الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجناس:
ذكر الجناس المركب والمطلق:
بالله سر بي فسربي طلقوا وطني
…
وركبوا في ضلوعي مطلق السقم
أما الجناس، فإنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله من أهل الأدب، كذلك كثرة اشتقاق الألفاظ، فإن كلًا منهما يؤدي إلى العقادة والتقييد عن إطلاق عنان البلاغة في مضمار المعاني المبتكرة، كقول القائل، وأستحيي أن أقول إنه أبو الطيب:
فقلقت بالهم الذي قلقل الحشا
…
قلاقل عيش كلهن قلاقل1
ولقد تصفحت ديوانه فلم أجد لوافد هذا النوع نزولًا، إلا ما قبل في أبياته وهو نادر جدًّا، ولا العرب من قبل خيمت بأبياتها عليه، غير أن هذا البيت حكمت على أبي الطيب به المقادير، ومثله قول القائل:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
فقرب وقبر، لأجل الجناس المقلوب هو الذي قلب عليه القلوب، اللهم إلا أن يقع الجناس في حشو بيت من البحور التي تحمل ثقله من غير اعتناء بأمره، كقول القائل:
لله لبنى كلما لبنا على
…
تعنيقها ونهودها تتقاعد2
وبنار أسما وهي أسمى زينة
…
لقد احترقت وريقها يتبارد
1 قلاقل: بضم القاف الأولى: العيش السريع التقلقل. والقلاقل بفتحها الفتن.
2 لبنا: من لاب، يلوب، لا يستطيع القعود عن الأمر، أو الصبر عليه.
ففي طلعة شمس التورية هنا ما يغني عن النظر إلى زحل الجناس ولقد أحسن من قال:
انظر إلى صور الألفاظ واحدة
…
وإنما بالمعاني تعشق الصور
والجناس من صور الألفاظ، وممن وافق على ذلك علامة عصره الشهاب محمود، وقال: إنما يحسن الجناس إذا قل، وأنى في الكلام عفوًا، من غير كد ولا استكراه ولا بعد ولا ميل إلى جانب الركة1، ولا يكون كقول الأعشى.
وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني
…
شاو مشل شلول شلشل شول2
ولا كقول مسلم بن الوليد:
شلت وشلت ثم شل شليلها
…
فإني شليل شليلها مشلولا3
ولا بأس به في مطالع القصائد، إن تعذر على الناظم أن يركبه تورية، فإنه نوع متوسط، بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع، كما قرره مشايخه، كالتورية والاستخدام والاستعارة والتشبيه، وما قارب ذلك من أنواع البديع. وحكي عن ابن جني: أن الأصمعي كان يدفع قول العامة إذا قالوا هذا يجانس هذا إذا كان من شكله، ويقول ليس بعربي خالص. وقال ابن رشيق صاحب العمدة: هو من أنواع الفراغ. وقلة الفائدة، ومما لا يشك في تكلله. وقد كثر منه هؤلاء الساقة المتعقبون في نظمهم ونثرهم حتى برد ورك "انتهى كلامه". ولم يحتج إليه، بكثرة استعماله، إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني التي هي كالنجوم الزاهرة في أفق الألفاظ، وإذا خلت بيوت الألفاظ من سكان المعاني تنزلت منزلة الأطلال البالية، وما أحلى قول الفاضل هنا:
إنما الدار قبل بالسكان
…
ثم بعد السكان بالجيران
فإذا ما الأرواح شردها الحتـ
…
ـف فماذا يراد بالأبدان
وكان الشيخ صلاح الدين الصفدي يستسمن ورمه ويظنه شحمًا، فيشبع أفكاره منه ويملأ بطون دفاتره، ويأتي فيه بتراكيب تخف عندها جلاميد الصخور، كقوله غفر الله له:
1 الركة: الركاكة: وهي ضعف البناء اللغوي.
2 شاو: الذي يشوي اللحم. مشل شلول شلشل شول: كلها ألفاظ ذات معنى واحد وهو الخفيف السريع في عمله.
3 شلت: الأولى بمعنى نسجت. والثانية بمعنى: رميت ولم تستعمل، شل: أرسل. شليلها: الذي نسجها: شليل شليلها: بمعنى أنني مغرم بالذي نسجها، مشلولا: لا حركة له.
