الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الاستعارة:
وكان غرس التمني يانعا فذوى
…
بالاستعارة من نيران هجرهم
الاستعارة عندهم أقصى من المجاز، وهي أخص منه، إذ قصد المبالغة شرط في الاستعارة دون المجاز، وموقعها في الأذواق السليمة أبلغ، وليس في أنواع البديع أعجب منها، إذا وقعت في مواقعها، وللناس فيها اختلاف كثير.
وأما أصحاب المعاني والبيان فإنهم أطلقوا فيها أعنة أقلامهم، وجالوا بها في ميادين البحوث. وليس الغرض هنا إلا نفس الاستطراد إلى مواقع فيها من المحاسن، نظمًا ونثرًا، بعد تقريبها إلى الأذهان بحدود يزول بها الالتباس.
حد الرماني الاستعارة فقال: هي تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة، على سبيل النقل. وذكر الخفاجي كلام الرماني وقال: تفسير هذه الجملة قوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 1 استعارة، لأن الاشتعال للنار، ولم يوضع في أصل اللغة للشيب، وقلما نقل إليه بأن المعنى، لما اكتسبه من التشبيه، لأن الشيب لما كان يأخذ من الرأس شيئًا فشيئًا، حتى يحيله إلى غير لونه الأول، كان بمنزلة النار التي تسري في الخشب، حتى تحيله إلى غير حالة المتقدمة، فهذا هو نقل العبارة عن الحقيقة في الوضع للبيان.
ولا بد أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة، لأجل التشبيه العارض فيها، لأن الحقيقة لو قامت مقامها، لكانت ولى بها، ولا يخفى على أهل الذوق أن قوله تعالى.
1 مريم: 4/ 19.
{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} أبلغ من كثر شيب الرأس، وهو حقيقة، ولا بد للاستعارة من مستعار منه ومستعار ومستعار له، فالنار مستعار منها، والاشتعال مستعار، والشيب مستعار له. انتهى.
ومنهم من قال: هي ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه، وهذا يؤيد قول ابن جني: إن لم تكن الاستعارة للمبالغة، وإلا فهي حقيقة. وكلام ابن جني حسن في موضعه، فإن الشيء إذا أعطي وصف نفسه لم تكن استعارة.
وقال ابن المعتز: هي استعارة الكلمة لشيء لم يعرف بها من شيء عرف بها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ضموا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء"، فاستعار صلى الله عليه وسلم للعشاء، لقصد حسن البيان.
ومنهم من قال: هي استعارة الشيء المحسوس للشيء المعقول. قال فخر الدين الرازي: هي جعلك الشيء للشيء للمبالغة في التشبيه. وقال ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير" هي نقل اسم الراجح إلى المرجوح، لطلب المبالغة في التشبيه وحسن البيان، فإنك إذا قلت: زيد أسد، فقد نقلت اسم الأسد لزيد، لكن الأسد راجح في الجراءة، وزيد مرجوح، وقد بالغت في تشبيه زيد بالأسد، وأحسنت البيان، انتهى.
ولا تحسن الاستعارة إلا إذا كان التشبيه مقررًا، وكلما زاد التشبيه خفاء زادت الاستعارة حسنًا، وما أحسن قول ذي الرمة هنا:
أقامت بها حتى ذوي العود في الثرى
…
وكف الثريا في ملاءته الفجر1
فاستعار للفجر ملاءة، وأخرج لفظه مخرج التشبيه، وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه الاستعارة، وأحسن الاستعارات ما قرب منها دون ما بعد، وأعظمها، في هذا الباب، قوله تعالى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2 فإن ظهور الأنوار من المشرق من أشعة الشمس قليلًا قليلًا، بينه وبين إخراج النفس مشابهة شديدة القرب، ومن هذا النور استضاء الحريري، في مقاماته، بقوله: إلى أن عطس أنف الصباح، وقد تقدم أن بُعْدَ الاستعارة يبعد من القلوب، عند أهل الذوق، كقول أبي نواس مع يقظته:
بح صوت المال مما
…
منك يشكو ويصيح
1 الثريا: مجموعة من النجوم على صورة الثور، واسم النجم علم لها.
2 التكوير 18/ 81.
فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال، وكيف يصيح ويبح من الشكوى، ومثله قول بشار:
وجدّت رقاب الوصل أسياف هجرنا
…
وقدّت لرجل البين نعلين من خدي
قال ابن رشيق في العمدة، ما أقبح رجل البين، وأهجن استعارتها، وكذلك رقاب الوصل. ومثله قول ابن المعتز: وهو من أنقد النقاد: كل يو1 يبوب زب السحاب. وأين هذا البعد من قرب استعارة ابن نباتة القديم في قوله:
حتى إذا نهر الأباطح والثرى
…
نظرت إليه بأعين النوار2
فنظر أعين النوار من أشبه الاستعارات وأليقها وأقربها، لأن النوار يشبه العيون إذا كان مقابلا لمن يمر به، كأنه ناظر إليه، ويعجبني هنا قول القائل، ولم يلحق فيما قاله:
مجرة جدول وسماء آس
…
وأنجم نرجس وشموس ورد3
ورعد مثالث وسحاب كاس
…
وبرق مدامة وضباب ند4
ومن الغايات في هذا الباب قول مجير الدين بن تميم:
وليلة بت أسقي في غياهبها
…
راحًا تسل شبابي من يد الهرم5
ما زلت أشربها حتى نظرت إلى
…
غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم6
والذي اتفق عليه علماء البديع، أن الاستعارة المرشحة هي المقدمة في هذا الباب، وليس فوق رتبتها في البديع رتبة، وأعلاها وأغلاها قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 7 فإن الاستعارة الأولى، وهي لفظ الشراء، رشحت الثانية، وهي لفظ الربح والتجارة، ومن الاستعارات المرشحة قول الإمام
1 هكذا في الأصل، ونظنها: يوم.
2 نَهَرَ: جعل فيها أنهارًا، الأباطح: مفرده أبطح وهو السهل من الأرض، النوار: نوع من الأزهار.
3 مجرة جدول: جدول كأنه المجرة، والمجرة مجموعة كبيرة من النجوم. وسماء آس: أي سماء كأن نجومها أزهار الآس وهو شجر زهره أبيض.
4 رعد مثالث: أي مكرر ثلاث مرات حتى صار مما يعتاد، ند: أي يترك الندى.
5 غياهب: ظلمات مفردها غيهب.
6 غزالة: الصبح: الشمس.
7 البقرة 20/ 16.
علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-: الدنيا من أمسى فيها على جناح أمن، أصبح فيها على قوادم خوف، فإن الاستعارة الأولى التي هي لفظ الجناح رشحت الثانية وهو لفظ القوادم، مع زيادة المطابقة بين الأمن والخوف، والصباح والمساء، وناهيك بالبلاغة الهاشمية، وباب المدينة1، وما أحلى قول بعض العرب فيها: جعلنا رماحنا أرشية الموت2، فاستقينا بها أرواح العدا ومثله قول الشاعر:
سلامة بن نجاح
…
يجد حث الراح
إذا تغنى زمرنا
…
عليه بالأقداح
ومثله لابن سكرة، وشتان بين قوله هنا وبين قوله في الكافات:
قيل ما أعددت للبر
…
د فقد جاء بشده
قلت دراعة عري
…
تحتها جبة رعده3
والذي ينشأ هنا قول القائل:
والشمس لا تشرب خير الندى
…
في الروض إلا بكئوس الشقيق
ومثله قول ابن رشيق رحمه الله:
باكر إلى اللذات واركب لها
…
سوابق اللهو ذوات المزاح
من قبل أن ترشف شمس الضحى
…
ريق الغوادي من ثغور الأقاح
وما ألطف قول أبي زكريا المغربي، وقد ترجمه ذو الوزارتين لسان الدين بن الخطيب في تاريخه المسمى بـ"الإحاطة في تاريخ غرناطة"، وهو:
نام طفل النبت في حجر النعامى
…
لاهتزاز الطل في مهد الخزامى
كحل الفجر لهم جفن الدجى
…
وغدا في وجنة الصبح لثاما
تحسب البدر محيا ثملًا
…
قد سقته راحة الصبح مدامًا
ويعجبني هنا قول ابن قلاقس:
وفي طمي أبراد النسيم خميلة
…
بأعطافها نور المنى يتفتح4
1 باب المدينة: هنا إشارة إلى قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها".
2 أرشية: مفردها رشاء وهو الحبل يعلق به الدلو للاستقاء.
3 دراعة: أو مدرعة وهي ثوب من صوف - الجبة: العباءة.
4 طمي: ما تحمله السيول من الأتربة وغيرها ليستقر في مكان ما.
