الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم:
قولي له موجب إذ قال أشفقهم
…
تسل قلت بناري يوم فقدهم
القول بالموجب، ويقال له أسلوب الحكيم، وللناس فيه عبارات مختلفة: منهم من قال هو أن يخصص الصفة بعد أن كان ظاهرها العموم، أو يقول بالصفة الموجبة للحكم، ولكن يثبتها لغير من أثبتها المتكلم.
وقال ابن أبي الأصبع: هو أن يخاطب المتكلم مخاطبًا بكلام، فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم، وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه. قال صاحب التلخيص، في تلخيصه وإيضاحه: القول بالموجب ضربان: أحدهما، أن تقع صفة من كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم، فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء، من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم وانتفائه، كقوله تعالى:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 1 فإنهم كنوا بالأعز عن فريقهم، وبالأذل عن فريق المؤمنين، وأثبتوا للأعز الإخراج، فأثبت الله تعالى، في الرد عليهم، صفة العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم. انتهى كلام صاحب التلخيص.
ومنه قول القبعثري للحجاج لما توعده فقال: لأحملنك على الأدهم: والمراد به
1 المنافقون: 8/ 36.
القيد فرأى القبعثري أن الأدهم يصلح للقيد والفرس، فحمل كلامه إلى الفرس، وقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب فصرف الوعيد بالهوان إلى الوعد بالإحسان وفي هذا ما لا يخفى على المتأدب من حسن التطلف وشدة الباعث على فعل الخير، إذ لا يليق بمن له همة عالية أن يقال له: مثلك من يفعل الخير، فيقول: لا بل أفعل الشر.
والقسم الثاني من كلام صاحب التلخيص: أن القول بالموجب، هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده، مما يحتمله بذكر متعلقه، وهذا القسم الذي تداوله الناس1، ونظمه أصحاب البديعيات، كقول ابن حجاج:
قال ثقلت إذ أتيت مرارا
…
قلت ثقلت كاهلي بالأيادي
قال طولت قلت أوليت طولا
…
قال أبرمت قلت حبل ودادي2
وحذاق البديع أخلوا هذا الباب من لفظة لكن، فإنهم خصصوا بها نوع الاستدراك، بحيث يفرق بينهما فرق دقيق، وهذا هو الفرق. ومن أحسن ما وقع في هذا النوع قول محاسن الشواء:
ولما أتاني العاذلون عدمتهم
…
وما فيهم إلا للحمى قارض3
وقد بهتوا لما رأوني شاحبًا
…
وقالوا به عين فقلت وعارض4
وأورد الشهاب محمود، في كتابه المسمى "بحسن التوسل إلى صناعة الترسل" بيت الأرجاني في الاستدراك شاهدًا على هذا النوع، وهو:
غالطتني إذ كست جسمي ضنى
…
كسوة أعرت من اللحم العظاما
ثم قالت أنت في الهوى
…
مثل عيني صدقت لكن سقاما
قد تقرر أن لفظة لكن خصص بها أهل البديع نوع الاستدراك، لأجل الفرق بينه وبين القول بالموجب، ولم يستشهدوا على نوع الاستدراك بغير بيتي الأرجاني. قال الشهاب محمود في البيتين: إنه أعجبه معناهما، ونظم فيه قوله، وهو شاهد على القول بالموجب:
1 في الأصل وردت تداول بين الناس ولسلامة المعنى أثبتنا تداوله الناس إذ كان يجب أن يقول: تدوُوِل بين الناس فهو متداول، أي مفعول وليس فاعلًا. وتداول: جرى استعماله.
2 أبرم: قتل وأحكم الربط.
3 قارض: من قرض إذا قطع وأكل.
4 عارض: مصيبة ما يعرض للإنسان في حياته.
رأتني وقد نال مني النحول
…
وفاضت دموعي على الخد فيضا1
فقالت بعيني هذا السقام
…
فقلت صدقت وبالخصر أيضا
وبيت الحلي:
قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم
…
سلوت عن صحتي والبرء من سقمي2
فقوله: سلوت عن صحتي هو حمل لفظ وقع من كلام الغير على خلاف مراده.
وبيت العميان أوردوه بحرف الاستدراك وهو:
كانوا غيوثًا ولكن للعفاة كما
…
كانوا ليوثًا ولكن في عداتهم3
رأيت ترك الكلام على هذا البيت أليق بالمقام.
وبيت عز الدين الموصلي:
قالوا مدام الهوى قول بموجبه
…
تسل قلت شبابي من يد الهرم4
لما قال الشيخ عز الدين، بعد تسل: شبابي من يد الهرم، علمنا أنها الكلمة التي أشار إليها ابن أبي الأصبع، وقال: إن المخاطب يعكس بها معنى كلام المتكلم وهو عين القول بالموجب. وتسل هنا، أحسن من سلوت في بيت الحلي، فإن تسل يقبل الاشتراك ومراد المتكلم هنا داء السل، فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم، ونقله باشتراك التورية، إلى الوجه الذي أراده، ولم يخرج عن موضوعها في معنى السل الذي لم يخرج عن الوجهين، غير أن قول: الموصلي مدام الهوى قول بموجبه، لم يخل من شدة العقادة، وبيت بديعيتي:
قولي له موجب إذ قال أشفقهم
…
تسل قلت بناري يوم فقدهم
فلفظة تسل هي الكلمة المعتمد عليها في عكس معنى كلام المتكلم من المخاطب، فإن المتكلم أراد السلو في لفظة تسل، وهي فعل أمر، فعاكسه المخاطب بالاشتراك، ونقلها بالتورية إلى صفة التسلي بالنيران، فإنه لما قال له: تسل، قال: بناري يوم فقدهم. ورقة البيت وانسجامه لا تخفى على أهل الذوق السليم، والله أعلم.
1 النحول: الضعف والسقم.
2 الإلف: الحبيب الذي يألفه حبيبه.
3 العفاة: طالبو المعروف، العداة: مفردها العادي: وهو العدو.
4 تسل: تصيب بمرض السل، وتسحب وتخلص. وأمر من سلا أي نسي.