الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر مراعاة النظير:
ذكرت نظم اللآلي والحباب له
…
راعى النظير بثغر منه منتظم
هذا النوع، أعني مراعاة النظير، يسمى التناسب، والائتلاف، والتوفيق، والمواخاة، وهو في الاطصلاح أن يجمع الناظم أو الناثر أمرًا وما يناسبه، مع إلغاء ذكر التضاد، لتخرج المطابقة، وسواء كانت المناسبة لفظًا لمعنى أو لفظًا للفظ أو معنى لمعنى، إذ القصد جمع شيء إلى ما يناسبه من نوع أو ما يلائمه من أحد الوجوه، كقول البحتري في إبل أنحلها السير:
كالقسي المعطفات بل الأسـ
…
ـهم مبرية بل الأوتار
فإنه لما شبه الإبل بالقسي، وأراد أن يكرر التشبيه كان يمكنه أن يشببها بالعراجين1، أو بنون الخط، لأن المعنى واحد في الانحناء والرقة، ولكنه قصد المناسبة بين الأسهم والأوتار، لما تقدم ذكر القسي. ولعمري لقد أصاب الغرض في هذا المرمى.
وظريف هنا قول بعضهم في وصف فرس:
من جلنار ناضر خده
…
وأذنه من ورق الآس2
فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس النضارة. ومثله قول بعضهم في آل النبي صلى الله عليه وسلم:
أنتم بنو طه ونون والضحى
…
وبنو تبارك في الكتاب المحكم
1 العراجين: مفردها عرجون وهو من النخل بمثابة العنقود من العنب أي القضبان التي تحمل حبات التمر.
2 الجلنار: زهر الرمان.
وبنو الأباطح والمشاعر والصفا
…
والركن والبيت العتيق وزمزم1
هذا الناظم أحسن في مراعاة النظير، وأتى في البيت الأول بحسن المناسبة، بين أسماء السور، وفي الثاني بحسن المناسبة بين الجهات الحجازية. انتهى.
ويعجبني قول السلامي في هذا الباب:
والنقع ثوب بالسيوف مطرز
…
والأرض فرش بالجياد محمل2
وسطور خيلك إنما ألفاتها
…
سمر تنقط بالدماء وتشكل3
فإنه ناسب بين الثوب والتطريز وبين الفرش والحمل وبين السطور والألفات والنقط والشكل، ومثله قول أبي العلاء المعري:
دع اليراع لقوم يفخرون بها
…
وبالطول الردينيات فافتخر
فهن أقلامك اللاتي إذا كتبت
…
مجدًا أتت بمداد من دم هدر
فأبو العلاء أيضًا ناسب بين الأقلام والكتابة والمداد.
وغاية الغايات في هذا الباب، قول بديع الزمان الهمذاني، من قصيدة يصف فيها طول السرى:
لك الله من ليل أجوب جيوبه
…
كأني في عين الردى أبدًا كحل
كأن السرى ساق كأن الكرى طلا
…
كأنا له شرب كأن المنى نقل
كأنا جياع والمطيّ لنا فم
…
كأن الفلا زاد كأن السرى أكل
كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع
…
وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل
كأنا على أرجوحة في مسيرنا
…
لغور بنا تهوي ونجد بنا تعلو4
1 الأباطح: أباطح مكة والمشاعر: المشعر الحرام، والصفا: مكان في مكة يقصده الحجيج ويهرولون بينه وبين المروة، وهو المكان الذي هرولت فيه سارة زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام بحثًا عن الماء لولدها إسماعيل بعد أن تركها إبراهيم الخليل هناك.
والركن: من المقدسات الإسلامية في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. والبيت العتيق: هو الكعبة الشريفة، وزمزم: هو البئر التي أنبعها الله تحت قدمي إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام.
2 النقع: الغبار.
3 السمر: القنا أو الرماح. تنقط: تضع النقاط، وتشكل: تضع الحركات على الحروف.
4 الغور: المنخفض من الأرض أو الوادي، النجد: المرتفع من الأرض.
