المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ذكر التغاير: أغاير الناس في حب الرقيب فمذ … أراه أبسط - خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي - جـ ١

[الحموي، ابن حجة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد وتقديم:

- ‌التعريف بالكاتب:

- ‌مقدمة الكاتب:

- ‌الجناس:

- ‌ذكر الجناس المركب والمطلق:

- ‌ذكر الجناس الملفق:

- ‌الجناس المذيل واللاحق:

- ‌الجناس التام والمطرف:

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب:

- ‌ذكر الجناس المعنوي:

- ‌ذكر الاستطراد:

- ‌ذكر الاستعارة:

- ‌ذكر الاستخدام:

- ‌ذكر الهزل الذي يراد به الجد:

- ‌ذكر المقابلة:

- ‌ذكر الالتفات:

- ‌ذكر الافتنان:

- ‌ذكر الاستدراك:

- ‌ذكر الطي والنشر:

- ‌ذكر الطباق:

- ‌ذكر النزاهة:

- ‌ذكر التخيير:

- ‌ذكر الإبهام:

- ‌ذكر إرسال المثل:

- ‌ذكر التهكم:

- ‌ذكر المراجعة:

- ‌ذكر التوشيح:

- ‌ذكر تشابه الأطراف:

- ‌ذكر التغاير:

- ‌ذكر التذييل:

- ‌ذكر التفويف:

- ‌ذكر المواربة:

- ‌ذكر الكلام الجامع:

- ‌ذكر المناقضة:

- ‌ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر:

- ‌ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم:

- ‌ذكر الهجو في معرض المدح:

- ‌ذكر الاستثناء:

- ‌ذكر التشريع:

- ‌ذكر التتميم:

- ‌ذكر تجاهل العارف:

- ‌ذكر الاكتفاء:

- ‌ذكر مراعاة النظير:

- ‌ذكر التمثيل:

- ‌ذكر التوجيه:

- ‌ذكر عتاب المرء نفسه:

- ‌ذكر القسم:

- ‌ذكر حسن التخلص:

- ‌ذكر الاطراد:

- ‌ذكر العكس:

- ‌ذكر الترديد:

- ‌ذكر التكرار:

- ‌ذكر المذهب الكلامي:

- ‌ذكر المناسبة:

- ‌ذكر التوشيع:

- ‌ذكر التكميل:

- ‌ذكر التفريق:

- ‌ذكر التشطير:

- ‌ذكر التشبيه

- ‌مدخل

- ‌التشبيه بالتلميح:

- ‌ذكر تشبيه شيئين بشيئين:

- ‌ذكر الانسجام

- ‌الانسجام في النثر

- ‌الانسجام في الشعر:

- ‌ذكر التفصيل:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌ذكر التغاير: أغاير الناس في حب الرقيب فمذ … أراه أبسط

‌ذكر التغاير:

أغاير الناس في حب الرقيب فمذ

أراه أبسط آمالي بقربهم

التغاير: سماه قوم التطلف، وهو أن يتطلف الشاعر بتوصله إلى مدح ما كان قد ذمه، هو أو غيره. فأما مدح الإنسان ما ذمه غيره، فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أتى فيه بما يمتزج صافي مشربه بالأرواح، وينقلنا ببديع بلاغته من الإبهام إلى الإيضاح. فمن ذلك خطبته التي مدح فيها الدنيا، مغايرًا لأمثاله في ذمها، حيث قال:

أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، بم تذمها، أنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك، متى استهوتك أم متى غرتك، أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى، كم عللت ولديك، وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تشف لهم بطبك، ولم تدفع عنهم بقوتك، قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك، وخيلت لك بمصرعهم مصرعك، إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباب الله، ومصلى ملائكته، ومهبط وحي الله، ومتجر أوليائه، اكتسبوا منها الرحمة، وربحوا منها الجنة، فمن ذا يذمها وقد أدّبت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهليها، فمثلت لهم ببلائها البلى، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، وراحت بعافية، وابتكرت بفجيعة، ترغيبًا وترهيبًا، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا:

ونظم ابن أبي الأصبع معاني هذه الخطبة فقال:

ص: 227

من يذم الدنيا بظلم فإني

بطريق الإنصاف أثني عليها

وعظتنا بكل شيء وإنا

حين جدت بالوعظ من مصطفيها

نصحتنا فلم نر النصح نصحًا

حين أبدت لأهلها ما لديها

أعلمتنا أن المال يقينًا

للبلى حين جددت عصريها1

كم أرتنا مصارع الأهل والأحباب

لو نستفيق يومًا إليها

يوم بؤس لهما ويوم رخاء

فتزود ما شئت من يوميها

وتيقن زوال ذاك وهذا

تسل عما تراه من حادثيها

دار زاد لمن تزود منها

وغرور لمن يميل إليها

مهبط الوحي والمصلى الذي كم

عفرت صورة بها خديها2

متجر الأولياء قد ربحوا الجنة

منها وأوردوا عينيها

رغبت ثم رهبت ليرى

كل لبيب عقباه في حالتيها

وإذا انصفت تعين أن يثـ

ـني عليها ذو البر من ولديها

فأما من ذم ما مدحه الناس قاطبة، فابن الرومي، فإنه ذم الورد وهو مشهور، ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر، وقد أجمع الناس على طوله، فقال:

ولقد تأملت الفراق فلم أجد

يوم الفراق على امرئ بطويل

قصرت مسافته على متزود

منه لوهن صبابة وغليل3

وهذا النوع، أعني المغايرة، أورده الحريري في المقامة الدينارية، وبالغ في مدح الدينار وذمه، فقال في مدحه:

أكرم به أصفر راقت صفرته

جواب آفاق ترامت سفرته4

مأثورة سمعته وشهرته

قد أودعت سر الغنى أسرته

وقارنت نجح المساعي خطرته

وحببت إلى الأنام غرته

كأنما من القلوب نقرته

به يصول من حوته صرته5

1 المآل: المصير.

2 الصورة: المرة.

3 الوهن: القلة والضعف.

4 الجوّاب: الكثير التجوال والسفر، سفرته: بفتح الراء واحدة السفر.

5 نقرته: نقشه.

ص: 228

وإن تفانت أو توانت عشرته

يا حبذا نضاره ونضرته

وحبذا مغناته ونصرته

كم آمر به استتبت أمرته

ومترف لولاه دام حسرته

وجيش هم هزمته كرَّته

وبدر تم أنزلته بدرته

ومستشيط تتلظلى جمرته1

أسرَّ نجواه فلانت سرته

وكم أسير أسلمته أسرته

أنقذه حتى صفت مسرته

وحق مولى أبدعته فطرته

لولا التقى لقلت جلت قدرته

وقال في ذمه:

تبًا له من خادع مماذق

أصفر ذي وجهين كالمنافق2

يبدو بوصفين لعين الرامق

زينة معشوق ولون عاشق3

وحبه عند ذوي الحقائق

يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق

لولاه لم تقطع يمين سارق

ولا بدت مظلمة من فاسق

ولا اشمأز باخل من طارق

ولا شكا الممطول مطل العائق

ولا استعيذ من حسود راشق

وشر ما فيه من الخلائق

أن ليس يغني عنك في المضائق

إلا إذا فر فرار الآبق4

واهًا لمن يقذفه من حالق

ومن إذا ناجاه نجوى الوامق5

قال له قول المحق الصادق

لا رأي في وصلك لي ففارق

ومن المغايرة، تفضيل القلم على السيف، إذ المعتاد عكس ذلك، كقول ابن الرومي:

إن يخدم القلم السيف الذي خضعت

له الرقاب ودانت خوفه الأمم6

فالموت والموت لا شيء يعادله

ما زال يتبع ما يجري به القلم

كذا قضى الله في الأقلام إذ بريت

إن السيوف لها منذ أرهفت خدم 7

1 البدرة: الصرّة فيها الدنانير، مستشيط: غاضب، تتلظى: تشتعل وتلتهب.

2 المماذق: الذي لا يخلص الود لأحد.

3 الرامق: الناظر إذا أحد النظر.

4 الآبق: الهارب.

5 الحالق: من الجبال والأمكنة: العالي المنيف.

6 دان: خضع وذل.

7 أرهف السيف: أجاد شحذه وسنه.

ص: 229

وغاير المتنبي ذلك وقال:

حتى رجعت وأقلامي قوائل لي

المجد للسيف ليس المجد للقلم

والمغايرة هنا مليحة، لكن المعنى مأخوذ من قول أبي تمام: السيف أصدق إنباء من الكتب، والمعنى في قول أبي تمام أبلغ، فإن ابن أبي الأصبع قال: لم يرض أبو تمام أن يقول السيف أصدق إنباء من القلم، حتى قال من الكتب التي لا تكتب إلا بالأقلام والدواة والقرطاس، والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان، فالحظ الفرق بينه وبين كلام المتنبي. انتهى كلام ابن أبي الأصبع.

وقد عن لي هنا أن أرفع للمتأخرين في التقديم رأيه، ليعلم المنكر الفرق بين البداية والنهاية، فإن الشيخ جمال الدين أظهر في المغايرة بين السيف والقلم ما صدق به قول القائل1:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما لم تستطعه الأوائل

من ذلك قوله، في رسالة المفاخرة بينهما والمغايرة في مدح كل واحد منهما وذمه: فبرز القلم بإفصاحه ونشط لارتياحه، ورقي من الأنامل على أعواده وقام خطيبًا بمحاسنة في حلة مداده، والتفت إلى السيف فقال:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 2 الحمد لله الذي علم بالقلم، وشرفه بالقسم، وخط به ما قدر وقسم، وصلى الله على سيدنا محمد الذي قال:"جف القلم بما هو كائن"، وعلى آله وصحبه ذوي المجد المبين وكل مجد بائن، صلاة واضحة السطور، فائحة من أدراج الصدور، ما نقلت صحف البحار غواديها، وكتبت أقلام النور على مهارق3 الدياجي حكمة باريها، أما بعد.