ونم في أمان بالحبيب ولا تخف
…
لقائط واش في لقاء طواشي1
وقوله:
وكم ساق في الظلماء والليل شاهد
…
رواحل واط في رواح لواط2
وقوله:
وإني إذا كان الفراق معاندي
…
مطالع ناء في مطال عناء3
وقوله في الراح:
وكم ألبست نفسي الفتى بعد نورها
…
مدارع قار في مدار عقار4
وقوله:
إذا جرح العشاق قالوا أقمت في
…
مدار جراح في مدارج راح
وقوله:
وكم شمت لما قست مقدار ودكم
…
بوارق ياس في بوار قياس
وقوله:
ولا تفتحن باب الهدايا وعدها
…
مطار فراش لا مطارف راش5
وقوله:
ثنت نحوه الأغصان قامة لينها
…
طواعن شاط في طواع نشاط
وقوله:
ومر على غيري سقام وصحة
…
ولم يبر قان مثل ذي برقان7
ورأيت بخط الشيخ بدر الدين البشتكي، تحت هذا البيت والذي قبله وهو الضعيف بالريقان، وأن من ذلك مبلغه من النظم لجدير أن يقعد مع صغار المتأدبين، "انتهى" ومنه قوله:
فجار وأجرى حين جاورت واجترى
…
فما فاتته مما يروم جناس8
وقوله:
زاروا وزانوا وزادوا
…
هذا الجناس المليح
في ذلك من الركة ما لا يخفى على أهل الذوق السليم، ولولا الخشية من سأم الأسماع لأوردت له كثيرًا من هذا النمط، وما أظرف ما وقع له مع الشيخ جمال الدين بن نباتة، وذلك أنه لما وقف على كتابه المسمى "بجنان الجناس" وقد اشتمل على كثير من هذا النوع، قرأه: جنان الخناس، وجرى بينهما بسبب ذلك ما يطول شرحه، وهذا
1 لقائط: ما يلتقطه الواشي من أقوال لينقلها ويشي بصاحبها - طواشي: الخصي.
2 رواحل: مفردها: راحلة وهي الدابة، واطٍ: السوقة من الناس.
3 ناء: بعيد - مطال: إخلاف الوعد والمماطلة في تفنيذه.
4 مدارع: مفردها مدرعة: ثوب من صوف، والقار: المقيم.
5 مطارف: مفردها مطرف وهو الثوب الفضفاض - راش: مولود وهو من رشأت الظبية إذا ولدت.
6 طواعن: جمع مفرده طاعن وهو ما يطعن به، شاط: مخطئ في رميه.
7 سقام: مرض، لم يبر قان: أي لم يضعف الدم - ذي برقان: المريض بالكبد
8 جار وأجرى: ظلم وجعل غيره يظلم - اجرتى: اجترأ - يروم: يبغي.
مما يؤيد قولي أنه غير مذهبي ومذهب من نسجت على منواله، ويعجبني هنا قول الشيخ زين الدين عمر بن الوردي رحمه الله تعالى:
إذا أحببت نظم الشعر فاختر
…
لنظمك كل سهل ذي امتناع
ولا تقصد مجانسة ومكن
…
قوافيه وكله إلى الطباع
وكان الأسعد بن مماتى أيضًا، ممن لم يجعل الجناس له مذهبًا في نظمه، وما أحلى ما قال:
طبع المجنس فيه نوع قيادة
…
أو ما ترى تأليفه للأحرف
ومن غريب ما يحكى: أن الشيخ صلاح الدين الصفدي، مع تهافته على الجناس والتزامه بما صنفه في جنسه وأنواعه، زاحم ابن مماتى في لفظ بيته ومعناه فقال:
ألا إن من عانى القريض بطبعه
…
يقود فأرسله لمن صد واحتشم
ألم تره إن قال شعرًا مجانسًا
…
يؤلف ما بين الحروف إذا نظم
فانظر كيف أخذ المعنى وغالب الألفاظ، ولم يتمكن من نظم ذلك إلا في بيتين، أتى فيهما بكثرة الحشو مع قلة الأدب على أهله، فإن الأسعد أثبت القيادة لطبع المجنس، والشيخ صلاح الدين أثبت الحكم المذكور لمن يعاني نظم الشعر، وقد طال الشرح وتعين الكلام على الجناس، لأن الشروع فيه يلزم لأجل المعارضة لمن تقدمني من ناظمي البديعيات.