ومنها في المديح، ولم يخرج عما نحن فيه من حسن المناسبة:
كأني في قوس لساني له يدٌ
…
مديحي له فرع به أملي نبل
كأنّ دواتي مطفل حبشية
…
بناني لها بعل ونقشي لها نسل1
كأن يدي في الطرس غواص لجة
…
له كلمي در به قيمتي تغلو
انظر أيها المتأمل إلى ملكه هذا الشاعر المفلق، الذي ما دخل إلى بيت إلا وأسكن فيه ما يلائمه من المناسبات البديعية. نعم هذه الغايات التي تقف عندها فحول الشعراء، وهذا الإمام المتقدم الذي صلى الحريري خلفه، وأشار إليه بقوله في مقاماته:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة
…
بسعدى شفيت النفس قبل التندم2
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا
…
بكاها فقلت الفضل للمتقدم
فإن البديع هو الذي سبق الحريري إلى نظم المقامات، وسبك العلوم في تلك القوالب الغريبة، وعلى منواله نسج الحريري، واستعمل بعض أسماء مقاماته، وقفى أثر عيسى بن هشام بالحرث بن همام، وعارض طرح الإسكندري بما نسجه أبو زيد السروجي، وعلى كل تقدير فالبديع عرابة هذه الراية، وعباس هذه السقاية.
نرجع إلى ما كنا فيه من حسن المناسبة في مراعاة النظير، فمن المستحسن في هذا النوع قول بعضهم في مليح معه خادم يحرسه:
ومن عجب أن يحرسوك بخادم
…
وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر
عذارك ريحان وثغرك جوهر
…
وخدك ياقوت وخالك عنبر
هذا الأديب المتمكن ناسب بين العذار والثغر والخد والخال، إذ الوجه لمصابيح هذه المحاسن جامع، وبين ريحان وجوهر وياقوت وعنبر، للملاءمة في أسماء الخدام فلو ذكر شيئًا من غير تناسب كان نقصًا وعيبًا، وإن كان جائزًا، فإنهم عابوا على أبي نواس قوله:
وقد حلفت يمينًا
…
مبرورة لا تكذب
برب زمزم والحو
…
ض والصفا والمحصب3
1 المطفل: ذات الولد والحبشية: لسوادها.
2 وردت في الأصل: التدم، وما أثبتناه أصح.
3 المحصب: مكان في وادي منى. وكل ما ذكر في هذا البيت أسماء لشعائر الحج، ما عدا الحوض فإنه في الجنة.
فالحوض هنا أجنبي من المناسبة، لأنه ما يلائم المحصب والصفا وزمزم، وإنما يناسب الصراط والميزان وما هو منوط بيوم القيامة.
ومثله، في عدم المناسبة، قول الكميت:
وقد رأينا بها حوراء منعمة
…
بيضًا تكامل فيها الدل والشنب1
فإنهما قالوا الدلال لا يناسب الشنب وهو صحيح، فإن الشنب من لوازم الثغر فلو ذكر معه اللعس2 وما ناسب ذلك، مشى على سنن المناسبة وخلص من النقد.
ويعبجني من ملاءمة التناسب في مراعاة النظير، قول العلامة أبي بكر بن اللبانة في موشح:
بعض يخاصمني في بعض
…
جسمي مقيم وقلبي يمضي
وكيف أسلو وبدري الأرضي
…
يدير في الأقحوان الغض
وردية سرقت أنفاسه بالالتماس
…
رقت فكانت مثل دمعة في جفن كاس
انظر إلى ما ناسب بين الأقحوان والورد، وجذب القلوب، وأنشا الأذواق، في المناسبة بين الدمعة وجفن الكاس مع الاستعارة التي تستعار منها المحاسن.
ومن أحلى ما يستحلى في الذوق، من هذا النوع، قول ابن مطروح:
لبسنا ثياب العناق
…
مزرة بالقبل
ومن شدة إعجابي بهذا البيت ضمنته تضمينًا، لو سمعه ابن مطروح لاطرح نفسه خاضعًا، وسلم إليَّ مفاتيح بيته طائعًا، وهو:
ولما خلنا العذار
…
فككنا طويق الخجل3
لبسنا ثياب العناق
…
مزررة بالقبل
ولولا خوف الإطالة، لتكلمت على بيت ابن مطروح، وعلى التضمين، وما فيهما من حسن التناسب والاستعارات، بما يليق بمقامهما.
وغاية الغايات قول القاضي الفاضل في هذا الباب:
في خده فخ لعطفة صدغه
…
والخال حبته وقلبي الطائر
1 الشنب: رقة الأسنان وشدة بياضها.
