوْلُهُ:(فِي نُقْطَتِهَا) أَيْ أَوَّلِ جُزْءٍ يُوضَعُ عِنْدَ إرَادَةِ رَسْمِهَا قِيلَ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ ذَاتَه تَعَالَى نُقْطَةُ الْوُجُودِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْهَا كُلُّ مَوْجُودٍ أج.

[مَبْحَثُ النَّحْتِ]

قَوْلُهُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَصْلُهُ حَمِدْت حَمْدَ اللَّهِ، ثُمَّ اُسْتُغْنِيَ بِالْمَصْدَرِ عَنْ الْفِعْلِ فَحُذِفَ ثُمَّ رُفِعَ الْمَصْدَرُ، ثُمَّ أَدْخَلُوا عَلَيْهِ أَلْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ فَصَارَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ إنَّمَا اُسْتُفِيدَ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَنَا زَيْدٌ قَائِمٌ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَصْلِ ثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَأَمَّا دَوَامُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ فَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ.

وَالْحَمْدُ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ: إمَّا وَاجِبٌ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ مَنْدُوبٌ كَمَا فِي الْأَدْعِيَةِ ابْتِدَاءً وَخِتَامًا وَنَحْوِ الْأَكْلِ، أَوْ مَكْرُوهٌ كَكَوْنِهِ فِي الْأَمَاكِنِ الْقَذِرَةِ أَوْ بِفَمٍ نَجِسٍ أَوْ حَرَامٍ كَالْحَمْدِ عِنْدَ الْفَرَحِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يَعْطِفْهَا عَلَى الْبَسْمَلَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ كَمَالِ الِاتِّصَالِ وَلِإِفَادَةِ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْبَسْمَلَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا جِهَةُ تَحْمِيدٍ لِأَنَّ الْمُبَسْمِلَ لَا يُقَالُ لَهُ حَامِدٌ عُرْفًا.

تَنْبِيهٌ: الْمُخْبِرُ بِالْحَمْدِ حَامِدٌ بِخِلَافِ الْمُخْبِرِ بِالصَّلَاةِ فَلَيْسَ بِمُصَلٍّ، وَلِذَا يُثَابُ الْحَامِدُ مُطْلَقًا وَلَا يُثَابُ الْمُصَلِّي إلَّا إذَا قَصَدَ الْإِنْشَاءَ، وَسَوَّى الدُّلَجِيُّ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ بَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْحَمْدِ فِي الثَّوَابِ وَلَوْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ.

تَنْبِيهٌ: قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَفْضَلُ الْمَحَامِدِ أَنْ يُقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ:«إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهَبَطَ آدَمَ عليه الصلاة والسلام إلَى الْأَرْضِ قَالَ: يَا رَبِّ عَلِّمْنِي الْمَكَاسِبَ وَعَلِّمْنِي كَلِمَةً تَجْمَعُ لِي فِيهَا الْمَحَامِدَ. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ أَنْ قُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَك وَيُكَافِئُ مَزِيدَك فَقَدْ جَمَعْت لَك فِيهَا جَمِيعَ الْمَحَامِدِ» .

وَقِيلَ: أَفْضَلُ الْمَحَامِدِ أَنْ يُقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، زَادَ بَعْضُهُمْ عَدَدَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ وَأَرَادَ أَنْ يَقُولَهَا فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتْعَبْت الْحَفَظَةَ فَإِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ ثَوَابَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي إلَى الْآنَ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ وَهِيَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَحْمِدَنَّ اللَّهَ بِأَفْضَلِ الْمَحَامِدِ، فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ لَا يَبَرُّ إلَّا بِمَا قَالَهُ مِنْ تِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَقِيلَ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك، وَقِيلَ لَا يَبَرُّ حَتَّى يَقُولَ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] اهـ شَبْرَخِيتِيٌّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ.

قَوْلُهُ: (بَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ ثُمَّ بِالْحَمْدَلَةِ) هَذِهِ الْعِبَارَةُ مُتَضَمِّنَةٌ لِسُؤَالَيْنِ: صُورَةُ الْأَوَّلِ لِمَ أَتَى بِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَلَمْ يَبْتَدِئْ بِغَيْرِهِمَا كَالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ؟ وَصُورَةُ الثَّانِي: لِمَ رَتَّبَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ؟ وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُهُ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ يُثْبِتُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَمَلًا بِخَبَرِ إلَخْ. يُثْبِتُ الْأَوَّلَ فَقَطْ، وَقَوْلُهُ: بِالْبَسْمَلَةِ أَيْ بِمُسَمَّى الْبَسْمَلَةِ أَوْ بِمَا نُحِتَتْ مِنْهُ الْبَسْمَلَةُ.

ص: 27

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية البجيرمي]

مَبْحَثُ النَّحْتِ وَعِلْمُ النَّحْتِ سَمَاعِيٌّ سُمِعَ مِنْهُ نَحْوُ عَشَرَةِ أَلْفَاظٍ كَالْحَسْبَلَةِ أَيْ قَوْلُ حَسْبُنَا اللَّهُ، وَالْحَوْقَلَةِ وَالْحَيْعَلَةِ وَالطَّلْبَقَةِ مِنْ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك، وَمِنْهُ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهِيَ: وَاَللَّهِ مَا تَرَبْعَلْبَنْت قَطُّ أَيْ مَا أَكَلْت اللَّبَنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا تَسَبْتَسْمَكْت قَطُّ أَيْ مَا أَكَلْت السَّمَكَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَلَا تَعَمْقَعْدَدْت قَطُّ أَيْ مَا تَعَمَّمْت وَأَنَا قَاعِدٌ أَيْ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْسِينِ الْعِمَّةِ، وَسَيِّدُنَا عَلِيٍّ رضي الله عنه لَا يُرِيدُ ذَلِكَ. وَلَا تَسَرْوَلْقَمْت قَطُّ أَيْ مَا لَبِسْت السَّرَاوِيلَ قَائِمًا أَيْ لِئَلَّا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهِ، وَلَمَّا قِيلَ إنَّ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ مِنْ قِيَامٍ يُورِثُ الْفَقْرَ كَالتَّعَمُّمِ قَاعِدًا. وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ الْمُطَرِّزِيُّ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتُ وَغَيْرِهِ: إنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْ أَسْمَائِهَا سَبْعَةٌ: بَسْمَلَ إذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ، وَسَبْحَلَ إذَا قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَحَوْقَلَ إذَا قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَحَيْعَلَ إذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَحَمْدَلَ إذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَهَلَّلَ إذَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَجَعْفَدَ إذَا قَالَ جُعِلْت فِدَاك.

وَهَذَا الْبَابُ سَمَاعِيٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ:(ثُمَّ بِالْحَمْدَلَةِ) أَيْ ثُمَّ ثَنَّى بِالْحَمْدَلَةِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ. قَوْلُهُ: (اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ) أَيْ وَبِغَيْرِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِمَا عَبَّرَ فِي جَانِبِهِ بِالِاقْتِدَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَدِيثُ مُتَضَمِّنًا لِلْأَمْرِ عَبَّرَ فِي جَانِبِهِ بِالْعَمَلِ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مَعْنَاهُ الِاتِّبَاعُ فِي الْفِعْلِ اسْتِحْسَانًا لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْمَرَ التَّابِعُ بِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَإِنَّهُ الِاتِّبَاعُ مَعَ الْأَمْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَمَا هُنَا مِنْ الثَّانِي م د.

قَوْلُهُ: (بِخَبَرِ: كُلُّ) بِإِضَافَةِ خَبَرٍ إلَى جُمْلَةِ مَا بَعْدَهُ إضَافَةً بَيَانِيَّةً أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ، وَبِالتَّنْوِينِ عَلَى إبْدَالِ مَا بَعْدَهُ مِنْهُ وَرَفَعَ كُلَّ بِالْحِكَايَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِضَافَةُ كُلٍّ إلَى أَمْرٍ عَلَى مَعْنَى اللَّازِمِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ التَّلَفُّظُ بِهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ نِيَّةِ مِنْ أَوْ فِي، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَانْوِ مِنْ أَوْ فِي إذَا

لَمْ يَصْلُحْ إلَّا ذَاكَ وَاللَّامِ

خُذَا لِمَا سِوَى ذَيْنِك

قَوْلُهُ: (أَمْرٍ) الْأَمْرُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهِ الْخَمْسَةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِ دِينِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَيَأْتِي الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْقِيَامَةِ وَمِنْهُ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وَبِمَعْنَى الرَّأْيِ وَمِنْهُ {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] وَبِمَعْنَى الْعَذَابِ وَمِنْهُ {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] وَبِمَعْنَى الطَّلَبِ وَهُوَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ أَوْ كَفُّ مَدْلُولٍ عَلَيْهِ بِكَفٍّ وَنَحْوِهِ كَدَعْ وَذَرْ وَاتْرُكْ وَجَمْعُ هَذَا أَوَامِرُ وَجَمْعُ ذَاكَ أُمُورٌ وَالْمُرَادُ هُنَا الْفِعْلُ وَهُوَ حَرَكَةُ الْبَدَنِ الشَّامِلَةُ لِلْأَقْوَالِ دُونَ التُّرُوكِ؛ إذْ الْبَسْمَلَةُ لَا تُطْلَبُ فِي التَّرْكِ كَتَرْكِ الْمَعَاصِي.

قَوْلُهُ: (ذِي بَالٍ) أَيْ صَاحِبِ بَالٍ فَهُوَ جَامِدٌ لَفْظًا مُشْتَقٌّ تَأْوِيلًا، وَلِذَلِكَ صَحَّ الْوَصْفُ بِهِ، وَالْبَالُ فِي الْأَصْلِ الْقَلْبُ وَمِنْهُ {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5] أَيْ قُلُوبَهُمْ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الشَّأْنُ الَّذِي يَهْتَمُّ لَهُ الْقَلْبُ فَإِطْلَاقُ الْبَالِ عَلَيْهِ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ فِيهِ فَالْعَلَاقَةُ الْمَحَلِّيَّةُ أَوْ الْمُجَاوَرَةُ لِمُجَاوَرَةِ الشَّأْنِ الَّذِي يَهْتَمُّ بِهِ الْقَلْبُ لِلْقَلْبِ وَعَلَى كُلٍّ فَالْمَجَازُ مُرْسَلٌ وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ حَيْثُ شَبَّهَ الْأَمْرَ بِذِي قَلْبٍ بِجَامِعِ الِاهْتِمَامِ بِكُلٍّ وَالِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ وَأَثْبَتَ لَهُ الْبَالَ تَخْيِيلًا وَتَنْوِينُ بَالٍ لِلتَّعْظِيمِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] فَخَرَجَ الْحَقِيرُ كَنَقْلِ الْقَدَمِ فَلَا تُطْلَبُ لَهُ الْبَسْمَلَةُ فَفِيهِ تَخْفِيفٌ عَلَى الْعِبَادِ وَصَوْنٌ لِاسْمِهِ تَعَالَى عَنْ الِاقْتِرَانِ بِالْمُحَقَّرَاتِ قَالَ ح ف يُطْلَقُ الْبَالُ عَلَى الْحَالِ الَّذِي يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا لَكِنَّهُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَسْمَلَةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَمْدَلَةِ فَهُوَ خَاصٌّ بِالْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَامًّا لَاقْتَضَى طَلَبَهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ مَثَلًا مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ الْإِتْيَانُ بِهَا عِنْدَ آخِرِهِ. اهـ. لَكِنَّ قَوْلَهُ خَاصٌّ بِالْأَقْوَالِ يَرِدُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّهُ يُسَنُّ ابْتِدَاؤُهُ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ. قَوْلُهُ: (يُهْتَمُّ بِهِ) أَيْ شَرْعًا بِأَنْ لَا يَكُونَ مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ وَلَا

ص: 28

الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ» أَيْ نَاقِصٌ غَيْرُ تَامٍّ فَيَكُونُ قَلِيلَ الْبَرَكَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ رَوَاهَا أَبُو دَاوُد:" بِالْحَمْدِ لِلَّهِ ". وَجَمَعَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَغَيْرِهِ بَيْنَ الِابْتِدَاءَيْنِ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ. وَإِشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ إذْ الِابْتِدَاءُ حَقِيقِيٌّ بِطَالِقٍ، فَالْحَقِيقِيُّ حَصَلَ بِالْبَسْمَلَةِ، وَالْإِضَافِيُّ بِالْحَمْدَلَةِ أَوْ أَنَّ الِابْتِدَاءَ لَيْسَ حَقِيقِيًّا بَلْ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ يَمْتَدُّ مِنْ الْأَخْذِ فِي التَّأْلِيفِ إلَى الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، فَالْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ مَبْدَؤُهَا الْخُطْبَةُ بِتَمَامِهَا

وَالْحَمْدُ اللَّفْظِيُّ لُغَةُ الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ عَلَى

ــ

[حاشية البجيرمي]

مَكْرُوهًا كَذَلِكَ، وَلَا ذِكْرًا مَحْضًا، وَلَا جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ فَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ كَالزِّنَا بِخِلَافِ الْمُحَرَّمِ لِغَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ فَتُسَنُّ وَتُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ كَأَكْلِ بَصَلٍ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ لِغَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فَتُسَنُّ، وَلَا تُطْلَبُ لِلذِّكْرِ الْمَحْضِ كَالتَّهْلِيلِ وَخَرَجَ بِالْمَحْضِ الْقُرْآنُ فَتُطْلَبُ فِيهِ التَّسْمِيَةُ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْقَصَصِ وَالْأَحْكَامِ، فَتَعْتَرِي التَّسْمِيَةَ الْأَحْكَامُ الْأَرْبَعَةُ فَقَطْ لِأَنَّ أَصْلَهَا النَّدْبُ، وَمَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ النَّدْبَ لَا تَعْتَرِيهِ الْإِبَاحَةُ فَتَكُونُ وَاجِبَةً فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَنَا.