فإن القلم منار الدين والدنيا، ونظام الشرف والعليا، ومجاديح 4 سحب الخير إذا احتاجت الهمم إلى السقيا، ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيا، وسفير الملك المحجب وعذيق5 الملك المرجب6، وزمام أموره السائرة، وقادمة أجنحة الطائرة،

1 هو بشار بن برد.

2 القلم، 68/ أو 2.

3 مهارق: صفحات "فارسية".

4 المجاديح الأنواء، مفردها مجدح.

5 عذيقها: تصغير عذق للتظرف والعذق هو أفضل من قام بالأمر.

6 المرجّب: المهيب المعظم.

ص: 230

ومطلق أرزاق عفاته1 المتواترة، وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة، به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي تهذب الخواطر الخواطل2، فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة، وحسبه ما جرى على يده الكريمة من منه، وفي مراضي الدول عونة للشائدين، ويعين الله في ليالي النفس تقلب وجهه في الساجدين. إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها، وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها، وإن رقمت برود البيان فإنما هو جلالها، وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هو أمانها ومآلها، وإذا انقسمت أمور الممالك فإنما هو عصمتها وثمالها، وإن اجتمعت رعايا الصنائع فإنما هو إمامها المتلفع بسواده، وإن زخرت بحار الأفكار فإنما هو المستخرج دررها من ظلمات مداده، وإن وعد أوفى بجنب النفع، وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النقع3.

هذا وهو لسان الملوك المخاطب، ورسيلها لأبكار الفتوح والخاطب، والمنفق في تعمير دولها ومحصول أنفاسه، والمتحمل أمورها الشاقة على عينه وراسه، والمتيقظ لجهاد أعدائها والسيف في جفنه نائم، والمجهز لبأسها وكرمها جيشي الحروب والمكارم، والجاري بما أمر الله من العد والإحسان، والمسود الناصر فكأنما هو لعين الدهر إنسان، طالما ذب عن حرمها فشد الله أزره، ورفع ذكره، وقام في المحامات عن دينها أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره، وقاتل على البعد والصوارم في القرب، وأوتي من معجزات النبوة نوعًا من النصر بالرعب، وبعث جحافل السطور فالقسي دالات، والرماح ألفات، واللامات لامات، والهمزات كواسر الطير التي تتبع الجحافل، والأتربة عجاجها المحمر من دم الكلى والمفاصل، فهو صاحب فضيلتي العلم والعلم، وساحب ذيلي الفخار في الحرب والسلم، لا يعاديه إلا من سفه نفسه، ولبس لبسه وطبع على قلبه، وفل الجدال من غربه4، وخرج في وزن المعارضة عن ضربه. وكيف يعادي من إذا كرع في نفسه5 قيل:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} 6، وإذا ذكر شانئه7 السيف قيل:

1 العفات: العطايا.

2 الخواطل: الضالة.

3 النقع: المستنقع، أو السم الناقع وهو القاتل البالغ. والغبار الكثيف في الجو.

4 غرب الشيء: حدّه.

5 كرع: مد عنقه وشرب الماء بفمه دون واسطة، النفس: المداد الذي يكتب به وإناؤه.

6 الكوثر، 108/ 1 والكوثر: فسره بعضهم بنهر في الجنة، ورأى آخرون أن الكوثر كثرة الذرية وهذا هو الأصح على ما نرى للقرينة الدالة عليه وهو قوله تعالى:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي الذي لا عقب له ولا ذرية.

7 الشانئ: المبغض، الكاره.

ص: 231

{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} 1 أقول قولي هذا وأستغفر الله من الشرف وخيلائه، والفخار وكبريائه، وأتوكل على الله فيما حكم، وأسأله التدبير فيما جرى به من القلم، ثم أكتفي بما ذكره من أدواته، وجلس على كرسي دواته، متمثلًا بقول القائل:

قلم يفل الجيش وهو عرموم

والبيض ما سلت من الأغماد2

وهبت له الآجام حين نشابها

كرم السيول وضولة الآساد3

فعند ذلك نهض السيف قائمًا عجلًا، وتلمظ4 لسانه للقول مرتجلًا، وقال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز} 5 الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السويف، وشرَّع حدها في ذوي العصيان فأغصَّتهم بماء الحتوف، وشيد مراتب الدين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص6 وعقد مرصوف7، وأجناهم من ورق حديدها الأخضر ثمار نعيمها الدانية، وصلى الله على سيدنا محمد هازم الألوف، وعلى آله وصحبه الذين طالما محوا بريق بريق الصوارم سطور الصفوف، صلاة عاطرة في الأنوف، حالية بها الأسماع كالشنوف8، وسلم.

