الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التشريع:
طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا
…
على النقا فنعمنا في ظلالهم1
هذا النوع، أعني التشريع، سماه ابن أبي الأصبع، التوأم. وأراد بذلك مطابقة التسمية للمسمى، فإن هذا النوع شرطه أن يبني الشاعر بيته على وزنين، من أوزان القريض، وقافيتين، فإذا أسقط، من أجزاء البيت، جزءًا أو جزأين صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول، كقول الحريري:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها
…
شرك الردى وقرارة الأكدار2
دار متى ما أضحكت في يومها
…
أبكت غدًا تبًّا لها من دار3
وهي قصيدة كاملة معروفة في مقاماته، من ثاني الكامل، وتنتقل بالإسقاط إلى ثامنه، فتصير:
يا خاطب الدنيا الدنيـ
…
ـة إنها شَرَكُ الردى4
دار متى مى أضحكت
…
في يومها أبكت غدا
وزيادة القافيتين ظاهرة ووقع، قبل كلام الحريري، من كلام العرب في هذا الباب:
1 النقا: الرمل.
2 قرارة: مستقر، الأكدار: جمع كدر وهو الوسخ وكل ما يكدر الصفاء.
3 تبًّا لها: تعسًا لها وخسرانًا.
4 في الأصل شركة الردى، وفضلنا استبدالها بشرك لورودها أولًا، ولعدم تغير الوزن علمًا أن شركة يمكن أن تكون من خطأ النساخ، لأن البيت مروي بلفظة شرك.
وإذا الرياح مع العشي تناوحت
…
هوج الرمال بكثبهن شمالا
ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا
…
قبل القتال ونقتل الأبطالا1
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرمال والقتال، لكان الشعر من الضرب المجزوّ
المرفل من الكامل وهو:
وإذا الرياح مع العشـ
…
ـي تناوحت هوج الرمال
ألفيتنا نفري الغبيـ
…
ـط لضيفنا قبل القتال
فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه، وصار لكل بيت من هذين البيتين قافيتان، ولا شك أن هذا النوع لا يأتي إلا بتكلف زائد وتعسف، فإنه راجع إلى الصناعة لا إلى البلاغة والبراعة، إذ وقوع مثل هذا النوع في الشعر من غير قصد له نادر، ولا يحسن أن يكون في النثر فإنه ما يقع فيه إلا تصريعًا، ولا يظهر حسنه إلا في النظم، لأن فيه الانتقال من وزن إلى وزن آخر، فيحصل بذلك من الاستحسان ما لا يحسن في النثر لأن النثر، على كل حال، كلام مسجوع ليس فيه انتقال من وزن إلى وزن، وأوسع البحور في هذا النوع الرجز، فإنه قد وقع مستعملًا تامًّا ومجزوءا، ومشطورًا ومنهوكًا، فيمكن أن يعمل للبيت منه أربع قواف، فإذا أسقطت ما بعد القافية الأولى بقي البيت منهوكًا، فإذا أسقطت ما بعد الثانية بقي البيت مشطورًا، فإذا أسقطت ما بعد الثالثة بقي مجزوءا، وإذا لم تسقط شيئًا كان تامًّا.
ولأبي عبد الله محمد بن جابر الضرير الأندلسي، ناظم البديعية، في غير بديعيته المذكورة هنا:
يرنو بطرف فاتر مهما رنا
…
فهو المنى لا أنتهي عن حبه
يهفو بغصن ناضر حلو الجنى
…
يشفي الضنا لا صبر لي عن قربه2
لو كان يومًا زائري زال العنا
…
يحلو لنا في الحب أن نسمي به3
أنزلته في ناظري لما دنا
…
قد سرنا إذ لم يحل عن صبه4
فهذه الأبيات من الرجز التام وهو الضرب الأول منه، فإذا تركتها على حالها فهي
1 نفري: نفتح، الغبيط: الهودج والستار والخيمة.
2 الضنا والضنى: الأوجاع الناجمة عن الأمراض الشديدة.
3 العنا: العناء وهو التعب الشديد، الإعياء.
4 لم يحل: لم يتحول، صبه: حبيبه.
من التام، وإذا أسقط من البيت الأول: لا أنتهي عن حبه، ومن الثاني: لا صبر لي عن قربه، ومن الثالث: في الحب أن نسمي به، ومن الرابع: إذا لم يحل عن صبه، صارت من الرجز المجزوء، وإن أسقطت من البيت الأول قوله: فهو المنى إلى آخره، ومن الثاني: يشفي الضنا إلى آخره، ومن الثالث: يحلو لنا إلى آخره، ومن الرابع: قد سرنا إلى آخره، صارت من الرجز المشطور. وإن أسقطت من الأول. قوله: مهما رنا، ومن الثاني: حلو الجنى، ومن الثالث: زال العنا، ومن الرابع: لما دنا، صار من الرجز المنهوك. ولكن القوة في ذلك، والمكنة في ملكة الأديب أن يأتي بالتشريع، في بيت واحد، وهذا هو المطلوب من نظام البديعيات، لأجل الاستشهاد بأبياتهم على كل نوع، ولا سيما الملتزم بتسميته على الصيغة، فإنه لو جاء بالتسمية والنوع في بيتين بطل حكم التورية، وخرج عن شروط البديعيات.