تضاحك في سر المعاطف عارضًا
…
مدامعه في وجنة الروض تسفح
وتوري به كف الصبا زند بارق
…
شرارته في فحمة الليل تقدح
وقال أبو الحسن علي بن ظافر العسقلاني، في كتابه المسمى بـ"بدائع البداية".
اجتمعت أنا والقاضي الأعز يومًا في روضة، فقلت له أجز: طار نسيم الروض من وكر الزهر. فقال: وجاء مبلول الجناح بالمطر. وما أبدع قول ابن خفاجة في هذا الباب:
وقد نظرت شمس الأصيل إلى الربا
…
بأضعف من طرف المريب وافترا
وصفرة مسواك الأصيل تروقني
…
على لعس من مسقط الشمس أسمرا1
وممن تلطف في استعمال الاستعارة المرشحة إلى الغاية، مجد الدين الأربلي، بقوله:
أصغى إلى قول العذور بجملتي
…
مستفهمًا عنكم بغير ملال
لتلقطي زهرات ورد حديثكم
…
من بين شوك ملامة العذال
وممن جاراه في هذه الحلبة أبو الوليد بن حيان الشاطبي، بقوله:
فوق خد الورد دمع
…
من عيون السحب يذرف
برداء الشمس أضحى
…
بعد ما سال يجفف
وظريف قول مجير الدين بن تميم منها:
كيف السبيل لأن أقبل خد من
…
أهوى وقد نامت عيون الحرس
وأصابع المنثور تومي نحونا
…
حسدًا وتغمزنا عيون النرجس2
ومثله قوله:
لما ادعى المنثور أن الورد لا
…
يؤتى وأن يصلى بنار سعير3
ودت ثغور الأقحوان لو أنها
…
كانت تعض أصابع المنثور
ومثله قوله:
كف السبيل للثم من أحببته
…
في روضة الزهر فيها معرك
ما بين منثور أقام ونرجس
…
مع أقحوان فضله لا يدرك
هذا يشير بأصبع وعيون ذا
…
ترنوا إليّ وثغر هذا يضحك
1 المسواك: ما يستك به، وهو عود يتخذ من شجر الأراك، اللعس: سواد مستحسن في باطن الشفة.
2 المنثور: نبات زهره متعدد الألوان وذو رائحة فواحة وأغصان طويلة نوعًا ما.
3 يُصلى: يحرق - سعير: من أسماء جهنم.
وما أحلى قول محيي الدين بن قرناس الحموي:
قد أتينا الرياض حين تجلت
…
وتحلت من الندى بجمان
ورأينا خواتم الدهر لما
…
سقطت من أنام الأغصان.
وقال البدري الذهبي وأجاد:
هلم يا صاح إلى روضة
…
يجلو بها العاني صدا همه1
نسيمها يعثر في ذيله
…
وزهرها يضحك في كمه2
ومثله قول ابن عمار:
يا ليلة بتنا بها
…
في ظل أكناف النعيم
من فوق أكمام الرياض
…
وتحت أذيال النسيم
وأما مطلع قصيدة ابن النبيه، في هذا الباب، فإنه أبهى من مطالع الأقمار، و"ديباجة الاستعارة من حلية تستعار" وهو:
تبسم ثغر الزهر عن شنب القطر
…
ودب عذاب الظل في وجنة النهر3
وهذا المعنى مولد من قول ابن خفاجة الأندلسي:
"وطرة ظل فوق وجه غدير" ولكن ابتسام ثغر الزهر عن شنب القطر، في قول ابن النبيه غاية:
وتلطف الشريف العقيلي في هذا الباب بقوله:
وروضة الجام فيها
…
من زهرة الراح ورد
فأشرب على وجه روض
…
له من السماء خد
وما أحلى قول القاضي، السعيد بن سناء الملك هنا:
ولبعدهم طالت ذوائب ليلهم
…
فيها تغطي ضوء وجه نهارهم4
1 العاني: المتعب والمهموم.
2 كم الزهر: زره أو الزهر قبل أن يتفتح تجمع على أكمام
3 الشنب: رقة الأسنان وبياضها، العذار: الشعر المتدلي عند جانب الأذن.
4 ذوائب: جمع مفرده ذؤابة وهي خصلة الشعر في مقدم الرأس.
وأحلى منه قوله:
سرى طيفه لا بل سرى لي سرابه
…
وقد طار من وكر الظلام غرابه
أتت مع نفس الليل صفحة خده
…
فقلت حبيب قد أتاني كتابه1
وقال من غيرها:
بشوك القنا يحمون شهد رضابها2
وما أحلى تكميله بقوله: "ولا بد دون الشهد من إبر النعل".