أما بعد، فإن السيف زند الحق الوري وزنده القوي9 وحده الفارق بين الرشيد والغوي، والنجم الهادي إلى العز وسبيله، والثغر الباسم عن تباشير فلوله، به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء، وجلى شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء، وأجرى سيوفه بالأباطح، فأما الحق فمكث والباطل فذهب جفاء10، وحملته اليد الشريفة النبوية، وخصته على الأقلام بهذه المزية، وأوضحت به للحق منهاجًا، وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجًا وهاجًا، وفتحت باب الدين بمصباحه حتى دخل فيه الناس أفواجًا، فهو ذو

1 الكوثر، 108/ 3 والأبتر: هو من لا عقب له ولا ذرية من الذكور.

2 عرمرم: الجيش الكبير الجرار، البيض: السيوف، سلت: سحبت وهيئت للقتال. والأغماد: جمع مفرده غمد وهو موضع السيف.

3 الآجام: جمع مفرده أجمة وهو التلة إذا كثر فيها الشجر والتف، نشا: ترخيم نشأ، الصولة: السطوة.

4 تلمظ: اللسان، خرج من مكانه وتحرك.

5 الحديد، 57/ 25.

6 مرصوص: متماسك.

7 مرصوف: منظم.

8 الشنوف: الأقراط أو الحلق الذي تتزين به الفتاة.

9 الزند: القادح للنار وموصل الذراع بالكف، الوَريّ: الذي خرجت ناره.

10 الجفاء: ما يقذف به السيل من غثاء وزبد، أي لا فائدة فيه.

ص: 232

الرأي الصائب، وشهاب العزم الثاقب، وسماء العز التي زينت من آثاره بزينة الكواكب، والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج، عند قطع الأجساد، من بين الصلب والترائب1، لا تجحد آثاره، ولا ينكر قراره، إذا اشتبت في الدجى والنقع ناره، يجمع بين الحالتين البأس والكرم، ويصاغ في طوق الحليتين، فهو إما طوق في نحور الأعداء وإما خلخال في عراقيب2 أهل النقم، ويحسم به أهواء الفتن المضلة، ويحذف بهمته الجازمة حروف العلة، وإذا انحنى في سماء القتام بالضرب، فقل يسألونك عن الأهلة، فهو القوي الاستطاعة، الطويل المغمر إذا قصف سواه في ساعة، فما أولاه بطول الإحسان، وما أجمل ذكره في أخبار المعمرين ومقاتل الفرسان، كأن الغيث في غمده للطالب المنتجع، وكأنه زناد يستضاء به، إلا أن دفع الدماء شرره الملتمع، كم قد مد فأدرك الطلاب، ودعا النصر بلسانه المحمر من أثر الدماء فأجاب، وتشعبت الدول لقائم نصره المنتظر، وحازت أبكار الفتوح بحده الذكر، وغدت أيامها به ذات حجول معلومة وغرر3، وشدت به الظهور، وحمدت علائقه في الأمور، واتخذته الملوك حرزًا لسلطانها، وحصنًا على أوطانها وقطانها4، وجردته على صروف الأقدار في شأنها، وندب فما أعيت عليه المصالح، وباشر اللمم، فهو على الحقيقة بين الهدى والضلال، فرق واضح، وأغاث في كل فصل فهو إما لغمده سعد الأخبية، وإما لحامله سعد السعود وإما لضده سعد الذابح، يجلس على رءوس الأعداء قهرًا، ويشرح أنباء الشجاعة قائلًا للقلم:{ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} 5، وهل يفاخر من وقف الموت على بابه، وعضت الحرب الضروس بنابه، وقذفت شياطين القراع بشهبه، ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه، ومنها أن الله أنشأ برقه، فكان للمارد مصرعًا وللرائد مرتعًا {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} 6 كم اتخذ من جسد طرسًا، وكتب عليه حرفًا لا ينسى فيه للألباب عبرة، وللأذهان السابحة غمرة بعد غمرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من لفظ يجمح، ورأي إلى الخصام يجنح.

1 الصلب: من الرجل مكان في ظهره يحفظ فيه نسله. ويقال: هو عظم ذو فقار يمتد من الكاهل إلى أسفل الظهر، الترائب: عظام الصدر مفردها تريبة.

2 الخلخال: حلية تلبس في الرجل فوق العرقوب، والعرقوب: هو ملتقى عظم الساق والقدم ويبدو بارزًا في جانبي القدم. تجمع على عراقيب.

3 حجول وغرر: علامات وبدايات.

4 قطانها: سكانها والمقيمين فيها.

5 الكهف، 18/ 82.

6 الروم، 30/ 24.

