الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُمَيِّزٍ كَمَنْ حَنَّكَهُ صلى الله عليه وسلم أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَوْلُهُ (أَجْمَعِينَ) تَأْكِيدٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ.
(أَمَّا بَعْدُ) سَاقِطَةٌ فِي
ــ
[حاشية البجيرمي]
اشْتَرَطَ الْإِيمَانَ فِي الصُّحْبَةِ لِشَرَفِهَا فَاحْتِيطَ لَهَا، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي الصَّحَابَةِ كَوْنَهُمْ مَعَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الْآيَةَ. وَلَا يَكُونُونَ مَعَهُ إلَّا إذَا آمَنُوا بِهِ اهـ مُنَاوِيٌّ عَلَى الْخَصَائِصِ. قَوْلُهُ: (كَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ) اسْمُهُ عَمْرٌو وَاسْمُ أَبِيهِ قَيْسٌ وَاسْمُ أُمِّهِ عَاتِكَةُ وَأُمُّ مَكْتُومٍ كُنْيَتُهَا كَمَا فِي الْمُنَاوِيِّ عَلَى الْجَامِعِ.
قَوْلُهُ: (تَأْكِيدٌ) أَيْ لِآلِهِ وَصَحْبِهِ. فَائِدَةٌ: قَالَ السَّعْدُ: إذَا أُكِّدَ بِلَفْظِ أَجْمَعِينَ نُظِرَ، فَإِنْ سَبَقَهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى شُمُولٍ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَمْعِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الشُّمُولَ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ النَّفْيِ ذَكَرَهُ الْبِرْمَاوِيُّ. وَقَوْلُهُ: الْجَمْعِيَّةُ أَيْ اجْتِمَاعُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ فِي الْحُكْمِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قِيلَ: جَاءَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، فَأَجْمَعُونَ فِي مَعْنَى الْحَالِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ جَاءُوا كُلُّهُمْ مُجْتَمِعِينَ أَيْ فِي آنٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قِيلَ أَجْمَعُونَ فَقَطْ فَإِنَّهُ صَادِقٌ بِمَجِيءِ الْكُلِّ مُتَفَرِّقِينَ.
[مَبْحَثُ فِي قَوْلِهِ أَمَّا بَعْدُ]
مَبْحَثُ أَمَّا بَعْدُ قَوْلُهُ: (أَمَّا بَعْدُ) أَصْلُهَا مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَمَا مَعَهُمَا فَأَقُولُ: قَدْ سَأَلَنِي كَمَا سَيَذْكُرُهُ الشَّارِحُ فَوَقَعَتْ كَلِمَةُ أَمَّا مَوْقِعَ اسْمٍ هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَفِعْلٍ هُوَ الشَّرْطُ وَتَضَمَّنَتْ مَعْنَاهُمَا فَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الشَّرْطِ لَزِمَتْهَا الْفَاءُ اللَّازِمَةُ لِلشَّرْطِ غَالِبًا، وَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الِابْتِدَاءِ لَزِمَهَا لُصُوقُ الِاسْمِ اللَّازِمِ لِلْمُبْتَدَأِ قَضَاءً لِحَقِّ مَا كَانَ وَإِبْقَاءً لَهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
وَقَوْلُهُ: غَالِبًا قَيْدٌ لِقَوْلِهِ اللَّازِمَةُ لِلشَّرْطِ لَا لِقَوْلِهِ لَزِمَتْهَا الْفَاءُ، لِأَنَّ لُزُومَ الْفَاءِ لَازِمٌ كُلِّيٌّ، إذْ لَا تُحْذَفُ مِنْ جَزَائِهَا إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
فَأَمَّا الْقِتَالُ لَا قِتَالَ لَدَيْكُمْ
وَقَوْلُهُ: لَزِمَهَا لُصُوقُ الِاسْمِ يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88] الْآيَةَ. وَالْجَوَابُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا أَيْ فَأَمَّا الْمُتَوَفَّى إنْ كَانَ إلَخْ كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَأَمَّا هَذِهِ حَرْفُ شَرْطٍ وَتَوْكِيدٍ دَائِمًا وَتَفْصِيلٍ غَالِبًا، وَبَعْدُ ظَرْفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ كَغَيْرِهِ مِنْ الظُّرُوفِ الْمَقْطُوعَةِ عَنْ الْإِضَافَةِ لِمُشَابَهَتِهِ الْحَرْفَ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى مَعْنَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَإِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى حَرَكَةٍ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِنَاءِ السُّكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا فِي الْإِعْرَابِ، وَعَلَى الضَّمِّ جَبْرًا بِأَقْوَى الْحَرَكَاتِ وَهِيَ الضَّمَّةُ لِمَا لَحِقَهَا مِنْ الْوَهَنِ بِحَذْفِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلِيَكْمُلَ لَهَا جَمِيعُ الْحَرَكَاتِ لِأَنَّهَا فِي الْإِعْرَابِ كَانَتْ إمَّا مَجْرُورَةً بِمِنْ أَوْ مَنْصُوبَةً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ لِتُخَالِفَ حَرَكَةُ بِنَائِهَا حَرَكَةَ إعْرَابِهَا. وَقَالَ م ر فِي شَرْحِهِ: وَالْمَعْرُوفُ هُنَا بِنَاؤُهَا عَلَى الضَّمِّ لِنِيَّةِ مَعْنَى الْمُضَافِ إلَيْهِ دُونَ لَفْظِهِ، وَالْمُرَادُ بِنِيَّةِ مَعْنَى الْمُضَافِ إلَيْهِ رَبْطُ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ. وَرُوِيَ تَنْوِينُهَا مَرْفُوعَةً وَمَنْصُوبَةً لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ لَفْظًا وَتَقْدِيرًا وَنَصْبُهَا أَوْ جَرُّهَا بِمِنْ بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَمَحَلُّ بِنَائِهَا عَلَى الضَّمِّ إذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْرِفَةً، أَمَّا إذَا كَانَ نَكِرَةً فَإِنَّهَا تُعْرَبُ نُوِيَ مَعْنَاهُ أَوْ لَا. كَمَا فِي التَّصْرِيحِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْمَ الْمَعْرِفَةَ جُزْئِيٌّ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ تَقْتَضِي الْبِنَاءَ لِشَبَهِهِ بِالْحَرْفِ بِخِلَافِ النَّكِرَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ نِيَّةُ إضَافَتِهَا إلَيْهَا لِشُيُوعِهَا. اهـ. ع ش. قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: وَإِنَّمَا بُنِيَتْ لِافْتِقَارِهَا لِمَا تُضَافُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَتْ الْحَرْفَ فِي الِافْتِقَارِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الِافْتِقَارَ الْمُوجِبَ لِلْبِنَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا لِجُمْلَةٍ وَهُوَ هُنَا مُفْرَدٌ وَحِينَئِذٍ فَعِلَّةُ بِنَائِهَا شَبَهُهَا بِأَحْرُفِ الْجَوَابِ كَنَعَمْ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا بَعْدَهَا. قَوْلُهُ: (سَاقِطَةٌ فِي أَكْثَرِهَا) أَيْ مَعَ لَفْظِ قَدْ.
قَوْلُهُ: (يُؤْتَى بِهَا) أَيْ إذَا جِيءَ بِهَا تَكُونُ لِلِانْتِقَالِ. وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ الِانْتِقَالُ يَتَعَيَّنُ الْإِتْيَانُ بِهَا فَيُعَدُّ تَرْكُهَا عَيْبًا، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ كَمَا يَحْصُلُ بِهَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا كَ {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] وَاللَّامُ بِمَعْنَى
أَكْثَرِهَا أَيْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَمْدِ وَغَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ يُؤْتَى بِهَا لِلِانْتِقَالِ مِنْ أُسْلُوبٍ إلَى آخَرَ، وَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ لَهَا بَابًا فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ، وَذَكَرَ فِيهِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً وَالْعَامِلَ فِيهَا، أَمَّا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِنِيَابَتِهَا عَنْ الْفِعْلِ أَوْ الْفِعْلِ نَفْسِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ.
وَالْأَصْلُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ (فَقَدْ سَأَلَنِي) أَيْ طَلَبَ مِنِّي (بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ) جَمْعُ صَدِيقٍ وَهُوَ الْخَلِيلُ وَقَوْلُهُ:
ــ
[حاشية البجيرمي]
عِنْدَ، أَوْ الْمَعْنَى لِإِرَادَةِ الِانْتِقَالِ. اهـ. ع ش. قَوْلُهُ:(وَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ) أَيْ مَقْطُوعَةً عَنْ الْإِضَافَةِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ فَلَا مَانِعَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَيْ صِنَاعَةً، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ الْإِتْيَانُ بِهَا شَرْعًا، أَوْ الْمُرَادُ لَا يُسْتَحْسَنُ م د. وَقَوْلُهُ: أَيْ مَقْطُوعَةً عَنْ الْإِضَافَةِ لَيْسَ بِصَوَابٍ، وَالصَّوَابُ إطْلَاقُ الشَّارِحِ فَقَدْ اعْتَرَضُوا عَلَى الْأُشْمُونِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْخُطْبَةِ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ حَيْثُ قَالُوا: لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقُولَ أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ. وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ لَهُ الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَفْظًا فَهِيَ وَاقِعَةٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ تَقْدِيرًا فِي كَلَامِهِ انْتَهَى.
قَوْلُهُ: (أَوْ الْفِعْلِ نَفْسِهِ) هَذَانِ الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ تَوَابِعِ الشَّرْطِ فَإِنْ جُعِلَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْجَزَاءِ فَالْعَامِلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَالْأَوْلَى جَعْلُهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْجَوَابَ فِيهِ يَكُونُ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مُطْلَقٍ، وَالتَّعَلُّقُ عَلَى الْمُطْلَقِ أَقْرَبُ لِتَحَقُّقِهِ فِي الْخَارِجِ مِنْ التَّعْلِيقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَتَقْدِيرُ الْقَوْلِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ سَأَلَنِي مَاضٍ لَفْظًا وَمَعْنًى وَجَوَابُ الشَّرْطِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَمَّا بَعْدُ، فَأَقُولُ قَدْ سَأَلَنِي إلَخْ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَصْلُ) الْمُرَادُ بِالْأَصْلِ مَا حَقُّ التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَالْأَصَالَةُ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ شَيْئًا حُذِفَ مِنْ التَّرْكِيبِ وَاخْتُصِرَ فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَصْلُهَا خُصُوصَ مَهْمَا لَا غَيْرِهَا لِمَا فِي مَهْمَا مِنْ الْإِبْهَامِ لِأَنَّهَا تَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَاقِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَهَذَا الْإِبْهَامُ يُنَاسِبُ هُنَا لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّعْلِيقُ عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ مَا بِخِلَافِ غَيْرِ مَهْمَا مِنْ الْأَدَوَاتِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ تَكَلَّمَ بِأَمَّا بَعْدُ، فَقِيلَ دَاوُد عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الْأَشْهَرُ وَهِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ لِأَنَّهَا تَفْصِلُ بَيْنَ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمَقَاصِدِ وَالْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا يَعْقُوبُ، وَقِيلَ أَيُّوبُ، وَقِيلَ سُلَيْمَانُ، وَقِيلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ، وَقِيلَ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ سَحْبَانُ بْنُ وَائِلٍ، وَعَلَيْهَا فَفَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ دَاوُد:" الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " لَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا سَحْبَانُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُهَا فِي خُطَبِهِ وَهُوَ قَبْلَ سَحْبَانَ إجْمَاعًا إذْ سَحْبَانُ كَانَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِحَّةُ هَذَا الْجَوَابِ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَصْدُرْ مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ إلَى زَمَنِ سَحْبَانَ، وَالظَّنُّ خِلَافُ ذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ كَمَالِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا فِي الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانُونَ أَنَّنِي
…
إذَا قُلْت أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا
وَبَعْدُ ظَرْفٌ زَمَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ النُّطْقِ وَمَكَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ الرَّسْمِ.
قَوْلُهُ: (مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ) مَهْمَا اسْمُ شَرْطٍ مُبْتَدَأٌ وَالِاسْمِيَّةُ لَازِمَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ، وَيَكُنْ شَرْطٌ وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ لَهُ غَالِبًا فَحِينَ تَضَمَّنَتْ أَمَّا مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَالشَّرْطِ لَزِمَتْهَا الْفَاءُ وَلُصُوقُ الِاسْمِ إقَامَةً لِلَّازِمِ وَهُوَ الْفَاءُ وَلُصُوقُ الِاسْمِ مَقَامَ الْمَلْزُومِ وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالشَّرْطُ وَإِبْقَاءً لِأَثَرِهِ فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الِاسْمِيَّةَ لَيْسَتْ فِي أَمَّا بَلْ مُلَاصِقَةٌ لَهَا. وَعِبَارَةُ أج وَإِنَّمَا لَزِمَتْ الْفَاءُ بَعْدَ أَمَّا وَلَمْ تَلْزَمْ بَعْدَ غَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ، لِأَنَّ أَمَّا لَمَّا كَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى الشَّرْطِ بِنِيَابَتِهَا عَنْ مَهْمَا يَكُنْ ضَعُفَتْ فَاحْتَاجَتْ لِلُزُومِ الْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ بِخِلَافِ مَهْمَا وَغَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الشَّرْطِيَّةِ بِالْأَصَالَةِ اهـ. وَإِعْرَابُ هَذَا اللَّفْظِ مَهْمَا: مُبْتَدَأٌ. وَيَكُنْ فِعْلُ الشَّرْطِ وَهِيَ تَامَّةٌ بِمَعْنَى يُوجَدُ، وَمِنْ: زَائِدَةٌ. وَشَيْءٍ: فَاعِلٌ لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَحْذُورَانِ زِيَادَةُ مِنْ فِي الْإِثْبَاتِ، وَخُلُوُّ فِعْلِ الشَّرْطِ مِنْ عَائِدٍ عَلَى الِاسْمِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً، فَالْأَوْلَى أَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ يَعُودُ عَلَى مَهْمَا، وَمِنْ شَيْءٍ بَيَانٌ لِمَهْمَا، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَيَانِ بَيَانُ عُمُومِ مَهْمَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ
(حَفِظَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى) جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ (أَنْ أَعْمَلَ) أَيْ أُصَنِّفَ (مُخْتَصَرًا) وَهُوَ مَا قَلَّ لَفْظُهُ وَكَثُرَ مَعْنَاهُ لَا مَبْسُوطًا وَهُوَ مَا كَثُرَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: الْكَلَامُ يُبْسَطُ لِيُفْهَمَ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ (فِي) عِلْمِ (الْفِقْهِ) الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ بَيْنِ الْعُلُومِ بِالذَّاتِ وَبَاقِيهَا لَهُ كَالْآلَاتِ، لِأَنَّهُ بِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ وَتَوَاتَرَتْ وَتَطَابَقَتْ الدَّلَائِلُ الصَّرِيحَةُ وَتَوَافَقَتْ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ وَالِاجْتِهَادِ، فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ: فَمِنْ الْآيَاتِ قَوْله تَعَالَى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]
ــ
[حاشية البجيرمي]
عِبَارَةً عَنْ حُصُولِ نَوْعٍ بِعَيْنِهِ، فَانْدَفَعَ مَا يُقَالُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْبَيَانِ لِإِبْهَامِهِ، ثُمَّ إنَّ خَبَرَ مَهْمَا هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ وَحْدَهُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَتَوَقُّفُ الْفَائِدَةِ عَلَى الْجَوَابِ مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ لَا مِنْ حَيْثُ الْخَبَرِيَّةُ م د عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: (جَمْعُ صَدِيقٍ) فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الصَّادِقُ الْمَوَدَّةَ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحَبِيبِ فَإِنَّ الْحَبِيبَ ذُو الْوُدِّ، وَالْخَلِيلُ صَافِي الْوُدِّ، قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ: وَالصَّدِيقُ مَنْ يَفْرَحُ لِفَرَحِك وَيَحْزَنُ لِحُزْنِك وَضِدُّهُ الْعَدُوُّ. وَالصَّاحِبُ مَنْ طَالَتْ عِشْرَتُك بِهِ، وَالْخَلِيلُ مَنْ يَفْرَحُ لِفَرَحِك وَيَحْزَنُ لِحُزْنِك وَتَخَلَّلَتْ مَحَبَّتُهُ فِي الْأَعْضَاءِ، وَالْحَبِيبُ مَنْ يَفْرَحُ لِفَرَحِك وَمَنْ يَحْزَنُ لِحُزْنِك وَتَخَلَّلَتْ مَحَبَّتُهُ فِي الْأَعْضَاءِ وَتَفْدِيهِ بِمَالِك اهـ. وَالْعَدَاوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَدَا فُلَانٌ عَنْ طَرِيقِ فُلَانٍ أَيْ جَاوَزَهُ وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِيمَا طَلَبَهُ وَكَانَ أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَلْقَ يَوْمَ أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمْ كَانُوا عَلَى أَحْوَالٍ فَمَا كَانَ وَجْهًا لِوَجْهٍ فَمُحَالٌ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ وَمَا كَانَ ظَهْرَ الظَّهْرِ فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا صَدَاقَةٌ وَمَا كَانَ وَجْهًا لِظَهْرٍ فَصَاحِبُ الْوَجْهِ مُحِبٌّ عَاشِقٌ وَصَاحِبُ الظَّهْرِ مُبْغِضٌ ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّعْرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمِنَنُ.