2 اللعس: السواد المستحسن في الشفة.
3 طويق: الطوق.
ويعجبني في هذا الباب قول مجير الدين بن تميم:
لو كنت تشهدني وقد حمي الوغى
…
في موقف ما الموت فيه بمعزل
لترى أنابيب القناة على يدي
…
تجري دمًا من تحت ظل القسطل1
انظر أيها المتأمل إلى حسن ما ناسب، بين الأنابيب والقناة والجريان والقسطل، مع انقياد التورية إلى طاعته وحسن تصرفه، فإني أنا محقق أن الأمير مجير الدين بن تميم من فرسان هذا الميدان وممن أجاد في هذا الباب، وبالغ في الإحسان إلى غريب المناسبة.
وراعى جانب مراعاة النظير حسن الزغاري، بقوله:
كان السحاب الغر لما تجمعت
…
وقد فرقت عنا الهموم بجمعها
نياق ووجه الأرض قعب وثلجها
…
حليب وكف الريح حالب ضرعها2
فإنه أتى بالمعنى الغريب، والتشبيه البديع، وحسن المناسبة في مراعاة النظير، مع حلاوة الانسجام ولطف الاستعارة.
وأنشدني لنفسه الشيخ عز الدين، في هذا النوع، قوله:
بخد الحب ريحان نضير
…
لأحرفه سطور ليس تقرا
فراعيت النظير وقلت بدري
…
عذارك أخضر والنفس خضرا
والذي يظهر لي، أن خضرة النفس هنا من إيهام المناسبة.
ومما نظمته، في هذا النوع، قولي:
أبرزت معصمًا نهار وداعي
…
شف بلوره فزاد حريقي
راح دمعي يرعى النظير ويبدي
…
عند لثمي سلاسلًا من عقيق3
فحسن المناسبة هنا، بين المعصم والسلاسل، والعقيق والبلور، مع إبراز تسمية النوع البديعي والنسيب المطرب الغزلي في معنى توريته.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
تجار لفظ إلى سوق القبول بها
…
من لجة الفكر تهدي جوهر الكلم
1 القسطل: الغبار أثناء المعارك. والأنبوب الذي تجري فيه المياه.
2 نياق: جمع مفرده ناقة وهي أنثى الجمل، القعب: وعاء يستعمل لحلب الماشية فيه، الضرع: بالنسبة للحيوان كالثدي للإنسان.
3 العقيق: من الحجارة الكريمة لونه أحمر مظلم قليلًا.
المناسبة في بيت الشيخ صفي الدين، بين التجار والسوق واللجة والجوهر، وهو بيت عامر بمحاسن هذا النوع.
وبيت العميان في بديعيتهم:
يروى حديث الندى والبشر عن يده
…
ووجهه بين منهل ومبتسم
هذا البيت ما رأيت له وجهًا يظهر به مراعاة النظير، ولا بينه وبين المناسبة البديعية نسب ثابت، ولكن رأيت الشيخ أبا جعفر، شارح هذه البديعية، أعني بديعية العميان، قال إن العنعنة في البيت بعن تناسب الرواية في الحديث، والندا والبشر فيهما مناسبة للكرم. ولعمري إن الشيخ رحمه الله استسمن من وجه هذا البيت ذا ورم، ونفخ من نفسه في غير ضرم، وهذا لعمري جهد من لا جهد له.
وبيت عز الدين الموصلي:
وارع النظير من القوم الأولى سلفوا
…
من الشباب ومن طفل ومن هرم
المناسبة في بيت الشيخ عز الدين بين الشباب والطفل والهرم، أظن أنه قصد بها النسبة إلى آدم عليه السلام.
وبيت بديعيتي:
ذكرت نظم اللآلي والحباب له
…
راعى النظير بثغر منه منتظم
المناسبة هنا ما بين اللآلي ونظم الحباب ونظم الثغر بديعة عند أهل النظم، هذا مع حسن التشبيه بالمناسبة البديعية، وفي نور هذا الماثل ما يمحو ظلمة الإشكال عند مراعاة النظير، هذا مع رقة الانسجام ومغازلة عيون الغزل في تسمية النوع البديعي وحلاوة توريته، وقد حبست عنان القلم، وإن كانت المهجة في هذا المعرك الضيق قد ذابت، لئلا يقال كثر فارتابت.