ص: 233

ولسانه يحوجه اللدد1 إلى أن يخرج فيجرح، وأتوكل عليه في صد الباطل وصرفه، وأسأله الإعانة على كل باحث عن حتفه بظلفه ثم اختفى في بعض الخمائل، وتمثل بقول القائل:

سل السيف عن أصل الفخار وفرعه

فإني رأيت السيف أفصح مقولا

فلما وعى القلم خطبته الطويلة الطائلة2، ونشطته الجليلة الجائلة، وفهم كتابته وتلويحه وتعريضه بالذم وتصريحه، وتعديله في الحديث وتجريحه3، واستغاث باللفظ النصير، واحتد وما أدراك ما حدَّة حده القصير وقام في دواته وقعد، واضطرب على وجه القرطاس وارتعد، وعدل إلى السب4 الصراح، ورأى أنه إن سكت تكلم ولكن بأفواه الجراح، فانحرف إلى السيف وقال: أيها المعتز بطبعه، المغتر بلمعه، الناقض حبل الإنس بقطعه، الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} 5 الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين، الإبليس الذي لو أمر بالسجود لقال {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} 6 أتعرض بسبي، وتتعرض لمكايد حربي ألست ذا الخدع البالغة، والحرب خدعة، والمنن النافعة، ولا خير فيمن لا تبغي الأنام نفعه، ألست المسود7 الأحق بقول القائل:

نفس عصام سودت عصاما

وعلمته الجود والإقداما8

أتفاخرني وأنا للوصل وأنت للقطع، وأنا للعطاء وأنت للمنع، وأنا للصلح وأنت للضراب، وأنا للعمارة وأنت للخراب، وأنا المعمر وأنت المدمر، وأنت المقلد وأنا صاحب التقليد، وأنت العابث وأنا المجود ومن أولى من القلم بالتجويد، فما أقبح شبهك، وما أشنع يومًا ترى فيه العيون وجهك، أعلى مثلي يشق9 القول، ويرفع

1 اللدد: الخصام.

2 الطائلةك القوية البليغة.

3 التعديل والتجريح: التصويب والتخطئة.

4 السب الصراح: الشتم الصريح الخالص.

5 النور، 24/ 39.

6 الأعراف، 7/ 12 وص، 38/ 76.

7 المسود: السيد.

8 الجود والإقداما: الكرم والشجاعة. وقد روي: الجد والإقداما. والجود أصح، لتلازم الصفتين، الكرم والشجاعة.

9 يشق: يصعب.

ص: 234

الصوت والصول1، وأنا ذو اللفظ المكين، وأنت ممن دخل تحت قوله تعالى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 2 فقد تعديت حدك، وطلبت ما لم تبلغ به جهدك، هيهات أنا المنتصب لمصالح الدول وأنت في الغمد طريح، والمتعب في تمهيدها وأنت غافل مستريح، والساهر وقد مهد لك في الغمد مضجع، والجالس عن يمين الملك وأنت عن يساره فأي الحالتين أرفع، والساعي في تدبير حال القوم، والمغني لنفعهم العمر إذا كان نفعك يومًا أو بعض يوم، فاقطع عنك أسباب المفاخرة، واستر أنيابك عند المكاشرة، فما يحسن بالصامت محاورة المفصح، والله يعلم المفسد من المصلح، على أنه لا ينكر لمثلك التصدي، ولا يستغرب منه على مثلي التعدي، ما أنا أول من أطاع الباري وتجرأت عليه، ومددت يد العدوان إليه، أولست الذي قيل فيه:

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة

ويستحل دم الحجاج في الحرم

قد سلبت الرحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وجلبت القوة فكم هيجت سبة حمراء3، وأثرت دهماء، وخمشت الوجوه، وكيف لا وأنت كالظفر كونًا، وقطعت اللذات، ولم لا وأنت كالصبح لونًا، أين بطشك من حلمي، وجهلك من علمي، وجسمك من جسمي:

شتان ما بين جسم صيغ من ذهب

وذاك جسمي وجسم صيغ من بهق4

أين عينك الزرقاء من عيني الكحيلة، ورؤيتك الشنعاء من رؤيتي الجميلة، أين لون الشيب من لون الشباب، وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب، هذا وكم أكلت الأكباد غيظًا، وحميت الأضغان5 قيظًَا وشكوت الصدأ فسقيت ولكن بشواظ6 من نار، وأخنت عليك الأيام حتى انتعل بأبعاضك7 الحمار، ولولا تعرضك إلي لما وقعت في المقت، ولولا إساءتك لما كنت تصقل في كل وقت، فدع عنك هذا الفخر المديد،

1 الصول: عصا الملك، وهي الصولجان.

2 الزخرف، 43/ 18.

3 سبة حمراء: شتمًا يوصل إلى الحرب. والدهماء: الحرب.

4 البهق: مرض جلدي يترك على الجلد بقعًا بيضاء.

5 الأضغان: مفردها ضغينة، وهي الأحقاد.

6 شواظ: قطع من الحديد حامية، شظايا.

7 أخنت عليك الأيام: أي جارت عليك وأتعبتك، انتعل: لبس في رجله أبعاضك: جمع مفرده بعض. أقسام منك.