ومثله قوله:
ألقى حبائل صيد من ذوائبه
…
فصاد قلبي بأشراك من الشعر3
وأحلى منه قوله:
خصر أدير عليه معصم قبلة
…
فكأن تقبيلي له تعنيق
وغاية الغايات قوله:
بعثت لي علم فم الطيف قبلة
…
فأتاني بعض المسرة جملة
ومن الاستعارات الحسنة في هذا الباب، قول شمس الدين بن العفيف، في مديح النبي صلى الله عليه وسلم
حياك يا تربة الهادي الرسول حيا
…
بمنطق الرعد باد من فم السحب
وظريف هنا قول ابن قلاقس:
هدتنا للسرور نجوم راح
…
بها قذفت شياطين الهموم
وكف الصبح تلقط ما تبدى
…
يجيد الليل من درر النجوم
ومن اللطائف، في هذا الباب، قول أبي الحسن العقيلي:
لنا أخ يحسن أن يحسنا
…
رضاه للجانين عذب الجنى
قد عرفت روضة معروفه
…
بأنها تنبت زهر الغنى
إذا تبدى وجه إحسانه
…
تنزهت فيه عيون المنى
1 النقس: المداد.
2 الرضاب: الريق.
3 أشراك: جمع مفرده شرك، وهو ما ينصب للاصطياد من شباك وفخاخ وكمائن إلخ
…
ويعجبني، في الاستعارة المرشحة، قول ابن سعيد الموصلي، من قصيدة يتشوق فيها إلى دمشق المحروسة، فإنه أتى فيها، في بيت واحد، باستعارات كثيرة مع اجتناب الحشو، ومطلق القصيدة قوله:
سقى دمشق وأيامًا مضت فيها
…
مواطر السحب ساريها وغاديها
وبيت الاستعارة بعده:
ولا يزال جنين النبت ترضعه
…
حوامل المزن في أحشا أراضيها1
ومن أغرب الاستعارات وأبدعها وأحشمها، قول ابن زيدون من قصيدته النونية المشهورة:
سران في خاطر الظلماء يكتمنا
…
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا2
وقد عنَّ لي أن أنثر، في حدائق الاستعارة، نبذة من زهر المنثور، وأورد منه ما يزهو بوروده على روضات الزهور، كقول القائل: وطفقنا نتعاطى شموسًا من أكف بدور، وجسوم نار في غلائل نور، إلى أن ذاب ذهب الأصيل على لجين الماء، وضبت نار الشفق في فحمة الظلماء، ومثله قول علي بن ظافر الحداد، في دوح: انعطفت قدود أشجاره، وابتسمت ثغور أزهاره، وذر كافور مائه على عنبر طينته وامتدت بكاسات الجلنار3 أنامل غصونه. وقال آخر وأجاد: وقد عرق بالندا جبين النسيم، وابتل جناح الهواء، وضربت خيمة الغمام، وأغرورقة مقلة السماء، وقام خطيب الرعد فنبض عرق البرق. ولقد حاز القاضي الفاضل قصبات السبق، في هذا الميدان، بقوله: كتبها المملوك وقد عمشت مقلة السراج، وشابت لمة4 الدواة، وخرس لسان القلم، وكل خاطر السكين، وضاق صدر الورق. وما أحلى قول القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: والأغصان قد اخضر نبات عارضها5 ودنانير الأزهار ودراهمها قد تهيأت لتسليم قابضها.
وقال جمال الدين بن نباتة: كتبها المملوك ودمع الغيث قد رقا6 ووجه الأرض قد راق،
1 الجنين: المولود في بطن أمه - حوامل: جمع مفرده حامل وهي من النساء الحبلى ومن الغيوم الممطرة - المزن: واحدتها مزنة وهي الغيمة - أحشا: ترخيم أحشاء وهي الجوف.
2 يفشينا: يكشفنا ويظهرنا.
3 الجلنار: زهر الرمان.
4 اللمة: شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن.
5 العارض: جانب الوجه.
6 رقا: سكن وجف.
وقدود الأغصان قد راسلت أهواء القلوب بالأوراق، وقيان1 حمائمها قد ترنمنت وجذبت القلوب بالأطواق، والورد قد احمر خده الوسيم، وفكت أزراره من أجياد القضيب أنامل النسيم، وخرجت أكفه من أكمامه لأخذ البيعة على الأزهار بالتقديم.