أما هذا النوع فإنه ما سمي جناسًا إل لمجيء حروف ألفاظه من جنس واحد، ومادة واحدة، ولا يشترط فيه تماثل جميع الحروف، بل يكفي في التماثل ما تعرف به المجانسة. وأما اشتقاق الجنس فمنهم من يقول: التجنيس، هو تفعيل من الجنس، ومنهم من يقول: المجانسة، المفاعلة من الجنس أيضًا، إلا أن إحدى الكلمتين، إذا تشابهت بالأخرى، وقعت1 بينهما مفاعلة الجنسية. والجناس مصدر جانس، ومنهم من يقول: التجانس، التفاعل من الجنس لأنه مصدر تجانس الشيئان، إذا دخلا في جنس واحد، ولما انقسم أقساما كثيرة وتنوع أنواعًا عديدة، تنزل منزلة الجنس الذي يصدق على كل واحد من أنواعه، فهو حينئذ جنس، وأنواع: التام والمحرف والمصحف والملفق، وهلم جرا. كما أن البديع جنس وأنواعه: الجناس واللف والنشر والاستعارة والتورية والاستخدام وغير ذلك من أنواع البديع، وأما حدود أنواع الجناس، فقد اختلفت
1 في الأصل وقع وما أثبتناه أصح "الشارح".
فيها عبارات البديعيين، ولكن نأتي بحد كل واحد من الأنواع في موضعه ونذكر ما وقع الاتفاق عليه.
وقد صدرت بديعيتي هذه بالجناس المركب والمطلق، حسب ما رتبه الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته، ولكن فاته شنب التسمية وإبرازها في شعار التورية، من جنس التغزل، فحد المركب أن يكون أحد الركنين كلمة مفردة، والأخرى مركبة من كلمتين، وهو ضربين: فالأول ما تشابه لفظًا وخطًّا، كقول الشاعر:
عضنا الدهر بنابه
…
ليت ما حل بنا به
ومثله قول القائل:
ناظراه فيما جنى ناظراه
…
أو دعاني أمت بما أودعاني1
وحفظت من شيخي العلامة الشيخ شمس الدين الهيتي الحسني النحوي، وأنا في مبادي العمر والاشتغال من الجناس المركب المتشابه قول القائل من دوبيت2:
في مصر من القضاة قاض وله
…
في أكل مواريث اليتامى وله3
إن رمت عدالة فقل مجتهدًا
…
من عد له دراهمًا عدله
وكان يقول لا أعرف لهما ناظمًا، وما ألطف قول القائل:
يا سيدا حاز رقى
…
بما حباني وأولى
أحسنت برًّا فقل لي
…
أحسنت في الشكر أولا
وقال العلامة شهاب الدين محمود: أنشدني الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الوهاب لنفسه، من المتشابه لفظًا وخطًّا:
حار في سقمي من بعدهم
…
كل من في الحي داوى أورقا4
بعدهم لا طل وادي المنحنى
…
وكذا بأن الحمى لا أورقا5
1 ناظراه: الأولى بمعنى، ناقشاه والثانية بمعنى عيناه - دعاني: أتركاني.
2 دوبيت: دو فارسية بمعنى اثنين فيكون: بيتين.
3 وله: عشق شديد.
4 رقا: استعمل الرقى في التداوي.
5 ظل: ندى - البان: نوع من الشجر يضرب المثل بأغصانه في الليونة والملاسة.
وأورد الشيخ صلاح الدين الصفدي، لنفسه، في كتابه المسمى "بجناس الجناس" من هذا النوع، قوله:
يا من إذا ما أتاه
…
أهل المودة أولم1
أنا محبك حقًّا
…
إن كنت في القوم أو لم2
وهذا النوع لم يذكره الشيخ صفي الدين في بديعيته.