قَوْلُهُ: (جُمْلَةٌ دُعَائِيَّةٌ) وَالدُّعَاءُ رَفْعُ الْحَاجَاتِ إلَى رَافِعِ الدَّرَجَاتِ وَهُوَ بِلَا وَاسِطَةٍ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ فَكَانُوا يَفْزَعُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ إلَى الْأَنْبِيَاءِ يَسْأَلُونَ لَهُمْ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَهُ الشَّبْرَخِيتِيُّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ. قَوْلُهُ:(أَنْ أَعْمَلَ) آثَرَهُ عَلَى أُصَنِّفُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَضْمُ نَفْسِهِ، وَثَانِيهِمَا إشَارَةً إلَى تَعَبِهِ فِيهِ بِالِاخْتِصَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَكَثُرَ مَعْنَاهُ) لَيْسَ قَيْدًا. قَوْلُهُ: (قَالَ الْخَلِيلُ إلَخْ) دَلِيلٌ لِكَوْنِهِ عَمِلَهُ مُخْتَصَرًا وَلَمْ يَعْمَلْهُ مُطَوَّلًا، وَالشَّاهِدُ فِي قَوْلِهِ وَيُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ.
قَوْلُهُ: (فِي الْفِقْهِ) إنْ قُلْت: الْمُخْتَصَرُ اسْمٌ لِلْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى الرَّاجِحِ وَعِلْمُ الْفِقْهِ هُوَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا وَلَا مَعْنَى لِظَرْفِيَّةِ الْأَلْفَاظِ فِي الْمَعَانِي. أُجِيبُ: بِأَنَّ الْمَعْنَى مُخْتَصَرًا دَالًّا عَلَى الْفِقْهِ، فَشَبَّهَ الدَّالَّ وَالْمَدْلُولَ بِالظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا شِدَّةُ التَّمَكُّنِ، وَفِي قَرِينَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمُسَمَّاةِ تَخْيِيلًا، ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ فِي الْفِقْهِ صِفَةٌ لِمُخْتَصَرٍ جَرْيًا عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ الظُّرُوفَ بَعْدَ النَّكِرَاتِ صِفَاتٌ خِلَافًا لِقَوْلِ ق ل إنَّهُ حَالٌ اهـ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقٌ بِأَعْمَلَ. قَوْلُهُ:(كَالْآلَاتِ) فِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْآلَاتِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بِحِفْظِ مُجَرَّدِ الْأَحْكَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ كَالْآلَاتِ بِالْكَافِ. وَقَوْلُهُ: حَالٌ مِنْ الْآلَاتِ. أَيْ كَالْآلَاتِ لَهُ م د. لَكِنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِالنَّظَرِ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، لِأَنَّ الْفِقْهَ لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُجْتَهِدَ مَعْرِفَةُ جَمِيعِهَا إلَّا بِوَاسِطَةِ الْآلَاتِ فَنَحْوُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَلَكَةٌ تُوَصِّلُهُ إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ يُعْلَمُ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ. إذَا فَهِمْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ قَوْلَ الْمُؤَلِّفِ كَالْآلَاتِ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ كَالْآلَاتِ الْمَحْسُوسَةِ وَإِنْ كَانَتْ هُنَا مَعْقُولَةً.
قَوْلُهُ: (يُعْرَفُ الْحَلَالُ) يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ. وَقَوْلُهُ: (وَغَيْرُهُمَا) تَحْتَهُ الْمَكْرُوهُ وَالْأَحْكَامُ الْوَضْعِيَّةُ الْخَمْسَةُ.
قَوْلُهُ: (تَظَاهَرَتْ) أَيْ اجْتَمَعَتْ وَتَعَاوَنَتْ، وَالْآيَاتُ عَنْ اللَّهِ عز وجل، وَالْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (الدَّلَائِلُ) هِيَ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ، فَالْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ فَلَعَلَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ وَصْفِهَا بِالصَّرَاحَةِ. وَقَوْلُهُ:(وَتَوَافَقَتْ) تَفْسِيرٌ لَتَطَابَقَتْ وَعَطْفُ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرٌ قَوْلُهُ: (عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ) لَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ فِي الْفِقْهِ وَلَوْ مِنْ الصَّنَائِعِ فَأَلْ لِلْجِنْسِ.
قَوْلُهُ:
وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَمِنْ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» رَوَاهُ سَهْلٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» . وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
فِي اقْتِبَاسِهِ) أَيْ اسْتِفَادَتِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اقْتَبَسْت مِنْهُ عِلْمًا اسْتَفَدْته وَفِيهِ تَلْمِيحٌ إلَى أَنَّ الْعِلْمَ نُورٌ.
قَوْلُهُ: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) اسْتِفْهَامٌ إنْكَارِيٌّ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: هُوَ نَفْيٌ لِاسْتِوَاءِ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ أَوْ الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ بَعْدَ نَفْيِهِ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، أَيْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِاَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِيمَا سَبَقَ بِالْقَانِتِ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ أَيْ نَفْيًا كَائِنًا عَلَى طَرِيقٍ أَبْلَغَ لِلتَّصْرِيحِ بِالِاسْتِوَاءِ بَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِالْهَمْزَةِ لِمَزِيدِ فَضْلِ الْعِلْمِ اهـ.
قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] أَيْ لَا يَخَافُ مِنْ اللَّهِ خَوْفًا كَامِلًا إلَّا الْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
عَلَى قَدْرِ عِلْمِ الْمَرْءِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ
…
فَلَا عَالِمَ إلَّا مِنْ اللَّهِ خَائِفُ
وَآمِنٌ مَكْرَ اللَّهِ بِاَللَّهِ جَاهِلُ
…
وَخَائِفٌ مَكْرَ اللَّهِ بِاَللَّهِ عَارِفُ
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَشَدُّ النَّاسِ خَشْيَةً أَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ، وَفِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ بِرَفْعِ الِاسْمِ الْكَرِيمِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَعْظَمُ فِي مَدْحِهِمْ وَأَقْوَى دَلِيلًا عَلَى رَفْعِ مَرْتَبَتِهِمْ، لَكِنَّهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي يَجِبُ تَأْوِيلُهُ فَتُؤَوَّلُ الْخَشْيَةُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِالْإِجْلَالِ لِلُزُومِهِ لَهَا.
قَوْلُهُ: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا) أَيْ عَظِيمًا كَثِيرًا فَالتَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ فَلَا يُنَافِي إرَادَةَ الْخَيْرِ بِغَيْرِ الْفَقِيهِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى طَالِبِ الْفِقْهِ بِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَهُ وَاصْطَفَاهُ، لِأَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ الْخَيْرَ بِالْإِنْسَانِ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا اهـ. م د.
وَقَوْلُهُ: (يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ) وَتَمَامُهُ: وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاَللَّهُ مُعْطٍ وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ " اهـ.
بِرْمَاوِيٌّ. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَيْ قَاسِمٌ بَيْنَكُمْ بِتَبْلِيغِ الْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَاَللَّهُ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَهْمِ مَا أَرَادَ فَالتَّفَاوُتُ فِيهِ مِنْهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ، وَأَنْ وَصِلَتُهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مُبْتَدَأٌ، وَخَيْرٌ خَبَرٌ أَيْ وَاَللَّهِ لَهِدَايَةُ اللَّهِ بِك رَجُلًا مَثَلًا، فَذِكْرُهُ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا لِإِخْرَاجِ الْمَرْأَةِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّ الشَّيْءِ أَيْ هِدَايَتُهُ بِتَعَلُّمِهِ مَسْأَلَةً فِي دِينِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَشَرَفِ مَنْزِلَةِ أَهْلِهِ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا اهْتَدَى بِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ يَهْتَدِي بِهِ كُلَّ يَوْمٍ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ؟ قَوْلُهُ:(مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ أَيْ مِنْ التَّصَدُّقِ بِالنَّعَمِ الْحُمْرِ بِسُكُونِ الْمِيمِ جَمْعُ أَحْمَرَ وَبِضَمِّهَا جَمْعُ حِمَارٍ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
فِعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرَ وَحُمْرَا
وَقَالَ أَيْضًا:
وَفِعْلٌ لِاسْمٍ رُبَاعِيٍّ بِمَدٍّ
…
قَدْ زِيدَ قَبْلَ لَامٍ إعْلَالًا فَقَدْ
وَخَصَّ الْحُمْرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ أَمْوَالِ الْعَرَبِ.
قَوْلُهُ: (إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ) عِبَارَةُ م ر وَابْنِ حَجَرٍ: إذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ انْقَطَعَ إلَخْ. فَلَعَلَّهُمَا رِوَايَتَانِ. وَقَوْلُهُ: (انْقَطَعَ عَمَلُهُ) أَيْ ثَوَابُهُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَقَدْ انْقَطَعَ بِفَرَاغِهِ. قَوْلُهُ:(إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ) لَا مَفْهُومَ لَهُ. قَوْلُهُ: (يُنْتَفَعُ بِهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ فَيَشْمَلُ التَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ وَالتَّأْلِيفَ وَالْكِتَابَةَ وَمُقَابَلَةَ الْكُتُبِ لِتَصْحِيحِهَا ق ل. وَذَكَرَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيّ أَنَّ التَّصْنِيفَ فِي ذَلِكَ أَقْوَى لِطُولِ بَقَائِهِ عَلَى مَمَرِّ الزَّمَانِ. قَوْلُهُ: (أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ) أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّالِحِ الْمُسْلِمُ وَلَوْ فَاسِقًا.
قَوْلُهُ: (يَدْعُو لَهُ) أَيْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ غَيْرِهِ، فَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ فِي
كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ.
وَمِنْ الْآثَارِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ وَيَفْرَحَ بِهِ إذَا نُسِبَ إلَيْهِ،
ــ
[حاشية البجيرمي]
حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ فَيَشْمَلُ دُعَاءَ الْوَلَدِ بِنَفْسِهِ وَدُعَاءَ غَيْرِهِ لِأَجْلِ الْوَلَدِ كَأَنْ رَآهُ شَخْصٌ فَقَالَ رحمه الله عَلَى أَبِيك، وَلِلشَّيْخِ ابْنِ عَلَّانَ الْبَكْرِيِّ:
خِصَالٌ عَلَيْهَا الْمَرْءُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ
…
يُثَابُ فَلَازِمْهَا إذَا كُنْت ذَا ذِكْرِ
رِبَاطٌ بِثَغْرٍ ثُمَّ تَوْرِيثُ مُصْحَفٍ
…
وَنَشْرٌ لِعِلْمٍ غَرْسُ نَخْلٍ بِلَا نُكْرِ
وَحَفْرٌ لِبِئْرٍ ثُمَّ إجْرَاءُ نَهْرٍ مَا
…
وَبَيْتُ غَرِيبٍ وَالتَّصَدُّقُ إذْ يَجْرِي
وَتَعْلِيمُ قُرْآنٍ وَتَشْيِيدُ مَنْزِلٍ
…
لِذِكْرِ وَنَجْلُ مُسْلِمٍ طَيِّبُ الذِّكْرِ
وَقَوْلُهُ: وَتَعْلِيمُ قُرْآنٍ أَيْ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ كَمَا فِي ع ش عَلَى م ر، وَفِيهِ أَيْضًا وَغَرْسُ شَجَرٍ أَيْ وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ اهـ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ) مِنْهَا: «مَنْ خَرَجَ لِطَلَبِ عِلْمٍ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فَإِنْ مَاتَ مَاتَ شَهِيدًا وَإِنْ عَادَ عَادَ بِأَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ إذَا مَاتَ يَبْكِي عَلَيْهِ طَيْرُ السَّمَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنْ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ مُتَعَلِّمٍ يَسْعَى إلَى بَابِ الْعَالِمِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ عِبَادَةَ سَنَةٍ، وَبَنَى لَهُ بِكُلِّ قَدَمٍ مَدِينَةً فِي الْجَنَّةِ، وَيَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ تَسْتَغْفِرُ لَهُ وَيُمْسِي وَيُصْبِحُ مَغْفُورًا لَهُ وَتَشْهَدُ الْمَلَائِكَةُ لَهُ بِأَنَّهُ مِنْ عُتَقَاءِ اللَّهِ مِنْ النَّارِ» وَفِي الْحَدِيثِ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي اللُّجَّةِ» . قَالَ سَيِّدِي عَلِيٌّ الَأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ: فَإِنْ قُلْت: جُعِلَ هَذَا غَايَةً فِي الْخِسَّةِ أَيْ خِسَّةِ الْمُسْتَغْفِرِينَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ثَمَّ مَا هُوَ أَخَسُّ مِنْ الْحِيتَانِ كَالذَّرِّ، فَلِمَ خَصَّ الْحُوتَ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ أَخَسُّ مِنْهُ؟ قُلْت: خَصَّهُ لِكَوْنِهِ لَا لِسَانَ لَهُ وَمَا لَا لِسَانَ لَهُ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ اسْتِغْفَارِهِ لِطَالِبِ الْعِلْمِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ وَإِنْ صَغُرَ لَهُ لِسَانٌ اهـ. قَالَ فِي تُحْفَةِ الْمَسَائِلِ: فَإِنْ قُلْت مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كُلَّ مَخْلُوقٍ بِلِسَانٍ بَعْضُهَا نَاطِقٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ نَاطِقٍ وَلَيْسَ لِلسَّمَكِ لِسَانٌ أَصْلًا؟ . فَالْجَوَابُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عليه السلام وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ إلَّا إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَسَخَهُ فَأُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ، فَجَاءَ إلَى الْبِحَارِ، فَأَوَّلُ مَا رَآهُ السَّمَكُ فَأَخْبَرَهُمْ بِخَلْقِ آدَمَ عليه السلام وَقَالَ: إنَّهُ يَصْطَادُ وَيَأْخُذُ دَوَابَّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَجَعَلَتْ السَّمَكُ تُخْبِرُ خَلْقَ الْبَحْرِ بِخَلْقِ آدَمَ وَتَقُولُ لَا أَمَانَ لَنَا بَعْدَ هَذَا فِي هَذَا الْمَاءِ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِسَانَهَا لِكَوْنِهَا تَفَوَّهَتْ بِالْكَلَامِ اهـ.
قَوْلُهُ: (وَمِنْ الْآثَارِ) عِبَارَةُ ابْنِ جَمَاعَةَ عَلَى غَرَامِي صَحِيحٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَمْرِي مَوْقُوفٌ عَلَيْك إلَخْ.
تَنْبِيهٌ: الْأَثَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْوِيِّ سَوَاءٌ كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَنْ الصَّحَابِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ الَّذِي قَالَهُ الْمُحَدِّثُونَ وَغَيْرُهُمْ وَاصْطَلَحَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجَمَاهِيرُ الْخَلَفِ وَقَالَ الْفُقَهَاءُ الْخُرَاسَانِيُّونَ الْأَثَرُ مَا يُضَافُ إلَى الصَّحَابِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (كَفَى بِالْعِلْمِ) الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ. وَقَوْلُهُ: (أَنْ يَدَّعِيَهُ) فَاعِلٌ أَيْ كَفَى الْعِلْمُ فِي
وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيْضًا: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُك وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ.
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَنْ لَا يُحِبُّ الْعِلْمَ لَا خَيْرَ فِيهِ فَلَا يَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ وَلَا صَدَاقَةٌ، فَإِنَّهُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِصْبَاحُ الْبَصَائِرِ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -
ــ
[حاشية البجيرمي]
الشَّرَفِ ادِّعَاؤُهُ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ. وَقَوْلُهُ: (ذَمًّا) أَيْ خِسَّةً فَإِنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِمُقَابَلَتِهِ لِلشَّرَفِ وَالْخِسَّةُ لَازِمَةٌ لِلذَّمِّ. قَوْلُهُ: (الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ) أَيْ السَّعْيُ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ أَوْلَى مِنْ السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: الْعِلْمُ يَحْرُسُك إلَخْ. وَآثَرَ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ خَيْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّهِ.
قَوْلُهُ: (الْعِلْمُ يَحْرُسُك) أَيْ يَكُونُ سَبَبًا فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنْك، وَالْمُرَادُ أَنَّ شَأْنَهُ ذَلِكَ فَلَا يَرِدُ مَنْ قُتِلَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ فَلَا تَقْتَضِي الدَّوَامَ كَمَا قَرَّرَهُ الْعَزِيزِيُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ يَحْرُسُ دِينَك لِأَنَّ بِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، فَيَعْمَلُ صَاحِبُهُ بِهِ فَيَحْفَظُ دِينَهُ بِخِلَافِ الْجَاهِلِ فَكَأَنَّهُ فِي ظَلَامٍ لَا يَعْرِفُ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَمَا يَنْفَعُهُ، بَلْ تُحَسِّنُ لَهُ نَفْسُهُ كَثِيرًا مِنْ الْحَرَامِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَرِدُ عَلَى كَلَامِ عَلِيٍّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَدْ قُتِلَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ.
قَوْلُهُ: (تَنْقُصُهُ) بِفَتْحِ التَّاءِ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 4] وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا: الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَالِ بِسَبْعَةِ أَوْجُهٍ. أَوَّلُهَا: الْعِلْمُ مِيرَاثُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَالُ مِيرَاثُ الْفَرَاعِنَةِ. الثَّانِي: الْعِلْمُ لَا يَنْقُصُ بِالنَّفَقَةِ وَالْمَالُ يَنْقُصُ بِهَا. الثَّالِثُ: الْمَالُ يَحْتَاجُ إلَى الْحَافِظِ وَالْعِلْمُ يَحْفَظُ صَاحِبَهُ. الرَّابِعُ: إذَا مَاتَ الرَّجُلُ يَبْقَى مَالُهُ وَالْعِلْمُ يَدْخُلُ مَعَهُ الْقَبْرَ. الْخَامِسُ: الْمَالُ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ. السَّادِسُ: جَمِيعُ النَّاسِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْعَالِمِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ. السَّابِعُ: الْعِلْمُ يُقَوِّي الرَّجُلَ عَلَى الْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ وَالْمَالُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ. ذَكَرَهُ الرَّازِيّ.