فَإِنْ قُلْت: ذَكَرَ اللَّهُ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي افْتِتَاحِ الْأَمْرِ ذِي الْبَالِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ فِيهِ وَهُوَ الْبَسْمَلَةُ أَمْرٌ ذُو بَالٍ، فَيَحْتَاجُ فِي تَحْصِيلِ الْبَرَكَةِ فِيهِ إلَى سَبْقِ مِثْلِهِ وَيَتَسَلْسَلُ. قُلْت: هُوَ مُحَصِّلٌ لِلْبَرَكَةِ فِيهِ كَمَا هُوَ مُحَصِّلٌ لِلْبَرَكَةِ فِيمَا افْتَتَحَ بِهِ كَالشَّاةِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ تُزَكِّي نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا، فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْأَمْرِ ذِي الْبَالِ فِي الْحَدِيثِ. اهـ. عَبْدُ الْحَقِّ. وَأَجَابَ م د بِقَوْلِهِ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْأَمْرِ ذِي الْبَالِ أَيْضًا بِمَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَا مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ أَمْرٌ ذُو بَالٍ، فَيَحْتَاجُ إلَى سَبْقِ مِثْلِهِ وَيَتَسَلْسَلُ اهـ. وَمَعْنَى الِاهْتِمَامِ بِهِ طَلَبُهُ أَوْ إبَاحَتُهُ.

فَإِنْ قُلْت: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا لَمْ يُبْدَأْ بِالْبَسْمَلَةِ فِيهِ يَكُونُ نَاقِصًا. أَجَابَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: بِأَنَّ الْبَرَكَةَ فِي ذَلِكَ مَعْنَاهَا دَفْعُ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُوَسْوِسُهُ فِي الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَحْمِلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ مَحْمَلِهِ، أَوْ يَلْهُوَ عَنْهُ لَا أَنَّهَا تُوجِبُ لِلْقُرْآنِ صِفَةَ كَمَالٍ وَشَرَفٍ بَلْ ذَلِكَ عَائِدٌ إلَى الْقَارِئِ، فَإِذَا لَمْ يَبْدَأْ بِالْبَسْمَلَةِ كَانَ ثَوَابُهُ نَاقِصًا فَالنَّقْصُ رَاجِعٌ لِلْقَارِئِ مِنْ جِهَةِ ثَوَابِهِ لَا لِلْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: (لَا يَبْدَأُ فِيهِ) اُسْتُشْكِلَ الْإِتْيَانُ بِفِي مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى يَسْتَقِيمُ بِدُونِهَا. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ فِي سَبَبِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَبْدَأُ بِبَسْمِ اللَّهِ بِسَبَبِهِ وَلِأَجْلِهِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالْبَسْمَلَةِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لِأَجْلِ الْأَمْرِ لَا لِأَجْلِ غَيْرِهِ، فَإِذَا كَانَ شَارِعًا فِي السَّفَرِ مَعَ الْأَكْلِ وَبَسْمَلَ لِأَجْلِ السَّفَرِ فَلَا تَحْصُلُ الْبُدَاءَةُ بِالْبَسْمَلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَكْلِ لِأَنَّهَا إنَّمَا هِيَ لِأَجْلِ السَّفَرِ وَبِسَبَبِهِ لَا بِسَبَبِ الْأَكْلِ شَيْخُنَا ح ف. وَالْإِشْكَالُ لَا يَرِدُ إلَّا إذَا فَسَّرَ يَبْدَأُ بِيَفْتَتِحُ، فَإِنْ فَسَّرَ بِيَشْرَعُ فَلَا إشْكَالَ.

قَوْلُهُ: (بِبَسْمِ اللَّهِ) الْبَاءُ الْأُولَى جَارَّةٌ، وَالْبَاءُ الثَّانِيَةُ جُزْءٌ مِنْ الْكَلِمَةِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ نَائِبُ فَاعِلِ يَبْدَأُ.

وَعِبَارَةُ الشَّوْبَرِيِّ عَلَى التَّحْرِيرِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: أُدْخِلَتْ الْبَاءُ عَلَى الْبَاءِ لِأَنَّ الْبَاءَ الثَّانِيَةَ مُتَّصِلَةٌ فَنَزَلَتْ لِشِدَّةِ الْمُلَازَمَةِ مَنْزِلَةَ الْحَرْفِ مِنْ الْكَلِمَةِ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهَا الْبَاءُ الْخَافِضَةُ.

قَوْلُهُ: (فَهُوَ أَقْطَعُ) هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لَا أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ بِدَلِيلِ تَفْسِيرِهِ بِنَاقِصٍ، لِأَنَّ أَفْعَلَ مِنْ جُمْلَةِ أَوْزَانِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَهَذَا التَّرْكِيبُ وَنَحْوُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ بِحَذْفِ الْأَدَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَالْأَصْلُ هُوَ كَأَقْطَعَ، وَأَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً وَهُوَ مَذْهَبُ السَّعْدِ. وَمَيْلُ الشَّارِحِ هُنَا إلَيْهِ وَلَا جَمْعَ هُنَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، إذْ التَّقْدِيرُ هُوَ نَاقِصٌ كَالْأَقْطَعِ فَحَذَفَ الْمُشَبَّهَ وَهُوَ نَاقِصٌ بِأَنْ شَبَّهَ النَّاقِصَ بِالْأَقْطَعِ وَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ كَوْنَهُ نَاقِصًا حِسًّا، بَلْ أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ.

قَوْلُهُ: (بِالْحَمْدِ لِلَّهِ) أَيْ بِالرَّفْعِ فَإِنَّ التَّعَارُضَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ: رَفْعِ الْحَمْدِ وَتَسَاوِي الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَوْنِ رِوَايَةِ الْبَسْمَلَةِ بِبَاءَيْنِ، وَكَوْنِ الْبَاءِ صِلَةَ يَبْدَأُ وَأَنْ يُرَادَ بِالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الِابْتِدَاءُ الْحَقِيقِيُّ. وَقَوْلُهُ: صِلَةَ يَبْدَأُ، فَإِنْ جُعِلَتْ لِلِاسْتِعَانَةِ فَلَا تَعَارُضَ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِشَيْءٍ لَا تُنَافِي الِاسْتِعَانَةَ بِآخَرَ، وَكَذَا إنْ جُعِلَتْ لِلْمُلَابَسَةِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ حَقِيقِيًّا) أَيْ لُغَةً فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ حَقِيقِيٌّ عُرْفًا، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ. اهـ. ق ل.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ الْمُطْلَقَ، فَبِالْبَسْمَلَةِ حَصَلَ الْحَقِيقِيُّ وَالْإِضَافِيُّ

ص: 29

الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ وَهِيَ النِّعَمُ الْقَاصِرَةُ أَمْ بِالْفَوَاضِلِ وَهِيَ النِّعَمُ الْمُتَعَدِّيَةُ فَدَخَلَ فِي الثَّنَاءِ الْحَمْدُ وَغَيْرُهُ وَخَرَجَ بِاللِّسَانِ الثَّنَاءُ بِغَيْرِهِ كَالْحَمْدِ النَّفْسِيِّ وَبِالْجَمِيلِ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى غَيْرِ الْجَمِيلِ.

إنْ قُلْنَا بِرَأْيِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الثَّنَاءَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِنْ قُلْنَا بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ الظَّاهِرُ إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَيْرِ فَقَطْ فَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَحْقِيقُ الْمَاهِيَّةِ أَوْ دَفْعُ تَوَهُّمِ إرَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَبِالِاخْتِيَارِيِّ الْمَدْحُ

ــ

[حاشية البجيرمي]

وَبِالْحَمْدَلَةِ حَصَلَ الْإِضَافِيُّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَمْدُ اللَّفْظِيُّ) أَتَى بِالِاسْمِ الْمُظْهَرِ وَهُوَ الْحَمْدُ لِأَجْلِ قَوْلِهِ اللَّفْظِيُّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ. وَقَوْلُهُ: اللَّفْظِيُّ أَيْ الْحَادِثُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى لُغَوِيٍّ وَعُرْفِيٍّ أج. قَوْلُهُ: (لُغَةً) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ حَالَةَ كَوْنِهِ لُغَةً أَيْ مُنْدَرِجًا فِي اللُّغَةِ أَيْ فِي الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ، إذْ اللُّغَةُ الْأَلْفَاظُ الْعَرَبِيَّةُ أَوْ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ سَمَاعِيًّا لِأَنَّهُ لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ أَشْبَهَ الْقِيَاسِيَّ.

قَوْلُهُ: (بِاللِّسَانِ) ذُكِرَ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الثَّنَاءَ الذِّكْرُ بِخَيْرٍ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ، وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ آلَةُ النُّطْقِ لَا خُصُوصُ الْجَارِحَةِ، فَلَوْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي يَدِ إنْسَانٍ قُوَّةَ النُّطْقِ فَنَطَقَتْ بِهِ كَانَ حَمْدًا.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْجَمِيلِ) سَوَاءٌ كَانَ جَمِيلًا عِنْدَ الْحَامِدِ أَوْ الْمَحْمُودِ قِيلَ أَوْ غَيْرِهِمَا اج. " وَعَلَى " فِي قَوْلِهِ عَلَى الْجَمِيلِ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ لِأَجْلِ الْجَمِيلِ. قَوْلُهُ (الِاخْتِيَارِيِّ) أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، أَوْ يُقَالُ الِاخْتِيَارِيُّ هُوَ أَوْ أَثَرُهُ لِيَدْخُلَ الْحَمْدُ عَلَى صِفَاتِهِ تَعَالَى الذَّاتِيَّةِ، فَإِنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا وَهِيَ الْمَقْدُورَاتُ وَالْمُرَادَاتُ وَالْمَعْلُومَاتُ وَالْمَسْمُوعَاتُ وَالْمُبْصَرَاتُ، وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَشْمَلُ صِفَاتِ اللَّهِ لِإِشْعَارِهِ بِالْحُدُوثِ.

وَأَجَابَ شَيْخُنَا الْجَوْهَرِيُّ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاخْتِيَارِيِّ مَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ فَيَشْمَلُ صِفَاتِ الْبَارِي.

قَوْلُهُ: (عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ) حَالٌ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ مَجِيءِ الْحَالِ مِنْ الْخَبَرِ أَيْ حَالَةَ كَوْنِ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ، وَعَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ أَيْ تَمَكُّنِ ذَلِكَ الثَّنَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ، أَوْ بِمَعْنَى " مَعَ " وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَيْ عَلَى جِهَةٍ هِيَ التَّعْظِيمُ، فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَعَلُّقُ حَرْفَيْ جَرٍّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِعَامِلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ عَلَى فِي قَوْلِهِ عَلَى الْجَمِيلِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالثَّانِيَةُ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ أَوْ بِمَعْنَى مَعَ.

قَوْلُهُ: (سَوَاءٌ تَعَلَّقَ) أَيْ وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ الْفَضَائِلِ، وَسَوَاءٌ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وَتَعَلَّقَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مُبْتَدَأٍ مُؤَخَّرٍ أَيْ تَعَلُّقُهُ بِالْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ، سَوَاءٌ فِي أَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا حَمِدَ. وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ التَّسْوِيَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَكَوْنُ أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ بَعِيدٌ، فَالْأَوْلَى تَقْدِيرُ إنْ بَعْدَ سَوَاءٌ، وَسَوَاءٌ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ إنْ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ أَمْ بِالْفَوَاضِلِ فَالْأَمْرَانِ سَوَاءٌ، فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَحَذْفٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَضَائِلِ النِّعَمُ الْقَاصِرَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا يَتَوَقَّفُ الِاتِّصَافُ بِهَا عَلَى تَعَدِّي أَثَرِهَا لِلْغَيْرِ كَالْعِلْمِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُوصَفُ بِالْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يُعَلِّمْ كَالطَّالِبِ الَّذِي يُعْلَمُ عِلْمُهُ مِنْ سُؤَالِهِ أَوْ مِنْ كَلَامِهِ، وَالْفَوَاضِلُ جَمْعُ فَاضِلَةٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ الِاتِّصَافُ بِهَا عَلَى تَعَدِّي أَثَرِهَا لِلْغَيْرِ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوصَفُ بِالْكَرَمِ إلَّا بِالْإِعْطَاءِ، وَلَا بِالشَّجَاعَةِ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى الْمَهَالِكِ، فَانْدَفَعَ مَا يُقَالُ إنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ وَبِالْكَرَمِ الْمَلَكَةُ كَانَا مِنْ النِّعَمِ الْقَاصِرَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا الْأَثَرُ كَالتَّعْلِيمِ وَالْإِعْطَاءِ كَانَا مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ.

قَالَ الإطفيحي: وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِ الْكَرَمِ وَالْعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ بِأَثَرِهَا لِتَكُونَ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا كَالْإِعْطَاءِ وَالتَّعْلِيمِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْمَعَارِكِ لِأَنَّهَا كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْمَلَكَةِ تُطْلَقُ عَلَى آثَارِهَا.

وَفِي الْفَنَارِيِّ عَلَى الْمُطَوَّلِ: وَاعْلَمْ أَنَّ سَوَاءً بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ يُوصَفُ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصَادِرِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} [آل عمران: 64] قَوْلُهُ: (إنْ قُلْنَا بِرَأْيِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ) وَمُسْتَنَدُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَهُوَ شَرٌّ» اهـ. وَهَذَا إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لَوْ كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْجَمِيلِ فِي الْمَحْمُودِ بِهِ كَأَنْ يُقَالَ الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ عَلَى الْجَمِيلِ، وَأَمَّا حَيْثُ كَانَ فِي الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَعَلَّ الشَّارِحَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ.

