الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجناس اللفظي والمقلوب:
قد فاض دمعي وفاظ القلب إذ سمعا
…
لفظي عذول ملا الأسماع بالألم
أما اللفظي فهو النوع الذي إذا تماثل ركناه وتجانسا خطًّا خالف أحدهما الآخر، بإبدال حرف منه فيه مناسبة لفظية، كما يكتب بالضاد والظاء، وشاهده قولي في البيت فاض وفاظ فإن الأول من فيض الماء والثانيمن التلف، وجاء في هذا النوع من القرآن العظيم:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 فالأول من النضارة، والثاني من النظر، وألحقوا به ما يكتب بالهاء والتاء، كقولهم: جبلت القلوب على معاداة المعادات، وقيل هو حديث أو بالنون والتنوين، كقول الأرجاني:
وبيض الهند من وجدي هواز
…
بإحدى البيض من عليا هوازن2
أو بالألف والنون، كقول الشاعر ابن العفيف:
أحسن خلق الله وجهًا وفما
…
إن لم يكن أحق بالحسن فمن
ولم ينظم هذا النوع غير الصفي وهو قليل جدًّا، وأصعب مسالكه تركيبه بالضاد والظاء، لأجل إبدال الحرف الذي فيه المناسبة اللفظية، وقد تقدم قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ أنه أورد في شرحه الذي سماه رقم البردة، شيئًا من محاسن الزجل على هذا النوع البديعي الذي أطلق عنان القلم في الكلام عليه.
والزجل فن يتمكن الناظم فيه من المعاني لجولانه في ميادين الأغصان والخرجات3، وهو لا يحسن رسمه في الكتابة إلا من عرف اصطلاحه. وكان الشيخ علاء الدين بن مقاتل، إذا ذكر الزجل، كان ابن بجدته وأبا عذرته، وممن سلمت إليه مقاليد هذا الفن. وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي له نبذة من غرر أزجاله، في تذكرته وتاريخه، تغني عن الإكثار في ترجمته، وله في الجناس اللفظي زجل جانسه بالظاء والضاد لم يسبق إليه ومطلعه قوله:
إن مع معشوقي جفون ولحاظ
…
لو رآهم عابد لهام وحاض
ومع أنوار من سحر عينيه إذا
…
حفظوه باب أنساه صلا تودا
إن ماعو عيون فواتر حور
…
في بحور ولدانها بواتر جفون
كيف لا يفتن عشاقوا ذاك الفتور
…
وعلى خده شامه بنقطة فنون
من نظرهم نظره بقى مسحور
…
وكيف أنو ما ينسحر من عيون
1 القيامة: 75/ 22، 23.
2 هواز: هز السيف انقض. فهو هاز وهم هواز.
3 الخرجات: جمع مفرده خرجة وهي في الشعر اللازمة، التي تتكرر في نهاية كل مقطع.
يعتقدهم رقود وهم إيقاظ
…
وجفون كل جفن بسيف أي قاض1
يقضي فيمن بسر ورباح وهذي
…
حكمه ممن أضل ناس وهدى
حضرني لما أن يغيب عني
…
في غيابو ياما بتحفظ فصول
حتى نوا يصير قريب مني
…
ولو أنو يكون في ميدان يجول
أيش تضيق الدنيا على ذهني
…
ولا يدري أيش كان يريد لو يقول
وأنسى ما قد حفظتو من الألفاظ
…
ويضيق بي رحب المكان الفاض2
ولا أطلب يومي شراب وغدا
…
فأبقى سكران طول ليلتي وغدا
يا نسيم السحر على حبي
…
بث مني طيب السلام كلو
لله وأوصيه بالعاشق المسبي
…
وبقلبي ذاك الذي استلو3
وأن تيسر لك أن ترى قلبي
…
وأن يسل عن جسمي الضعيف لو
أنو نخيل من بعدك إلى أن فاظ
…
واغتسل مما من عيونو فاض
وعلى حذو الدارجين قد حذا
…
وفي نايو حادي المنايا حدا
أذكراني في عتبو وخد البهار
…
عصتو حتى وقف على ما حرا
وبقي هو يحمرونا بصفار
…
ونوادر مني ومنوا ترا
فلا تعجب من خد وكيف يحمار
…
فوق ورد الخدود وتحتو جرا
ماء الحيا في وجناتو لما انغاظ
…
ونشف ماء لوني إلى أن غاض4
وما ينكر حالي وحالوا فذا
…
سر فيه ممن أنا لو فدا
ونظت في هذا النوع الغريب، تورية فجاءت في غاية الحسن، ولم أسبق إليها إلا من الشاب الظريف، محمد بن العفيف، كقوله:
عبتم من المحبوب حمرة شعره
…
وأظنكم بدليله لم تشعروا
لا تنكوا ما احمر منه فإنه
…
بدماء أرباب الغرام مضفر5
وقولي:
خاطرت في عشقي له يا مهجتي
…
لا تشغلي قلبي الحزين وخاطري
فالطرف شاهد منه ناضر قده
…
فغدا يهيم بكل غصن ناضر
1 قاض السيف: صوت.