لَطِيفَةٌ: قَالَ فِي عُيُونِ الْمَجَالِسِ: الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ: عَيْنٌ وَلَامٌ وَمِيمٌ، الْعَيْنُ مِنْ الْعُلُوِّ، وَاللَّامُ مِنْ اللَّطَافَةِ، وَالْمِيمُ مِنْ الْمُلْكِ، فَالْعَيْنُ تَجُرُّ صَاحِبَهَا إلَى عِلِّيِّينَ، وَاللَّامُ تُصَيِّرُهُ لَطِيفًا، وَالْمِيمُ تُصَيِّرُهُ مَلِكًا عَلَى الْعِبَادِ، وَيُعْطِي اللَّهُ الْعَالِمَ بِبَرَكَةِ الْعَيْنِ الْعِزَّ، وَبِبَرَكَةِ اللَّامِ اللَّطَافَةَ، وَبِبَرَكَةِ الْمِيمِ الْمَحَبَّةَ وَالْمَهَابَةَ. وَخُيِّرَ سُلَيْمَانُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَالْمَالِ، فَاخْتَارَ الْعِلْمَ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعَ الْعِلْمِ. قَوْلُهُ:(يَزْكُو) أَيْ يَزِيدُ بِالْإِنْفَاقِ أَيْ إذَا أَفَدْته بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِفْتَاءِ فَفِيهِ تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ أَعْنِي صَرْفَ الْمَالِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَإِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ اسْتِعَارَةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْ حَازَ الْعِلْمَ وَذَاكَرَهُ
…
صَلَحَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتُهُ
فَأَدِمْ لِلْعِلْمِ مُذَاكَرَةً
…
فَحَيَاةُ الْعِلْمِ مُذَاكَرَتُهُ
قَوْلُهُ: (مَنْ لَا يُحِبُّ الْعِلْمَ) أَيْ نَفْسَ الْعِلْمِ أَوْ أَهْلَهُ أَوْ اسْتِمَاعَهُ. قَوْلُهُ: (فَلَا يَكُنْ إلَخْ) نَهَى عَنْ مَعْرِفَةِ مَنْ لَا يُحِبُّ الْعِلْمَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ لَا يَتَّخِذُهُ صَدِيقًا، فَقَوْلُهُ وَلَا صَدَاقَةَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَهُوَ تَأْسِيسٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى إذَا لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهُ فَلَا تَأْخُذْ فِي أَسْبَابِ مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا كُنْت تَعْرِفُهُ فَاجْتَنِبْهُ وَلَا تَتَّخِذْهُ صَدِيقًا، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ مَا لِبَعْضِهِمْ هُنَا مِنْ جَعْلِ عَطْفِ الصَّدَاقَةِ عَلَى الْمَعْرِفَةِ تَأْكِيدًا اهـ اج قَوْلُهُ:(وَلَا صَدَاقَةَ) : عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ إذْ يَلْزَمُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ الصَّدَاقَةُ.
قَوْلُهُ: (حَيَاةُ الْقُلُوبِ) أَيْ مُخْرِجُهَا مِنْ الْجَهْلِ الشَّبِيهِ بِالْمَوْتِ إلَى الْعِلْمِ الشَّبِيهِ بِالْحَيَاةِ وَقَوْلُهُ: (وَمِصْبَاحُ الْبَصَائِرِ) أَيْ مُنَوِّرُ الْقُلُوبِ؛ فَالْبَصَائِرُ جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِالْقَلْبِ بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَفِي كَلَامِهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَخْيِيلٌ بِأَنْ شَبَّهَ الْبَصَائِرَ بِمَكَانٍ نَافِعٍ مُحْتَاجٍ إلَى النُّورِ وَأَثْبَتَ لَهُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ الْمِصْبَاحُ فَيَكُونُ تَخْيِيلًا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد: 17] السَّيْلُ هَهُنَا الْعِلْمُ شَبَّهَهُ اللَّهُ بِالْمَاءِ لِخَمْسِ خِصَالٍ:
أَحَدُهَا كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ نَزَلَ مِنْ
قَالَ: مَجْلِسُ فِقْهٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً.
وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي فَضْلِ الْعِلْمِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ طَلَبَهُ مُرِيدًا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى،
ــ
[حاشية البجيرمي]
السَّمَاءِ كَذَلِكَ الْعِلْمُ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ.
الثَّانِي: كَمَا أَنَّ إصْلَاحَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ فَإِصْلَاحُ الْخَلْقِ بِالْعِلْمِ. الثَّالِثُ: كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ وَالنَّبَاتَ لَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ الْمَطَرِ كَذَلِكَ الْأَعْمَالُ وَالطَّاعَاتُ لَا تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْعِلْمِ.
الرَّابِعُ: كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ فَرْعُ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ كَذَلِكَ الْعِلْمُ فَإِنَّهُ فَرْعُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. الْخَامِسُ: كَمَا أَنَّ الْمَطَرَ نَافِعٌ وَضَارٌّ كَذَلِكَ الْعِلْمُ نَافِعٌ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَضَارٌّ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ. ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الرَّازِيّ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ) أَيْ الْعِلْمُ الْوَاجِبُ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ بِالْإِطْلَاقِ، وَعِبَارَةُ الزِّيَادِيِّ وَطَلَبُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: فَرْضُ عَيْنٍ وَهُوَ تَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى دَرَجَةِ الْإِفْتَاءِ، وَسُنَّةٌ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ اهـ. وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ تَعَلُّمُ الطِّبِّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَقَوْلُهُ: أَيْ الْوَاجِبُ يُقَالُ عَلَيْهِ إنَّهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ صَارَ الْعِلْمُ كَغَيْرِهِ مِنْ جَمِيعِ الْفُرُوضِ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ إلَّا مَسَائِلَ مَعْدُودَةً كَرَدِّ السَّلَامِ وَإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ فَابْتِدَاءُ السَّلَامِ أَفْضَلُ مِنْ رَدِّهِ وَإِنْ كَانَ الِابْتِدَاءُ سُنَّةً، وَالرَّدُّ وَاجِبًا وَإِبْرَاءُ الْمُعْسِرِ أَفْضَلُ مِنْ إنْظَارِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ وَالْإِبْرَاءُ مَنْدُوبٌ، فَالْمُنَاسِبُ التَّعْمِيمُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ فَرْضًا أَوْ سُنَّةً تَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (مَجْلِسُ فِقْهٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً) أَيْ النَّافِلَةِ، وَجَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمَهُ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ بَلْ مِنْ سَائِرِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «تَدَارُسُ الْعِلْمِ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ إحْيَائِهِ بِغَيْرِهِ» وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مُرْسَلًا قَالَ:«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ أَحَدُهُمَا كَانَ عَالِمًا يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَالْآخَرُ يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَضْلُ هَذَا الْعَالِمِ الَّذِي يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ ثُمَّ يَجْلِسُ فَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ عَلَى الَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ فِي الْبَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ» .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ: إنَّ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْعَالِمِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ شَيْئًا فَلَهُ سَبْعُ كَرَامَاتٍ: أَوَّلُهَا: يَنَالُ فَضْلَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَالثَّانِي: مَا دَامَ جَالِسًا عِنْدَهُ كَانَ مَحْبُوسًا عَنْ الذُّنُوبِ، وَالثَّالِثُ: إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ طَلَبًا لِلْعِلْمِ نَزَلَتْ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِ، وَالرَّابِعُ: إذَا جَلَسَ فِي حَلْقَةِ الْعِلْمِ فَإِذَا نَزَلَتْ الرَّحْمَةُ عَلَيْهِمْ حَصَلَ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ، وَالْخَامِسُ: مَا دَامَ فِي الِاسْتِمَاعِ يُكْتَبُ لَهُ طَاعَةً، وَالسَّادِسُ: إذَا اسْتَمَعَ وَلَمْ يَفْهَمْ ضَاقَ قَلْبُهُ لِحِرْمَانِهِ عَنْ إدْرَاكِ الْعِلْمِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْغَمُّ وَسِيلَةً إلَى حَضْرَةِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ: " أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ " أَيْ جَابِرُهُمْ وَنَاصِرُهُمْ لِأَجْلِي، وَالسَّابِعُ: يَرَى إعْزَازَ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَالِمِ وَإِذْلَالَهُمْ لِلْفَاسِقِ، فَيُرَدُّ قَلْبُهُ عَنْ الْفِسْقِ وَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْعِلْمِ، وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ) قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَرِيرُ قَلَمِ الْعَالِمِ تَسْبِيحٌ وَكِتَابَةُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرُ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَإِذَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ الْمِدَادِ ثَوْبَهُ فَكَإِصَابَةِ دَمِ الشُّهَدَاءِ، وَإِذَا قَطَرَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ تَلَأْلَأَ نُورُهُ، وَإِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ نَظَرَ إلَيْهِ أَهْلُ الْجَمْعِ فَقَالُوا: هَذَا عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ أَكْرَمَهُ اللَّهُ وَحَشَرَهُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا «يُؤْتَى
فَمَنْ أَرَادَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَمَالٍ أَوْ رِيَاسَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ شُهْرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مَذْمُومٌ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» أَيْ لَمْ يَجِدْ رِيحَهَا وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَالِمٌ لَا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» . وَفِي ذَمِّ الْعَالِمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
[حاشية البجيرمي]
بِمِدَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ وَدَمِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَيُرَجَّحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ اتَّكَأَ عَلَى يَدِهِ عَالِمٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ وَمَنْ قَبَّلَ رَأْسَ عَالِمٍ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «بَكَتْ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَنْ عَلَيْهِنَّ لِعَزِيزٍ ذَلَّ وَغَنِيٍّ افْتَقَرَ وَعَالِمٍ يَلْعَبُ بِهِ الْجُهَّالُ» . اهـ. رَازِيٌّ.
قَوْلُهُ: (أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) كَالْجَدَلِ. قَوْلُهُ: (فَهُوَ مَذْمُومٌ) خَبَرُ مَنْ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ أَرَادَهُ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ) أَيْ بِعِلْمِهِ حَرْثَ الْآخِرَةِ أَيْ ثَوَابَهَا فَشَبَّهَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِالزَّرْعِ وَأَطْلَقَ اسْمَهُ عَلَيْهِ فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا فَائِدَةٌ تَحْصُلُ بِشَيْءٍ، فَالثَّوَابُ بِالْعَمَلِ وَالزَّرْعِ بِالْبَذْرِ وَلِذَلِكَ قِيلَ: الدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ لِلْآخِرَةِ، وَالْحَرْثُ فِي الْأَصْلِ إلْقَاءُ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ، وَيُقَالُ لِلزَّرْعِ الْحَاصِلِ مِنْهُ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ وَقَوْلُهُ: فِي الْأَصْلِ إشَارَةٌ إلَى غَيْرِ مَا اُشْتُهِرَ وَصَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي تَكْرِيبِ الْأَرْضِ أَيْ حَرْثِهَا بِالْآلَةِ اهـ اج.
قَوْلُهُ: (نَزِدْ لَهُ) أَيْ بِالتَّضْعِيفِ أَيْ نُضَعِّفْهُ لَهُ قَوْلُهُ: (لَمْ يَرِحْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَبِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مِنْ رَاحَ يَرَاحُ أَوْ رَاحَ يَرِيحُ أَوْ أَرَاحَ يُرِيحُ رِوَايَاتٌ ثَلَاثَةٌ أَيْ لَمْ يَشُمَّ رِيحَهَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ دُخُولِهَا أَيْ مَعَ السَّابِقِينَ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ كُلَّ مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا يَدْخُلُهَا أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ. قَوْلُهُ:(أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا) أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْكَافِرَ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَفِي ذَمِّ الْعَالِمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ) مِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: «سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ أَيْ تَخْرُجُ أَمْعَاؤُهُ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَا فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَك أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . وَقَدْ جَاءَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى عِيسَى عليه السلام: " يَا ابْنَ مَرْيَمَ عِظْ نَفْسَك فَإِنْ اتَّعَظَتْ فَعِظْ النَّاسَ وَإِلَّا فَاسْتَحِي مِنِّي " وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء: 94] قَالَ: الْغَاوُونَ قَوْمٌ وَصَفُوا الْحَقَّ وَالْعَدْلَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَخَالَفُوهُ إلَى غَيْرِهِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلَانِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طُعْمًا وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا فَذَاكَ يُصَلِّي عَلَيْهِ طَيْرُ السَّمَاءِ وَحِيتَانُ الْمَاءِ وَدَوَابُّ الْأَرْضِ وَالْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ، وَيَقْدَمُ عَلَى اللَّهِ سَيِّدًا شَرِيفًا حَتَّى يُوَاقِفَ الْمُرْسَلِينَ. وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فِي الدُّنْيَا فَضَنَّ أَيْ بَخِلَ بِهِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طُعْمًا وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَجَّمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يُنَادَى بِهِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فِي الدُّنْيَا فَضَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طُعْمًا وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا ثُمَّ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْحِسَابِ» وَقَالَ كَعْبٌ: يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عُلَمَاءُ يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَزْهَدُونَ وَيُخَوِّفُونَ وَلَا يَخَافُونَ وَيَنْهَوْنَ عَنْ غَشَيَانِ الْوُلَاةِ وَيَأْتُونَهُمْ يُؤْثِرُونَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: لَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ أَشَدُّ حَسْرَةً مِنْ رَجُلٍ عَلَّمَ النَّاسَ عِلْمًا فَعَمِلُوا بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ هُوَ بِهِ فَفَازُوا بِسَبَبِهِ وَهَلَكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالْأَحَادِيثُ فِي ذَمِّ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَتَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ، وَمَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ عَمَلَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَنْ أَمَرَ بِمَا لَا يَفْعَلُ أَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ الْفَجَرَةَ هُمْ الْأَخْسَرُونَ إذْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا وَأَنَّ حُجَّتَهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، لَمَّا وَهَبَهُمْ مِنْ عِلْمِهِ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ فَكَفَرُوا بِنِعْمَتِهِ وَخَالَفُوا أَمْرَهُ. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ السَّلَامِ فِيمَا كَتَبَهُ عَلَى الْمِعْرَاجِ.
وَالْفِقْهُ لُغَةً الْفَهْمُ مُطْلَقًا كَمَا صَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَاصْطِلَاحًا كَمَا فِي قَوَاعِدِ الزَّرْكَشِيّ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا (عَلَى مَذْهَبِ) أَيْ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ (الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ) مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْمَسَائِلِ مَجَازًا عَنْ مَكَانِ الذَّهَابِ؛ وَإِذْ
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (الْفَهْمُ مُطْلَقًا) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَعْرِفَةَ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ أَوْ لَا. بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمَا دَقَّ وَمَا لَمْ يَدِقَّ، وَقِيلَ فَهْمُ مَا دَقَّ فَقَطْ عَلَيْهِ فَلَا يُقَالُ فَقِهْت أَنَّ السَّمَاءَ فَوْقَنَا مَثَلًا. قَوْلُهُ:(كَمَا صَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ) أَيْ نَقَلَ تَصْوِيبَهُ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ إذْ مُقَابِلُهُ يَقْصُرُهُ عَلَى فَهْمِ الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ مَا لِبَعْضِهِمْ مِنْ الِاعْتِرَاضِ هُنَا مِنْ أَنَّ الْإِسْنَوِيَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَهُمْ لَا تَصْوِيبَ لَهُمْ فِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: يُقَالُ فَقُهَ يَفْقُهُ بِالضَّمِّ فِيهِمَا إذَا صَارَ فَقِيهًا أَيْ عَالِمًا، وَأَمَّا فَقِهَ بِالْكَسْرِ فَمُضَارِعُهُ يَفْقَهُ بِالْفَتْحِ وَهُوَ مَقِيسٌ تَقُولُ فَقِهْت الْمَسْأَلَةَ أَيْ فَهِمْتهَا اهـ أُجْهُورِيٌّ. قَوْلُهُ:(مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إلَخْ) خَرَجَ بِالْأَحْكَامِ مَعْرِفَةُ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ كَتَصَوُّرِ الْإِنْسَانِ وَالْبَيَاضِ، وَخَرَجَ بِإِضَافَتِهَا لِلْحَوَادِثِ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي نَفْسِهَا كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْحِسِّيَّةُ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّارَ مُحْرِقَةٌ وَالِاعْتِقَادِيَّة كَالْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ نَصًّا إلَخْ. عِلْمُ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ، أَوْ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ لَكِنْ يَنْقَلِبُ ضَرُورِيًّا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْحَوَادِثِ الْأَفْعَالُ وَنَصَبَ نَصًّا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَعَلَى تَفْسِيرِ الْفِقْهِ بِمَعْرِفَةِ إلَخْ. يَكُونُ قَوْلُ الشَّارِحِ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ مِنْ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ إنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْإِدْرَاكُ، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَسَائِلُ فَالْمَعْنَى فِي مَسَائِلِ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إلَخْ وَهُوَ صَحِيحٌ اهـ.