فَالْحَاصِلُ؛ أَنَّهُ يَحْتَاجُ لِقَوْلِهِ عَلَى الْجَمِيلِ، وَلَوْ قُلْنَا الثَّنَاءُ خَاصٌّ بِالْخَبَرِ، وَمَنْ يَقُولُ إنَّ الثَّنَاءَ حَقِيقَةٌ فِي الْخَيْرِ فَقَطْ

ص: 30

فَإِنَّهُ يَعُمُّ الِاخْتِيَارِيَّ وَغَيْرَهُ تَقُولُ مَدَحْت اللُّؤْلُؤَةَ عَلَى حُسْنِهَا دُونَ حَمِدْتهَا وَبِعَلَى جِهَةِ التَّبْجِيلِ مَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ نَحْوَ {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] وَعُرْفًا فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَى الْحَامِدِ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذِكْرًا بِاللِّسَانِ أَمْ اعْتِقَادًا وَمَحَبَّةً بِالْجَنَانِ أَوْ عَمَلًا وَخِدْمَةً بِالْأَرْكَانِ كَمَا قِيلَ

ــ

[حاشية البجيرمي]

يَكُونُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: " وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا " مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ. قَوْلُهُ: (فَفَائِدَةُ ذَلِكَ) أَيْ ذِكْرِ الْجَمِيلِ. وَقَوْلُهُ: (تَحْقِيقُ الْمَاهِيَّةِ) أَيْ مَاهِيَّةِ الْحَمْدِ بِذِكْرِ قُيُودِهَا. وَقَوْلُهُ: (أَوْ دَفْعُ تَوَهُّمِ إرَادَةِ الْجَمْعِ إلَخْ) أَيْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْجَمِيلَ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّنَاءِ مَا يَشْمَلُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.

قَوْلُهُ: (تَحْقِيقُ الْمَاهِيَّةِ) أَيْ مَاهِيَّةِ الْحَمْدِ لَا لِلِاحْتِرَازِ قَوْلُهُ: (عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ) وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَأَتْبَاعُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ قَرِينَةَ الْمَجَازِ مَانِعَةٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الْبَيَانِيِّينَ وَالشَّافِعِيُّ جَرَى عَلَى مَذْهَبِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ كَوْنَ قَرِينَةِ الْمَجَازِ مَانِعَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ.

قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ يَعُمُّ إلَخْ) فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ مُطْلَقٌ وَفِي صِحَّةِ الْإِخْرَاجِ حِينَئِذٍ نَظَرٌ، إذْ الْمَخْرَجُ بِالْقَيْدِ ضِدُّهُ وَالْمَدْحُ لَيْسَ ضِدًّا لِلِاخْتِيَارِيِّ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالِاخْتِيَارِيِّ. قَوْلُهُ:(دُونَ حَمِدْتهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ ذَلِكَ لَهُ مَجَازٌ وَالْعَلَاقَةُ الضِّدْيَةُ فَلَا كَذِبَ، وَعِبَارَةُ م د قَوْلُهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِأَنْ لَا يَعْتَقِدَ الْحَامِدُ كَمَالَ الْمَحْمُودِ. قَالَ ح ل: وَالرَّاجِحُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ اعْتِقَادِ الْجِنَانِ، بَلْ لَوْ اعْتَقَدَ الْحَامِدُ عَدَمَ اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِمَا أَثْنَى بِهِ عَلَيْهِ كَانَ حَمْدًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَدَارُ عَلَى ظُهُورِ قَصْدِ التَّعْظِيمِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْصِدُ بِهِ لِلتَّعْظِيمِ غَالِبًا مَعَ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِمَا يُخَالِفُهُ ظَاهِرًا اهـ. وَقَوْلُهُ: بِمَا يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ بَلْ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا شَرْعًا، كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

نَهَبْت مِنْ الْأَعْمَارِ مَا لَوْ حَوَيْته

لَهَنِئَتْ الدُّنْيَا بِأَنَّك خَالِدٌ

قَوْلُهُ: (وَالسُّخْرِيَةِ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِهَا.

قَوْلُهُ: (ذُقْ) هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ لِلْكَافِرِ فِي النَّارِ، وَوَصْفُهُ بِالْعِزَّةِ وَالْكَرَمِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ق ل. وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ لَوْلَا اعْتِبَارُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا كَانَ كَذِبًا، وَالْمَلَائِكَةُ مُنَزَّهُونَ عَنْهُ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ السُّخْرِيَةَ دَافِعَةٌ لِذَلِكَ م د. وَفِيهِ أَنَّ السُّخْرِيَةَ لَا تَدْفَعُ الْكَذِبَ فَيَكُونُ سُخْرِيَةً بِكَذِبٍ، وَعِبَارَةُ الْجَلَالِ فِي التَّفْسِيرِ:{ذُقْ} [الدخان: 49] أَيْ الْعَذَابَ {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] بِزَعْمِك. وَقَوْلُك: مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا أَعَزُّ وَأَكْرَمُ مِنِّي، وَيُقَالُ لَهُمْ:{إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] وَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} [الدخان: 43]{طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان: 44] أَيْ أَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ ذَوِي الْإِثْمِ الْكَبِيرِ اهـ.

وَفِي الْخَازِنِ مَا نَصُّهُ: {ذُقْ} [الدخان: 49] أَيْ هَذَا الْعَذَابَ. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أَيْ عِنْدَ قَوْمِك بِزَعْمِك، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا أَعَزُّ الْبَوَادِي وَأَكْرَمُهُمْ، فَيَقُولُ لَهُ خَزَنَةُ النَّارِ، هَذَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِخْفَافِ وَالتَّوْبِيخِ.

قَوْلُهُ: (وَعُرْفًا) مَعْطُوفٌ عَلَى لُغَةً أَيْ وَالْحَمْدُ اللَّفْظِيُّ عُرْفًا إلَخْ. لَكِنَّ قَوْلَهُ: فِعْلٌ إلَخْ. يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَعْضَاءِ وَالْقَلْبِ لَا يَكُونُ لَفْظِيًّا. وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْدِ اللَّفْظِيِّ الْحَادِثُ فَيَشْمَلُ مَا ذُكِرَ وَالْعُرْفُ وَالِاصْطِلَاحُ مُتَسَاوِيَانِ، وَقِيلَ الِاصْطِلَاحُ هُوَ الْعُرْفُ الْخَاصُّ وَهُوَ مَا تَعَيَّنَ نَاقِلُهُ، وَالْعُرْفُ إذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَامُّ وَهُوَ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ نَاقِلُهُ، وَعَلَى كُلٍّ فَالْمُرَادُ مِنْ الْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنًى غَيْرِ لُغَوِيٍّ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الشَّرْعِيُّ مَجَازًا عَلَى مَا كَانَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنْ الشَّارِعِ.

قَوْلُهُ: (فِعْلٌ) بِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ فِعْلُ اللِّسَانِ وَالِاعْتِقَادَ فِعْلُ الْقَلْبِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ حَيْثُ إنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ حَيْثِيَّةُ تَعْلِيلٍ.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَى شُذُورِ ابْنِ هِشَامٍ: وَقَدْ أُولِعَ الْفُقَهَاءُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ بَعْدَ حَيْثُ وَهُوَ لَحْنٌ فَاحِشٌ فَإِنَّهَا لَا تُضَافُ إلَّا

ص: 31

أَفَادَتْكُمْ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً

يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا

وَالشُّكْرُ لُغَةً هُوَ الْحَمْدُ عُرْفًا، وَعُرْفًا صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ مِنْ السَّمْعِ وَغَيْرِهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ.

وَالْمَدْحُ لُغَةً الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ مُطْلَقًا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ، وَعُرْفًا مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَمْدُوحِ بِنَوْعٍ

ــ

[حاشية البجيرمي]

إلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنَّ الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ وَمَعْمُولَاهَا فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ.

قَوْلُهُ: (عَلَى الْحَامِدِ) فِيهِ دَوْرٌ، لِأَنَّ الْحَامِدَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْحَامِدِ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا فِي تَعْرِيفِهِ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَفْظِيٌّ، أَوْ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ حَيْثُ إلَخْ خَارِجٌ عَنْ التَّعْرِيفِ أَوْ الْمُرَادُ بِالْحَامِدِ ذَاتِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ حَامِدًا.

قَوْلُهُ: (أَوْ غَيْرِهِ) سَوَاءٌ كَانَ لِلْغَيْرِ خُصُوصِيَّةٌ بِالْحَامِدِ كَوَلَدِهِ وَصَدِيقِهِ أَوْ لَا وَلَوْ كَافِرًا ع ش عَلَى م ر.

قَوْلُهُ: (وَمَحَبَّةً) عَطْفُ مُغَايِرٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الْمَحَبَّةُ وَلَا الْعَكْسُ، وَالْأَوْلَى حَذْفُهُ أَيْ حَذْفُ قَوْلِهِ وَمَحَبَّةً قَوْلُهُ:(وَخِدْمَةً) عَطْفُ مُرَادِفٍ.

قَوْلُهُ: (بِالْأَرْكَانِ) أَيْ غَيْرِ اللِّسَانِ قَوْلُهُ: (كَمَا قِيلَ إلَخْ) يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ إلَخْ قَوْلُهُ: (أَفَادَتْكُمْ) أَيْ أَوْصَلَتْكُمْ مِنِّي النِّعْمَةُ الصَّادِرَةُ مِنْكُمْ أَعْمَالًا ثَلَاثَةً، فَالنَّعْمَاءُ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُخْتَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ بِمَعْنَى النِّعَمِ، وَمِنِّي مُتَعَلِّقٌ بِأَفَادَتْكُمْ.

وَقَوْلُهُ: (ثَلَاثَةٌ) عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أَعْمَالٌ ثَلَاثَةٌ. قَالَ فِي شَرْحِ الْوُسْطَى وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ إذْ لَمْ يُطْلِقْ الشَّاعِرُ لَفْظَ الْحَمْدِ عَلَى الثَّلَاثَةِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ فِيهِ اسْتِدْلَالًا مَعْنَوِيًّا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ أَعْمَالَ الثَّلَاثَةِ جَزَاءً لِلنِّعْمَةِ، وَكُلُّ جَزَاءٍ لِلنِّعْمَةِ فَهُوَ حَمْدٌ عُرْفًا فَيَنْتِجُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ أَعْمَالِ الثَّلَاثَةِ حَمْدٌ عُرْفًا وَهُوَ ظَرِيفٌ فَاحْفَظْهُ.

قَوْلُهُ: (يَدِي) أَيْ أَعْمَالُ يَدِي بِالْإِشَارَةِ بِهَا، وَكَذَا يُقَدَّرُ الْمُضَافُ فِيمَا بَعْدَهُ.

قَوْلُهُ: (وَالضَّمِيرُ الْمُحَجَّبَا) أَيْ الْقَلْبُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الضَّمِيرِ فَهُوَ مِنْ إطْلَاقِ الْحَالِ عَلَى الْمَحَلِّ اهـ م د. وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ كَلَامُ الشَّاعِرِ مُحْتَمَلٌ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ أَفَادَتْكُمْ إلَخْ أَنَّ نِعْمَتَكُمْ عَلَيَّ مَلَّكَتْكُمْ مِنِّي أَعْضَائِي الثَّلَاثَةَ فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمُحَشِّي، وَيَكُونُ مِثْلُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْإِنْسَانُ يُمْلَكُ بِالْإِحْسَانِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُ الشَّاعِرِ أَنَّ نِعْمَتَكُمْ عَلَيَّ مَلَّكَتْكُمْ مِنِّي أَعْمَالَ جَوَارِحِي وَخِدْمَتِي لَكُمْ كَانَ التَّقْدِيرُ عَمَلَ يَدِي وَخِدْمَتِي بِهَا، وَذِكْرِي بِلِسَانِي وَضَمِيرِ قَلْبِي أَيْ مَحَبَّتِي وَاعْتِقَادِي، وَقَدْ قَالَ الشَّارِحُ مَعْنَى هَذَا الثَّانِي فَيَكُونُ الضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَفِي الْأَوَّلِ مِنْ الْمَجَازِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ عَلَى مَا عَرَفْته.

قَوْلُهُ: (وَالشُّكْرُ إلَخْ) لَمَّا كَانَ الشُّكْرُ وَالْحَمْدُ أَخَوَيْنِ وَذِكْرُ الْحَمْدِ احْتَاجَ إلَى تَعْرِيفِ الشُّكْرِ فَهُوَ اسْتِطْرَادِيٌّ.

قَوْلُهُ: (صَرْفُ الْعَبْدِ) أَيْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْعَبْدُ أَعْضَاءَهُ وَمَعَانِيَهُ فِيمَا طَلَبَ الشَّارِعُ اسْتِعْمَالَهَا مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَسَمَاعِ نَحْوِ عِلْمٍ وَهَكَذَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ ق ل. قَالَ سم: إذَا صَرَفَ الْعَبْدُ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِي آنٍ وَاحِدٍ سُمِّيَ شَكُورًا.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وَإِذَا صَرَفَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ سُمِّيَ شَاكِرًا. قَالَ شَيْخُنَا ع ش: وَيُمْكِنُ تَصْوِيرُ صَرْفِهَا كُلِّهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ بِمَنْ حَمَلَ جِنَازَةً مُتَفَكِّرًا فِي مَصْنُوعَاتِهِ عز وجل، نَاظِرًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِئَلَّا يَزِلَّ بِالْمَيِّتِ مَاشِيًا بِرِجْلَيْهِ إلَى الْقَبْرِ شَاغِلًا لِسَانَهُ بِالذِّكْرِ، وَأُذُنَهُ بِاسْتِمَاعِ مَا فِيهِ ثَوَابٌ كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ اهـ إطفيحي. وَبَقِيَ ذِكْرُ الْآدَمِيِّ فَانْظُرْ أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ مَصْرُوفًا فِيهِ. قَوْلُهُ:(عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ) الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ.