ص: 235

وتأمل وصفي إذا {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} 1 وافهم قول ابن الرومي:

إن يخدم القلم السيف الذي خضعت

له الرقاب ودانت خوفه الأمم

فالموت والموت لا شيء يعادله

ما زال يتبع ما يجري به القلم

بذا قضى الله في الأقلام إذ بريت

إن السيوف لها مذ أرهفت خدم

فعند ذلك وثب السيف على قده، وكاد الغضب يخرجه عن حده، وقال أيها المتطاول على قصره، والماشي على طريق غرره، والمتعرض مني إلى الدمار، والمتحرش بي فهو كما تقول العامة: ذنبه قش ويحترس بالنار، لقد شمرت عن ساقك حتى أغرقتك الغمرات، وأتعبت نفسك فيما لا تدرك إلى أن أذهبها التعب حسرات، أولست الذي طالما أرعش السيف للهيبة عطفك، ونكس للخدمة رأسك وطرفك، وأمر بعض رعيته وهو السكين فقطع قفاك وشق أنفك، ورفعك في مهمات خاملة وحطك وجذبك للاستعمال وقطك2، فليت شعري كيف جسرت، وعبست على مثلي وبسرت3، وأنت السوقة وأنا الملك، وأنا الصادق وأنت المؤتفك4، وأنت لصون الحطام وأنا لصون الممالك، وأنت لحفظ المزارع وأنا لحفظ المسالك، وأنت للفلاحة وأنا للفلاح، وأنت حاطب الليل من نفسه5 وأنا ساري الصباح، وأنا الباصر وأنت الأرمد، وأنا المخدوم. الأبيض. وأنت الخادم الأسود، وأقسم بمن صير في قبضتي أنواع اليمن المسخرة، وجعل شخصك وشخصي كقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 6 إنك عن بلوغ قدري لأذل رتبة، وعن بري كفي لأخيب طلبة، فإني لا أنكر قول بعض أربابك، حيث قالوا:

أف لرزق الكتبه

أف له ما أصعبه

يرتشف الرزق به

من شق تلك القصبة

يا قلمًا يرف في الطـ

ـرس لوجهي ذنبه

ما أعرف المسكين إلا

كاتبًا ذا متربه7

1 ق، 50/ 22.

2 قطك: بتشديد الطاء: براك.

3 المؤتفك: الكاذب.

4 بسر: قطب حاجبيه.

5 حاطب الليل: مدلهم الليل، والنفس: المداد وأداته.

6 الإسراء، 17/ 12.

7 المتربة: الحاجة والفقر.

ص: 236

إن عاينت الديوان وقعت في الحساب والعذاب، أو البلاغة سحرت وبالغت فأنت ساحر كذاب، أو فخرت بتقييد العلوم فما لك منها سوى لمحة الطرف، أو برقم المصاحف فإنك تعبد الله على حرف1، أو جمعت عملًا فإنما جمعك للتكسير، أو رفعت إلى طرفك رجع البصر خاسئًا وهو حسير، وهل أنت في الدول إلا خيال تكتفي الهمم بطيفه، أو أصبع يلعق بها الرزق إذا أكل الضارب بقائم سيفه، وساع على رأسه قل ما أجدى، وسار ربما أعطى قليلًا وأكدى2. ثم وقف وأكدى، أين أنت من حظي الأسنى وكفي الأغنى، وما خصصت به من الجوهر الفرد إذا عجزت أنت عن العرض الأدنى، كم برزت فما أغنيت في مهمه، وكم خرجت من دواتك لتسطير سيئة، فخرجت كما قيل من ظلمة إلى ظلمة، وهب أنك كما قلت مفتوق اللسان، جريء الجنان، مداخل بمخلبك بين ذوي الاقتناص، معدود من شياطين الدول وأنت في الطرس والنقس بين بناء وغواص، فلو جريت خلفي إلى أن تحفى، وصحت بصريرك إلى أن تخفت وتخفى، فما كنت مني إلا بمنزلة المِدرة3 من السماك الرامح، والبعرة على تيار الخضم الطافح، فلا تعد نفسك بمعجزي فإنك ممن يمين4، ولا تحلف لها أن تبلغ مداي فليس لمخضوب البنان يمين، ومن صلاح نجمك أن تعترف بفضلي الأكبر، وتؤمن بمعجزتي التي بعثت منك إلى الأسود والأحمر لتستوجب حقًّا، وتسلم من نار حر تلظى لا يصلاها5 إلا الأشقى إن لم يتضح لرأيك إلا الإصرار، وأبت حصائد لسانك إلا أن توقعك في النار، فلا رعى الله عزائمك القاصرة، ولا جمع عقارب ليل نفسك التي إن عادت فإن نعال السيوف لها حاضرة، ثم قطع الكلام وتمثل بقول أبي تمام:

السيف أصدق إنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب

فلما تحقق تحريف القلم حرجه، وفهم مقدار الغيظ الذي أخرجه، وسمع هذه المقالة التي يقطر من جوانبها الدم، ورأى أنه هو البادي بهذه المناقشة والبادي أظلم،

1 تعبد الله على حرف: سريع الارتداد ضعيف الإيمان.

2 أكدى: عنّف ومنَّن.

3 السماك الرامح: نجم نير في الجهة الشمالية، ويقابله السماك الأعزل في الجنوب. وهو أيضًا نجم قطبي نير، المدرة: الطينة.

