الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر المراجعة:
قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني
…
قال احتمل قلت من يقوى لصدهم
المراجعة ليس نحتها كبير أمر، ولو فوض إليَّ حكم في البديع ما نظمتها في أسلاك أنواعه، وذكر ابن أبي الأصبع أنها من اختراعاته، وعجبت من مثله كيف قربها إلى الذي استنبطه من الأنواع البديعية الغريبة، كالتهكم والافتنان والتدبيج والهجاء في معرض المدح والاشتراك والألغاز والنزاهة، ومنهم من سمى هذاالنوع، أعني المراجعة، السؤال والجواب، وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول، ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره، بأوجز عبارة وأرشق سبك، وألطف معنى، وأهس لفظ، إما في بيت واحد أو في أبيات، كقول عمر بن أبي ربيعة:
بينما ينعتنني أبصرنني
…
مثل قيد الرمح يعدو بين الأغر1
قالت الكبرى ترى من ذا الفتى
…
قالت الوسطى لها هذا عمر2
قالت الصغرى وقد تيمتها
…
قد عرفناه وهل يخفى القمر3
1 ينعتنني: يصفني، يعدو: يركش، الأغر: الحصان الأبيض الذي في جبهته غرة وقد روي هذا البيت كما يلي:
بينما يذكرنني أبصرنني
…
دون قيد الميل يعدو بي الأغر
2 وهذا البيت روي: قالت الكبرى أتعرفن الفتى. وهذا البيت للإجابة في البيت الثالث قد عرفناه
3 تيمتها: جعلتها تحبني وتتعلق بي.
قال ابن أبي الأصبع، لما أورد هذه الأبيات، واستشهد بها على النوع، في كتابه المسمى بـ "تحرير التحبير": إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه، وما ذاك إلا أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت مرفوعة، وأما بلاغته في الأبيات فإنه جعل التي عرفته وعرَّفت به وشبهته تشبيها يدل على شغلها به، هي الصغرى، ليظهر بدليل الالتزام أنه فتى السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلا إلى الفتى من الرجال غالبًا، وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا، ولا يقال إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجريبها، فإني أقول: إنه تخلص من هذا المدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن، ما كانت رأته قبل ذلك، وإنما كانت تهواه على السماع، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها، أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها، ما أظهرت من سؤالها عنه، ولم تتجاوز ذلك وقنعت بالسؤال عنه، وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه، وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله، والعقل يمنعها من التصريح، وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم فكانت دون الكبرى في الثبات، وأما الصغرى فمنزلتها في الثبات دون الأختين، لأنها أظهرت في معرفة وصفة ما دل على شدة شغفها به، فكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشاعر تدل عليه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع.
ومن جيد أمثلة هذا النوع قول أبي نواس:
قال لي يومًا سليما
…
ن وبعض القول أشنع1
قال صفني وعليا
…
أينا أبقى وأنفع
قلت إني إن أقل ما
…
فيكما بالحق تجزع
قال كلا قلت مهلا
…
قال قل لي قلت فاسمع
قال صفه قلت يعطي
…
قال صفني قلت تمنع
ومثله قول البحتري:
بت أسقيه صفوة الراح حتى
…
وضع الرأس مائلا يتكفا2
قلت عبد العزيز تفديك نفسي
…
قال لبيك قلت لبيك ألفا
هاكها قال هاتها قلت خذها
…
قال لا أستطيعها ثم أغفى3
1 أشنع: ثقيل.
2 يتكفا: يتكأ: يتمايل.
3 هاكها: انظرها.
وعلماء البديع أجمعوا على استحسان قول وضاح اليمن، من أبيات:
قالت ألا لا تلحن دارنا
…
إن أبانا رجل غائر1
قلت فإني طالب غرة
…
منه وسيفي صارم باتر
قلت فإن البحر ما بيننا
…
قلت فإني سابح ماهر
قالت فإن القصر عالي البنا
…
قلت فإني فوقه طائر
قالت أليس الله من فوقنا
…
قلت بلى وهو لنا غافر
قالت فقد أعييتنا حيلة
…
فأت إذا ما هجع السامر2
واسقط علينا كسقوط الندى
…
ليلة لا ناه ولا آمر
وظريف هنا قول بعضهم:
قلت لقدأشمت بي حُسّدي
…
مذ بحت بالسر لهم معلنا
قلت أنا قالت وإلا فمن
…
قلت أنا قالت وإلا أنا
وهي أبيات طويلة جميعها على هذا المنوال منسوج، ولكن اكتفيت بالتمثيل منها على هذا القدر.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
قالوا اصطبر قلت صبري غير متبع
…
قالوا اسلهم قلت وذي غير منصرم3
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
راجعت في القول إذ أطلقت سلوتهم
…
قال اسلهم قلت سمعي عنك في صمم
والمراجعة إن لم تتكرر، لم يبق لها في القلوب حلاوة، ولا يطبق اسمها مسماه، وقد تقدم قول الشاعر وتكراره في قوله:
قلت أنا قالت وإلا فمن
…
قلت أنا قالت وإلا أنا
وعز الدين لم يكرر مراجعته، ولم يأت بها إلا في مكان واحد، والذي أقوله إنه ما
1 ولج: دخل سرًّا - الغائر: النائم في وسط النهار.
2 هجع: رقد ونام.
3 أسلهم: أمر من سلا: نسي.
صده عن ذلك إلا اشتغاله بتسمية النوع، ولكن ليته لو دخل إلى سوق الرقيق، وبيت بديعيتي:
قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني
…
قال احتمل قلت من يقوى لصدهم
وهذا البيت متعلق ببيت التهكم الذي قبله، وهو البيت المبني على خطاب العاذل وهو:
ذا العذول بهم وجدا فقلت له
…
تهكما: أنت ذو عز وذو شمم