قَوْلُهُ: (وَعُرْفًا مَا يَدُلُّ) أَيْ مِنْ فِعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا مَرَّ، وَقَدْ نَظَمَ الْعَلَّامَةُ سَيِّدِي عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ الْمَالِكِيُّ النَّسَبَ بَيْنَهَا فَقَالَ:

إذَا نَسَبَا لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ رُمْتهَا

بِوَجْهٍ لَهُ عَقْلُ اللَّبِيبِ يُوَالِفُ

فَشُكْرٌ لَدَى عُرْفٍ أَخُصُّ جَمِيعَهَا

وَفِي لُغَةٍ لِلْحَمْدِ عُرْفًا يُرَادِفُ

عُمُومٌ لِوَجْهٍ فِي سِوَاهُنَّ نِسْبَةٌ

فَذِي نَسَبٍ سِتٌّ لِمَنْ هُوَ عَارِفُ

أَيْ إنَّ الشُّكْرَ الِاصْطِلَاحِيَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ أَعْنِي الْحَمَدَيْنِ وَالشُّكْرَ اللُّغَوِيَّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ نِسَبٍ، وَبَيْنَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ وَالْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ التَّرَادُفُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَفِي لُغَةٍ أَيْ: وَالشُّكْرُ فِي اللُّغَةِ يُرَادِفُ الْحَمْدَ

ص: 32

مِنْ الْفَضَائِلِ وَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِحُصُولِ الْحَمْدِ بِالتَّكَلُّمِ مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً شَرْعًا لِلْإِنْشَاءِ وَالْحَمْدُ مُخْتَصٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ سَوَاءٌ أَجَعَلْت فِيهِ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَمْ لِلْجِنْسِ كَمَا عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ لِأَنَّ لَامَ لِلَّهِ لِلِاخْتِصَاصِ فَلَا فَرْدَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ تَعَالَى أَمْ لِلْعَهْدِ كَاَلَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَجَازَهُ الْوَاحِدِيُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحَمْدَ الَّذِي حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَحَمِدَهُ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَالْعِبْرَةُ بِحَمْدِ مَنْ ذُكِرَ فَلَا فَرْدَ مِنْهُ لِغَيْرِهِ وَأَوْلَى الثَّلَاثَةِ الْجِنْسُ وَقَوْلُهُ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ مَعْنَاهُ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ إذْ كُلٌّ مِنْهَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ

ــ

[حاشية البجيرمي]

عُرْفًا، فَهَذِهِ نِسْبَةٌ رَابِعَةٌ. وَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ، وَكَذَا بَيْنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ يَجْتَمِعَانِ فِي ثَنَاءٍ بِلِسَانٍ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ اللُّغَوِيُّ فِي ثَنَاءٍ بِلِسَانٍ لَا فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ وَيَنْفَرِدُ الْحَمْدُ الِاصْطِلَاحِيُّ وَالشُّكْرُ اللُّغَوِيُّ فِي ثَنَاءٍ بِغَيْرِ لِسَانٍ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، فَهَاتَانِ نِسْبَتَانِ.

قَوْلُهُ: (مَعَ الْإِذْعَانِ إلَخْ) لَا وَجْهَ لَهُ لِمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ أَنَّ الْوَصْفَ بِالْجَمِيلِ الْمَعْلُومِ الِانْتِفَاءِ إذَا قَارَنَهُ التَّعْظِيمُ حَمِدَ فَلْيُتَأَمَّلْ اج. وَكَلَامُ الشَّارِحِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاعْتِقَادِ.

قَوْلُهُ: (كَمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ) أَيْ لِكَوْنِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا مُعَرَّفًا بِأَلْ الْجِنْسِيَّةِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ:

مُبْتَدَأٌ فَاللَّامُ جِنْسٍ عُرِّفَا

مُنْحَصِرٌ فِي مُخْبَرٍ بِهِ وَفَا

وَإِنْ عَرِيَ عَنْهَا وَعُرِّفَ الْخَبَرْ

بِاللَّامِ مُطْلَقًا فَعَكْسُ ذَا اسْتَقَرَّ

أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْخَبَرُ جَامِدًا أَوْ مُشْتَقًّا. وَقَوْلُهُ: كَمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ فِيهِ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى وَالْحَمْدُ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ فِي الْوَاقِعِ كَمَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَلْفُوظُ بِهَا. وَأُجِيبُ أَيْضًا: بِأَنَّ الْكَافَ تَعْلِيلِيَّةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ لِإِفَادَةِ الْجُمْلَةِ لَهُ أَيْ بِوَاسِطَةِ تَعْرِيفِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا بِأَلْ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ كَذَلِكَ أَفَادَتْ قَصْرَ مُبْتَدَئِهَا عَلَى خَبَرِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ أَلْ اسْتِغْرَاقِيَّةً أَوْ جِنْسِيَّةً أَوْ عَهْدِيَّةً. وَقَدْ تُعُقِّبَ فِي قَوْلِهِ فَاللَّامُ جِنْسٍ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِهَا لَا يَصِحُّ بَلْ الْمَدَارُ عَلَى تَعْرِيفِ الْمُبْتَدَأِ بِاللَّامِ مُطْلَقًا، فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ سَوَاءٌ أَجُعِلَتْ أَلْ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَخْ. وَفِي كَوْنِ أَلْ لِلِاسْتِغْرَاقِ مَعَ كَوْنِ الْجُمْلَةِ إنْشَائِيَّةً نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى إنْشَاءِ جَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَلَا يَظْهَرُ إلَّا عَلَى كَوْنِهَا خَبَرِيَّةً.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ) أَيْ الِاخْتِصَاصُ عَلَى دَعْوَى الِاسْتِغْرَاقِ ظَاهِرٌ.

قَوْلُهُ: (لِلِاخْتِصَاصِ) أَيْ لِتَوْكِيدِهِ وَإِلَّا فَالِاخْتِصَاصُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْجُمْلَةِ بِوَاسِطَةِ تَعْرِيفِ الْمُبْتَدَأِ فِيهَا.

قَوْلُهُ: (أَمْ لِلْعَهْدِ) أَيْ الْعِلْمِيِّ لِتَقَدُّمِ مَرْجِعِهِ فِي عِلْمِ الْمُخَاطَبِ. قَوْلُهُ: (وَأَوْلَى الثَّلَاثَةِ الْجِنْسُ) أَيْ لِأَنَّهُ يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ الْمَحَامِدِ لَهُ تَعَالَى فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بُرْهَانِيٌّ وَهُوَ كَدَعْوَى الشَّيْءِ بِبَيِّنَةٍ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ. وَقَوْلُنَا كَدَعْوَى الشَّيْءِ أَيْ وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْأَفْرَادِ وَالْبَيِّنَةُ هِيَ اخْتِصَاصُ الْجِنْسِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ اخْتِصَاصِ الْجِنْسِ اخْتِصَاصُ أَفْرَادِهِ، فَالْمُدَّعَى اخْتِصَاصُ الْأَفْرَادِ وَالْبَيِّنَةُ اخْتِصَاصُ الْجِنْسِ، فَالْمَعْنَى كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحَمْدِ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ لِأَنَّ جِنْسَ الْحَمْدِ أَيْ حَقِيقَتَهُ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ أَنَّ الْمَنْطُوقَ بِهِ هُوَ الدَّلِيلُ كَمَا فِي قَوْلِك: زَيْدٌ كَثِيرُ الرَّمَادِ الْمَعْنَى زَيْدٌ كَرِيمٌ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ثَمَانِيَةُ أَحْرُفٍ وَأَبْوَابُ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، فَمَنْ قَالَهَا عَنْ صَفَاءِ قَلْبٍ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَيْ يُخَيَّرُ بَيْنَهَا إكْرَامًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْهُ.

فَائِدَةٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَحَامِدَ أَرْبَعَةٌ: حَمْدَانِ قَدِيمَانِ وَهُمَا حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] وَحَمْدُهُ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] وَحَمْدَانِ حَادِثَانِ وَهُمَا حَمْدُنَا لِلَّهِ عز وجل كَقَوْلِك: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَحَمْدُنَا لِبَعْضِنَا كَقَوْلِك: نِعْمَ الرَّجُلُ فُلَانٌ. وَتَعْرِيفُ الشَّارِحِ خَاصٌّ بِالْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ذَكَرَهُ الدُّلَجِيُّ.

قَوْلُهُ: (بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ) وَيَجُوزُ قَطْعُهُ إلَى الرَّفْعِ أَوْ النَّصْبِ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ، وَالْجَمْعُ رُبُوبٌ وَأَرْبَابٌ. اهـ. بِرْمَاوِيٌّ. وَقُرِئَ شَاذًّا بِالنَّصْبِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ عَلَى الْمَدْحِ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ وَفِيهِ بُعْدٌ.

ص: 33

عَالَمٌ يُقَالُ عَالَمُ الْإِنْسِ وَعَالَمُ الْجِنِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَسُمِّيَ الْمَالِكُ بِالرَّبِّ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَا يَمْلِكُهُ وَيُرَبِّيهِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] .

وَقَوْلُهُ: (الْعَالَمِينَ) اسْمُ جَمْعِ عَالَمٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَلَيْسَ جَمْعًا لَهُ لِأَنَّ الْعَالَمَ عَامٌّ فِي الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَالْعَالَمِينَ مُخْتَصٌّ بِالْعُقَلَاءِ وَالْخَاصُّ لَا يَكُونُ جَمْعًا لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَتَبِعَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَوْضِيحِهِ وَذَهَبَ كَثِيرٌ إلَى أَنَّهُ جَمْعُ عَالَمٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْجَمْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْعَالَمِ الَّذِي جُمِعَ هَذَا الْجَمْعَ؛ فَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ إلَى أَنَّهُ أَصْنَافُ الْخَلْقِ الْعُقَلَاءِ، وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إلَى أَنَّهُ أَصْنَافُ الْعُقَلَاءِ فَقَطْ وَهُمْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ.

ثُمَّ قَرَنَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الثَّنَاءَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

ــ

[حاشية البجيرمي]

قَوْلُهُ: (مَعْنَاهُ) أَيْ مَعَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ، وَهَذَا أَحَدُ إطْلَاقَاتِهِ وَإِلَّا فَمَعَانِيهِ كَثِيرَةٌ. فَمِنْهَا الْمُصْلِحُ وَالْمُرَبِّي وَالْخَالِقُ وَالسَّيِّدُ وَالْمَعْبُودُ، وَمَعَ كَثْرَتِهَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ أَكْثَرِهَا فِيهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ مَقْرُونًا بِأَلْ يَخْتَصُّ بِهِ سبحانه وتعالى ع ش. قَالَ السُّيُوطِيّ فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ: وَوُجُوهُ تَرْبِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ لَا يُحِيطُ بِهَا غَيْرُهُ سبحانه وتعالى، فَمِنْهَا تَرْبِيَةُ النُّطْفَةِ إذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَقَةً، ثُمَّ تَصِيرَ مُضْغَةً، ثُمَّ يَصِيرَ مِنْهَا عِظَامًا أَوْ غَيْرَهَا.

قَوْلُهُ: (اسْمُ جَمْعٍ) أَيْ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْقَوْمِ أَلْفَاظًا أَرْبَعَةً كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ جَمْعٌ وَاسْمُ جَمْعٍ وَاسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ وَاسْمُ جِنْسٍ إفْرَادِيٌّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْجَمْعَ يَدُلُّ عَلَى أَفْرَادِهِ دَلَالَةَ تَكْرَارِ الْوَاحِدِ بِالْعَطْفِ، وَاسْمُ الْجَمْعِ يَدُلُّ عَلَيْهَا دَلَالَةَ الْكُلِّ عَلَى أَجْزَائِهِ كَقَوْمٍ وَرَهْطٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ الْجَمْعِيُّ مَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ بِالتَّاءِ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ، وَاسْمُ الْجِنْسِ الْإِفْرَادِيُّ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ مِنْ كَثْرَةٍ أَوْ قِلَّةٍ فَيَصْدُقُ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ كَمَاءٍ وَتُرَابٍ اهـ.

قَوْلُهُ: (عَلَى حَقِيقَةِ الْجَمْعِ) أَيُّ جَمْعٍ حَقِيقَةً وَجَمْعُهُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَوْ الْيَاءِ وَالنُّونِ شَاذٌّ لِأَنَّ مُفْرَدَهُ اسْمُ جِنْسٍ لَا عَلَمٌ وَلَا صِفَةٌ أَيْ: فَهُوَ فِي حَالِ الْجَمْعِيَّةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَعَمِّ أَيْضًا، فَتَسَاوَى الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ فِي الْعُمُومِ، وَفَائِدَتُهُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ إرَادَةُ نَوْعٍ خَاصٍّ، وَكَذَا يُقَالُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْعُقَلَاءِ، وَفِي النُّكَتِ السُّيُوطِيَّةِ وَعَالَمُونَ الصَّوَابُ أَنَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ جَمْعٌ لَا اسْمُ جَمْعٍ، فَإِنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَمُفْرَدُهُ وَإِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ فِيهِ مَعْنَى الْوَصْفِ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ صَانِعِهِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ اخْتَلَفُوا) أَيْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ جَمْعٌ حَقِيقَةً ق ل.

قَوْلُهُ: (فَقَطْ) فَتَسَاوَى الْجَمْعُ وَالْمُفْرَدُ فِي الْخُصُوصِ وَعِبَارَةُ الشَّبْرَخِيتِيِّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَمِ فَيَخْتَصُّ بِذَوِيهِ، أَوْ الْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى مُوجِدِهِ. وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْعَالَمِينَ فَقَالَ قَتَادَةَ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هُمْ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُمْ عِبَارَةٌ عَمَّا يَعْقِلُ وَهُمْ أَرْبَعُ أُمَمٍ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلَائِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ، وَلَا يُقَالُ لِلْبَهَائِمِ عَالَمٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ ثَمَانُونَ أَلْفَ عَالَمٍ نِصْفُهَا فِي الْبَرِّ وَنِصْفُهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَالَمًا حُفَاةً عُرَاةً لَا يَعْرِفُونَ خَالِقَهُمْ وَسِتُّونَ عَالَمًا يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: لِلَّهِ عز وجل أَلْفُ عَالَمٍ سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ.