2 القاض: الواسع.
3 استبوا: استله - سحبه من مكانه.
4 انغاظ: أغيظ أي أغصب - غاض الماء غار ولم يعد يرى.
5 مضفر: جعل شعره ضفائر مفردها ضفيرة وهي الجديلة.
وقولي:
مرج حماة بنوا غيره
…
زاد على المقياس في روضته
واغتاظ نمروذ دمشق له
…
فقلت لا أفكر في غيضته
وقولي:
حضيت عزمي إليك شوقًا
…
فلم أطق مكثة بأرض1
وحيث لم أحظ بالتلاقي
…
فغايتي أن ألوم حضي
انتهى الكلام على الجناس اللفظي، وأما الجناس المقلوب، وسماه قوم جناس العكس، وهو الذي يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص، ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب، كقوله تعالى حكاية عن هارون:{خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} 2 ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق" وما ألطف ما أشار الصاحب بن عباد إلى الجناس المقلوب، بقوله لأبي العباس بن الحرث في يوم قيظ، وقد طلب مروحة الخيش: ما يقول الشيخ في قلبه، يعني الخيش، ومروحة الخيش أحدثها بنو العباس، وذكرها الحريري في المقامات، وقال اسمعوا وقيتم الطيش، وأنشد لغزًا في مروحة الخيش:
وجارية في سيرها مشمعلة
…
ولكن على أثر السير قفولها3
لها سائق من جنسها يستحثها
…
على أنه في الاحتثاث رسيلها
ترى في أوان القيظ تنطف بالندى
…
ويبدو إذا ولى المصيف فحولها4
وكان السبب في حدوث هذه المروحة أن هارون الرشيد دخل يومًا على أخته علية بنت المهدي، في يوم قيظ، فألقاها وقد صبغت ثيابها من زعفران وصندل5 ونشرتها على الحبال لتجف، فجلس هارون قريبًا من الثياب المنشورة، فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها ريحًا بليلة عطرة، فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه، وأمر أن يصنع له مثل ذلك، وقال ابن الشريشي، في شرح المقامات: وهذه المروحة شبه الشراع للسفينة، تعلق بالسقف ويشد بها حبل وتبل بالماء وترش بالماورد، فإذا أراد الرجل في القائلة6
1 حضب: أضرم وهيج وحض.
2 طه: 94/ 20.
3 مشمعلة: مشرفة - فقولها: رجوعها.
4 القيظ: الحر الشديد وأيام الصيف.
5 الصندل: شجر طيب الرائحة.
6 القائلة: وقت القيلولة.
أن ينام جذبها بحبلها فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب على النائم منها نسيم بارد رطب. اهـ.