4 يمين: يكذب، ويمين الثانية: بمعنى القسم.

5 يصلاها: يحترق بها.

ص: 237

رجع إلى خداعه وتنحى عن طريق قِراعه1، وعلم أن الدهر دهره، والقدر على حكم الوقت قدره، وأنه أحق بقول القائل:

لحنها معرب وأعجب من ذا

أن إعراب غيرها ملحون2

فالتفت إليه وقال: أيها المتلهب في قدحه3، والخارج عما نسب إليه من صفحه، ما هذه الزيادة في السباب، والتطفيف في كيل الجواب، وأين علم الشيوخ عند جهل الشباب، أما كان الأحسن بك أن تترك هذا الرفث4، وتعلم5 أخاك على الشعث6 وتحلم كما زعمت أنك السيد، وتزكو على الغيظ كما يزكو على النار الجيد، أما تعلم أني معينك في تشييد الممالك، ورفيقك فيما تسلكه لنفعها من المسالك، أما أنا وأنت للملك كاليدين، وفي تشييده كالركنين الأشدين؛ وما أراك عبتني في الأكثر إلا بتحول جسدي الذي ليس خلقه علي، وضعفه الذي ليس أمره إلي، على أن أشهى الخصور أنحفها7، وأقوى الجفون أضعفها، وأزكى النسيمات أعلها وأدنفها8، وهذه سادات العرب تعد ذلك من فضلها الأظهر وحسنها الأشهر، ولو أنك تقول بالفصاحة وتقف في هذه الساحة، لأسمعتك في ذلك من أشعارهم وأتحفتك بما يفخرون به من آثارهم، وكذلك عيبك سواد خلقتي التي:

أكسبها الحب حلية صبغت

صبغة حب القلوب والحدق9

فيا لله ويا للحجر الأسود من هذه الحجة البائرة، والكرة الخاسرة، وعلى هذه النسبة ما عبتني به من فقر الأنبياء وذل الحكماء، على أن إطلاقات معروفي معروفة، وسطوات

1 قراعه: قتاله، ومنها مقارعة الأبطال، قتالهم ومنازلتهم.

2 اللحن: الخطأ في النحو عند الكلام.

3 قدحه: ذمه.

4 الرفث: الفحش.

5 هكذا وردت ونظنها "وتلم" وهي من بيت للنابغة:

ولست بمستبق أخًا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

6 الشعث: التفرق.

7 أنحفها: أكثرها نحافة أي أدقها.

8 أَعَلُها وأدْنَفُها: أكثرها نعومة ومدعاة للسكون والهدوء والدنف: السكر.

9 حب القلوب: سويداؤها، والحدق: جمع مفرده حدقه وهي سواد العين.

ص: 238

أمري في وجوه الأعداء المكسوفة مكشوفة، فأستغفر الله مما فرط في مقالك، والتقويض من عوائد احتمالك، فلا تشمت بنا الأضداد ولا تسلط بفرقتنا المفسدين في الأرض إن الله لا يحب الفساد، واغضض الآن من خيلائك بعض هذا الغض، ولا تشك أني قسيمك ولو قيل لك: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، وإن أبيت إلا أن تهدد وتجرد الشغب وتحدد، فاذكر محلنا من اليد الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية، أيد الله نعمها وجازى بالإحسان شيمها، وأيقظ في الآجال والآمال سيفها وقلمها، ولا عطل مشاهد المدح من أنسها، ولا أخلى قرائض الباس والكرم من قيام خمسها، فأقسم من بأسه بالليل وما وسق، ومن بشر طلعته بالقمر إذا اتسق1 لو تجاور الأسد والظباء بتلك اليد لوردا بالأمن في منهل، ورتعا في روض لا يجهل، ولو لجأ إليها النهار لما راعه بمشيئة الله الليل بزجر، أو الليل لما غلب على خيطه الأسود الخيط الأبيض من الفجر، وعلى ذلك فما ينبغي لنا بين تلك الأنامل غير سلوك الأدب، والمعاضدة على محو الأزمات والنوب، والاستقامة على الحق ولا عوج، والحديث من تلك الراحة عن البحر ولا حرج، هذه نصيحتي إليك والدين النصيحة، والله تعالى يطلعك على معاني الرشد الصريحة، ويجعل بينك وبين الغي2 حجابًا مستورًا، وينسيك ما تقدم من القول وكان ذلك في الكتاب مسطورًا.

فعند ذلك. نكس السيف طرفه، وقبل خديعة القلم قائلًا لأمر ما جدع قصير أنفه، وأمسك عن المشاغبة خيفة الزلل، فإن السيوف معروفة بالخلل، ثم قال: أيها الضعيف الجبار، البازع في ليل المداد نجمًا وكم في النجوم غرار، لقد تظلمت من أمر أنت البادي بظلمه، وتسورت إلى فتح باب أنت السابق إلى فتح ختمه، وقد فهمت الآن ما ذكرت من أمر اليد الشريفة ونعم ما ذكرت، وأحسن بما أشرت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، وقد تغفلت عن قولك الأحسن، ورددتك إلى أمك الدواة كي تقر عينها ولا تحزن، وسألت الله تعالى أن يزيد محاسن تلك اليد العالية تمامًا على الذي أحسن فإنها اليد التي:

لو أثر التقبيل في يد منعم

لمحا براجم كفها التقبيل3

والراحة التي:

تسعى القلوب لغوثها ولغيثها

فيجيبه التأمين والتأميل4

1 اتسق: اعتدل وتم.