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لِلَّهِ عِشْرُونَ أَلْفَ عَالَمٍ الدُّنْيَا عَالَمٌ مِنْهَا وَمَا الْعُمْرَانُ فِي الْخَرَابِ إلَّا كَفُسْطَاطٍ ضُرِبَ فِي الصَّحْرَاءِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ عَالَمٍ، الدُّنْيَا مِنْ شَرْقِهَا إلَى غَرْبِهَا عَالَمٌ وَاحِدٌ، وَنُقِلَ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَالَمِينَ هُمْ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ مَلِكٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةِ مَلَكٍ بِالْمَغْرِبِ وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةِ مَلَكٍ بِالْمَشْرِقِ وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ بِالْكَنَفِ الثَّالِثِ مِنْ الدُّنْيَا، وَأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ بِالْكَنَفِ الرَّابِعِ مِنْ الدُّنْيَا مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مِنْ الْأَعْوَانِ مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِنْ وَرَائِهِمْ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالرُّخَامِ عَرْضُهَا مَسِيرَةُ الشَّمْسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا طُولُهَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مَمْلُوءَةٌ مَلَائِكَةً يُقَالُ لَهُمْ الرُّوحَانِيُّونَ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، لَوْ كُشِفَ عَنْ صَوْتِ أَحَدِهِمْ لَهَلَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنْ هَوْلِ صَوْتِهِ مُنْتَهَاهُمْ إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ.

وَقَالَ مُعَاذٌ: هُمْ بَنُو آدَمَ فَقَطْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَا يُحْصِي عَدَدَ الْعَالَمِينَ أَحَدٌ إلَّا اللَّهُ سبحانه وتعالى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} [المدثر: 31]

ص: 34

بِقَوْلِهِ: (وَصَلَّى اللَّهُ) وَسَلَّمَ (عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] أَيْ لَا أُذْكَرُ إلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي

ــ

[حاشية البجيرمي]

اهـ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَرَنَ إلَخْ) الْمُرَادُ بِمُقَارَنَةِ لَفْظٍ لِلَفْظٍ كَوْنُهُ عَقِبَهُ لَا لِاتِّحَادٍ فِي الزَّمَنِ. قَوْلُهُ: (الثَّنَاءَ عَلَى نَبِيِّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَوْجَرِيِّ مِنْ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِسْمِ الثَّنَاءِ لَا مِنْ قِسْمِ الدُّعَاءِ. وَأَمَّا شَيْخُ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ جَرَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُ أَيْ الدُّعَاءِ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَقَدْ يُقَالُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا ثَنَاءً وَدُعَاءً، إذْ الثَّنَاءُ هُوَ الذِّكْرُ بِخَيْرٍ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَذَلِكَ. وَعِبَارَةُ ح ل ثُمَّ عَمِلَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَلَّى عَلَيَّ فِي كِتَابٍ لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ مَا دَامَ اسْمِي فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ» أَيْ مَنْ كَتَبَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي كِتَابٍ وَتَلَفَّظَ بِهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَنْ كَتَبَ شَيْئًا تَلَفَّظَ بِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ قَالَ الْمُصَنِّفُ كَذَا، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ الْكِتَابَةُ.

قَوْلُهُ: (وَصَلَّى اللَّهُ إلَخْ) آثَرَ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ هُنَا الدَّالَّةَ عَلَى التَّجَدُّدِ لِحُدُوثِ الْمَسْئُولِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَأَتَى بِالْفِعْلِ مَاضِيًا رَجَاءَ تَحْقِيقِ حُصُولِ الْمَسْئُولِ بِخِلَافِ جُمْلَةِ الْحَمْدِ حَيْثُ آثَرَ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِمُنَاسَبَةِ الصِّفَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ الثَّابِتَةِ، وَالْقَصْدُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ لِأَنَّ الْكَامِلَ يَقْبَلُ زِيَادَةَ التَّرَقِّي فِي غَايَاتِ الْكَمَالِ، فَانْدَفَعَ زَعْمُ جَمْعٍ امْتِنَاعَ الدُّعَاءِ لَهُ صلى الله عليه وسلم عَقِبَ نَحْوِ خَتْمِ الْقُرْآنِ بِاَللَّهُمِ اجْعَلْ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي شَرَفِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَعْمَالِ أُمَّتِهِ يَتَضَاعَفُ لَهُ نَظِيرُهَا لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِيهَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً لَا تُحْصَى زِيَادَةً فِي شَرَفِهِ ش م ر. وَأَتَى بِعَلَى لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ رَحْمَةً تَلِيقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْعَطْفِ وَعَطَفَ الصَّلَاةَ عَلَى الْحَمْدِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ اهـ اج.

وَجُمْلَةُ الصَّلَاةِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى، وَأَتَى بِالْمَاضِي لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَشْبِيهِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِالصَّلَاةِ الْمَاضِيَةِ فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ، ثُمَّ اُشْتُقَّ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَاضِيَةِ صَلَّى بِمَعْنَى يُصَلِّي فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ م د.

وَقَالَ سم: تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَنْسَبُ الْإِتْيَانَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِيَحْصُلَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَلَعَلَّهُ اخْتَارَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُنَا زِيَادَةُ التَّجَدُّدِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ فِي صَدْرِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ حَدَثَ فِي زَمَنِ وِلَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ مَضَى الْعَمَلُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَخْتِمُ بِهِمَا الْكُتُبَ أَيْضًا، وَفِي حَوَاشِي التَّلْخِيصِ حِكْمَةُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَبَادِي الْكُتُبِ وَالْحَاجَاتِ أَنَّ الْفَاعِلَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ بِجَانِبِ الْحَقِّ سبحانه وتعالى وَيَسْأَلَهُ إفَاضَةَ طِلْبَتِهِ وَإِنْجَاحَ بُغْيَتِهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعِ مُلَاءَمَةٍ وَقُرْبٍ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمُلَاءَمَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّنَا لِكَوْنِنَا مُتَدَنِّسِينَ بِأَدْنَاسِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجِسْمِيَّةِ وَذَاتُ الْمَوْلَى عز وجل فِي غَايَةِ التَّقَدُّسِ وَالتَّطَهُّرِ، فَاحْتَجْنَا إلَى وَاسِطَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مُتَجَرِّدَةٍ عَنْ تِلْكَ الْأَدْنَاسِ، وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ هُوَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لَكِنْ لَا بُدَّ لِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ مِنْ هَدِيَّةٍ إلَيْهِ وَهَدِيَّتُهُ صلى الله عليه وسلم اللَّائِقَةُ بِهِ طَلَبُنَا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ اهـ.

وَعِبَارَةُ السَّمْهُودِيِّ عَقِبَ الْحَمْدِ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُ مِنْ إنْعَامِهِ الْجَسِيمِ، لِأَنَّهُ الْآتِي بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ الْحَكِيمِ الْمُضَمَّنَةِ لِهَذَا الْمَنْهَجِ الْقَوِيمِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَيْسَتْ صَلَاتُنَا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم بِشَفَاعَةٍ لَهُ، إذْ مِثْلُنَا لَا يَشْفَعُ لِمِثْلِهِ بَلْ صَلَاتُنَا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم شُكْرٌ لَهُ عَلَى مَا أَوْلَانَا بِإِرْشَادِهِ، فَقَدْ أَسْدَى إلَيْنَا أَفْضَلَ الرَّغَائِبِ وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ أَسْدَى إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَادْعُوا لَهُ» . فَدُعَاؤُنَا لَهُ بِالصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ مُكَافَأَةٌ لِلْعَجْزِ عَنْ الْمُكَافَأَةِ بِغَيْرِهِ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ الْمَقْصُودُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَقَضَاءِ حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْنَا.

قَالَ شَيْخُنَا الْمَلَوِيُّ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ عَلَى السُّلَّمِ: وَمِنْ فَضَائِلِهَا مَا جُرِّبَ مِنْ تَأْثِيرِهَا وَالنَّفْعِ بِهَا فِي التَّنْوِيرِ وَرَفْعِ الْهِمَّةِ حَتَّى قِيلَ: إنَّهَا تَكْفِي عَنْ الشَّيْخِ فِي الطَّرِيقِ وَتَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ صُغْرَى الصُّغْرَى، وَسَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ

وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى الْيَمَنِيُّ فِي جَوَابٍ لَهُ، لَكِنِّي سَمِعْت مِنْ الشَّيْخِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهُ فِي مُجَرَّدِ التَّنْوِيرِ، أَمَّا الْوُصُولُ إلَى دَرَجَةِ الْوِلَايَةِ فَلَا بُدَّ

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية البجيرمي]

فِيهِ مِنْ شَيْخٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِهِ. قَالُوا: وَاخْتَصَّتْ مِنْ بَيْنِ الْأَذْكَارِ بِأَنَّهَا تُذْهِبُ حَرَارَةَ الطِّبَاعِ وَتُقَوِّي النُّفُوسَ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا تُثِيرُ حَرَارَةً فِيهَا اهـ.

قَوْلُهُ: (وَسَلَّمَ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ الْإِتْيَانَ بِالسَّلَامِ لِيَخْرُجَ مِنْ كَرَاهَةِ الْإِفْرَادِ، وَلِيَخْرُجَ الشَّيْخُ أَيْ الشَّارِحُ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَجْمُوعَ الْمَتْنِ مَعَ شَرْحِهِ الْمَزْجُ يُنْسَبُ لِلشَّيْخِ. اهـ. سم.

قَوْلُهُ: (عَلَى سَيِّدِنَا) أَيْ مَعَاشِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلَكٍ. قَالَ عليه الصلاة والسلام: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» . وَإِذَا سَادَ وَلَدَ آدَمَ سَادَ غَيْرَهُمْ بِالْأَوْلَى، وَأَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ أُولُو الْعَزْمِ، وَهُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَتَرْتِيبُهُمْ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ:

مُحَمَّدٌ إبْرَاهِيمُ مُوسَى كَلِيمُهُ

فَعِيسَى فَنُوحٌ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ فَاعْلَمْ

اهـ اج.

وَالْمُرَادُ بِالْعَزْمِ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ الْعَظِيمَةِ وَسِيَادَتُهُ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا اعْتِبَارَ بِتَفْضِيلِ الزَّمَخْشَرِيِّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَفْضُلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تَفْضُلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَنَحْوُهُمَا، فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إلَى نَقْصٍ فِي مَرَاتِبِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ صَرِيحٌ أَوْ نَهْيٌ عَنْ تَفْضِيلٍ فِي أَصْلِ النُّبُوَّةِ الَّتِي لَا تَتَفَاوَتُ فِي ذَوَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَفَاوِتِينَ فِي الْخَصَائِصِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] أَوْ كَانَ النَّهْيُ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَلِهَذَا لَمَّا أَعْلَمَهُ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» أَيْ وَلَا أَقُولُ ذَلِكَ فَخْرًا بَلْ إخْبَارًا بِالْوَاقِعِ وَالسَّيِّدُ أَصْلُهُ سَيْوِدٌ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسُبِقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَلَهُ إطْلَاقَاتٌ يُقَالُ: السَّيِّدُ مَنْ كَثُرَ سَوَادُهُ أَيْ جَيْشُهُ أَوْ مَنْ سَادَ قَوْمُهُ وَعَلَا عَلَيْهِمْ أَوْ مَنْ تَفْزَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِي الْخُطُوبِ أَيْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ وَيُطْلَقُ السَّيِّدُ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ مُهَذَّبًا حَلِيمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جَيْشٌ. وَقَدْ أَطْلَقَ الْمُؤَلِّفُونَ السَّيِّدَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ مَذَاهِبُ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا جَوَازُ إطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ. ثَانِيهَا وَنُسِبَ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ أَبَدًا. ثَالِثُهَا أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ، وَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَرُدُّ هَذَا الثَّالِثَ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -:{وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] وَفِي الْحَدِيثِ: «إنَّ ابْنِي هَذَا أَيْ الْحَسَنَ سَيِّدٌ» .

تَنْبِيهٌ: أَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَبِيُّنَا إجْمَاعًا، ثُمَّ الْخَلِيلُ، ثُمَّ الْكَلِيمُ، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ نُوحٌ، ثُمَّ بَاقِي الْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الرُّسُلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ بَاقِيهِمْ، ثُمَّ صُلَحَاءُ الْمُؤْمِنِينَ. وَالتَّفْضِيلُ إمَّا لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ أَوْ كَثْرَةِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، فَنَبِيُّنَا أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ، وَجُمْلَةً بِمَعْنَى أَنَّ انْفِرَادَهُ أَفْضَلُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ مُجْتَمِعِينَ بِدَلِيلِ:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، أَيْ فِي أُصُولِ الدِّينِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَهُمْ لَا الْفُرُوعِ؛ إذْ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْهَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ إذَا فَعَلَ مِثْلَ الْجَمَاعَةِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي الْفَضْلِ وَاجِبُ الِاعْتِقَادِ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ شَيْخِنَا اللَّقَانِيِّ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ.

وَعِبَارَةُ الْقَسْطَلَّانِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي بَابِ حُبِّ الرَّسُولِ فَحَقِيقَةُ الْإِيمَانِ لَا تَتِمُّ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَحْقِيقِ إعْلَاءِ قَدْرِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ هَذَا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. قَالَ شَيْخُنَا الْبَابِلِيُّ: أَيْ كَامِلِ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مَنْ فَضَّلَ نَحْوَ عِيسَى عَلَيْهِ وَجَزَمَ بِهِ شَيْخُنَا الشَّوْبَرِيُّ. اهـ. رَحْمَانِيٌّ عَلَى الْمُصَنَّفِ.