قَوْلُهُ: (نَصًّا) أَيْ بِالنَّصِّ أَوْ مِنْ النَّصِّ وَالِاسْتِنْبَاطِ أَيْ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْفِقْهَ دَلِيلُهُ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفِهِ الْمَشْهُورِ وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مَذْهَبِ) حَالٌ مِنْ الْفِقْهِ أَيْ حَالَ كَوْنِ الْفِقْهِ جَارِيًا عَلَى مَذْهَبٍ أَيْ طَرِيقَةٍ، وَرَأْيِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ إلَخْ. أَوْ حَالٌ مِنْ مُخْتَصَرٍ أَيْ حَالَ كَوْنِ الْمُخْتَصَرِ كَائِنًا عَلَى مَذْهَبِ إلَخْ. أَوْ عَلَى بِمَعْنَى فِي أَيْ فِي مَذْهَبٍ وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ الْفِقْهِ. قَالَ سم فَإِنْ قُلْت: كَانَ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ مُخْتَصَرًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَلِمَ زَادَ قَوْلَهُ فِي الْفِقْهِ؟ قُلْت: إشَارَةٌ لِمَدْحِ مُخْتَصَرِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ عُمُومِ كَوْنِهِ فِي الْفِقْهِ، وَخُصُوصِ كَوْنِهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلِمَدْحِ عُمُومِ الْفِقْهِ وَخُصُوصِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِ الْفِقْهِ كَأُصُولِ الْفِقْهِ اهـ.
وَالْمَذْهَبُ لُغَةً مَكَانُ الذَّهَابِ وَهُوَ الطَّرِيقُ وَاصْطِلَاحًا الْأَحْكَامُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ شُبِّهَتْ بِمَكَانِ الذَّهَابِ بِجَامِعِ أَنَّ الطَّرِيقَ يُوَصِّلُ إلَى الْمَعَاشِ وَتِلْكَ الْأَحْكَامُ تُوَصِّلُ إلَى الْمَعَادِ أَوْ بِجَامِعِ أَنَّ الْأَجْسَادَ تَتَرَدَّدُ فِي الطَّرِيقِ وَالْأَفْكَارَ تَتَرَدَّدُ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ وَهَلْ هِيَ أَصْلِيَّةٌ أَوْ تَبَعِيَّةٌ قَوْلَانِ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا الثَّانِي وَعَلَيْهِ فَيُقَالُ شَبَّهَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالذَّهَابِ فِي الطَّرِيقِ وَاسْتَعَارَ الذَّهَابَ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَاشْتُقَّ مِنْهُ مَذْهَبُ هَذَا إنْ لَمْ يُهْجَرْ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ وَإِلَّا فَهُمْ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ، وَفِي كَلَامِ الشَّارِحِ تَغْيِيرُ إعْرَابِ الْمَتْنِ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِ مَجْرُورٌ وَفِي حَلِّ الشَّارِحِ مَرْفُوعٌ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ حَلُّ مَعْنًى لَا حَلُّ إعْرَابٍ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي التَّقْرِيبِ قَوْلًا بِجَوَازِ التَّغْيِيرِ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُؤَلَّفُ كَمَا هُنَا.
قَوْلُهُ: (الشَّافِعِيِّ) النِّسْبَةُ إلَى الشَّافِعِيِّ شَافِعِيٌّ لَا شَفْعَوِيٌّ كَمَا قِيلَ بِهِ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْمَنْسُوبَ لِلْمَنْسُوبِ يُؤْتَى بِهِ عَلَى صُورَةِ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ، لَكِنْ بَعْدَ حَذْفِ الْيَاءِ مِنْ الْمَنْسُوبِ إلَيْهِ وَإِثْبَاتِ بَدَلِهَا فِي الْمَنْسُوبِ اهـ ع ش عَلَى م ر. قَالَ ابْنُ مَالِكٍ:
وَمِثْلُهُ مِمَّا حَوَاهُ احْذِفْ
وَقَوْلُهُ: (الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ) أَيْ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلِقِ وَهُوَ كَامِلُ الْأَدِلَّةِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَخَرَجَ مُجْتَهِدُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ الْمُقَلِّدُ لِإِمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ؛ الْعَارِفِ بِقَوَاعِدِ إمَامِهِ، فَإِذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ لَمْ يُعْرَفْ لِإِمَامِهِ فِيهَا نَصٌّ اجْتَهَدَ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِ وَخَرَّجَهَا عَلَى أُصُولِهِ
وَخَرَجَ أَيْضًا مُجْتَهِدُ الْفَتْوَى وَهُوَ الْمُتَبَحِّرُ فِي مَذْهَبِهِ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى الْآخَرِ إذَا أَطْلَقَهُمَا اهـ م د.
قَوْلُهُ: (مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْمَسَائِلِ) مِنْ ظَرْفِيَّةُ الْبَعْضِ فِي الْكُلِّ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ
ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هُنَا الشَّافِعِيَّ (- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) فَلْنَتَعَرَّضْ إلَى طَرَفٍ مِنْ أَخْبَارِهِ تَبَرُّكًا بِهِ. فَنَقُولُ: هُوَ حَبْرُ الْأُمَّةِ وَسُلْطَانُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ جَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهَذَا نَسَبٌ عَظِيمٌ كَمَا قِيلَ:
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُمَا الَّتِي هِيَ الْحُكْمُ قَوْلُهُ: (مَجَازًا) أَيْ مُتَجَوِّزًا بِهِ عَنْ مَكَانِ إلَخْ. أَوْ مَنْقُولًا عَنْ مَكَانِ إلَخْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَالٌ مِنْ مَا ذَهَبَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَفْظٌ وَمَا ذَهَبَ مَعَانٍ بِدَلِيلِ تَبْيِينِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ حَذْفُ مُضَافٍ أَيْ حَالَةَ كَوْنِ دَالِّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَجَازًا، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ مَحْذُوفٌ أَيْ اسْتَعْمَلَ فِيمَا ذُكِرَ مَجَازًا كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا ح ف.
قَوْلُهُ: (إلَى طَرَفٍ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَالرَّاءِ أَوْ بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ طُرْفَةٍ عَلَى الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (حَبْرُ الْأُمَّةِ) أَيْ عَالِمُهَا.
قَوْلُهُ: (وَسُلْطَانُ الْأَئِمَّةِ) أَيْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ أَيْ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ تَصَرُّفَ السُّلْطَانِ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ إدْرِيسَ) وَأُمُّ الْإِمَامِ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَوْلُهُ: (هَاشِمِ) عِبَارَةُ الرَّشِيدِيِّ قَوْلُهُ هَاشِمٌ هُوَ غَيْرُ هَاشِمٍ الَّذِي هُوَ أَخُو الْمُطَّلِبِ وَجَدُّهُ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهَاشِمٌ الْمَذْكُورُ فِي نَسَبِ الشَّافِعِيِّ هُوَ ابْنُ الْمُطَّلِبِ أَخُو هَاشِمٍ جَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَالْحَاصِلُ؛ أَنَّ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ لَهُ أَخٌ اسْمُهُ هَاشِمٌ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنٌ يُسَمَّى هَاشِمًا أَيْضًا هُوَ جَدُّ الشَّافِعِيِّ، وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا يَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصْفٌ لِعَبْدِ مَنَافٍ خِلَافًا لِمَا وَقَعَ بِبَعْضِ الْهَوَامِشِ اهـ بِحُرُوفِهِ. فَهَاشِمٌ الَّذِي فِي نَسَبِهِ صلى الله عليه وسلم عَمُّ هَاشِمٍ الَّذِي فِي نَسَبِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
قَوْلُهُ: (ابْنِ هَاشِمِ) . هَاشِمٌ هَذَا غَيْرُ هَاشِمٍ الَّذِي فِي نَسَبِ الْإِمَامِ، فَاَلَّذِي فِي نَسَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَمُّ الَّذِي فِي نَسَبِ الْإِمَامِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ مَنَافٍ وَالِدُ ابْنَيْنِ شَقِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَاشِمٌ وَالْآخَرُ الْمُطَّلِبُ، فَهَاشِمٌ أَعْقَبَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَعْقَبَ عَبْدَ اللَّهِ أَبَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُطَّلِبُ أَعْقَبَ هَاشِمًا، وَهَاشِمٌ أَعْقَبَ عَبْدَ يَزِيدَ إلَى آخِرِ نَسَبِ الْإِمَامِ، فَالْمُطَّلِبُ عَمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَعَمُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَاشِمٌ هُوَ عَمْرُو الْعَلَاءُ أَيْ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَهُوَ أَخُو عَبْدِ شَمْسٍ، وَكَانَا تَوْأَمَيْنِ، وَكَانَتْ رِجْلُ هَاشِمٍ أَيْ أُصْبُعُهَا مُلْصَقَةً بِجَبْهَةِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَلَمْ يُمْكِنْ نَزْعُهَا إلَّا بِسَيَلَانِ دَمٍ، فَكَانُوا يَقُولُونَ سَيَكُونُ بَيْنَهُمَا دَمٌ فَكَانَ بَيْنَ وَلَدَيْهِمَا أَيْ بَيْنَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَبَيْنَ بَنِي أُمَيَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ لَهُ هَاشِمٌ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مِنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ بَعْدَ جَدِّهِ إبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَيْ ثَرَدَ الثَّرِيدَ وَأَطْعَمَهُ الْمَسَاكِينَ اهـ حَلَبِيٌّ فِي السِّيرَةِ.
قَوْلُهُ: (ابْنِ عَبْدِ مَنَافٍ جَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ الثَّالِثِ وَهُوَ الْأَبُ الرَّابِعُ، فَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ابْنُ عَمِّ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ مَنَافٍ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ قَمَرُ الْبَطْحَاءِ لِحُسْنِهِ وَجَمَالِهِ، وَمَنَافٌ أَصْلُهُ مَنَاةُ اسْمُ صَنَمٍ كَانَ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ، وَكَانَتْ أُمُّهُ جَعَلَتْهُ خَادِمًا لِذَلِكَ الصَّنَمِ، وَقِيلَ وَهَبَتْهُ لَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ وَلَدٍ وُلِدَ لِقُصَيٍّ عَلَى مَا قِيلَ ح ل فِي السِّيرَةِ.
قَوْلُهُ: (ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَيُدْعَى شَيْبَةُ الْحَمْدِ لِكَثْرَةِ حَمْدِ النَّاسِ لَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ مَفْزِعَ قُرَيْشٍ فِي النَّوَائِبِ وَمَلْجَأَهُمْ فِي الْأُمُورِ، وَكَانَ شَرِيفَ قُرَيْشٍ وَسَيِّدَهَا كَمَالًا وَفِعَالًا مِنْ غَيْرِ مُدَافِعٍ، أَوْ قِيلَ لَهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي رَأْسِهِ شَيْبَةٌ، أَيْ وَفِي عِبَارَةٍ كَانَ وَسَطُ رَأْسِهِ أَبْيَضَ أَوْ سُمِّيَ بِذَلِكَ تَفَاؤُلًا بِأَنْ يَبْلُغَ سِنَّ الشَّيْبِ، قِيلَ اسْمُهُ عَامِرٌ وَعَاشَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً أَيْ وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْفَيَّاضُ لِجُودِهِ، وَمُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ مِنْ مَائِدَتِهِ لِلطَّيْرِ وَالْوُحُوشِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَكَانَ مِنْ حُلَمَاءِ قُرَيْشٍ وَحُكَمَائِهَا. وَقِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ عَمَّهُ الْمُطَّلِبَ لَمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ صَغِيرًا أَرْدَفَهُ خَلْفَهُ أَيْ وَكَانَ بِهَيْئَةٍ رَثَّةٍ أَيْ ثِيَابٍ خَلْقَةٍ فَصَارَ كُلُّ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ وَيَقُولُ مَنْ هَذَا؟ يَقُولُ عَبْدِي أَيْ حَيَاءً
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى
…
نُورًا وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودًا
مَا فِيهِ إلَّا سَيِّدٌ وَابْنُ سَيِّدٍ
…
حَازَ الْمَكَارِمَ وَالتُّقَى وَالْجُودَا
وَشَافِعُ بْنُ السَّائِبِ: هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَرَعْرِعٌ، وَأَسْلَمَ أَبُوهُ السَّائِبُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ، فَأُسِرَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أُسِرَ وَفَدَى نَفْسَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ وَعَبْدُ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ ابْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى هَذَا النَّسَبِ إلَى عَدْنَانَ، وَلَيْسَ فِيمَا بَعْدَهُ إلَى آدَمَ طَرِيقٌ صَحِيحٌ فِيمَا يُنْقَلُ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«كَانَ إذَا انْتَهَى فِي النَّسَبِ إلَى عَدْنَانَ أَمْسَكَ ثُمَّ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ» أَيْ بَعْدَهُ. وُلِدَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى الْأَصَحِّ بِغَزَّةَ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا هَاشِمٌ جَدُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ بِعَسْقَلَانَ، وَقِيلَ بِمِنًى سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ حُمِلَ إلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ وَنَشَأَ بِهَا، وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
أَنْ يَقُولَ ابْنُ أَخِي، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَحْسَنَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ وَصَارَ يَقُولُ لِمَنْ يَقُولُ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَيْحَكُمْ إنَّمَا هُوَ شَيْبَةُ الْحَمْدِ ابْنُ أَخِي هَاشِمٍ لَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فَقِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، أَيْ وَقِيلَ لِأَنَّهُ تَرَبَّى فِي حِجْرِ عَمِّهِ الْمُطَّلِبِ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَقُولَ لِلْيَتِيمِ الَّذِي يَتَرَبَّى فِي حِجْرِ أَحَدٍ هُوَ عَبْدُهُ.
قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ نَسَبُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ: (وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ) الْفَلَقُ بِالتَّحْرِيكِ الصُّبْحُ بِعَيْنِهِ فَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ. قَوْلُهُ: (وَابْنُ سَيِّدٍ) صَوَابُهُ مِنْ سَيِّدٍ فَإِنَّهُ مِنْ الْكَامِلِ وَلَا يَصِحُّ الْوَزْنُ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ. قَوْلُهُ: (مُتَرَعْرِعٌ) هُوَ بِمُهْمَلَاتٍ مَنْ جَاوَزَ فِي الْعُمْرِ خَمْسَ سِنِينَ ق ل. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ شَابٌّ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَرَعْرَعَ الصَّبِيُّ أَيْ تَحَرَّكَ وَنَشَأَ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَافِعًا صَحَابِيٌّ ابْنُ صَحَابِيٍّ، فَلِذَا نُسِبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ خِفَّةِ اللَّفْظِ وَالتَّفَاؤُلِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ كَانَ) أَيْ فَسَبَبُ إسْلَامِهِ أَنَّهُ كَانَ إلَخْ قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَسْلَمَ) اُعْتُرِضَ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا مِنْ أَنَّ إسْلَامَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ إسْلَامَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، لِأَنَّ الْفِدَاءَ كَانَ بَعْدَ انْفِضَاضِ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَرُجُوعِهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ. وَأُجِيبُ بِأَجْوِبَةٍ: مِنْهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ أَوَّلًا يَوْمَ بَدْرٍ خُفْيَةً، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفِدَاءِ جِهَارًا. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِيَوْمِ بَدْرٍ غَزْوَةُ بَدْرٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا أَسْلَمَ مَعْنَاهُ عَزَمَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ ثَانِيًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَيْ بِالْفِعْلِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَسْرَى مِنْهُمْ مَنْ فَدَى نَفْسَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَخَّرَ إلَى رُجُوعِهِ الْمَدِينَةَ.
قَوْلُهُ: (وَعَبْدُ مَنَافٍ) مُبْتَدَأٌ فَهُوَ بِالتَّنْوِينِ وَابْنُ خَبَرٌ. قَوْلُهُ: (كِلَابٍ) وَاسْمُهُ حَكِيمٌ، وَقِيلَ عُرْوَةُ وَلُقِّبَ بِكِلَابٍ لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الصَّيْدَ وَأَكْثَرُ صَيْدِهِ كَانَ بِالْكِلَابِ.
قَوْلُهُ: (كِنَانَةَ) قِيلَ لَهُ كِنَانَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي كِنٍّ بَيْنَ قَوْمِهِ أَيْ مُخْتَفِيًا.
قَوْلُهُ: (إلْيَاسَ) بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ وَقِيلَ مَفْتُوحَةٌ أَيْضًا قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ كِبَرِ سِنِّ أَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى هَذَا النَّسَبِ إلَى عَدْنَانَ) وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا النَّسَبَ فَقَالَ:
مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ مُطَّلِبٌ هَاشِمُ
…
مَنَافٍ قُصَيٌّ مَعَ كِلَابٍ فَمُرَّةُ
فَكَعْبٌ لُؤَيٌّ غَالِبٌ فَهُوَ مَالِكُ
…
كَذَا النَّضْرُ نَجْلُ كِنَانَةَ بْنُ خُزَيْمَةَ
فَمُدْرِكَةٌ إلْيَاسُ مَعَ مُضَرَ كَذَا
…
نِزَارُ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ أَثْبَتُ
قَوْلُهُ: (بِغَزَّةَ) مُعْتَمَدٌ وَهِيَ مِنْ الشَّامِ. وَقَوْلُهُ: (وَقِيلَ إلَخْ) هُوَ وَمَا بَعْدَهُ ضَعِيفَانِ.