2 الغي: الغواية والاغترار والانحراف.

3 البراجم: مفاصل الأصابع واحده: بَرْجَم.

4 الغوث: النجدة، الغيث: العطاء، التأمين: الأمان، التأميل: الأمل.

ص: 239

والأنامل التي علمها الله بالسيف والقلم ومكنها من رتبتي العلم والعلم، ودارك بكرمها آمال العفاة بعد أن ولا ولم، ولولا أن هذا المضمار يضيق عن وصفه السابق إلى غاية الخصل، ومجده الذي إذا جر ذيله ودّ الفضل لو تمسك منه بالفضل، لأ طلت الآن في ذكر مجدها الأوضح، وأفصحت في مدحها ولا ينكر لمثلها إن أنطقت الصامت فأفصح، ثم إنك بعدما تقدم من القول المزيد، والمجادلة التي عز أمرها على الحديد، أقررت أنت أننا للملك كاليدين ولم تقر أينا اليمين، وفي آفاقه كالقمرين ولم تذكر أينا الواضحة الجبين، وما يشفي ضناي ويروي صداي إلا أن يحكم بيننا من لا يرد حكمه، ولا يتهم فهمه، فيظهر أينا المفضول من الفاضل، والمخذول من الخاذل، ويقصر عن القول المناظر ويستريح المناضل، وقد رأيت أن يحكم بيننا المقام الأعظم، الذي أشرت إلى يده الشريفة، وتوسلت بمحاسنها اللطيفة، فإنه مالك زمامنا ومنشئ غمامنا ومصرف كلامنا وحامل أعباءنا، الذي ما هوى للهوى، وصاحب أمرنا ونهينا، وتالله ما ضل صاحبكم وما غوى، ليفصل الأمر بحكمه، ويقدّمنا إلى مجلسه الشريف فيحكم بيننا بعلمه، فقدم خيره الله على ذلك الاشتراط، وقل بعد تقبيلنا الأرض له في ذلك البساط: خصمان بغي بعضنا على بعض، فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، فنشط القلم فرحًا، ومشى في أرض الطرس مرحًا، وطرب لهذا الجواب وخر راكعًا وأناب، وقال: سمعًا وطاعة، وشكر الله على هذه الساعة:"يا برد ذاك الذي قالت على كبدي".

الآن ظهر ما تبغيان، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وحكم بيننا الرأي المنير، ونبأنا بحقيقة الأمر ولا ينبئك مثل خبير، ثم تفاصلا على ذلك، وتراضيا على ما يحكم به المالك، وكانوا أحق بها وأهلها وانتبه المملوك من سنة فكره، وطالع بما اختلج سواد هذه الليلة في سره، والله تعالى يديم أيام مولانا السلطان التي هي نظام المفاخرة، ومقام المآثر، وغوث الشاكي وغيث الشاكر، ويمتع بظلال مقامه الذي لا تكسر الأيام مقدار ما هو جابر، ولا تجبر ما هو كاسر، إن شاء الله تعالى.

تمت رسالة الشيخ جمال الدين التي كشف بها عن قناع المغايرة، وأتى فيها بكل مثال ليس له مثيل، ووسمها بصاحب حماة فأطاعه عاصي الأدب، ووهب الله له على الكبر إسماعيل.

نرجع إلى أبيات البديعيات فبيت الشيخ صفي الدين:

فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم

عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم1

1 كلأ: حمى وحرس.

ص: 240

الشيخ صفي الدين غاير الناس في الدعاء لعذاله، وما ذاك إلا أن العذول ما برح ممتزجًا بذكر الأحباب، فكلما كرروا عذله وذكروا أحبابه فرجعوا كربه بذلك الذكر.

والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته:

تغاير الحال حتى للنوى فئة

أصبحت منتظرًا أيام وصلهم

أما الشرح في نوع المغايرة فقد طال. والكلام في بيت عز الدين يضيق عنه المجال؛ فإنه نظم المغايرة ولكن غاير بها الأفهام، وما أرانا من عقادة بيته غير الإبهام.

وبيت بديعيتي:

أغاير الناس في حب الرقيب فمذ

أراه أبسط آمالي بقربهم1

الناس قد أجمعوا على ذم الرقيب وغايرتهم في مدحه لمعنى، وما ذاك إلا أنني لما أراه أتحقق أنه ما تجرد للمراقبة إلا وقد علم بزيارة الحبيب، فانظر إلى حسن المغايرة وغرابة المعنى وحسن التركيب.

1 الرقيب: المراقب الواشي.

ص: 241