قَوْلُهُ: (النَّبِيِّ) اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ النُّبُوَّةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، لِأَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ فَاسْتِحْقَاقُهُ لَهَا بِسَبَبِ الرِّسَالَةِ أَوْلَى وَلِمُوَافَقَةِ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وَلِأَنَّ النُّبُوَّةَ قَبْلَ الرِّسَالَةِ عَلَى مَا قِيلَ،

ص: 36

كَمَا فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: أُحِبُّ أَنْ يُقَدِّمَ الْمَرْءُ بَيْنَ يَدَيْ خِطْبَتِهِ أَيْ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَكُلِّ أَمْرٍ طَلَبَهُ غَيْرِهَا حَمْدَ اللَّهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِفْرَادُ الصَّلَاةِ عَنْ السَّلَامِ مَكْرُوهٌ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي أَذْكَارِهِ وَكَذَا عَكْسُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَتَى بِهَا لَفْظًا وَأَسْقَطَهَا خَطًّا وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ الْكَرَاهَةِ وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِتَعْظِيمٍ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ وَمِنْ الْآدَمِيِّينَ أَيْ وَمِنْ الْجِنِّ تَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ.

ــ

[حاشية البجيرمي]

وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّهُمَا مُقْتَرِنَانِ، وَلِأَنَّ النُّبُوَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الرِّسَالَةِ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. اهـ. مَدَابِغِيٌّ.

قَوْلُهُ: (أَيْ لَا أُذْكَرُ إلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي) هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعَى، وَهُوَ خُصُوصُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذِكْرَهُ مَعَهُ يَصْدُقُ بِغَيْرِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ اهـ شَيْخُنَا.

قَوْلُهُ: (مَكْرُوهٌ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ جَاءَتْ الصَّلَاةُ غَيْرَ مَقْرُونَةٍ بِالتَّسْلِيمِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ السَّلَامَ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ ش م ر. قُلْت: لَا حَاجَةَ لِلْجَوَابِ الْمَذْكُورِ إذْ مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ فِي غَيْرِ الْوَارِدِ مِنْ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْآخَرِ كَمَا هُنَا، أَمَّا هُوَ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ. وَالْحَاصِلُ، أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ مِنَّا، وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْإِفْرَادُ، وَأَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ، فَإِنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى السَّلَامِ فَلَا كَرَاهَةَ.

وَفِي الشَّبْرَخِيتِيِّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ مَا نَصُّهُ: تَتِمَّةٌ فِي مَنْعِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ اسْتِقْلَالًا وَكَرَاهَتِهَا وَكَوْنُهَا خِلَافَ الْأَوْلَى خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ الْكَرَاهَةُ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَأَمَّا تَبَعًا كَمَا هُنَا فَجَائِزَةٌ اتِّفَاقًا اهـ. قَوْلُهُ:(أَتَى بِهَا) أَيْ بِصِيغَةِ السَّلَامِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهِ. وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي أَسْقَطَهَا.

قَوْلُهُ: (وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ) هَذَا وَجْهٌ وَالرَّاجِحُ خِلَافُهُ فَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا إلَّا إذَا أَتَى بِهِمَا مَعًا لَفْظًا وَخَطًّا لِمَنْ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْخَطِّ فَصُوَرُ الْإِفْرَادِ الْمَكْرُوهِ خَمْسٌ: أَنْ يَتَلَفَّظَ بِإِحْدَاهُمَا فَقَطْ، أَوْ يَكْتُبَ إحْدَاهُمَا فَقَطْ، أَوْ يَتَلَفَّظَ بِإِحْدَاهُمَا وَيَكْتُبَ الْأُخْرَى، أَوْ يَتَلَفَّظَ بِهِمَا مَعًا وَيَكْتُبَ إحْدَاهُمَا فَقَطْ خِلَافًا لِمَا صَنَعَ الْمُصَنِّفُ عَلَى رَأْيِ الشَّارِحِ، لِأَنَّ الشَّارِحَ زَعَمَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ الْكَرَاهَةِ وَهُوَ وَجْهٌ أَوْ يَكْتُبَهُمَا مَعًا وَيَتَلَفَّظَ بِإِحْدَاهُمَا فَقَطْ، وَصُوَرُ الْقَرْنِ الْخَالِي عَنْ الْكَرَاهَةِ ثَلَاثٌ: أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ، أَوْ يَكْتُبَهُمَا مَعًا مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، أَوْ يَتَلَفَّظَ بِهِمَا مَعًا وَيَكْتُبَهُمَا كَذَلِكَ اهـ. قَالَ م د: وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا كِتَابٌ أَوْ مَجْلِسٌ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ مَا لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، وَلْيَنْظُرْ مَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِفْرَادِ.

لَا يُقَالُ دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب: 56] . لِأَنَّا نَقُولُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا عُرْفًا لِأَنَّ الْآيَةَ تَصْدُقُ بِتَرَاخِي أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ التَّعْقِيبَ.

قَوْلُهُ: (وَالصَّلَاةُ) هِيَ اسْمُ مَصْدَرٍ إذْ مَصْدَرُ صَلَّى التَّصْلِيَةُ كَزَكَّى تَزْكِيَةً لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي الصَّلَاةِ بِمَعْنَى الرَّحْمَةِ فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ سُمِعَ فِي الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94] قَوْلُهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةٌ هَذَا مَعْنًى لُغَوِيٌّ بَلْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَشَرْعِيٌّ أَيْضًا ق ل وَفِي حَاشِيَةِ الْمَدَابِغِيِّ عَلَى التَّحْرِيرِ وَهِيَ أَيْ الصَّلَاةُ شَرْعًا مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ فَهِيَ تُقَالُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ قَالَ فِي الْمُغْنِي الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ الصَّلَاةَ لُغَةً بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الْعَطْفُ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَإِلَى الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ وَإِلَى الْآدَمِيِّينَ دُعَاءُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ فَهِيَ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكِ الْمَعْنَوِيِّ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فَالِاشْتِرَاكُ الْمَعْنَوِيُّ أَوْلَى لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ اللَّفْظِيَّ خِلَافُ الْأَصْلِ لِتَعَدُّدِ الْوَضْعِ فِيهِ وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْعَطْفَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ نُسِبَ إلَيْهِ فَالْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَفْرَادٌ لِلْعَطْفِ.

قَوْلُهُ: (رَحْمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِتَعْظِيمٍ) وَمِنْ ثَمَّ عُطِفَتْ الرَّحْمَةُ عَلَيْهَا عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ فِي الْآيَةِ وَهِيَ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] فَإِنْ أَرَدْنَا بِالرَّحْمَةِ الرَّحْمَةَ لِلْمُطْلَقَةِ كَانَ الْعَطْفُ لِلتَّفْسِيرِ.

تَنْبِيهٌ: يُكْرَهُ الدُّعَاءُ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالرَّحْمَةِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ لِأَنَّهُ كَإِخْوَانِهِ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ خُصُّوا بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ

ص: 37

وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: كُلَّ صَلَاةٍ وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِيُّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنْهَا. وَالثَّانِي: فِي الْعُمْرِ مَرَّةٌ. وَالثَّالِثُ: كُلَّمَا ذَكَرَ. وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَاللَّخْمِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ بَطَّةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ. وَالرَّابِعُ: فِي كُلِّ مَجْلِسٍ. وَالْخَامِسُ: فِي أَوَّلِ كُلِّ دُعَاءٍ وَفِي وَسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْعَلُونِي كَقِدْحِ الرَّاكِبِ بَلْ اجْعَلُونِي فِي أَوَّلِ كُلِّ دُعَاءٍ وَفِي وَسَطِهِ وَفِي آخِرِهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَابِرٍ.

وَمُحَمَّدٌ عَلَمٌ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مَنْقُولٌ مِنْ اسْمِ مَفْعُولِ الْمُضَعَّفِ سُمِّيَ بِهِ بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَكْثُرُ حَمْدُ

ــ

[حاشية البجيرمي]

وَالصَّحَابَةِ بِالتَّرَضِّي وَبَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَّحْمَةِ، وَاعْتَمَدَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ صَلَاةَ الْبَشَرِ عَلَى النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الْبَشَرِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ الصَّارِفِ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الْبَشَرِ فَإِنَّهُمْ كُلِّفُوا بِهَا مَعَ مَشَقَّةِ وُجُودِ الْبَوَاعِثِ عَلَى الِانْقِطَاعِ عَنْهَا كَالنَّفْسِ وَإِبْلِيسَ وَالْهَوَى فَتَأَمَّلْ.

قَوْلُهُ: (اسْتِغْفَارٌ) السِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ أَيْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ اللَّهِ لِلْعَبْدِ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِهَا أَوْ لَا كَالْعَفْوِ مَثَلًا.

قَوْلُهُ: (وَمِنْ الْجِنِّ) وَكَذَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، فَلَوْ قَالَ وَمِنْ غَيْرِهِمَا لَكَانَ أَخْصَرَ وَأَعَمَّ ق ل. قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَلَى الْهُدْهُدِيِّ وَالصَّلَاةُ مِنْ الطَّيْرِ وَالْهَوَامِّ التَّسْبِيحُ. قَالَ تَعَالَى:{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وَقَوْلُهُ صَلَاتَهُ أَيْ الْآدَمِيِّ وَتَسْبِيحَهُ أَيْ الطَّيْرِ.

قَوْلُهُ: (تَضَرُّعٌ) أَيْ خُضُوعٌ وَذِلَّةٌ يُقَالُ تَضَرَّعَ لِلَّهِ ضَرَاعَةً أَيْ خَضَعَ وَذَلَّ وَعَطْفُ الدُّعَاءِ عَلَى التَّضَرُّعِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ التَّضَرُّعَ دُعَاءٌ بِخُضُوعٍ وَذِلَّةٍ وَالدُّعَاءُ أَعَمُّ خِلَافًا لِلْأُجْهُورِيِّ مِنْ أَنَّهُ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ.

قَوْلُهُ: (وَدُعَاءٌ) عَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحَاجَاتِ لِرَافِعِ الدَّرَجَاتِ.

قَوْلُهُ: (كُلَّمَا ذَكَرَ) لِحَدِيثِ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْت عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» أَيْ لَصِقَ أَنْفُهُ بِالتُّرَابِ، وَهَلْ وَرَدَ أَنَّ الْحِجَارَةَ تُصَلِّي وَتُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ وَهَلْ وَرَدَ أَيْضًا أَنَّهَا إذَا سَمِعَتْ ذِكْرَهُ تُصَلِّي عَلَيْهِ ح ل؟ . قُلْت: رَأَيْت فِي فَتَاوَى السُّيُوطِيّ أَنَّ الْأَحْجَارَ سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرِدْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَحْجَارَ إذَا سَمِعَتْ الصَّلَاةَ تُصَلِّي عَلَيْهِ اج.

قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ مَجْلِسٍ) لِحَدِيثِ: «أَيُّمَا مَجْلِسٍ اجْتَمَعُوا فَقَامُوا وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَيَّ إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ أَنْتَنَ مِنْ جِيفَةٍ» . قَوْلُهُ: «لَا تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ» أَيْ لَا تُؤَخِّرُونِي فِي الذِّكْرِ، لِأَنَّ قَدَحَ الرَّاكِبِ يُعَلَّقُ فِي آخِرِ رَحْلِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ رِحَالِهِ وَيَجْعَلُهُ خَلْفَهُ. قَوْلُهُ:(وَفِي وَسَطِهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُدْرَجَةٌ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي.

قَوْلُهُ: (الْمُضَعَّفِ) أَيْ الْفِعْلِ الْمُضَعَّفِ وَهُوَ مَا تَكَرَّرَ أَحَدُ أُصُولِهِ وَهُوَ عَيْنُهُ هُنَا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ اسْمِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْغَيْرِ الْمُضَعَّفِ وَهُوَ مَحْمُودٌ تَقُولُ: كَسَرْت الْإِنَاءَ فَهُوَ مَكْسُورٌ فَإِذَا بَالَغْت فِي كَسْرِهِ وَصَيَّرْته شُقُوقًا قُلْت كَسَّرْته فَهُوَ مُكَسَّرٌ بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا، وَمُحَمَّدٌ أَبْلَغُ مِنْ مَحْمُودٍ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى مَحْمُودًا لَا مُحَمَّدًا، لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَمْ يَرِدْ مُحَمَّدٌ، وَأَيْضًا مَعْنَى مُحَمَّدٍ مَنْ يَحْدُثُ الْحَمْدُ لَهُ وَحَمْدُ اللَّهِ قَدِيمٌ اهـ م د.

قَوْلُهُ: (بِإِلْهَامٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى) لَعَلَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أُلْهِمَ التَّسْمِيَةَ بِمُحَمَّدٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ يَكْثُرُ حَمْدُ الْخَلْقِ لَهُ. فَلَا يُقَالُ تَعْلِيلُ التَّسْمِيَةِ بِالتَّفَاؤُلِ يُنَافِي كَوْنَهُ بِإِلْهَامٍ. لِأَنَّا نَقُولُ كَوْنُهُ تَفَاؤُلًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُلْهَمِ، وَاعْتُرِضَ كَوْنُ جَدِّهِ سَمَّاهُ بِإِلْهَامٍ لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أُمَّهُ آمِنَةَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ بِأَنْ تُسَمِّيَهُ بِذَلِكَ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ أُمَّهُ لَمْ تُخْبِرْ جَدَّهُ بِذَلِكَ كَمَا فِي ق ل. وَاخْتَلَفُوا هَلْ سَمَّتْهُ بِمُحَمَّدٍ أُمُّهُ أَوْ جَدُّهُ؟ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ التَّنُوخِيِّ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّابِعِ مِنْ وِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَبَحَ عَنْهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَدَعَا قُرَيْشًا، فَلَمَّا أَكَلُوا قَالُوا: مَا سَمَّيْته؟ قَالَ: سَمَّيْته مُحَمَّدًا. قَالُوا. لَمْ رَغِبْت بِهِ عَنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ بَيْتِك؟ قَالَ: أَرَدْت أَنْ يَحْمَدَهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَخَلْقُهُ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: إنَّمَا سَمَّاهُ مُحَمَّدًا لِرُؤْيَا رَآهَا زَعَمُوا أَنَّهُ رَأَى مَنَامًا كَأَنَّ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ خَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَهَا طَرَفٌ بِالسَّمَاءِ وَطَرَفٌ بِالْأَرْضِ وَطَرَفٌ بِالْمَشْرِقِ وَطَرَفٌ بِالْمَغْرِبِ، ثُمَّ عَادَتْ كَأَنَّهَا شَجَرَةٌ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْهَا نُورٌ، وَإِذَا أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فَقَصَّهَا فَعُبِّرَتْ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِهَا أَيْ فُسِّرَتْ لَهُ بِمَوْلُودٍ يَكُونُ مِنْ صُلْبِهِ، يَتْبَعُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ، وَيَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، فَلِذَلِكَ

ص: 38

الْخَلْقِ لَهُ لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْحَمِيدَةِ، كَمَا رُوِيَ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ قِيلَ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ سَمَّاهُ فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ لِمَوْتِ أَبِيهِ قَبْلَهَا: لِمَ سَمَّيْت ابْنَك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ فِي أَسْمَاءِ آبَائِك وَلَا قَوْمِك؟ قَالَ: رَجَوْت أَنْ يُحْمَدَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ.