ومما كتبته، في البشارة الصادرة على الملك المؤيد، عند عوده من البلاد الرومية وحلول ركابه الشريف بحلب المحروسة، المتضمنة ما من الله به من الفتح الذي صار له في الروم قصص، سنة عشرين وثمانمائة، فمن ذلك قولي عند حصار قلعة طرسوس وفتحها: ورأوا ألسن السهام في أفواه تلك المرامي، فقالوا رأينا المصائب ناطقة، وما رموا على سماء برج غيوم ستائر إلا لمعت فيها من بوارق نقوطها بارقة، وحكم عليها القضاء بالاعتقال، ولم يأتوا عند ذلك الحكم بدافع، هذا بعدما صفق مقبلهم جماد وجهه فبصقت فيه أفواه المدافع. وقولي في الاستعارة المرشحة أيضًا، عند حصار قلعة دريدة وفتحها: وقررنا صدع سورها باختلاف الآلات، فجاء ما قررناه نقشا على حجر، وادعت أن صخرها أصم، فأسمعناه من آذان المرامي تنقير المدافع وتحريك الوتر، وقرعنا سن جبلها بنابات المداقع2 وكسرنا منه السنية وأمست حلق مراميها كالخواتم في أصابع، سهامنا المستوية. ومثله قولي، عند حصار قلعة كختار وفتحها، على لسان حال القلعة في سموطها وإفراط علوها: فأنا الهيكل الذي ذاب قلب الأصيل على تذهبيه، وود دينار الشمس أن يكون من تعاويذه، والشجرة التي لولا سمو فرعها تفكهت به حبات الثريا وانتظمت في سلك عناقيده، وتشامخ هذا الحصن ورفع أنف جبله وتشامم، فأرمدنا عيون مراميه بدم القوم، وأميال سهامنا على تكحيلها تتزاحم، وغاية الغايات في هذا الباب، قولي عند حصار قلعة كركر: وتنكرت أكراد كركر بسور القلعة فعرفناهم بلامات القسي وألفات السهام، وعطست أنوف مراميها بأصوات مدافعنا وكان بها زكام. ومن حسن ختامها، ولم نخرج عما نحن فيه من بديع الاستعارة، وغريبها، قولي: فلا بكر قلعة إلا افتضينا بكارتها3 بالفتح، وابتذلنا من سترها الحجاب، ولا كأس برج أترعوه بالتحصين، إلا توجنا رأسه من حبات مدافعنا بالحباب. انتهى.
ولم أحبس عنان القلم عن الاستطراد إلى ما وقع لي من محاسن الاستعارة نظمًا، إلا للتخفيف عن بيت البديعية، وقلت: تكفيه المزاحة في مناظرة الشيخ صفي الدين
1 جمع مفرده قينة وهي المغنية الحسناء.
2 المدافع: المذلات.
3 البكارة: عذرة الفتاة.
الحلي، ومبارزة الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله، وحمل ثقل العميان، فبيت الشيخ صفي الدين رحمه الله في بديعيته، وهو الشاهد على نوع الاستعارة:
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة
…
من القوافي تؤم المجد عن أمم1
وبيت العميان:
يقول صحبي وسفن العيس خائضة
…
بحر السراب وعين القيظ لم تنم
بيت الشيخ صفي الدين وبيت العميان، لم يحسن السكوت عليهما ولا تتم الفائدة بهما، فإن بيت الشيخ صفي الدين، متعلق بما قبله، وبيت العميان متعلق بما بعده، وبيت الشيخ عز الدين صالح للتجريد وهو:
دع المعاصي فشيب الرأس مشتعل
…
بالاستعارة من أزواجها العقم2
أقول: ولو بلغت ما عسى أن يكون، أن في قوله: من أزواجها العقم، ما يرعب السامع، وبيت بديعيتي:
وكان غرس التمني يانعًا فذوى
…
بالاستعارة من نيران هجرهم
وقد تقدم أن المقدم، عند علماء البديع، الاستعارة المرشحة، فلفظة غرس رشحت بيانع، وأما قولي: بالاستعارة من نيران هجرهم، بعد ذوي، فما أعده إلا من المنح الإلهامية، فإن اسم النوع الذي هو الاستعارة جمع بين التورية والاستعارة والترشيح، مع عدم الحشو وصحة التركيب والمشي على جادة الرقة والالتزام بتسمية النوع مورى به من جنس الغزل. انتهى.
1 تؤم: تقصد - عن أمم: عن قرب.
2 العقم: عدم الإنجاب.