انتهى الكلام على المتشابه من المركب لفظًا وخطًّا والثاني ما هو متشابه لفظًا لا خطًّا، ويسمى المفروق: وهو الذي نظمه صفي الدين في بديعيته، كقول الشاعر:
لا تعرضن على الرواة قصيدة
…
ما لم تكن بالغت في تهذيبها
وإذا عرضت الشعر غير مهذب
…
عدوه منك وساوسًا تهذي بها
ومثله قول القائل:
يا من تدل بمقلة
…
وأنامل من عندم3
كفى جعلت لك الفدا
…
أسياف لحظك عن دمي
ومثله قول ابن أسد الفارقي:
غدونا بآمال ورحنا بخيبة
…
أماتت لنا أفهامنا والقرائحا
فلا تلق منا غاديًا نحو حاجة
…
لتسأله عن حاجة والق رائحًا
ويحسن هنا قول أبي الفتح البستي فيه:
وإن أقر على رق أنامله
…
أقر بالرق كتاب الأنام له4
وما ألطف قول العلامة شهاب الدين محمود من هذا النوع:
ولم أر مثل نشر الروض لما
…
تلاقينا ببنت العامري
جرى دمعي وأومض برق فيها
…
فقال الروض في ذا العام ريي5
1 أولم: أقام وليمة
2 أولم: أي أو لم تكن.
3 عندم: نبات يصبغ به يقال له: دم الأخوين.
4 الرق: العبودية.
5 فيها: فمها - ريي: ارتوائي.
ومن لطائف الشيخ جمال الدين بن نباتة:
قمرًا نراه أم مليحًا أمردا
…
ولحاظه بين الجوانح أم ردى1
ومثله قول شمس الدين محمد بن العفيف:
أسرع وسر طالب المعالي
…
بكل واد وكل مهمه2
وإن لحا عاذل جهول
…
فقل له يا عذول مه مه
ومثله قوله:
إن الذي منزله
…
من سحب دمي أم رعى6
لم أدر من بعدي هل
…
ضيع عهدي أم رعى
ومثله قولي للقاضي بهاء الدين السبكي، رحمه الله تعالى:
كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي
…
حتى تعود لِيَ الحياة وأنت هي
وأنشدني قاضي القضاة، تقي الدين بن الحسني الحنفي، بحماة في مبادئ العمر، وقد ذكرت بين يديه الجناس المركب
قلت للعهاذ الملح على الدمع
…
وإجرائه على الخد نيلا
سل سبيلا إلى النجاة ودع دمع
…
عيوني تجري لهم سلسبيلا
ومن أنواع الجناس المركب نوع يسمى المرفوّ: وهو أن يكون أحد الركنين جزءًا مستقلًا والآخر مجزأ من كلمة أخرى، كقول الحريري:
والمكر مهما استطعت لا تأته
…
لتقتني السؤدد والمكرمه
ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه
…
بدمع يحاكي المزن حال مصابه
ومثل لعينيك الحمام ووقعه
…
وروعة ملقه ومطعم صابه4
وهذا النوع لا يخلو من تعسف وعقاده5 في التركيب
انتهى الكلام على الجناس المركب وأقسامه، غير أن هنا بحثًا لطيفًا وهو أنه قد
1 الردى: الموت.
52 المهمه: المفازة.
3 أمر رعى: أخصب
4 الجمام: الموت - الصبب: المر المذاق.
5 عقادة: تعقيد.