ــ

[حاشية البجيرمي]

سَمَّاهُ مُحَمَّدًا مَعَ مَا حَدَّثَتْهُ بِهِ أُمُّهُ مِنْ أَنَّهَا أَتَاهَا آتٍ وَهِيَ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ وَقَالَ لَهَا: إذَا وُضِعَ فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا. قَوْلُهُ: (بِأَنَّهُ يَكْثُرُ) لَعَلَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِإِلْهَامٍ مِنْ تَعَلُّقِ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ. اهـ. ق ل.

قَوْلُهُ: (فِي سَابِعِ وِلَادَتِهِ) وَقِيلَ فِي لَيْلَةِ وِلَادَتِهِ وَلَا تَعَارُضَ لِإِمْكَانِ وُقُوعِهَا سِرًّا لَيْلَةَ الْوِلَادَةِ وَإِظْهَارِهَا لِكَافَّةِ النَّاسِ يَوْمَ السَّابِعِ مَدَابِغِيٌّ عَلَى الْمَوْلِدِ.

قَوْلُهُ: (لِمَوْتِ أَبِيهِ قَبْلَهَا) وَكَانَ مَوْتُ وَالِدِهِ بَعْدَ حَمْلِهِ بِشَهْرَيْنِ، وَقِيلَ قَبْلَ وِلَادَتِهِ بِشَهْرَيْنِ، وَقِيلَ كَانَ فِي الْمَهْدِ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ ابْنُ شَهْرَيْنِ، وَقِيلَ ابْنُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرِينَ، وَقِيلَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي النَّجَّارِ. وَلَمَّا بَلَغَ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقِيلَ خَمْسٌ وَقِيلَ سِتٌّ وَقِيلَ سَبْعٌ، وَقِيلَ تِسْعٌ، وَقِيلَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، مَاتَتْ أُمُّهُ وَدُفِنَتْ بِالْأَبْوَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ بِالْحَجُونِ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْجِيمِ مَقْبَرَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْأَبْوَاءُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ قَرْيَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَرِيبَةٌ مِنْ الْجُحْفَةِ.

قَوْلُهُ: (قَالَ رَجَوْت) وَقِيلَ إنَّمَا سَمَّاهُ مُحَمَّدًا لِرُؤْيَا رَآهَا كَمَا ذَكَرَهُ الْمَدَابِغِيُّ فِي الْمَوْلِدِ، وَلَا مُعَارَضَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ رَجَوْت بِسَبَبِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، بِأَنَّ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ. قَوْلُهُ:(كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ) أَيْ لِسَبْقِ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ وَالْكَافُ تَعْلِيلِيَّةٌ وَلَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ، لَكِنْ لَمَّا قَرُبَ زَمَنُهُ وَبَشَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِنَعْتِهِ سَمَّى قَوْمٌ أَوْلَادَهُمْ بِهِ رَجَاءَ النُّبُوَّةِ لَهُمْ وَ:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . وَعِدَّةُ مَنْ سُمِّيَ بِاسْمِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ وِلَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسَةَ عَشَرَ، وَهَذَا هُوَ اسْمُهُ فِي الْأَرْضِ وَاسْمُهُ الْمَشْهُورُ بِهِ فِي السَّمَاءِ أَحْمَدُ، وَلَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَيْ بِأَحْمَدَ أَحَدٌ قَبْلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّامِيُّ فِي مِعْرَاجِهِ، وَيَنْبَغِي التَّسْمِيَةُ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ:«قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أُعَذِّبُ أَحَدًا سُمِّيَ بِاسْمِك بِالنَّارِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إنِّي آلَيْت عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ» .

وَذَكَرَ الْإِمَامُ ابْنُ الْحَاجِّ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: " إنَّ اللَّهَ لَيُوقِفُ الْعَبْدَ بَيْنَ يَدَيْهِ الَّذِي اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ يَا عَبْدِي أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَعْصِيَنِي وَاسْمُك عَلَى اسْمِ حَبِيبِي فَيُنَكِّسُ الْعَبْدُ رَأْسَهُ حَيَاءً، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ فَعَلْت فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: يَا جِبْرِيلُ خُذْ بِيَدِ عَبْدِي وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ فَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أُعَذِّبَ بِالنَّارِ مَنْ اسْمُهُ اسْمُ حَبِيبِي ".

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ آدَمَ وَجَدَ اسْمَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَكْتُوبًا عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ وَفِي السَّمَوَاتِ وَعَلَى كُلِّ قَصْرٍ وَغُرْفَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَعَلَى نُحُورِ الْحُورِ الْعِينِ وَعَلَى وَرَقِ شَجَرَةِ طُوبَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأَطْرَافِ الْحُجُبِ وَبَيْنَ أَعْيُنِ الْمَلَائِكَةِ.

وَرُوِيَ «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَرْشَ كَتَبَ عَلَيْهِ بِالنُّورِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ آدَم مِنْ الْجَنَّةِ رَأَى عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ وَعَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْجَنَّةِ اسْمَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُقْتَرِنًا بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: يَا رَبِّ هَذَا مُحَمَّدٌ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَدُك الَّذِي لَوْلَاهُ مَا خَلَقْتُك، فَقَالَ: يَا رَبِّ بِحُرْمَةِ هَذَا الْوَلَدِ ارْحَمْ الْوَالِدَ فَنُودِيَ: يَا آدَم لَوْ اسْتَشْفَعْت إلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَفَّعْنَاك» .

تَنْبِيهٌ: اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ اسْمِ مُحَمَّدٍ عِدَّةَ الرُّسُلِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَقَالَ فِيهِ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ، وَإِذَا بَسَطْت كُلًّا مِنْهَا فَقُلْت مِيمٌ كَانَتْ عِدَّتُهَا بِحِسَابِ الْجُمَّلِ تِسْعِينَ فَيَحْصُلُ مِنْهَا مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ، وَإِذَا بَسَطْت الْحَاءَ وَالدَّالَ فَقُلْت دَالٌ كَانَتْ بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ وَحَاءٌ بِتِسْعَةٍ فَالْجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ، فَفِي اسْمِهِ الْكَرِيمِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ جَمِيعَ الْكِمَالَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمُرْسَلِينَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، وَإِذَا قُلْت حَاءٌ فَزِدْت هَمْزَةً كَانَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ.

قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْبَسْمَلَةِ: وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيَّ بِاسْتِخْرَاجِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ اسْمِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا كَعِدَّةِ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ وَفَاتِهِ، وَطَرِيقُهُ أَنْ تَضْرِبَ عَدَدَ حُرُوفِهِ بِالْجَمَّلِ الصَّغِيرِ وَهُوَ عِشْرُونَ فِي نَفْسِهَا يَكُونُ الْخَارِجُ أَرْبَعَمِائَةٍ تَضْرِبُهَا فِي

ص: 39

وَالنَّبِيُّ إنْسَانٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ يَعْمَلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ. وَالرَّسُولُ إنْسَانٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ، فَكُلُّ

ــ

[حاشية البجيرمي]

كَامِلِ عُقُودِ الْمُرْسَلِينَ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَعَشَرَةٌ وَاحْذِفْ مَا زَادَ عَلَى الْعُقُودِ يَكُونُ الْخَارِجُ مِائَةَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْمِيمَيْنِ بِالْجُمَّلِ الصُّغْرَى ثَمَانِيَةٌ وَالْحَاءُ مِثْلُهَا وَالدَّالُ كَمِيمٍ.

وَخَوَاصُّ الْبَشَرِ وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ وَعِزْرَائِيلُ. وَخَوَاصُّ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْبَشَرِ وَهُمْ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَعَوَامِّ الْبَشَرِ وَهُمْ الْأَتْقِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِمْ إجْمَالًا فِيمَنْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَتَفْصِيلًا فِيمَنْ وَرَدَ بِهِ التَّفْصِيلُ، فَمِنْ التَّفْصِيلِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَسْمَائِهِمْ، فَمَنْ أَنْكَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ عَلِمَهُ كَفَرَ بِخِلَافِ مَا لَوْ سُئِلَ عَنْهُ ابْتِدَاءً فَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ فَلَا يَكْفُرُ.

وَجُمْلَتُهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَذْكُورَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} [الأنعام: 83] الْآيَةَ. وَالْبَاقِي سَبْعَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي بَعْضِ السُّوَرِ وَهُمْ: آدَم وَإِدْرِيسُ وَهُودٌ وَشُعَيْبٌ وَصَالِحٌ وَذُو الْكِفْلِ وَسَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَقَدْ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ:

حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةُ

بِأَنْبِيَاءٍ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا

فِي تِلْكَ حُجَّتُنَا مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ

مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَهُمُوا

إدْرِيسُ هُودٌ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وَكَذَا

ذُو الْكِفْلِ آدَم بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا

وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فَقَالَ:

مُحَمَّدٌ إبْرَاهِيمُ مُوسَى وَصَالِحٌ

وَعِيسَى وَنُوحٌ ثُمَّ يَحْيَى وَآدَمُ

وَهُودٌ وَلُوطٌ ثُمَّ يَعْقُوبُ يُوسُفُ

وَأَيُّوبُ هَارُونُ شُعَيْبٌ مُكَرَّمُ

وَذُو الْكِفْلِ دَاوُد وَإِلْيَاسُ وَاَلْيَسَعُ

وَإِدْرِيسُ إسْمَاعِيلُ إِسْحَاقُ يُعْلَمُ

كَذَا زَكَرِيَّا مَعَ سُلَيْمَانَ يُونُسُ

نُبُوَّةُ كُلٍّ دُونَ خُلَفٍ تُسَلَّمُ

وَخُلْفٌ بِذِي الْقَرْنَيْنِ لُقْمَانُ يَا فَتَى

عُزَيْرٌ وَطَالُوتُ بِهِ النَّظْمُ يُخْتَمُ

وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَهُوَ مِنْ نَسْلِ إبْرَاهِيمَ سِوَى خَمْسَةٍ جَمَعَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ:

وَكُلُّ نَبِيٍّ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ

لَمِنْ نَسْلِ إبْرَاهِيمَ ذِي الْحِلْمِ وَالتُّقَى

سِوَى خَمْسَةٍ لُوطٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ

وَنُوحٌ وَإِدْرِيسُ الَّذِي فَازَ بِالْبَقَا

وَأَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ أَعْجَمِيَّةٌ إلَّا أَرْبَعَةٌ: مُحَمَّدٌ وَشُعَيْبٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ.

قَوْلُهُ: (وَالنَّبِيُّ إنْسَانٌ) حُرٌّ ذَكَرٌ مِنْ بَنِي آدَمَ سَلِيمٌ عَنْ مُنَفِّرٍ طَبْعًا، وَعَنْ دَنَاءَةِ أَبٍ وَخَنَا أُمٍّ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، فَإِنْ أُمِرَ بِهِ فَنَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَالنَّبِيُّ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ لِأَنَّهُ مَرْفُوعُ الرُّتْبَةِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا ذَكَرٌ الْأُنْثَى فَلَا رَسُولَ مِنْ الْإِنَاثِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِنُبُوَّةِ مَرْيَمَ وَآسِيَةَ وَهَاجَرَ وَسَارَةَ، وَحِينَئِذٍ يُؤَوَّلُ إنْسَانٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إنْسَانٌ بَلْ إنْسَانَةٌ، وَفِي الصِّحَاحِ يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ إنْسَانٌ لَا إنْسَانَةٌ ح ل.

قَوْلُهُ: (وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ إلَخْ) الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْغَايَةِ لِتَعْمِيمِ النُّبُوَّةِ أَيْ سَوَاءٌ أُمِرَ أَوْ لَمْ يُؤْمَرْ لِأَنَّ وَصْفَ النُّبُوَّةِ لَا يُنَافِي وَصْفَ الرِّسَالَةِ، فَمُرَادُهُ تَعْرِيفُ النَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ رِسَالَةٌ أَمْ لَا. وَمَنْ جَعَلَ الْوَاوَ لِلْحَالِ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ تَعْرِيفُ النَّبِيِّ فَقَطْ أَيْ الَّذِي لَيْسَ بِرَسُولٍ وَجَعْلُ إنْ لِلشَّرْطِ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ لَا جَوَابَ لَهَا وَسَمَّاهَا بَعْضُهُمْ وَصْلِيَّةً.