قَوْلُهُ: (سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ) وَالسَّنَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه تُوُفِّيَ فِيهَا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ الْكُوفِيُّ بِبَغْدَادَ وَقَبْرُهُ هُنَاكَ ظَاهِرٌ يُزَارُ. وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِينَ. وَفِي عَامِ ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ وَقِيلَ تِسْعِينَ وُلِدَ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. وَتُوُفِّيَ فِي عَامِ تِسْعٍ بِتَقْدِيمِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَمِائَةٍ وَسَبْعِينَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَوُلِدَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَتُوُفِّيَ رحمه الله فِي عَامِ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَعُمُرُ أَبِي حَنِيفَةَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَعُمُرُ مَالِكٍ تِسْعٌ وَثَمَانُونَ، وَعُمُرُ
سِنِينَ، وَالْمُوَطَّأَ وَهُوَ ابْنُ عَشَرَةٍ. وَتَفَقَّهَ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ مُفْتِي مَكَّةَ الْمَعْرُوفِ بِالزَّوْجِيِّ لِشِدَّةِ شُقْرَتِهِ مِنْ بَابِ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْإِفْتَاءِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَعَ أَنَّهُ نَشَأَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ فِي قِلَّةٍ مِنْ الْعَيْشِ وَضِيقِ حَالٍ، وَكَانَ فِي صِبَاهُ يُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ وَيَكْتُبُ مَا يَسْتَفِيدُهُ فِي الْعِظَامِ وَنَحْوِهَا حَتَّى مَلَأَ مِنْهَا خَبَايَا. ثُمَّ رَحَلَ إلَى مَالِكٍ بِالْمَدِينَةِ وَلَازَمَهُ مُدَّةً، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَأَقَامَ بِهَا سَنَتَيْنِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهَا وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ مَذَاهِبَ كَانُوا عَلَيْهَا إلَى مَذْهَبِهِ.
وَصَنَّفَ بِهَا كِتَابَهُ الْقَدِيمَ، ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ عَادَ إلَى بَغْدَادَ سَنَةَ ثَمَانٍ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الشَّافِعِيِّ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَعُمُرُ أَحْمَدَ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ تَارِيخَ وِلَادَتِهِمْ وَمَوْتِهِمْ وَمِقْدَارَ عُمُرِهِمْ فِي قَوْلِهِ:
تَارِيخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا
…
وَمَالِكٍ فِي قَطْعِ جَوْفٍ ضَبَطَا
وَالشَّافِعِيِّ صِينَ بِبَرْنَدْ
…
وَأَحْمَدَ بِسَبْقِ أَمْرٍ جَعَدْ
فَاحْسُبْ عَلَى تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ
…
مِيلَادَهُمْ فَمَوْتَهُمْ فَالْعُمْرِ
قَوْلُهُ: (بِالزِّنْجِيِّ) بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَمُسْلِمٌ أَخَذَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُرَيْجٍ، وَمُحَمَّدٌ أَخَذَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ رَبَاحٍ، وَعَطَاءٌ أَخَذَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّبِيُّ عَنْ جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ عَنْ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى.
قَوْلُهُ: (وَأُذِنَ لَهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْآذِنَ لَهُ فِيهِ هُوَ مَالِكٌ كَمَا فِي شَرْحِ م ر حَيْثُ قَالَ: وَأَذِنَ لَهُ مَالِكٌ فِي الْإِفْتَاءِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَأَيْت بِخَطِّ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ وَأَذِنَ أَيْ مُسْلِمٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ.
وَصَرَّحَ بِهِ الْإِسْنَوِيُّ وَلَا تَنَافِي لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْإِذْنَ صَدَرَ مِنْهُمَا لَهُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ. قَوْلُهُ: (مَعَ أَنَّهُ إلَخْ) مُتَعَلِّقٌ بِحَفِظَ وَمَا بَعْدَهُ أَيْ مَعَ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ شَأْنُهُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. وَحَاصِلُهُ التَّعَجُّبُ مِنْ حَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ يَتِيمًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا سَلَّمُوهُ إلَى الْمَكْتَبِ مَا كَانُوا يَجِدُونَ أُجْرَةَ الْمُعَلِّمِ، وَكَانَ الْمُعَلِّمُ يُقَصِّرُ فِي التَّعْلِيمِ إلَّا أَنَّ الْمُعَلِّمَ كُلَّمَا عَلَّمَ صَبِيًّا كَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَلَقَّفُ ذَلِكَ الْكَلَامَ أَيْ يَتَنَاوَلُهُ وَيَحْفَظُهُ بِسَمَاعِهِ مِنْ مُعَلِّمِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي الْمَكْتَبِ، ثُمَّ إذَا قَامَ الْمُعَلِّمُ مِنْ مَكَانِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ فَنَظَرَ الْمُعَلِّمُ فَرَأَى الشَّافِعِيَّ يَكْفِيهِ أَمْرَ الصِّبْيَانِ أَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ الَّتِي كَانَ يَطْمَعُ بِهَا مِنْهُ فَتَرَكَ طَلَبَ الْأُجْرَةِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ.
قَوْلُهُ: (وَيَكْتُبُ مَا يَسْتَفِيدُهُ فِي الْعِظَامِ وَنَحْوِهَا) لِعَجْزِهِ عَنْ ثَمَنِ الْوَرَقِ لِأَنَّهُ رضي الله عنه كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَقِيرًا. قَوْلُهُ: (خَبَايَا) جَمْعُ خَبِيَّةٍ وَهِيَ جِرَارُ الْفَخَّارِ وَنَحْوُهَا، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَوَّلَ كَاغَدٍ أَيْ وَرَقٍ عُمِلَ فِي الْأَرْضِ لِسَيِّدِنَا يُوسُفَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَجْمَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى الْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَاللِّخَافِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِي آخِرِهَا فَاءٌ الْحِجَارَةُ الرَّقِيقَةُ وَاحِدُهُ لَخْفٌ، وَالْعُسُبُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ جَمْعُ عَسِيبٍ اسْمٌ لِجُدُورِ الْجَرِيدِ وَهِيَ الْقِحْفُ الْمَشْهُورَةُ الْآنَ، وَقِيلَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْجَرِيدِ اهـ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ رَحَلَ إلَى مَالِكٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَلَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْآذِنَ لَهُ فِي الْإِفْتَاءِ هُوَ مَالِكٌ، لِأَنَّ هَذَا مُرَتَّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ فِي صِبَاهُ يُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ إلَخْ. فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَا أَجْمَلَهُ أَوَّلًا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ رَحَلَ فِي سَنَةِ الْإِذْنِ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ وَهِيَ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَلَمَّا رَآهُ مَاهِرًا أَذِنَ لَهُ هُوَ أَيْضًا فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَقَدْ حَصَلَ الْإِذْنُ لَهُ مِنْ مُفْتِي مَكَّةَ وَمُفْتِي الْمَدِينَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا مَرَّ اهـ م د. فَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ مَالِكٍ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِذْنِ.
قَوْلُهُ: (بَغْدَادَ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: وَفِي بَغْدَادَ أَرْبَعُ لُغَاتٍ: إحْدَاهَا بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ بِإِهْمَالِ الْأُولَى وَإِعْجَامِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةُ بَغْدَانُ بِالنُّونِ، وَالرَّابِعَةُ مَغْدَانُ بِالْمِيمِ أَوَّلَهَا اهـ خَضِرٌ عَلَى التَّحْرِيرِ
قَوْلُهُ: (وَصَنَّفَ بِهَا كِتَابَهُ الْقَدِيمَ) وَرُوَاتُهُ أَرْبَعَةٌ أَجَلُّهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْكَرَابِيسِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَرُوَاةُ الْجَدِيدِ أَرْبَعَةٌ أَيْضًا الْمُزَنِيّ وَالْبُوَيْطِيُّ وَالرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ رَاوِي الْأُمِّ وَغَيْرِهَا عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه. قَالَ الْإِمَامُ فِيهِ: إنَّهُ أَحْفَظُ أَصْحَابِي رَحَلَتْ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ، فَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا الرَّبِيعُ الْجِيزِيُّ فَلَمْ يَنْقُلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ إلَّا كَرَاهَةَ الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ أَيْ الْأَنْغَامِ وَأَنَّ الشَّعْرَ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ تَبَعًا لِلْجِلْدِ اهـ طَبَقَاتُ الْإِسْنَوِيِّ ع ش عَلَى م ر. وَالْفَتْوَى عَلَى مَا فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْجَدِيدِ دُونَ الْقَدِيمِ، فَقَدْ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ وَقَالَ: لَا أَجْعَلُ فِي حِلٍّ مَنْ رَوَاهُ عَنِّي إلَّا فِي مَسَائِلَ يَسِيرَةٍ نَحْوُ السَّبْعَةَ عَشَرَ يُفْتِي فِيهَا بِالْقَدِيمِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي قَدِيمٍ لَمْ يُعَضِّدْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ، فَإِنْ اعْتَضَدَ بِدَلِيلٍ فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي وَاضْرِبُوا بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ.
فَائِدَةٌ: الْمَسَائِلُ الَّتِي يُفْتِي بِهَا عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ تَبْلُغُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً مِنْهَا عَدَمُ وُجُوبِ التَّبَاعُدِ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ وَالتَّثْوِيبُ فِي الْأَذَانِ وَعَدَمُ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الْمَحَارِمِ وَطَهَارَةُ الْمَاءِ الْجَارِي الْكَثِيرِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَعَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِالْحَجَرِ إذَا انْتَشَرَ الْبَوْلُ وَتَعْجِيلُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَعَدَمُ مُضِيِّ وَقْتِ الْمَغْرِبِ بِمُضِيِّ خَمْسِ رَكَعَاتٍ، وَعَدَمُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، وَالْمُنْفَرِدُ إذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ أَنْشَأَ الْقُدْوَةُ، وَكَرَاهِيَةُ قَلْمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ، وَعَدَمُ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي الرِّكَازِ، وَشَرْطُ التَّحَلُّلِ فِي الْحَجِّ بِعُذْرِ الْمَرَضِ، وَتَحْرِيمُ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَلُزُومُ الْحَدِّ بِوَطْءِ الْمَحْرَمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَبُولُ شَهَادَةِ فَرَعَيْنَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَصْلَيْنِ، وَغَرَامَةُ شُهُودِ الْمَالِ إذَا رَجَعُوا وَتَسَاقُطُ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ شَاهِدَيْنِ وَعَارَضَهَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ يُرَجَّحُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْقَدِيمِ وَعَدَمُ تَحْلِيفِ الدَّاخِلِ مَعَ بَيِّنَتِهِ إذَا عَارَضَهَا بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَإِذَا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَأَرْخَتْ إحْدَاهُمَا قُدِّمَتْ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْقَاضِي حُسَيْنٍ، وَإِذَا عَلِقَتْ الْأَمَةُ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ثُمَّ مَلَكَهَا الْوَاطِئُ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَدِيمِ وَاخْتُلِفَ فِي الصَّحِيحِ، وَتَزْوِيجُ أُمِّ الْوَلَدِ فِيهِ قَوْلَانِ وَاخْتَلَفَ فِي الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَهُ النَّسَّابَةُ فِي شَرْحِ مَنْظُومَةِ ابْنِ الْعِمَادِ فِي الْأَنْكِحَةِ وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فَقَالَ:
وَبَعْدُ فَالْحَقُّ الْقَوِيمُ الْمُعْتَبَرْ
…
الْمَذْهَبُ الْجَدِيدُ طَيِّبُ الْأَثَرْ
وَالْهَجْرُ لِلْقَدِيمِ حَقًّا قَدْ ثَبَتْ
…
إلَّا مَسَائِلَ قَلِيلَةً أَتَتْ
أَرْبَعَةٌ مَعَ عَشَرَةٍ بِالسَّنَدْ
…
عَنْ صَاحِبِ الْأَشْبَاهِ خُذْ وَاعْتَمِدْ
وَزِدْتهَا سَبْعًا عَنْ النَّسَّابَةْ
…
السَّيِّدِ الشَّرِيفِ ذِي الْمَهَابَهْ
الْمَسْحُ بِالْأَحْجَارِ غَيْرُ جَائِزْ
…
مِنْ خَارِجٍ مُلَوَّثٍ مُجَاوِزْ
وَلَمْسُ جِلْدِ مَحْرَمٍ لَا نَقْضَ بِهْ
…
وَقَصُّ نَحْوِ الظُّفْرِ مِنْ مَيْتٍ كُرِهْ
وَإِنْ تَرَى رِجْسًا بِمَاءٍ رَاكِدِ
…
وَلَمْ يُنَجِّسْهُ فَلَا تُبَاعِدْ
لِفَائِتٍ سُنَّ الْأَذَانُ يَا فَتَى
…
وَلَوْ بِلَا جَمَاعَةٍ فِيمَا أَتَى
وَوَقْتُ مَغْرِبٍ حَقِيقِيٍّ بَقِيَ
…
مُوَسَّعًا إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ
وَفَضْلُ تَقْدِيمِ الْعَشَا قَدْ زُكِنْ
…
وَسُنَّ تَثْوِيبٌ لِصُبْحٍ يَا فَطِنْ
وَفِي أَخِيرَتَيْ صَلَاةٍ قَدْ ذَكَرَهْ
…
شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ يَا ذَا فَانْتَبِهْ
وَإِنْ نَوَى فَذٌّ جَمَاعَةً يَصِحّ
…
وَدَبْغُ جِلْدِ الْمَيْتِ أَكْلًا لَمْ يُبِحْ
وَالْجَهْرُ بِالتَّأْمِينِ لِلْمَأْمُومِ فِي
…
جَهْرِيَّةٍ يَا صَاحِ سُنَّةٌ قَفِيّ
وَسُنَّ خَطٌّ لِلْمُصَلِّي إنْ فَقَدْ
…
نَحْوَ الْعَصَا مِمَّا عَلَيْهِ يَعْتَمِدْ
وَمَنْ يَمُتْ وَصَوْمُهُ قَدْ عُلِّقَا
…
بِذِمَّتِهِ يُصَامُ عَنْهُ مُطْلَقَا
وَشَرْطُ تَحْلِيلٍ مِنْ التَّحَرُّمِ
…
لِنَحْوِ تَمْرِيضٍ جَوَازُهُ نَمِي
وَغَرِمُوا شُهُودُنَا إنْ رَجَعُوا
…
عَنْ الْأَدَاءِ لَعَلَّهُمْ يَرْتَدِعُوا
وَصَحَّحُوا شَهَادَةَ الْفَرْعَيْنِ
…
فِي نَصِّهِمْ عَلَى كِلَا الْأَصْلَيْنِ
وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِصْرَ وَلَمْ يَزَلْ بِهَا نَاشِرًا لِلْعِلْمِ مُلَازِمًا لِلِاشْتِغَالِ بِجَامِعِهَا الْعَتِيقِ إلَى أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ شَدِيدَةٌ فَمَرِضَ بِسَبَبِهَا أَيَّامًا عَلَى مَا قِيلَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قُطْبُ الْوُجُودِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَأَسْقَطُوا بَيِّنَتَيْ خَصْمَيْنِ
…
تَعَارُضًا جَزْمًا بِغَيْرِ مَيْنِ
وَالشَّاهِدَانِ قَدَّمُوهُمَا عَلَى
…
شَطْرٍ مَعَ الْيَمِينِ فِيمَا نُقِلَا
وَلَمْ يَحْلِفْ دَاخِلٌ قَدْ عَارَضَتْ
…
حُجَّتُهُ لِخَارِجٍ فِيمَا ثَبَتْ
وَجَائِزٌ تَزْوِيجُ أُمِّ الْوَلَدِ
…
فِي أَرْجَحِ الْقَوْلَيْنِ وَالْمُعْتَمَدِ
قَوْلُهُ: (ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِصْرَ) وَأَقَامَ بِهَا سِتَّ سِنِينَ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ) قِيلَ الضَّارِبُ لَهُ أَشْهَبُ حِينَ تَنَاظَرَ مَعَ الشَّافِعِيِّ فَأَفْحَمَهُ الشَّافِعِيُّ فَضَرَبَهُ قِيلَ بِكِيلُونَ وَقِيلَ بِمِفْتَاحٍ فِي جَبْهَتِهِ فَمَرِضَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِمِفْتَاحِ كِيلُونَ، وَكَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ فِي سُجُودِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَمِتْ الشَّافِعِيَّ وَإِلَّا ذَهَبَ عِلْمُ مَالِكٍ، لَكِنْ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَقَدْ كَانَ يَدْعُو لِلشَّافِعِيِّ فِي سُجُودِهِ، وَسَأَلَتْهُ ابْنَتُهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ كَالشَّمْسِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَافِيَةِ فِي الْبَدَنِ، فَإِذَا ذَهَبَا هَلْ لَهُمَا مِنْ خَلَفٍ؟ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُعَظِّمُ الشَّافِعِيَّ وَيَذْكُرُهُ كَثِيرًا وَكَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ صَالِحَةٌ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتُحِبُّ أَخْبَارَ الصَّالِحِينَ، وَتَوَدُّ أَنْ تَرَى الصَّالِحِينَ وَتَرَى الشَّافِعِيَّ لِتَعْظِيمِ أَبِيهَا إيَّاهُ، فَاتَّفَقَ مَبِيتُ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي وَقْتٍ فَفَرِحَتْ الْبِنْتُ بِذَلِكَ طَمَعًا أَنْ تَرَى أَفْعَالَهُ وَتَسْمَعَ مَقَالَهُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ قَامَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إلَى وَظِيفَةِ صَلَاتِهِ وَذِكْرِهِ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ مُلْقًى عَلَى ظَهْرِهِ وَالْبِنْتُ تَرْقُبُهُ إلَى الْفَجْرِ، ثُمَّ قَالَتْ لِأَبِيهَا: يَا أَبَتِ تُعَظِّمُ الشَّافِعِيَّ وَمَا رَأَيْته يُصَلِّي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَا يَذْكُرُ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي الْحَدِيثِ إذْ قَامَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: كَيْفَ كَانَتْ لَيْلَتُك؟ فَقَالَ: مَا بِتّ بِلَيْلَةٍ أَطْيَبَ مِنْهَا وَلَا أَبْرَكَ.
فَقَالَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي اسْتَنْبَطْت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِائَةَ مَسْأَلَةٍ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِي فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ وَدَّعَهُ وَمَضَى، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِابْنَتِهِ: هَذَا الَّذِي عَمِلَهُ اللَّيْلَةَ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي عَمِلْته وَأَنَا قَائِمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: مَا رَأَيْت أَفْقَهَ مِنْ أَشْهَبَ لَوْلَا طَيْشٌ فِيهِ، وَالطَّيْشُ خِفَّةُ الْعَقْلِ. وَأَشْهَبُ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَاوُد الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْمِصْرِيُّ وُلِدَ فِي السَّنَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا الشَّافِعِيُّ وَهِيَ سَنَةُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْت أَشْهَبَ يَدْعُو عَلَى الشَّافِعِيِّ بِالْمَوْتِ فَذَكَرْت لِلشَّافِعِيِّ ذَلِكَ فَقَالَ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ
…
فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْت فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى
…
تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدْ
أَيْ فَكَانَ يَقْرَبُ التَّهَيُّؤُ. قَالَ: فَمَاتَ الشَّافِعِيُّ وَاشْتَرَى أَشْهَبُ مِنْ تَرِكَتِهِ عَبْدًا فَاشْتَرَيْته مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الضَّارِبَ لَهُ فِتْيَانُ الْمَغْرِبِيِّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ اللَّهَ أَخْفَى ذِكْرَ فِتْيَانَ وَكَلَامَهُ فِي الْعِلْمِ حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ مَذْهَبِهِ.
قَوْلُهُ: (فَمَرِضَ بِسَبَبِهَا أَيَّامًا) وَدَخَلَ الْمُزَنِيّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْت مِنْ الدُّنْيَا رَاحِلًا وَلِلْإِخْوَانِ مُفَارِقًا وَلِسَيِّئِ عَمَلِي مُلَاقِيًا وَلِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ شَارِبًا وَعَلَى رَبِّي تبارك وتعالى وَارِدًا، وَلَا أَدْرِي تَصِيرُ رُوحِي إلَى الْجَنَّةِ فَأُهَنِّيهَا أَوْ إلَى النَّارِ فَأُعَزِّيهَا ثُمَّ أَنْشَدَ.
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي
…
حَمَلْت الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِك سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْته
…
بِعَفْوِك رَبِّي كَانَ عَفْوُك أَعْظَمَا
وَمَازِلْت ذَا عَفْوٍ عَنْ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ
…
تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
قَوْلُهُ: (وَهُوَ قُطْبُ الْوُجُودِ) الْقُطْبُ فِي الْأَصْلِ الْقَلْبُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الرَّحَا وَتَتَعَطَّلُ بِفَقْدِهِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِلْإِمَامِ بِاعْتِبَارِ
سَلْخَ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِهِ، وَانْتَشَرَ عِلْمُهُ فِي جَمِيعِ الْآفَاقِ وَتَقَدَّمَ عَلَى الْأَئِمَّةِ فِي الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ وَعَلَيْهِ حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ:«عَالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا» وَمِنْ كَلَامِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -:
أَمَتُّ مَطَامِعِي فَأَرَحْت نَفْسِي
…
فَإِنَّ النَّفْسَ مَا طَمِعَتْ تَهُونُ
وَأَحْيَيْت الْقُنُوعَ وَكَانَ مَيْتًا
…
فَفِي إحْيَائِهِ عِرْضٌ مَصُونُ
إذَا طَمَعٌ يَحِلُّ بِقَلْبِ عَبْدٍ
…
عَلَتْهُ مَهَانَةٌ وَعَلَاهُ هُونُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
أَنَّهُ الْمَدَارُ وَالْمَرْجِعُ فِي الْأَحْكَامِ؛ وَيَحْتَمِلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَيَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ تَوَلَّى الْقُطْبَانِيَّةَ وَتُوُفِّيَ وَهُوَ قُطْبٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - اهـ شَيْخُنَا حِفْنِيٌّ لِأَنَّ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى الْمُقَارَنَةِ.
قَوْلُهُ: (يَوْمَ الْجُمُعَةِ) وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ.
قَوْلُهُ: (سَلْخَ رَجَبٍ) أَيْ آخِرَ يَوْمٍ مِنْهُ. قَالَ الرَّبِيعُ: رَأَيْت فِي الْمَنَامِ قَبْلَ مَوْتِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِأَيَّامٍ أَنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه مَاتَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُخْرِجُوا جِنَازَتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْت سَأَلْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ: هَذَا مَوْتُ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا فَمَا كَانَ إلَّا يَسِيرُ حَتَّى مَاتَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
قَوْلُهُ: (بِالْقَرَافَةِ) وَهِيَ الصُّغْرَى، وَأُرِيدَ بَعْدَ أَزْمِنَةِ نَقْلِهِ مِنْهَا لِبَغْدَادَ فَظَهَرَ مِنْ قَبْرِهِ لَمَّا فُتِحَ رَوَائِحُ طَيِّبَةٌ عَطَّلَتْ الْحَاضِرِينَ عَنْ إحْسَاسِهِمْ فَتَرَكُوهُ. قَالَ الْقُضَاعِيُّ: الشَّافِعِيُّ مَدْفُونٌ فِي مَقَابِرِ قُرَيْشٍ بِمِصْرَ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ أَوْلَادِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَبْرُ الْبَحْرِيُّ مِنْ الْقُبُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تَحْتَ مِصْطَبَةٍ وَاحِدَةٍ غَرْبِيِّ الْخَنْدَقِ.
قَوْلُهُ: (فِي الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ) تَقَدُّمُهُ فِي الْخِلَافِ ظَاهِرٌ وَأَمَّا تَقَدُّمُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْوِفَاقِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يُقَالَ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَوَافَقَهُ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَعَلَيْهِ حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ «عَالِمُ قُرَيْشٍ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا» ) وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا» قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا الْعَالِمُ هُوَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْشَرْ فِي طِبَاقِ الْأَرْضِ مِنْ عِلْمِ عَالِمٍ مَا انْتَشَرَ مِنْ عِلْمِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ السُّبْكِيُّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مِنْ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ تَعَرَّضَ إلَيْهِ أَوْ إلَى مَذْهَبِهِ بِسُوءٍ أَوْ نَقْصٍ هَلَكَ قَرِيبًا، وَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَهَانَ قُرَيْشًا أَهَانَهُ اللَّهُ» .
قَوْلُهُ: (أَمَتّ مَطَامِعِي إلَخْ) وَهُوَ مِنْ الْوَافِرِ. وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ وَتَخْيِيلٌ حَيْثُ شَبَّهَ الْمَطَامِعَ بِأَشْخَاصٍ أَحْيَاءٍ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ وَاسْتَعَارَ الْأَشْخَاصَ لِلْمَطَامِعِ فِي النَّفْسِ وَأَمَتّ تَخْيِيلٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فِي أَمَتّ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً حَيْثُ شَبَّهَ التَّرْكَ بِالْإِمَاتَةِ وَاسْتَعَارَ الْإِمَاتَةَ لِلتَّرْكِ وَاشْتَقَّ مِنْ الْإِمَاتَةِ أَمَتّ بِمَعْنَى تَرَكْت.
قَوْلُهُ: (مَا طَمِعَتْ تَهُونُ) أَيْ تَهُونُ مُدَّةُ طَمَعِهَا فَمَا مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ. قَوْلُهُ: (وَأَحْيَيْتُ الْقُنُوعَ) مَصْدَرُ قَنِعَ بِكَسْرِ النُّونِ كَرَضِيَ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَهُوَ بِضَمِّ الْقَافِ بِمَعْنَى الْقَنَاعَةِ، وَلِبَعْضِهِمْ:
خُذْ الْقَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وَارْضَ بِهَا
…
وَاجْعَلْ نَصِيبَك مِنْهَا رَاحَةَ الْبَدَنِ
وَانْظُرْ لِمَنْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا
…
هَلْ رَاحَ مِنْهَا سِوَى بِالْقُطْنِ وَالْكَفَنِ
قَوْلُهُ: (عِرْضٌ) فِي نُسْخَةٍ عِرْضِي وَالْعِرْضُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَحَلُّ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ مِنْ الْإِنْسَانِ.
قَوْلُهُ: (عَلَتْهُ مَهَانَةٌ) أَيْ اسْتِخْفَافٌ مِنْ الْخَلْقِ بِهِ، وَعَلَاهُ هُونٌ أَيْ ذُلٌّ وَهُوَ عَطْفُ مُسَبِّبٍ، وَمِنْ كَلَامِهِ رضي الله عنه:
يَا مَنْ يُعَانِقُ دُنْيَا لَا بَقَاءَ لَهَا
…
يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي دُنْيَاهُ سَفَّارًا
هَلَّا تَرَكْت لِذِي الدُّنْيَا مُعَانَقَةً حَتَّى
…
تُعَانِقَ فِي الْفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا
إنْ كُنْت تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا
…
فَيَنْبَغِي لَك أَنْ لَا تَأْمَنَ النَّارَا
وَلَهُ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -:
مَا حَكَّ جِسْمَك مِثْلُ ظُفْرِك
…
فَتَوَلَّ أَنْتَ جَمِيعَ أَمْرِك
وَإِذَا قَصَدْت لِحَاجَةٍ فَاقْصِدْ لِمُعْتَرِفٍ بِقَدْرِك
وَقَدْ أَفْرَدَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ وَنَسَبِهِ وَأَشْعَارِهِ كُتُبًا مَشْهُورَةً، وَفِيمَا ذَكَرْته تَذْكِرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْمَلَلِ لَشَحَنْت كِتَابِي هَذَا مِنْهَا بِأَبْوَابٍ وَذَكَرْت فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ،
وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمُخْتَصَرُ (فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَطْوَلَ مِنْهُ وَغَايَةُ الشَّيْءِ مَعْنَاهَا تَرَتُّبُ الْأَثَرِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كَمَا تَقُولُ: غَايَةُ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ حِلُّ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَغَايَةُ الصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ إجْزَاؤُهَا. (وَ) فِي (نِهَايَةِ الْإِيجَازِ) بِمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ أَيْ الْقَصْرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَغَايُرُ لَفْظَيْ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ وَالْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَالِاخْتِصَارُ حَذْفُ عَرْضِ الْكَلَامِ وَالْإِيجَازُ حَذْفُ طُولِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي إشَارَاتِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَايَةِ وَالنِّهَايَةِ،
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (مَا حَكَّ جِسْمَك) مِنْ مَجْزُوءِ الْكَامِلِ الْمُرَفَّلِ الْمُصَرَّعِ، لِأَنَّ التَّرْفِيلَ خَاصٌّ بِالضَّرْبِ فَدَخَلَ الْعَرُوضَ لِأَجْلِ التَّصْرِيعِ أَيْ لِتَلْتَحِقَ بِالضَّرْبِ.
قَوْلُهُ: (لِحَاجَةٍ) اللَّامُ زَائِدَةٌ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: (لَشَحَنْت) أَيْ مَلَأْت، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى ثِقَتِهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ الَّذِي اسْتَنْبَطَهُ.
تَنْبِيهٌ: كُلٌّ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الصَّوَابِ وَيَجِبُ تَقْلِيدُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَمَنْ قَلَّدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى الْمُقَلِّدِ اعْتِقَادُ أَرْجَحِيَّةِ مَذْهَبِهِ أَوْ مُسَاوَاتُهُ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِمْ فِي إفْتَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالضَّعِيفِ فِي الْمَذْهَبِ وَيَمْتَنِعُ التَّلْفِيقُ فِي مَسْأَلَةٍ كَأَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فِي طَهَارَةِ الْكَلْبِ وَالشَّافِعِيَّ فِي مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةٍ بِتَمَامِهَا بِجَمِيعِ مُعْتَبَرَاتِهَا فَيَجُوزُ وَلَوْ بَعْدَ الْعَمَلِ كَأَنْ أَدَّى عِبَادَتَهُ صَحِيحَةً عِنْدَ بَعْضِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَهُ تَقْلِيدُهُ فِيهَا حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ قَضَاؤُهَا، وَيَجُوزُ الِانْتِقَالُ مِنْ مَذْهَبٍ لِغَيْرِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْعَمَلِ اهـ دَيْرَبِيٌّ.
فَائِدَةٌ: اتَّفَقَ لِبَعْضِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: يَا رَبِّ بِأَيِّ الْمَذَاهِبِ أَشْتَغِلُ؟ فَقَالَ لَهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَفِيسٌ.
قَوْلُهُ: (وَيَكُونُ إلَخْ) هُوَ حَلٌّ مَعْنًى، وَإِلَّا فَقَوْلُهُ فِي غَايَةِ إلَخْ. صِفَةٌ لِمُخْتَصَرٍ فَلَوْ قَالَ كَابْنِ قَاسِمٍ كَائِنًا ذَلِكَ الْمُخْتَصَرُ إلَخْ لَكَانَ أَوْلَى قَوْلُهُ:(فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ) أَيْ فِي آخِرِ مَرَاتِبِهِ قَوْلُهُ: (أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَطْوَلَ مِنْهُ) حَيْثُ أُرِيدَ بِالْغَايَةِ آخِرُ مَرَاتِبِ الِاخْتِصَارِ أَيْ لَيْسَ فَوْقَهُ أَخْصَرُ مِنْهُ مُبَالَغَةً فَلَا حَاجَةَ لِهَذَا، بَلْ لَا يَصِحُّ كَمَا قَالَهُ ق ل، وَقَوْلُهُ فَوْقَهُ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (وَغَايَةُ الشَّيْءِ إلَخْ) هَذَا تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا، إذْ الْمُرَادُ هُنَا تَقْلِيلُ الْأَلْفَاظِ فَلْيُتَأَمَّلْ اج. فَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَيْ فِي غَايَةٍ هِيَ الِاخْتِصَارُ، وَقَدْ يُقَالُ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْغَايَةِ قُرْبَ دَرْسِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ وَسُهُولَةَ حِفْظِهِ عَلَى الْمُبْتَدِئِ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِصَارِ، أَوْ يُرَادُ بِهِ أَيْ الْأَثَرُ اتِّصَافُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ فِي أَقَلِّ رُتَبِ الِاخْتِصَارِ فَسَقَطَ اعْتِرَاضُ ق ل. وَعِبَارَتُهُ قَوْلُهُ وَغَايَةُ الشَّيْءِ إلَخْ. هَذَا سَبْقُ قَلَمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا تَقْلِيلُ اللَّفْظِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُهُ الْآتِي.
قَوْلُهُ: (تَرَتُّبُ الْأَثَرِ إلَخْ) مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ أَيْ الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ لِأَنَّ الْغَايَةَ نَفْسُ الْأَثَرِ لَا التَّرَتُّبُ قَوْلُهُ: (أَيْ الْقِصَرِ) بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ.
قَوْلُهُ: (تَغَايُرُ لَفْظَيْ إلَخْ) أَيْ مَعْنَى لَفْظَيْ الِاخْتِصَارِ إلَخْ. إذْ تَغَايُرُ اللَّفْظَيْنِ لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا. قَوْلُهُ: (حَذْفُ عَرْضِ الْكَلَامِ) مَثَّلَ بَعْضُهُمْ لِلْحَذْفِ مِنْ الْعَرْضِ بِقَوْلِهِ عِنْدِي ذَهَبٌ بَدَلَ عَسْجَدٍ وَخَمْرٌ بَدَلَ عَقَارٍ فَالْحَذْفُ مِنْ الْعَرْضِ أَنْ يُؤْتَى بِكَلِمَةٍ قَلِيلَةِ الْحُرُوفِ بَدَلَ كَثِيرَتِهَا. قَوْلُهُ: (حَذْفُ طُولِهِ) وَهُوَ الْإِطْنَابُ كَقَوْلِهِ: وَأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
(يَقْرَبُ) لِوُضُوحِ عِبَارَتِهِ (عَلَى الْمُتَعَلِّمِ) أَيْ الْمُبْتَدِئِ فِي التَّعَلُّمِ شَيْئًا فَشَيْئًا (دَرْسُهُ) أَيْ بِسَبَبِ اخْتِصَارِهِ وَعُذُوبَةِ أَلْفَاظِهِ، (وَيَسْهُلُ) أَيْ يَتَيَسَّرُ (عَلَى الْمُبْتَدِئِ) أَيْ فِي طَلَبِ الْفِقْهِ (حِفْظُهُ) عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ لِمَا مَرَّ عَنْ الْخَلِيلِ: إنَّ الْكَلَامَ يُخْتَصَرُ لِيُحْفَظَ.