تقرر: إن ركني الجناس يتفقان في اللفظ ويختلفان في المعنى؛ لأنه نوع لفظي لا معنوي، وهو نوع متوسط بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع، والتورية من أعز أنواعه وأعلاها رتبة، فإذا جعلت الجناس تورية، انحصر المعينان في ركن واحد وخلصت من عقادة الجناس، وحركة الأذواق وأبهجت خاطر السامع، بما أتحفته من بديع تركيبها وتأهيله بغريبها، وأنا أذكر المثالين هنا ليتضح في الأذهان الصحيحة، أن النهار لم يحتج إلى إقامة دليل. قال صاحب الجناس المركب:
أعن العقيق سألت برقًا أومضا
…
أأقام حاد بالركائب أو مضى1
قال صاحب التورية:
وإذا تبسم ضاحكًا لم ألتفت
…
إن عاد برقا في الدياجي أو مضا
وهنا يحسن أن يتمثل بقول القائل:
ومن يقل للمسك أين الشذا
…
كذبه في الحال من شما
ومثله قول الشاعر:
نديمي لا تسقني
…
سوى الصرف فهو الهني
ودع كأسها أطلسا
…
ولا تسقني مع دني2
ومن التورية المركبة ما أنشدني، من لفظه، علامة عصرنا القاضي بدر الدين بن الدماميني، بما كتب به إلى مولانا الحافظ الشيخ شهاب الدين ملك المتأدبين، وعمدة المحققين، أبي العباس أحمد بن حجر الشافعي:
حمى ابن علي حوزة المجد والعلا
…
ومن رام المعالي وحازها
وكم مشكلات في البيان بفهمه
…
تبينها من غير عجب ومازها3
فأجابه شيخنا المشار إليه:
بروحي بدرًا في الندا ما أطاع من
…
نهاه وقد حاز المعالي فزانها
يسائل أن ينهي عن الجود نفسه
…
وها هو قد بر العفاة ومانها4
1 العقيق: واد بظاهر المدينة المنورة.
2 أطلسا: في لونه طُلْسَة وهي الغُبْرة إلى السواد. أو شفافًا.
3 ومازها: ميزها، ولفظها يوهم أنه: ما افتخر.
4 التورية في قوله: ومانها: فاقها، ولفظها يوهم أنه ما طلب ترك الأمر.
وما أحلى ما قال متغزلا:
سألت من لحظه وحاجبه
…
كالسهم والقوس موعدا حسنا
ففوق السهم من لواحظه
…
وانقوس الحاجبان وقت رنا1
ومن نثر الشيخ بدر الدين المشار إليه في التورية المركبة، يشير إلى تقريظ2 كتبه لبعض أهل الأدب، على مصنف سافل، لم تمكن تسميته، والتزم في التقريظ نوع الإيهام من الأول إلى الآخر، وكتب الشيخ بدر الدين على ذلك المصنف قوله: ولقد كنت أرتجي بابًا أدخل منه إلى التقريظ، ففتحي لي المقر التقوي بابا مرتجًّا، ونهج الطريق إلى المدح، فاقتفيت آثاره واهتديت حين رأيت منهجًا. ومثله قوله في التقريظ الذي كتبه على بديعيتي هذه: كتبت وأسياف الخطوب ليس لها إلا الجوائح أغماد، والزمن قد كادني بسهام أوتاره المصيبة ورماني بعد أن كاد ومثله ما أنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر، القاضي مجد الدين بن مكانس، حيث قال:
أقول لحيي قم ومس يا معذبي
…
كميسة خود حرك السكر راسها3
ولا تسه عن شيء إذا ما حكيتها
…
فقام كغصن البان لينا وما سها4
وأحجية الشيخ شهاب الدين بن حجر، في هذا الباب، من طرف الأدب، فإنها تورية خفية مركبة في الأصل:
يا فاضلات هو في الأحا
…
جي ليس يخلو من ولع5
ما مثل قولك للذي
…
يشكو الحبيب أسكت رجع
فصه، مرادف أسكت، وباء مرادف رجع، فحصلت التورية في صهباء، وصه باء، ومن النظم في هذا النوع الغريب قول المعمار:
وخادم يعلو على عشاقه
…
برتبة من الجمال نالها
واسمه وهو العجيب محسن
…
وكم دموع في الهوى أسا لها
1 التورية في قوله: وقت رنا: عندما نظر، ومعناها يوهم الاقتران والالتصاق.
2 تقريظ: مديح.
3 مِس: أمر من ماس: تمايل خود: حسناء.
4 حكيتها: شابهتها.
5 الأحاجي: الألغاز.