قَوْلُهُ: (وَالرَّسُولُ إنْسَانٌ إلَخْ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ

ص: 40

رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عَكْسَ

(وَ) عَلَى (آلِهِ) وَهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ مُؤْمِنُو بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَقِيلَ كُلُّ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ، وَقِيلَ أُمَّتُهُ، وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ. وَالْمُطَّلِبُ مُفْتَعِلٌ مِنْ الطَّلَبِ، وَاسْمُهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ وُلِدَ وَفِي رَأْسِهِ شَيْبَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي ذُؤَابَتَيْهِ، وَهَاشِمٌ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَقِيلَ لَهُ هَاشِمٌ لِأَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَهُمْ قَحْطٌ فَنَحَرَ بَعِيرًا وَجَعَلَهُ لِقَوْمِهِ مَرَقَةً وَثَرِيدًا فَلِذَلِكَ سُمِّيَ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الْعَظْمَ (وَ) عَلَى (صَحْبِهِ) وَهُوَ جَمْعُ صَاحِبٍ، وَالصَّحَابِيُّ مَنْ اجْتَمَعَ مُؤْمِنًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاتِهِ وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً وَلَوْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَعْمَى كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَالصَّغِيرُ وَلَوْ غَيْرَ

ــ

[حاشية البجيرمي]

وَالرِّسَالَةِ أَنَّ النُّبُوَّةَ هِيَ الِانْصِرَافُ مِنْ حَضْرَةِ الْخَلْقِ إلَى الْحَقِّ، وَالرِّسَالَةُ الِانْصِرَافُ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ إلَى الْخَلْقِ، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَزَعْمُ تَعَلُّقِ النُّبُوَّةِ بِالْخَالِقِ دُونَ الرِّسَالَةِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْخَلَائِقِ مَرْدُودٌ بِأَنَّ فِيهِمَا التَّعَلُّقَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ، وَالْكَلَامُ كُلُّهُ فِي نُبُوَّةِ الرَّسُولِ مَعَ رِسَالَتِهِ، وَإِلَّا فَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ قَطْعًا. اهـ. بِرْمَاوِيٌّ.

قَوْلُهُ: (وَلَا عَكْسَ) أَيْ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَإِنْ نُظِرَ إلَى أَنَّ الْمَلَكَ يُوصَفُ بِالرِّسَالَةِ كَانَ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ وَهُوَ وَارِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] .

قَوْلُهُ: (وَعَلَى آلِهِ) أَعَادَ الْعَامِلَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ مَطْلُوبَةٌ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ اسْتِحْبَابِهَا عَلَى الْأَصْحَابِ فَإِنَّهَا بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِالْآلِ وَلِهَذَا أَسْقَطَهُ فِيهِمْ.

قَوْلُهُ: (مُؤْمِنُو بَنِي هَاشِمٍ) أَيْ وَبَنَاتِهِمْ فَفِيهِ تَغْلِيبٌ، وَهَاشِمٌ جَدُّ النَّبِيِّ الثَّانِي، وَالْمُطَّلِبُ أَخُو هَاشِمٍ وَأَبُوهُمَا عَبْدُ مَنَافٍ، فَيَكُونُ الْمُطَّلِبُ عَمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَاسِطَةٍ لِأَنَّهُ عَمُّ جَدِّهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ. وَقَوْلُهُ:(وَقِيلَ أُمَّتُهُ) أَيُّ أُمَّةٍ الْإِجَابَةُ أَتْقِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَالْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي مَقَامِ الزَّكَاةِ وَالْأَخِيرَيْنِ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ وَالضَّمِيرُ فِي وَاسْمُهُ عَائِدٌ عَلَى الْمُطَّلِبِ أَيْ اسْمُ الْمُطَّلِبِ شَيْبَةُ الْحَمْدِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي السِّيَرِ مِنْ أَنَّ شَيْبَةَ الْحَمْدِ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ عَمَّهُ الْمُطَّلِبَ أَخَا هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لَمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ صَغِيرًا أَرْدَفَهُ خَلْفَهُ وَكَانَ بِهَيْئَةٍ رَثَّةٍ، فَكَانَ كُلَّمَا سُئِلَ عَنْهُ يَقُولُ: هَذَا عَبْدِي حَيَاءً أَنْ يَقُولَ ابْنَ أَخِي، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَحْسَنَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ. وَفِي الْمَوَاهِبِ إنَّمَا سُمِّيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ وَالِدَهُ هَاشِمًا لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِأَخِيهِ الْمُطَّلِبِ: أَدْرِكْ عَبْدَك بِيَثْرِبَ. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ شَيْبَةَ الْحَمْدِ اسْمٌ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَمَنَافٌ أَصْلُهُ مَنَاةُ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ وَكَانَتْ أُمُّهُ جَعَلَتْهُ خَادِمًا لِذَلِكَ الصَّنَمِ، وَقِيلَ: وَهَبَتْهُ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ وَلَدٍ وُلِدَ لِقُصَيٍّ كَمَا قِيلَ.

قَوْلُهُ: (مُفْتَعِلٌ) فَأَصْلُهُ مُتَطَلِّبٌ فَأُبْدِلَتْ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي الطَّاءِ. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ:

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إثْرَ مُطْبَقِ

قَوْلُهُ: (ذُؤَابَتَيْهِ) أَيْ جَانِبَيْ رَأْسِهِ جَمْعُ ذُؤَابَةٍ بِالْهَمْزِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ الشَّعْرِ مُجْتَمِعَةٌ.

قَوْلُهُ: (وَصَحْبِهِ) بَيْنَ الْآلِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمْ، وَالصَّحْبُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، وَعَلَى إرَادَةِ جَمِيعِ أُمَّةٍ الْإِجَابَةُ كَمَا اُخْتِيرَ فِي مَقَامِ الدُّعَاءِ فَعَطْفُ الصَّحْبِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِشَرَفِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ مَزِيدَ الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ نَقْلِهِمْ الشَّرَائِعَ وَالشَّعَائِرَ إلَيْنَا عَنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ.

قَوْلُهُ: (وَهُوَ جَمْعُ صَاحِبٍ) الرَّاجِحُ أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ، وَالْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ الصَّحَابِيُّ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ:(وَالصَّحَابِيُّ مَنْ اجْتَمَعَ مُؤْمِنًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ بَعْدَ نُبُوَّتِهِ وَلَوْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ اجْتِمَاعًا مُتَعَارَفًا بِأَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَوْ فِي ظُلْمَةٍ أَوْ كَانَ أَعْمَى وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ كَمَجْنُونٍ أَوْ مَارًّا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَلَوْ نَائِمًا أَوْ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ لَكِنْ رَأَى النَّبِيَّ أَوْ رَآهُ النَّبِيُّ وَلَوْ مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ كَأَهْلِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَوْ رَآهُ مِنْ كَوَّةٍ فِي جِدَارٍ بَيْنَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنَّهُ اجْتِمَاعٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ أَنْ خَاطَبَهُ مَعَ رُؤْيَتِهِ وَشَمَلَ قَوْلُنَا مَنْ اجْتَمَعَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ وَدَخَلَ فِي قَوْلِنَا اجْتِمَاعًا

ص: 41

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[حاشية البجيرمي]

مُتَعَارَفًا مَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ لَا يَمْنَعُ الِاجْتِمَاعَ وَمَنْ لَقِيَهُ مَعَ مُرُورِهِ إلَى غَيْرِ جِهَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُكْثٍ عِنْدَ الْوُصُولِ إلَيْهِ عَلِمَ بِهِ أَوْ لَا فَخَرَجَ مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ مَنَامًا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ يَقَظَةً وَمَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَ الدَّعْوَةِ غَيْرَ مُؤْمِنٍ ثُمَّ آمَنَ وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَرَسُولِ قَيْصَرَ وَمَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُؤْمِنًا بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ كَبُحَيْرَا الرَّاهِبِ بِخِلَافِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَهُوَ أَوَّلُ الصَّحَابَةِ كَمَا قَالَهُ السَّرَّاجُ الْبُلْقِينِيُّ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُحَيْرَا بِأَنَّ وَرَقَةَ أَدْرَكَ الْبَعْثَةَ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الدَّعْوَةَ بِخِلَافِ بُحَيْرَا اهـ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالتَّعْرِيفُ السَّابِقُ يَشْمَلُهُ وَدَخَلَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْجِنِّ كَجِنِّ نَصِيبِينَ وَالْمَلَائِكَةِ الَّذِي اجْتَمَعُوا بِهِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَرْضِ مُتَعَارَفٌ وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ فِي الْأَرْضِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِخِلَافِ مَنْ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ عَالَمِ الدُّنْيَا وَدَخَلَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

قَالَ بَعْضُهُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخَضِرَ عليه السلام اجْتَمَعَ بِهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَرَاجِعْهُ وَقَالَ ابْنُ قَاسِمٍ فِي الْآيَاتِ إنْ صَحَّ اجْتِمَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعِيسَى وَالْخَضِرِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الِاجْتِمَاعِ الْمَعْرُوفِ بَلْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ اهـ وَجَزَمَ اللَّقَانِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْجَوْهَرَةِ بِثُبُوتِ الصُّحْبَةِ لِعِيسَى عليه السلام وَمِثْلُهُ الْعَلَّامَةُ ح ل وَغَيْرُهُ وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مَشَايِخُنَا خِلَافًا لِمَا أَفْتَى بِهِ الشِّهَابُ م ر مِنْ عَدَمِ ثُبُوتِهَا لَهُ، وَتَنْقَطِعُ الصُّحْبَةُ بِالرِّدَّةِ وَتَعُودُ بِعَوْدِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَلَا حَاجَةَ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ لِاقْتِضَائِهِ عَدَمَ الْحُكْمِ بِالصُّحْبَةِ لِوَاحِدٍ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى الْإِسْلَامِ إلَّا إنْ أَرَادَ أَنَّهُ قَيْدٌ لِدَوَامِ الصُّحْبَةِ، فَمَنْ ارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَلٍ غَيْرُ صَحَابِيٍّ، وَمَنْ ارْتَدَّ وَمَاتَ مُسْلِمًا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْحٍ صَحَابِيٌّ، أَيْ فَتَعُودُ لَهُ الصُّحْبَةُ مُجَرَّدَةً عَنْ الثَّوَابِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهَا فِي التَّسْمِيَةِ وَفِي الْكَفَاءَةِ، فَيَكُونُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الصَّحَابِيِّ، وَفَائِدَةُ عَوْدِهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الثَّوَابِ أَيْضًا سُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ مِنْ إعَادَةِ الْعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا. وَذَكَرَ اللَّقَانِيِّ أَنَّ الْخَضِرَ يَمْكُثُ فِي النَّوْمَةِ مِائَةَ سَنَةٍ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَالصَّحْبُ وَلَوْ كَانُوا غَيْرَ آلٍ أَفْضَلَ مِنْ الْآلِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِصَحْبٍ، لِأَنَّ فَضِيلَتَهُمْ بِالصُّحْبَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْعَمَلِ، وَفَضِيلَةَ الْآلِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِصَحْبٍ بِالْغَيْرِ، وَفَضِيلَةَ الذَّاتِ بِوَصْفِهَا أَفْضَلَ مِنْ الْفَضِيلَةِ بِوَصْفِ ذَاتٍ أُخْرَى مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ. قَالُوا: وَلِذَا كَانَ الْعَالِمُ الَّذِي لَيْسَ بِشَرِيفٍ أَفْضَلَ مِنْ الشَّرِيفِ الَّذِي لَيْسَ بِعَالِمٍ، لَكِنْ يَبْقَى الْبَحْثُ بِأَنَّ فِي الْآلِ كَثِيرًا مِنْ الصَّحْبِ، وَفِي الصَّحْبِ كَثِيرًا مِنْ الْآلِ، فَكَانَ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَ ثُمَّ أَنْ يُقَدَّمَ الصَّحْبُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدَّمَ الْآلُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ وَرَدَتْ بِالنَّصِّ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الصَّحْبِ فَبِالْقِيَاسِ. اهـ. مَلَوِيٌّ.

قَوْلُهُ: (فِي حَيَاتِهِ) أَيْ حَيَاةِ مَنْ ذَكَرَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ اجْتَمَعَ بِهِ أَيْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ. قَوْلُهُ: (وَلَوْ سَاعَةً وَاحِدَةً) أَيْ جُزْءًا مِنْ الزَّمَنِ بِخِلَافِ التَّابِعِيِّ مَعَ الصَّحَابِيِّ، فَلَا تَثْبُتُ التَّابِعِيَّةُ إلَّا بِطُولِ الِاجْتِمَاعِ مَعَهُ عُرْفًا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفُقَهَاءِ أَيْضًا. وَذَهَبَ إلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ قَالَ: يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِيِّ طُولُ الْمُلَازَمَةِ لِلصَّحَابِيِّ أَوْ اسْتِمَاعٌ مِنْهُ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ اللِّقَاءِ بِخِلَافِ الصَّحَابِيِّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِظَمُ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ وَنُورُهَا، فَبِمُجَرَّدِ مَا يَقَعُ بَصَرُهُ أَيْ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْجِلْفِ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَظْهَرُ أَثَرُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُلَاقِي لَهُ وَعَلَى جَوَارِحِهِ، فَالِاجْتِمَاعُ بِهِ يُؤَثِّرُ مِنْ النُّورِ الْقَلْبِيِّ أَضْعَافَ مَا يُؤَثِّرُهُ الِاجْتِمَاعُ الطَّوِيلُ لِلصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إيمَانُ التَّابِعِيِّ بِالصَّحَابِيِّ لِعَدَمِ ثُبُوتٍ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ. قَالَ الْكَمَالُ بْنُ أَبِي شَرِيفٍ: لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِيِّ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ تَحَمُّلِهِ عَنْ الصَّحَابِيِّ مُؤْمِنًا بِهِ، بَلْ لَوْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الصَّحَابِيِّ، وَرَوَى عَنْ الصَّحَابِيِّ سَمَّيْنَاهُ تَابِعِيًّا اهـ. وَعَلَى هَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّابِعِيِّ طُولُ مُلَازَمَتِهِ لِلصَّحَابِيِّ، بَلْ هُوَ كَالصَّحَابِيِّ: وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ تَبَعًا لِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: إنَّهُ الْأَقْرَبُ. وَقَوْلِ النَّوَوِيِّ فِي التَّقْرِيبِ: إنَّهُ الْأَظْهَرُ، وَقَوْلِ الْعِرَاقِيِّ: عَلَيْهِ عَمَلُ الْأَكْثَرِ. قَالَ الْبِقَاعِيُّ: وَإِنَّمَا

ص: 42