تَنْبِيهٌ: حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ فِي الْفِعْلَيْنِ مَفْتُوحٌ
(وَ) سَأَلَنِي أَيْضًا بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ (أَنْ أُكْثِرَ فِيهِ مِنْ التَّقْسِيمَاتِ) لِمَا
ــ
[حاشية البجيرمي]
فَالْحَذْفُ مِنْ الطُّولِ أَنْ لَا يُكَرِّرَ فَتَرْكُ التَّكْرِيرِ اخْتِصَارٌ وَتَرْكُ الْإِطْنَابِ إيجَازٌ اهـ سم. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَرَادُفِ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِلتَّأْكِيدِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِمَا مِنْ الْمُبَالَغَةِ لِلْقَطْعِ بِثُبُوتِ مَا هُوَ أَوْضَحُ وَأَوْجَزُ اهـ اج.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ إلَخْ) لَمْ يُعْلَمْ الْفَرْقُ مِنْ كَلَامِهِ إذْ لَمْ يُبَيِّنْ مَعْنَى النِّهَايَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: عُلِمَ الْفَرْقُ مِنْ الْعَطْفِ إذْ هُوَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ بِقَوْلِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ إلَخْ. أَوْ يُقَالُ عُلِمَ الْفَرْقُ مِنْ تَغَايُرِ الْمُضَافِ إلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (يَقْرُبُ لِوُضُوحِ عِبَارَتِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ) ، أَيْ يَسْهُلُ.
فَإِنْ قُلْت: هَذَا مُنَافٍ لِقَوْلِهِ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ. أُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ عِبَارَتُهُ وَاضِحَةٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّارِحُ لِوُضُوحِ عِبَارَتِهِ فَهُوَ جَوَابٌ عَنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (أَيْ الْمُبْتَدِئِ فِي التَّعَلُّمِ) وَقَالَ سم أَيْ مُرِيدِ التَّعَلُّمِ قَوْلُهُ: (شَيْئًا فَشَيْئًا) أَخَذَهُ مِنْ التَّاءِ.
قَوْلُهُ: (دَرْسُهُ) أَيْ قِرَاءَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُ مَعْنَاهُ ع ش. هَذَا لَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ لِوُضُوحِ عِبَارَتِهِ لِأَنَّ وُضُوحَ الْعِبَارَةِ لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، فَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ قَوْلِهِ دَرْسُهُ بِقَوْلِ الرَّحْمَانِيِّ أَيْ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ شَيْخُنَا.
قَوْلُهُ: (أَيْ بِسَبَبِ اخْتِصَارِهِ إلَخْ) هَذَا يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ لِوُضُوحِ عِبَارَتِهِ أَيْ يُغْنِي عَنْهُ فِي التَّعْلِيلِ وَإِلَّا فَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ فَالْأَوْلَى حَذْفُ قَوْلِهِ لِوُضُوحِ عِبَارَتِهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ دَرْسُهُ. قَوْلُهُ: (وَعُذُوبَةِ أَلْفَاظِهِ) أَيْ حَلَاوَتِهَا فَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَخْيِيلٌ بِأَنَّ شَبَّهَ الْأَلْفَاظَ بِشَيْءٍ عَذْبٍ وَالْعُذُوبَةُ تَخْيِيلٌ.
قَوْلُهُ: (أَيْ يَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ) أَيْ وَعَلَى غَيْرِهِ بِالْأَوْلَى وَخَصَّ الْمُبْتَدِئَ لِأَنَّهُ أَشَدُّ اعْتِنَاءً بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (حِفْظُهُ) الْحِفْظُ لُغَةً صَوْنُ الشَّيْءِ عَنْ الضَّيَاعِ وَاصْطِلَاحًا اسْتِحْضَارُهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ) الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ أَوْ مِنْ إضَافَةِ الْمُشَبَّهِ بِهِ لِلْمُشَبَّهِ أَيْ غَيْبٍ كَالظَّهْرِ فِي الْقُوَّةِ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا الْعَزِيزِيُّ.
قَوْلُهُ: (حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ إلَخْ) وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُضَارِعَ يُضَمُّ أَوَّلُهُ إنْ كَانَ مَاضِيهِ رُبَاعِيًّا وَيُفْتَحُ فِي غَيْرِهِ. قَالَ الْعِمْرِيطِيُّ فِي نَظْمِ الْأَجْرُومِيَّةِ:
وَافْتَتَحُوا مُضَارِعًا بِوَاحِدْ
…
مِنْ أَحْرُفٍ أَرْبَعَةٍ زَوَائِدْ
هَمْزٌ وَنُونٌ ثُمَّ يَاءٌ ثُمَّ تَا
…
يَجْمَعُهَا قَوْلُك أَنَيْت يَا فَتَى
وَحَيْثُ كَانَتْ فِي رُبَاعِيٍّ تُضَمّْ
…
وَفَتْحُهَا فِيمَا سِوَاهُ مُلْتَزَمْ
قَوْلُهُ: (وَسَأَلَنِي إلَخْ) لَمْ يُقَدِّرْهُ فِي سَابِقِهِ وَهُوَ يَقْرُبُ وَلَعَلَّهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْمُخْتَصَرِ الْمَسْئُولِ فِيهِ لَمْ يُصَرِّحْ السَّائِلُ بِهِ، وَيُمْكِنُ أَنَّ السَّائِلَ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَعَلَّ التَّصْرِيحَ فِي الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ سَأَلَنِي وَإِعَادَةُ الشَّيْخِ لَهُ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إلَى تَغَايُرِ الْمَوْصُوفَيْنِ. إذْ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُخْتَصَرِ، وَالثَّانِي مِنْ أَوْصَافِ الْمُصَنَّفِ وَالصِّنَاعَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ أَيْضًا ع ش قَوْلُهُ:(مِنْ التَّقْسِيمَاتِ) جَمْعُ تَقْسِيمَةٍ بِمَعْنَى الْمَرَّةِ مِنْ التَّقْسِيمِ، أَوْ جَمْعُ تَقْسِيمٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ وَصْفٌ لِغَيْرِ الْعَاقِلِ وَهُوَ الْمُخْتَصَرُ فَيَنْقَاسُ فِيهِ جَمْعُ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمُ نَحْوُ: قَوْلُهُ: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] قَالَ النَّاظِمُ:
وَقِسْهُ فِي ذِي التَّا وَنَحْوِ ذِكْرَى
وَدِرْهَمٍ مُصَغَّرٍ وَصَحْرَا
…
وَزَيْنَبَ وَوَصْفِ غَيْرِ الْعَاقِلْ
وَغَيْرُ ذَا مُسَلَّمٌ لِلنَّاقِلْ
وَالتَّقْسِيمُ لُغَةً التَّفْرِيقُ وَاصْطِلَاحًا ضَمُّ قُيُودٍ إلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ لِتَحْصِيلِ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ هِيَ أَقْسَامٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُشْتَرَكِ كَالْمَاءِ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ الْمُطْلَقَ صَارَ قِسْمًا، وَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ الْمُسْتَعْمَلَ صَارَ قِسْمًا، وَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهِ الْمُتَنَجِّسَ صَارَ
يُحْتَاجُ إلَى تَقْسِيمِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْآتِيَةِ كَمَا فِي الْمِيَاهِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سَتَعْرِفُهُ، (وَ) مِنْ (حَصْرِ) أَيْ ضَبْطِ (الْخِصَالِ) الْوَاجِبَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ (فَأَجَبْته) أَيْ السَّائِلَ (إلَى ذَلِكَ) أَيْ إلَى تَصْنِيفِ مُخْتَصَرٍ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ، وَقَوْلُهُ:(طَالِبًا) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ أَيْ مُرِيدًا (لِلثَّوَابِ) أَيْ الْجَزَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» وَقَوْلُهُ: (رَاغِبًا) حَالٌ أَيْضًا مِمَّا ذَكَرَ أَيْ مُلْتَجِئًا (إلَى اللَّهِ) سُبْحَانَهُ وَ (تَعَالَى فِي) الْإِعَانَةِ
مِنْ فَضْلِهِ عَلَى حُصُولِ (التَّوْفِيقِ) الَّذِي هُوَ خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ (
ــ
[حاشية البجيرمي]
قِسْمًا. قَوْلُهُ: (لِمَا يَحْتَاجُ إلَخْ) عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ لِمُتَعَلِّقٍ أَوْ لِمَحَلِّ مَا يَحْتَاجُ، فَإِنَّ التَّقْسِيمَ لَيْسَ لِلْحُكْمِ بَلْ لِمَحَلِّهِ كَالْمَاءِ مَثَلًا ع ش. أَيْ فَإِنَّ الْمَاءَ مَوْرِدُ التَّقْسِيمِ، وَهُوَ مَحَلٌّ لِلْأَحْكَامِ بِالنَّظَرِ لِثُبُوتِ نَحْوِ الْكَرَاهَةِ لِاسْتِعْمَالِهِ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّقْسِيمُ وَارِدًا عَلَى مَحَلِّ الْحُكْمِ اللَّازِمِ لَهُ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ أُطْلِقَ التَّقْسِيمُ عَلَيْهِ مَجَازًا إطْلَاقًا لِوَصْفِ الْمَحَلِّ عَلَى وَصْفِ الْحَالِ اهـ. قَوْلُهُ:(أَيْ ضَبْطِ) أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْحَصْرِ مَعْنَاهُ الْأَصْلِيَّ مِنْ حَصْرِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الشَّيْءِ غَيْرِ مُخِلٍّ مِنْهَا بِشَيْءٍ فَأَشَارَ إلَى أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى الْحَصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْوَاقِعِ مَحْصُورًا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَمْ لَا. وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنْ حَالِ الْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ: (أَيْ السَّائِلَ) كَانَ الْمُتَبَادِرُ أَنْ يَقُولَ أَيْ بَعْضَ الْأَصْدِقَاءِ إلَّا أَنَّهُ أَقَامَ الصِّفَةَ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ وَالْمَوْصُوفُ بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ.
قَوْلُهُ: (أَيْ إلَى تَصْنِيفِ إلَخْ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ أَجَابَهُمْ بِالشُّرُوعِ لَا بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ إلَى الْعَمَلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ أَعْمَلَ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْعَمَلُ مَعْنَاهُ التَّصْنِيفُ صَنَعَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ) وَهِيَ كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْخَمْسَةِ الَّتِي طَلَبُوهَا كَوْنُهُ فِي الْفِقْهِ، وَكَوْنُهُ فِي غَايَةِ الِاخْتِصَارِ، وَكَوْنُهُ يَقْرُبُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ دَرْسُهُ، وَكَوْنُهُ يَسْهُلُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ حِفْظُهُ، وَكَوْنُ الْمُصَنِّفِ يُكْثِرُ فِيهِ مِنْ التَّقْسِيمَاتِ وَحَصْرِ الْخِصَالِ اهـ. قَرَّرَهُ ح ف.
قَوْلُهُ: (حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ) أَيْ وَهُوَ التَّاءُ مِنْ أَجَبْته.
قَوْلُهُ: (أَيْ مُرِيدًا) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ رَاجِيًا كَمَا قَالَهُ سم.
قَوْلُهُ: (عَلَى تَصْنِيفِ إلَخْ) مُتَعَلِّقٌ بِالْجَزَاءِ قَالَ سم: بَلْ وَعَلَى الْإِجَابَةِ إلَيْهِ فَإِنَّهَا خَيْرٌ أَيْضًا لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ ثَنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ إلَخْ) هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِلثَّوَابِ الثَّوَابُ الدَّائِمُ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ لِدَوَامِ الثَّوَابِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَطَابَقَ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ. قَوْلُهُ:(أَيْ مُلْتَجِئًا) الْأَوْلَى سَائِلًا مُبْتَهِلًا. إذْ الرَّغْبَةُ مُفَسَّرَةٌ بِذَلِكَ وَلَعَلَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا قَالَهُ لِتَعْدِيَتِهِ بِإِلَى.
قَوْلُهُ: (فِي الْإِعَانَةِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ ضَمَّهَا فِي الطَّلَبِ ع ش.
قَوْلُهُ: (مِنْ فَضْلِهِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِ فِعْلِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحُ تَنَزُّهُ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ: وَقَوْلُهُمْ
إنَّ الصَّلَاحَ وَاجِبٌ
…
عَلَيْهِ زَوْرُ مَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ
قَالَ سم: وَالْحَقُّ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى أَنَّ لَهُ تَعَالَى إثَابَةَ الْعَاصِي وَتَنْعِيمَهُ أَبَدًا، لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ وَلَهُ تَعْذِيبُ الْمُطِيعِ أَبَدًا وَلَوْ مَلَكًا أَوْ رَسُولًا بِلَا قُبْحٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَيْضًا لَا يَقَعُ فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ اهـ بِحُرُوفِهِ. قَوْلُهُ:(عَلَى إلَخْ) مُتَعَلِّقٌ بِالْإِعَانَةِ.
قَوْلُهُ: (خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ) وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ الْعَرْضُ لِلْقَارِنِ لِلْفِعْلِ فَلَا حَاجَةَ لِزِيَادَةِ وَتَسْهِيلِ سَبِيلِ الْخَيْرِ إلَيْهِ لِإِخْرَاجِ الْكَافِرِ، وَلِذَا قَالَ سم: خَلْقُ قُدْرَةِ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ الْمُقَارَنَةُ لَهَا، وَأَمَّا إذَا أَرَدْنَا بِالْقُدْرَةِ سَلَامَةَ الْآلَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ اهـ. ثُمَّ إنَّ الطَّاعَةَ هِيَ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الْقُرْبَةِ، أَعْنِي مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ بِشَرْطِ مَعْرِفَةِ الْمُتَقَرَّبِ إلَيْهِ وَمِنْ الْعِبَادَةِ أَعْنِي مَا تَعَبَّدَ بِهِ بِشَرْطِ النِّيَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْمَعْبُودِ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
وَطَاعَةٌ بِالِامْتِثَالِ كَالنَّظَرِ
…
وَقُرْبَةٌ مِنْ عَارِفِ رَبِّ الْبَشَرِ
عِبَادَةٌ لِنِيَّةٍ مُفْتَقِرَهْ
…
حَقَائِقُ الثَّلَاثِ جَاءَتْ شُهْرَهْ
وَقَوْلُهُ: كَالنَّظَرِ أَيْ كَالْأَمْرِ بِالنَّظَرِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الْبَارِي.
فَائِدَةٌ: التَّوْفِيقُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْمُتَعَلِّمِ شَرْطُهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَرْبَعَةٌ: شِدَّةُ الْعِنَايَةِ، وَمُعَلِّمٌ ذُو نَصِيحَةٍ، وَذَكَاءُ الْقَرِيحَةِ، وَاسْتِوَاءُ الطَّبِيعَةِ أَيْ خُلُوُّهَا عَنْ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سِتَّةٌ مَنْظُومَةٌ فِي بَيْتَيْنِ وَهُمَا:
لِلصَّوَابِ) الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَطَأِ بِأَنْ يُقَدِّرَنِي عَلَى إتْمَامِهِ كَمَا أَقْدَرَنِي عَلَى ابْتِدَائِهِ، فَإِنَّهُ كَرِيمٌ جَوَادٌ لَا يَرُدُّ مَنْ سَأَلَهُ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ (إنَّهُ) سبحانه وتعالى (عَلَى مَا يَشَاءُ) أَيْ يُرِيدُ (قَدِيرٌ) أَيْ قَادِرٌ. وَالْقُدْرَةُ صِفَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الشَّيْءِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ، وَهِيَ إحْدَى الصِّفَاتِ الثَّمَانِيَةِ الْقَدِيمَةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ الذَّاتِ الْقَدِيمِ الْمُقَدَّسِ.
(وَ) هُوَ سبحانه وتعالى (بِعِبَادِهِ) جَمْعُ عَبْدٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْإِنْسَانُ حُرًّا كَانَ أَوْ رَقِيقًا فَقَدْ دُعِيَ صلى الله عليه وسلم
ــ
[حاشية البجيرمي]
أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إلَّا بِسِتَّةٍ
…
سَأُنْبِيكَ عَنْ تَفْصِيلِهَا بِبَيَانِ
ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْتِهَادٌ وَبُلْغَةٌ
…
نَصِيحَةُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانٍ
وَلِبَعْضِهِمْ:
إنَّ الْمُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا
…
لَا يَنْصَحَانِ إذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا
فَانْظُرْ لِدَائِك إنْ جَفَوْت طَبِيبَهُ
…
وَانْظُرْ لِجَهْلِك إنْ جَفَوْت مُعَلِّمَا
قَوْلُهُ: (بِأَنْ يُقْدِرَنِي عَلَى إتْمَامِهِ إلَخْ) فِي تَصْوِيرِ الصَّوَابِ بِهَذَا نَظَرٌ وَاللَّائِقُ شَرْحُهُ بِقَوْلِ سم، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ بِأَنْ يَرْزُقَنِي مُوَافَقَةَ مَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَاقِعِ اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ تَفْسِيرٌ لِلتَّوْفِيقِ فَقَطْ بَلْ لَا يُنَاسِبُ إلَّا لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ التَّوْفِيقُ لِإِتْمَامِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُطَابَقَةَ مَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَاقِعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ، فَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ رضي الله عنهم فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، أَمَّا الْمُخْطِئُ فِي الْأُصُولِ وَهِيَ الْمُعْتَقَدَاتُ فَهُوَ آثِمٌ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ مَنْ خَالَفَ أَهْلَ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: (كَرِيمٌ) أَيْ مُعْطٍ جَوَادٌ أَيْ كَثِيرُ الْجُودِ أَيْ الْعَطَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّرَقِّي. وَالْجَوَادُ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَارِدٌ وَأَمَّا بِتَشْدِيدِهَا فَلَمْ يَرِدْ، فَيَحْرُمُ إطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُخْتَارِ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ تَوْقِيفِيَّةٌ اهـ م د.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَقْدِيرِ اللَّامِ وَبِكَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى مَا يَشَاءُ) مُتَعَلِّقٌ بِتَقْدِيرِ أَيْ قَادِرٌ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَبَقِيَّةِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي بِهَذَا الْوَزْنِ كَرَحِيمٍ أَيْ قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ أَيْ يُرِيدُهُ فَفِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ أَيْ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ، لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ.