ومثله قول الشيخ شمس الدين المزين في غلام مليح وله لألاء مليح:
ومليح لالاه يحكيه حسنًا
…
فهو كالبدر في الدجا يتلالا
قلت قصدي من الأنام مليح
…
هكذا هكذا وإلا فلا لا
ومن نظمي الغريب في هذا النوع:
تصديتم لقتل ضعيف جسم
…
لغير الوجد فيكم ما تصدى
وعد ضلوعه بالسقم لما
…
تعديتم عليه وما تعدى
وقلت فيه:
بعد عند وبعد سلمى تعط
…
ـشت إلى رشف كل العس المى1
وفؤادي يقول لا تطلب الري
…
من الريق بعد هند وسلمى
وقلت من قصيدة مطولة:
حين قابلت خده بدموعي
…
أثرت خلت ثوب خز منمم2
وانظر اليوم خده من دموعي
…
واحك ما شئت عن عقيق وعن دم3
والبيت الأول من المعاني المخترعة التي لم يسبق إليها.
انتهى ما أوردته من الكلام على الجناس المركب، واستجلاء عرائس التورية، وأما الجناس المطلق فإن للناس، في الفرق بينه وبين المشتق معارك، وسماه السكاكي وغيره المتشابه والمتقارب، لشدة مشابهته وقربه من المشتق، وكل منهما يختلف في الحروف والحركات ولكن الفرق بينهما دقيق، قل من أتى بصحته ظاهرًا، فإن المشتق غلط فيه جماعة من المؤلفين وعدوه تجنيسًا، وليس الأمر كذلك، فإن معنى المشتق يرجع إلى أصل واحد. والمراد من الجناس اختلاف المعنى في ركنيه، والمطلق كل ركن منه يباين الآخر في المعنى، وأنا أذكر لكل واحد منهما شاهدًا يزول به الالتباس، فالمشتق كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} 14 وقيل: إن ما مصدرية أي: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فعلى كل تقدير، الجميع راجع إلى العبادة، والمعنى في الاشتقاق راجع إلى أصل واحد، ومنه قوله
1 العس: القدح الكبير - ألمى: بارد.
2 منمم: مزخرف، مزركش.
3 عقيق: نوع من الأحجار الكريمة لونه أحمر يميل إلى السواد.
4 الكافرون 109/ 1-4.
تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} 1 وقوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} 2 وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} 3 ومن النظم قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وما ألطف قول كشاجم، في خادم أسود مشهور بالظلم:
يا مشبهًا في فعله لونه
…
لم تحظ ما أوجبت القسمه
فعلك من لونك مستخرج
…
والظلم مشتق من الظلمه
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الظلم ظلمات يوم القيامة" ومن السحر الحلال قول بعض المتأخرين في هذا الباب.
عاتبت طيف الذي أهوى وقلت له
…
كيف اهتديت وجنح الليل مسدول4
فقال آنست نارًا من جوانحكم
…
يضيء منها لدى السارين قنديل
فقلت نار الجوى معنى وليس لها
…
نور يضيء وهذا القول مقبول5
فقال نسبتنا في الحال واحدة
…
أنا الخيال ونار الشوق تخييل
وقد نبه على الاشتقاق في قوله نسبتنا في الحال واحدة.
ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ، في شرحه على البردة، لما انتهى إلى قول المصنف:
ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى
…
أن اشتكت قدماه الضر من ورم
قال: ظلمت وظلام جناس اشتقاق، وهو كقوله تعالى:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} 6 قلت: أما ظلمت وظلام فاشتقاق بلا خلاف، وأسلمت مع سليمان جناس مطلق لأنه لم يرجع في المعنى إلى أصل واحد، وهو أعظم شواهد البديعيين على الجناس المطلق.
انتهى الكلام على المشتق وأما الجناس المطلق، فلشدة تشابهه بالمشتق، يوهم
1 الفلق: 113/ 5.
2 الواقعة: 56/ 1.
3 النجم: 53/ 57.
4 مسدول: مرخى.
5 الجوى: شدة الشوق.
6 النمل: 27/ 44.
