الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التكميل:
آدابه تممت لا نقص يدخلها
…
والوجه تكميله في غاية العظم
التكميل: هو أن يأتي المتكلم، أو الشاعر، بمعنى تام، من مدح أو ذم أو وصف أو غيره من الأغراض الشعرية وفنونها، ثم يرى الاقتصار على الوصف بذلك المعنى فقط غير كامل، فيأتي بمعنى آخر يزيده تكميلًا، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة، ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم غير كامل فيكمله بذكر الكرم، أو بالبأس دون الحلم وما أشبه ذلك من الأغراض. وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} 1 فانظر إلى هذه البلاغة، فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة للمؤمنين، لكان مدحًا تامًا مشتملًا على الرياضة والانقياد لإخوانهم، ولكن زاده تكميلًا ووصفهم، بعد ذلتهم لإخوانهم المؤمنين، بالعزة على الكافرين، وهذا هو التكميل الذي يتطفل البدر على كماله. ومثاله، في الشعر، قول كعب بن سعيد الغنوي:
حليم إذا ما الحلم زين أهله
…
مع الحلم في عين العدو مهيب2
قوله: إذا ما الحلم زين أهله، احتراس لولاه لكان المعنى في المدح مدخولًا، إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم، فإن التجاوز لا يكون حلمًا محققًا إلا عن قدرة، وهو الذي قصده الشاعر بقوله: إذا ما الحلم زين أهله. فإن الحلم ما يزين
1 المائدة 5/ 54
2 مهيب: مهاب أو ذو هيبة
أهله إلا إذا كان عن قدرة، وهذا القدر غاية في باب التكميل، ثم رأى أن مدحه بالحلم وحده غير كامل، فإنه إذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوّه، فقال مع الحلم في عين العدو مهيب، قلت: ومما يؤيد هذا التقرير قول الشاعر:
وحلم ذي العجز أنت عارفه
…
والحلم عن قدرة ضرب من الكرم
ومن التكميل الحسن قول كثير عزة:
لو أن عزة خاصمت شمس الضحى
…
في الحسن عند موفق لقضى لها1
فقوله: عند موفق تكميل حسن، فإنه لو قال عند محكم لتم المعنى، لكن في قوله: عند موفق زيادة تكميل بها حسن البيت والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكم موفقًا فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله.
وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب، وخلطوا التكميل بالتتميم، وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل، فمن ذلك قول عوف السعدي:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم، وهو أبلغ شواهد التكميل، فإن معنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها، وإذا لم يكن المعنى ناقصًا فكيف يسمى هذا تتميمًا، وإنما هو تكميل حسن.
قال ابن أبي الأصبع وما غلطهم إلا أنهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ، وتتميم المعاني، فلو سمي مثل هذا تتميمًا للوزن، لكان قريبًا، ولما2 ساقوه على أنه من تتميم المعاني، وهذا غلط، والرفق بين التتميم والتكميل، أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه، والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ الكمال أمر زائد على التمام وقد تقدم هذا الكلام على التتميم في موضعه، ولكن أردت هنا تفصيل التكميل عن التتميم، لتنجلي عن الطالب ظلمة الإشكال بصبح هذا الفرق الدقيق، ومن أحسن التكميل قول شاعر الحماسة:
لو قيل للمجد خذ عنهم وخلهم
…
بما احتكمت من الدنيا لما حادا
1 الموفق: المصيب أو الموفق إلى الحق.
2 في الأصل: ولفا وما أثبتناه هو الصحيح.
فقوله: بما احتكمت من الدنيا، تكميل في غاية الكمال. ويعجبني، من هذا الباب، قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض مطالعه المقمرة:
نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت
…
بأي ذنب وقاك الله قد قتلت
معنى بيت الشيخ جمال الدين أيضًا تام، بدون قوله: وقاك الله، ولكن التكميل بوقاك الله قبل قتلت لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين، وما أحقه هنا بقول القائل:
قالوا فهل يسمح الدهر الكريم لنا
…
بمثله قلت لا والله قد حلفا
ومثله قولي في مطلع قصيدة:
قد مال غصن النقا عن صبه هيفا
…
يا ليته بنسيم العتب لو عطفا
معنى البيت تام، بدون نسيم العتب، ولكن استعارة نسيم العتب هنا بعد ميل الغصن وذكر انعطافه غاية في باب التكميل، وفي مع التكميل المناسبة المعنوية والاستعارة اللطيفة، وناهيك بلطف نسيم العتب، وفيه التمكين والانسجام، ومثله قولي في مطلع قصيدة:
جردت سيف اللحظ عند تهددي
…
يا قاتلي فسلبتني بمجرد
معنى البيت تام، بدون قولي يا قاتلي، وقولي يا قاتلي بعد تجريد سيف اللحظ أكمل من بدور الكمال، وقلت، بعد المطلع، ولم أخرج عن التكميل:
وأردت أن تسقى بماء حشاشتي
…
حاشاك ما يسقي الصقيل من الصدى1
معنى البيت أيضًا تام، بدون قولي حاشاك، ولكنها زادت البيت تكميلًا رفعت به قواعده، ومثله قولي من قصيدة:
وأفردتموني للغرام لأنكم
…
أخذتم كما شاء الهوى بمجامعي2
معنى البيت تام، بدون قولي كما شاء الهوى، ولكن التكميل بها تكملت به محاسن البيت، ومثله قولي من قصيدة:
أذابت القلب في نار الهوى عبثًا
…
ومذ سلبته وقالت إنه قالي3
قالت سلوت لحاك الله قلت لها
…
الله أعلم يا أسما من السالي4
1 الحشاشة: الروح، الصقيل: من صفات السيف وهو المسنون، الصدى: العطشان أو الذي يعلوه الصدأ.
2 أخذ بمجامعه: سيطر عليه تمامًا.
3 لحاك الله: دعاء عليه بمعنى غضب الله عليك، أسما: ترخيم أسماء، السالي: الناسي.
فلفظة عبثًا في البيت الأول، تكميلها ظاهر ولكن لحى الله من لا ينظر إلى محاسن لحاك الله في البيت الثاني. ومثله قولي من قصيدة:
ورب غصن لأطيار القلوب على
…
قوامه في رياض الوجد تغريد
والمعنى أيضًا تام في هذا البيت، بدون قولي في رياض الوجد، ولكن مناسبة التكميل برياض الوجد بين الغصن والأطيار والتغريد، غاية في هذا الباب.
وقد طال الشرح، ولكن مثل التكميل ما يقنص من قدره، ويختصر من أمثلته، وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته:
نفس مؤيدة بالحق تعضدها
…
عناية صدرت عن بارئ النسم1
بيت الشيخ صفي الدين لم يظهر لبدور التكميل في أفقه إشراق، ومعنى البيت تام ولكن لم يأت فيه الناظم بنكتة تزيده تكميلًا. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته:
تمت محاسنه والله كمله
…
فقدره في الورى في غاية العظم2
بيت الشيخ عز الدين أمثل من بيت الشيخ صفي الدين، وتكميله ظاهر فإن معنى بيته تام، بدون قوله والله كمله، ولكن قوله هنا والله كمله في غاية الكمال، فإنها اشتملت على تورية التسمية ونكتة النوع وبيت بديعيتي:
آدابه تممت لا نقص يدخلها
…
والوجه تكميله في غاية العظم
معنى هذا البيت أيضًا تام، بدون قولي لا نقص يدخلها، ولكن هذا النقص هو عين التكميل، والله أعلم.
1 أيد: قوّى، عضد: ساعد.
2 الورى: الناس.