وَالْمَشِيئَةُ وَالْإِرَادَةُ بِمَعْنًى وَهُمَا لُغَةً ضِدُّ الْكَرَاهَةِ وَاصْطِلَاحًا صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ فِي الْأَزَلِ بِتَخْصِيصِ الْحَوَادِثِ بِأَوْقَاتِ حُدُوثِهَا وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى هِيَ صِفَةٌ فِي الْحَيِّ تُوجِبُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الْمَقْدُورَيْنِ فِي أَحَدِ الْأَوْقَاتِ بِالْوُقُوعِ مَعَ اسْتِوَاءِ نِسْبَةِ الْقُدْرَةِ إلَى كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَقَرَّبَ الْمُتَكَلِّمُونَ ذَلِكَ لِلْفَهْمِ بِمِثَالٍ فَقَالُوا إذَا وَضَعَ لَك شَخْصٌ رَغِيفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَقَالَ خُذْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ فَأَخْذُك أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ تَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الْمَقْدُورَيْنِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ عَنْ الْآخَرِ مَعَ اسْتِوَاءِ نِسْبَةِ الْقُدْرَةِ إلَى الْكُلِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِرَادَةِ م د.
قَوْلُهُ: (أَيْ يُرِيدُ) أَشَارَ بِهِ إلَى تَرَادُفِ مَعْنَى الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ ع ش.
قَوْلُهُ: (أَيْ قَادِرٌ) كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ أَيْ عَامُّ الْقُدْرَةِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى تَسَاوِي مَعْنَى فَاعِلٍ وَفَعِيلٍ فِي حَقِّهِ سبحانه وتعالى ع ش.
قَوْلُهُ: (تُؤَثِّرُ) فِيهِ مُسَامَحَةٌ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الذَّاتُ فَقَوْلُهُ تُؤَثِّرُ أَيْ مَجَازًا مِنْ الْإِسْنَادِ لِلسَّبَبِ لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تُؤَثِّرُ فَقَدْ كَفَرَ.
قَوْلُهُ: (عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ) أَيْ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ فَقَوْلُ م د. تَعَلُّقًا صُلُوحِيًّا لَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِيهِ عِنْدَ التَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ.
قَوْلُهُ: (الثَّمَانِيَةِ) الْمَنْظُومَةُ فِي قَوْلِهِ:
حَيَاةٌ وَعِلْمٌ قُدْرَةٌ وَإِرَادَةٌ
…
كَلَامٌ وَإِبْصَارٌ وَسَمْعٌ مَعَ الْبَقَا
صِفَاتٌ لِذَاتِ اللَّهِ جل جلاله لَدَى الْأَشْعَرِيِّ الْحَبْرِ ذِي الْعِلْمِ وَالتُّقَى وَالْحَقُّ أَنَّ الْبَقَاءَ صِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ سُبْحَانَهُ إلَخْ) كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ وَإِنَّهُ لِأَنَّ. قَوْلَهُ: لَطِيفٌ، مَعْطُوفٌ عَلَى
بِذَلِكَ فِي أَشْرَفِ الْمَوَاطِنِ كَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا} [الإسراء: 1] قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ صِفَةٌ أَتَمُّ وَلَا أَشْرَفُ مِنْ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا أَشْطَرُ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي. وَقَوْلُهُ: (لَطِيفٌ) مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ، وَاللُّطْفُ الرَّأْفَةُ وَالرِّفْقُ وَهُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ بِأَنْ يَخْلُقَ قُدْرَةَ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ.
فَائِدَةٌ: قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمَّا جَاءَ الْبَشِيرُ إلَى يَعْقُوبَ عليه الصلاة والسلام أَعْطَاهُ فِي الْبِشَارَةِ كَلِمَاتٍ كَانَ يَرْوِيهَا عَنْ
ــ
[حاشية البجيرمي]
خَبَرِ إنَّ السَّابِقَةِ.
قَوْلُهُ: (الْإِنْسَانُ) خَرَجَ الْمَلَكُ وَالْجِنُّ فَلَا يُقَالُ لَهُمَا عِبَادٌ عَلَى هَذَا م د لَكِنْ إنْ أُرِيدَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَاسٍ بِمَعْنَى تَحَرَّكَ دَخَلَا وَهُوَ الْمُرَادُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] وَإِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَلَكِ لَمْ يَرِدْ فِي اللُّغَةِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ تَفْسِيرِ الْعَبْدِ بِهِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ تَفْسِيرَهُ بِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُهُ بِالرَّقِيقِ وَعِبَارَةُ اج قَوْلُهُ الْإِنْسَانُ هُوَ أَحَدُ مَعَانِيهِ أَيْ الْعَبْدُ وَفِي الْحَقِيقَةِ كُلُّ مَخْلُوقٍ وَلَوْ جَمَادًا إذْ مَعْنَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً الْخَاضِعُ الْمُحْتَاجُ اهـ وَإِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْجِنِّ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ النَّاسُ مُفْرَدُهُ إنْسَانٌ وَلِلْعَبْدِ جُمُوعٌ أُخَرُ نَظَمَهَا ابْنُ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ
عِبَادٌ عَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ وَأَعْبُدْ
…
أَعَابِدُ مَعْبُودَاءُ مَعْبَدَةٌ عُبُدْ
كَذَاكَ عُبْدَانُ عُبْدَانُ وَأَثْبِتْ
…
كَذَاكَ الْعَبْدَا وَامْدُدْ إنْ شِئْت أَنْ تَمُدّْ
قَوْلُهُ: (فَقَدْ دُعِيَ) أَيْ وُصِفَ وَكَأَنَّهُ عِلَّةٌ لِلتَّعْمِيمِ وَالظَّاهِرُ ذِكْرُهُ بَعْدَ قَوْلِ الدَّقَّاقِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ) مِنْ أَكَابِرِ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ شَيْخُ الْإِمَامِ الْقُشَيْرِيِّ لَا الْأُصُولِيِّ. قَوْلُهُ: (أَتَمُّ وَلَا أَشْرَفُ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُبُودِيَّةَ نِهَايَةُ التَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ وَالْقِيَامِ بِحَقِّ مَا عَلَيْهِ حَسَبَ طَاقَتِهِ اهـ أج وَعَرَّفَ الْمُنَاوِيُّ الْعُبُودِيَّةَ بِأَنَّهَا الْوَفَاءُ بِالْوُعُودِ وَحِفْظُ الْعُهُودِ وَالرِّضَا بِالْمَوْجُودِ وَالصَّبْرُ عَلَى الْمَفْقُودِ.
قَوْلُهُ: (لَا تَدْعُنِي) أَيْ لَا تَصِفْنِي عِنْدَ النِّدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَضَمِيرُ عَبْدِهَا لِلْحَضْرَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ الصِّفَاتُ وَقَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ:
يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ
…
يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي
قَوْلُهُ: (الرَّأْفَةُ وَالرِّفْقُ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرَّأْفَةُ أَشَدُّ الرَّحْمَةِ، وَالرِّفْقُ ضِدُّ الْعُنْفِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَشْمَلُ غَيْرَ اللَّهِ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ، وَاللَّطِيفُ الْخَفِيُّ عَنْ الْإِدْرَاكِ أَوْ الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَالْخَبِيرُ أَعَمُّ مِنْهُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ.
قَوْلُهُ: (وَالْعِصْمَةُ) بِالْكَسْرِ وَهِيَ لُغَةً الْمَنْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43] أَيْ لَا مَانِعَ وَيُقَالُ عَصَمَهُ الطَّعَامُ إذَا مَنَعَهُ الْجُوعَ وَاصْطِلَاحًا عَدَمُ خَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالصَّبِيِّ وَالْمَيِّتِ وَمَنْ مَنَعَهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَانِعٌ وَالْأَحْسَنُ تَعْرِيفُهَا بِأَنَّهَا مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَمْنَعُ مِنْ الْفُجُورِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهَا مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْحِفْظُ عَنْ الْمَعَاصِي، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الدُّعَاءِ بِهَا مُطْلَقَةً لِأَنَّهَا إنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَاجِبَةٌ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ جَائِزَةٌ وَسُؤَالُ الْجَائِزِ جَائِزٌ، وَأَنَّ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَلَائِكَةُ وُقُوعًا لَهُمْ لَا طَلَبُهَا اهـ شَبْرَخِيتِيٌّ. وَعِبَارَةُ سم: وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ سُؤَالِ الْعِصْمَةِ وَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ إنْ قَصَدَ التَّوَقِّيَ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ امْتَنَعَ لِأَنَّهُ سُؤَالُ مَقَامِ النُّبُوَّةِ، أَوْ التَّحَفُّظُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالتَّحَصُّنُ مِنْ أَفْعَالِ السُّوءِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَيَبْقَى الْكَلَامُ حَالَ الْإِطْلَاقِ، وَالْمُتَّجَهُ عِنْدِي الْجَوَازُ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ لِلْمَحْذُورِ وَاحْتِمَالِهِ لِلْوَجْهِ الْجَائِزِ اهـ.
قَوْلُهُ: (بِأَنْ يَخْلُقَ إلَخْ) تَفْسِيرٌ لِلتَّوْفِيقِ وَلَمْ يُفَسِّرْ الْعِصْمَةَ فَطَاهِرُهُ أَنَّهَا مُرَادِفَةٌ لِلتَّوْفِيقِ، وَقَدْ يُقَالُ لَمْ يُفَسِّرْهَا لِأَنَّهُ لَمْ
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ: يَا لَطِيفًا فَوْقَ كُلِّ لَطِيفٍ اُلْطُفْ بِي فِي أُمُورِي كُلِّهَا كَمَا أُحِبُّ وَرَضِّنِي فِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي وَقَوْلُهُ: (خَبِيرٌ) مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِعِبَادِهِ وَبِأَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَبِمَوَاضِعِ حَوَائِجِهِمْ وَمَا تُخْفِيهِ صُدُورُهُمْ.
وَإِذْ قَدْ أَنْهَيْنَا الْكَلَامَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَصَدْنَاهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُطْبَةِ فَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ مَحَاسِنِ هَذَا الْكِتَابِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ. فَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَدْ عَلِمَ مِنْ مُؤَلِّفِهِ خُلُوصَ نِيَّتِهِ فِي تَصْنِيفِهِ فَعَمَّ النَّفْعُ بِهِ فَقَلَّ مِنْ مُتَعَلِّمٍ إلَّا وَيَقْرَؤُهُ أَوَّلًا إمَّا بِحِفْظٍ وَإِمَّا بِمُطَالَعَةٍ، وَقَدْ اعْتَنَى بِشَرْحِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ الْقَاصِدِينَ بِعِلْمِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَرَارَهُ الْجَنَّةَ وَجَعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِنَا وَبِوَالِدِينَا وَمَشَايِخِنَا وَمُحِبِّينَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَلَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمِنْ أَعْظَمِ شُرُوطِهَا الطَّهَارَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ» وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ طَبْعًا فَقُدِّمَ وَضْعًا بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِهَا فَقَالَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ م د.
قَوْلُهُ: (يَا لَطِيفًا) وَفِي نُسْخَةٍ يَا لَطِيفُ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ مِنْ نِدَاءِ الْمَوْصُوفِ فَيُنْصَبُ إذْ هُوَ حِينَئِذٍ مِنْ الشَّبِيهِ بِالْمُضَافِ، أَوْ مِنْ وَصْفِ الْمُنَادَى فَيَبْقَى عَلَى بِنَائِهِ عَلَى الضَّمِّ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَبِعِبَادِهِ لَطِيفٌ خَبِيرٌ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] ثُمَّ إنْ فَسَّرَ اللُّطْفَ بِالتَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ اخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِالْعَامِّ أَيْ بِالْأَمْرِ الْعَامِّ كَالْإِحْسَانِ يَشْمَلُ الْكَافِرَ أَيْضًا بِأَنْ لَا يَقْتُلَهُمْ جُوعًا وَنَحْوَهُ بِمَعَاصِيهِمْ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ.
قَوْلُهُ: (فَوْقَ كُلِّ لَطِيفٍ) أَيْ فَوْقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَقَدْ نَقَلَ الْعَلَّامَةُ الَأُجْهُورِيُّ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي كَرْبٍ وَقَرَأَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِفَضْلِهِ ذَلِكَ الْكَرْبَ. قَوْلُهُ:(وَرَضِّنِي) أَيْ اجْعَلْنِي رَاضِيًا بِمَا أَنْعَمْت بِهِ عَلَيَّ أَوْ أَعْطِنِي مَا يُرْضِينِي فِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي. قَوْلُهُ: (مِنْ مَحَاسِنِ) أَيْ ضِمْنًا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ مَحَاسِنُ الْمُؤَلِّفِ اهـ ق ل.
قَوْلُهُ: (قِرَاهُ) أَيْ مَحَلُّ قِرَاهُ بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ ضِيَافَتِهِ وَإِكْرَامِهِ قَالَ فِي الْمُخْتَارِ: قَرَيْت الضَّيْفَ أَقْرِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى قِرًى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قِرَارِهِ. قَوْلُهُ. (بَعْدَ الْإِيمَانِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا وَلَا كَذَلِكَ الصَّلَاةُ فَإِنَّهَا بَدَنِيَّةٌ وَتَكُونُ نَفْلًا. قَوْلُهُ (وَمِنْ أَعْظَمِ) الْأَوْلَى إسْقَاطُ مِنْ لِيَتِمَّ لَهُ تَوْجِيهُ الْبُدَاءَةِ بِالطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ أَعْظَمَ شُرُوطِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ لَهَا مَزِيَّةً عِنْدَ الْفَقِيهِ عَلَى بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ فَاقِدِ السُّتْرَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تُغْنِيهِ عَنْ الْقَضَاءِ، وَمَنْ صَلَّى ظَانًّا دُخُولَ الْوَقْتِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَإِنْ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لَا يُحْكَمُ عَلَى صَلَاتِهِ بِالْبُطْلَانِ، بَلْ تَصِحُّ لَهُ نَفْلًا مُطْلَقًا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ مِنْ جِنْسِهَا، وَإِلَّا وَقَعَتْ عَنْهَا بِخِلَافِ مَنْ صَلَّى ظَانًّا الطَّهَارَةَ فَبَانَ خِلَافُهَا فَيَتَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا. وَمَنْ صَلَّى فِي نَفْلِ السَّفَرِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْقِبْلَةُ، فَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَعَظْمِيَّةِ الطَّهَارَةِ بِخِلَافِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ لِمَا قَالَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ تُسْتَفَادُ الْأَعْظَمِيَّةُ مِنْ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ عَلَى حَدِّ:«الْحَجُّ عَرَفَةَ» ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ» اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وَتَخْيِيلٌ حَيْثُ شَبَّهَ الصَّلَاةَ بِالْمَحَلِّ الْمُغْلَقِ فِي تَوَقُّفِ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِشَيْءٍ كَالْمِفْتَاحِ تَشْبِيهًا مُضْمَرًا فِي النَّفْسِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْمِفْتَاحِ تَخْيِيلٌ. وَالطُّهُورُ بِضَمِّ الطَّاءِ الْفِعْلُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَمَّا بِفَتْحِهَا فَالْمَاءُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا.
قَوْلُهُ: (بَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِهَا) جَوَابٌ لِمَا، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ وَبَدَأَ بِالْمَاءِ لِأَنَّهُ آلَتُهَا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِعِبَادَةٍ أَوْ بِمُعَامَلَةٍ أَوْ بِمُنَاكَحَةٍ أَوْ بِجِنَايَةٍ، وَأَهَمُّهَا الْعِبَادَةُ لِتَعَلُّقِهَا بِالدِّينِ، ثُمَّ الْمُعَامَلَةُ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا، ثُمَّ الْمُنَاكَحَةُ لِأَنَّهَا دُونَهَا فِي الْحَاجَةِ، ثُمَّ الْجِنَايَةُ لِأَنَّهَا غَالِبًا إنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، فَرَتَّبُوهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَرَتَّبُوا الْعِبَادَةَ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُمَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِ خَبَرِ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ إلَخْ. وَاخْتَارُوا رِوَايَةَ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَجِّ عَلَى رِوَايَةِ تَقْدِيمِ الْحَجِّ، لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ فَوْرِيٌّ وَيَتَكَرَّرُ كُلَّ عَامٍ وَإِفْرَادُ مَنْ يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي هَذِهِ الْحِكْمَةِ لِلْفَرَائِضِ لَعَلَّهُ لِكَوْنِهَا عِلْمًا مُسْتَقِلًّا، أَوْ لِجَعْلِهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ حُكْمًا، إذْ مَرْجِعُهَا قِسْمَةُ التَّرِكَاتِ وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْمُعَامَلَاتِ، وَأَخَّرُوا الْقَضَاءَ وَالشَّهَادَاتِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ وَالْجِنَايَاتِ.