أحد ركنيه أن أصلهما واحد وليس كذلك، كقوله تعالى:{وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} 1 وكقوله تعالى: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} 2 ومنه ما كتب به إلى المأمون في حق عامل له وهو: فلان ما ترك فضة إلا فضها، ولا ذهبًا إلا أذهبه، ولا مالا إلا مال عليه، ولا فرسًا إلا افترسه، ولا دارا إلا أدارها ملكا، ولا غلة إلا غلها، ولا ضيعة إلا ضيعها، ولا عقارًا إلا عقره، ولا حالا إلا أحاله، ولا جليلًا إلا أجلاه، ولا دقيقًا إلا دقه، فهذه الأركان، هنا شواهد على الجنس المطلق، ليس فيها ركنان يرجعان إلى أصل واحد كالمشتق، بل جميع ما ذكرنا أسماء أجناس، وهي محمولة على دم الاشتقاق، ومثل ذلك من النظم قول الشاعر:
عرب تراهم أعجمين من القرى
…
متنزلين على الضيوف النزل3
فأقمت بين الأزد غير مزود
…
ورحلت عن خولان غير مخول4
ومثله قول الآخر:
بجانب الكرخ من بغداد عنَّ لنا
…
ظبيٌ ينفره عن وصلنا نفر5
ضفيرتاه على قتلي تظافرتا
…
يا من رأى شاعرًا أودى به الشعر6
وما أحلى قول القائل: سلم على الربع من سلمى بذي سلم
فالثلاثة عنان7 جنسها، مطلق في المطلق، وقال الآخر وأجاد:
إذا أعطشتك أكف اللئام
…
كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى
…
وهامة همته في الثريا
وما أحلى قول أبي فراس في هذا النوع:
فما السلاف ازدهتني بل سوالفه
…
ولا الشمول دهتني بل شمائله8
1 يونس: 10/ 107.
2 المائدة: 5/ 31
3 القِرى: بكسر القاف: إطعام الضيف.
4 الأزد وخولان: قبيلتان من قبائل العرب.
5 عن: ظهر من بعيد.
6 ضفيرتاه: جديلتا شعره - تضافرتا: تعاونتا - أودى به: ذهب به وأماته.
7 عنان جنسها: أرفع أنواعها.
8 السلاف: الخمرة - ازدهتني: جعلتني آتيه - سوالفه: جمع مفرده سالفة وهي الأحدوثة - الشمول: الريح الشمالية، والجارية التفت بثيابها حتى بانت تقاسيم جمسها - شمائل: خصال ومزايا.
ومثله قوله الصاحب بهاء الدين زهير:
با من لعبت به شمول
…
ما ألطف هذه الشمائل
وللبحتري:
وإذا ما رياح جودك هبت
…
صار قول العذول فيها هباء1
ويحسن هنا قول الشاب الظريف محمد بن العفيف:
أراك فيمتلي قلبي سرورًا
…
وأخشى أن تشط بك الديار2
فجر واهجر وصد ولا تصلني
…
رضيت بأن تجور وأنت جار3
وما أحسن ما قال الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، رحمه الله بمنه وكرمه:
تولى شبابي فولى الغرام
…
ولازم شيبي لزوم الغريم
ولو لم يصدني بازيه
…
لما صارمتني مهاة الصريم4
انتهى الكلام على الملطق وعلى الفرق بينه وبين المشتق منه نظمًا ونثرًا، وقد رسم لي أن أثبت في بديعيتي هذه أبيات من تقدّمني في النظم كالشيخ صفي الدين الحلي والشيخ عز الدين الموصلي، وما ورد في بديعية العميان من القدر الذي استعملوه، ليشاهد المتأمل في هذا الميدان مجرى السوابق، فإن الشيخ صفي الدين جمع بين الجناس المركب والمطلق، في بيت واحد وهو المطلع فقال:
إن جئت سلعًا فسل عن جيرة العلم
…
وأقر السلام على عرب بذي سلم
والعميان لم يأتوا في البيت إلا بنوع واحد، فقالوا في المركب:
دع عنك سلمى وسل ما بالعقيق جرى
…
وأم سلعًا وسل عن أهله القدم5
1 هباء: لا أثر له ولا معنى.
2 تشط: تبعد.
3 فجر: من الجور وهو الظلم - وصدّ: أي قابلني بالصدود وعدم النظر إلي - لا تصلني: لا تمنحني الوصال.
4 صارمتني: قاطعتني، الصريم، اسم موضع.
5 أمّ: أقصد - القدم: القدماء.