رجع إلى الجناس المقلوب، فمنه قول بعضهم:
حكاني بهار الروض حين ألفته
…
وكل مشوق للبهار مصاحب1
فقلت له ما بال لونك شاحبا
…
فقال لأني حين أقلب راهب
وما أحلى قول ابن العفيف مع زيادة التورية:
أسكرني باللفظ والمقلة الـ
…
ـكحلاء والوجنة والكاس
ساق يريني قلبه قسوة
…
وكل ساق قلبه قاس
وبديع هنا قول الشيخ جمال الدين بن نباتة، في الأمير شجاع الدين بهرام:
قيل كل القلوب من
…
رهب الحرب تضطرب
قلت هذا تخرص
…
قلب بهرام ما رهب2
وبيت عبد الله بن رواحة غاية في هذا النوع، وقيل "هو" أمدح بيت قالته العرب، فإنه من جملة مديح النبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله:
تحمله الناقة الأدماء معتجرًا
…
بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما3
وما أحلى قول القائل:
وألفيتهم يستعرضون حوائجا
…
إليهم ولو كانت عليهم جوائجا4
ومثله:
إن بين الضلوع مني نارا
…
تتلظى فكيف لي أن أطيقا
فبحقي عليك يا من سقاني
…
أرحيقا سقيتني أم حريقا
ومن الغايات في هذا الباب قول القائل:
لبق أقبل فيه هيف
…
كلما أملك إن غنى هبه
1 البهار: الخطاف ويدعى عصفور الجنة.
2 تخرص: ظن.
3 معتجرًا: متعممًا.
4 جوانحًا: نوادبًا.
فهذا البيت كل كلمة منه، بانضمامها إلى أ×تها، تجانسها في القلب، وأعلى منه رتبة قول سيف الدين ابن المشد:
ليل أضاء هلاله
…
أنى يضيء بكوكب
وهذا البيت كل كلمة منه تقرأن مستوية ومقلوبة، وهو مما لا يستحيل بالانعكاس، كقول الحريري: ساكب كاس، وهذا النوع يأتي الكلام عليه في موضعه لأن المراد هنا جناس القلب، وللشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي أيضا زجل في هذا النوع، سارت به الركبان أنشده المصنف في حماة، بحضرة الملك المؤيد، والشيخ صفي الدين، والشيخ جمال الدين بن نباتة، فوقع في المجلس شيء إذا استوعبت الزجل كتابة علمته:
قلبى بحب تياه
…
ليس يعشق إلا إياه
فاز من وقف وحياه
…
يرصد على محياه
بدر السما لو يطبع
…
من رام وصالوا يعطب1
صغير بحير في أمرو
…
غزال قهر بسمرو
ليث الهوى ونمرو
…
فاعجب لصغر عمرو
ريم ابن عشر وأربع
…
أردى الأسود وأرعب
اذكر نهار تبعتو
…
وروحي كنت بعتو
وخيب ما فيه طمعتو
…
فقال وقد سمعتو
ارجع ولا لي تتبع
…
أخشى عليك لا تتعب
كم قدامو وخلفوا
…
مشيت مطيع لحلفو
ورمت لثم كفو
…
قال دع مناك وكفو
فإن لثم أصبع
…
من الثريا أصعب
ما زلت لو نداري
…
حتى حصل في داري
ناديت ودمعي جاري
…
ايش كان يصيب يا جاري
لو كنت من فيك أشبع
…
قال ايش يكن لك أشعب
من حاز حسن خدو
…
لحظو لقتلي حدو
وورد خد وندو2
…
ما في الرياض شيء
روض الحيا مبرقع
…
عليه ساج معقرب
من في الجمال فريدو
…
للصب من وريدو
يذبح ولو يزيدو
…
وكم ذا شيخ مريدو
خلاه دموعو يبلع
…
وهو بعقلو يلعب
كم خصم في المقاتل
…
صابوا ابن مقاتل
وكم ذا في المحافل
…
قد أنشالوا جحافل
من كل بيت مربع
…
ملحون بألف معرب
والشيء اللطيف الذي وقع في المجلس المشار إليه، ووعدت بذكره: ذكروا أن الشيخ علاء الدين بن مقاتل، لما وصل إلى قوله ملحون بألف معرب، صار الشيخ جمال
1 يعطب: يصاب بالعطب وهو الهلاك.
2 ندو: نده: والند هو المشابه المماثل.