وبيت الشيخ صفي الدين:
فلو رأيت مصابي عندما رحلوا
…
رثيت لي من عذابي يوم بينهم1
يخرج له من هذا البيت:
فلو رأيت مصابي
…
رثيت لي من عذابي
وهو مجزوء المجتث، وبيته عند الرعوضيين:
البطن منها خميص
…
والوجه مثل الهلال2
وقد تعين إيراد ما نظمه أبو عبد الله الضرير في البيتين، لأجل المعارضة، وهما:
وافق كريم رحيم قد وفى ووقى
…
فعم نفعًا فكم ضرًا شفى فقم
فقم بنا فلكم فقرًا كفى كرمًا
…
وجود تلك الأيادي قد صفا فقم
أقول لو اختصر العميان هذين البيتين، وأضافوهما إلى ما اختصروه من البديع، لكان أجمل بهم، فإنهم أسقطوا من أنواع البديع نحو السبعين، وقصد الناظم فيهما، أعني البيتين، أنك إذا اسقطت من البيت الكلمة الموازنة لفعلن من آخر كل نصف، وهما قوله: ووقى، وقوله: فكم، صار الوزن من الضرب الأول من البسيط، وهو التام، إلى الضرب الثالث منه، وهو المجزوء، لأنه قد حذف منه جزءا من آخر كل نصف فصار:
واف كريم رحيم قد وفى
…
وعم نفعًا فكم ضرًا شفى
فقم بنا فلكم فقرًا كفى
…
وجود تلك الأيادي قد صفا
1 رثى: أشفق عليه وحزن لأجله، البين: الفراق.
2 خميص: فارغة خاوية، جائعة.
وهذا مع ركته وثقالة نظمه، غير المشهور من البسيط، فإنه لم يشتهر منه سوى العروض الأولى المخبونة، ووزنها فعلن ولها ضربان، المشهور منها الأول وهو مخبون مثلها.
وبيت الشيخ عز الدين:
وفي الهوى ضل تشريع العذول لنا
…
وكم هوى في مقال ذل من حكم
أخبر أن تشريع العذول في حكم الهوى ضلال، حتى يرشح بتورية التشريع في تسمية النوع، ويخرج من بيت الشيخ عز الدين بيت من قافية أخرى، من منهوك الرجز، فنصفه في الشطر الأول، وفي الهوى، وفي الشطر الثاني: وكم هوى، وهذه عبارته في شرحه بنصفها، فصار باقي البيت بدون الجزأين الأولين:
ضل تشريع العذول لنا
…
في مقال ذل من حكم
وهذا البيت من العروض الثالثة المحذوفة من المديد، ووزنها فعلن، وشاهدها:
للفتى عقل يعيش به
…
حيث تهدي ساقه قدمه
ولقد برز الشيخ عز الدين في ذلك على متقدميه، فإن الشيخ صفي الدين لم يتحصل له بيتان من بيت، ولا للشيخ أبي عبد الله الضرير، ولكن قال الشيخ عز الدين في شرحه: إن هذا النمط ما وقع للمتقدمين، وهو معجز ليس لأديب عليه قدرة، وبسط العبارة في الدعوى بسببه، فأردت أن لا أنسج في الشرح على غير منواله، فقلت:
طاب اللقا لذ تشريع الشعور لنا
…
على النقا فنعمنا في ظلالهم
فيخرج من بيتي: طاب اللقا على النقا
وهو بيت بقافية أخرى من منهوك الرجز، كبيت الشيخ عز الدين، ولكن شتان بين قولي: طاب اللقا على النقا، وبين قوله: وفي الهوى. وكم هوى، فإن بيته لا تتم به فائدة ولا يحسن السكوت عليه، وصار باقي بيتي، بدون الجزأين الأولين:
لذ تشريع الشعور لنا
…
فنعمنا في ظلالهم
وهو بيت من العروض الثالثة المحذوفة المخبونة من المديد، وهي التي رتب عز الدين عليها ما بقي من بيته:
ضل تشريع العذول لنا
…
في مقال ذل من حكم
ولكن الفرق في تشريع الشعور ظاهر، والتورية في قوله: فنعمنا في ظلالهم، عند ذكر الشعور، كلاهما سائغ عند أهل الأدب وهذا البيت، مع صعوبة مسلك هذا النوع، اجتمع فيه من أنواع البديع: السهولة والانسجام والتورية، في موضعين، والتمكين في القافية، والجناس المطلق بين تشريع وشعور والتذييل البديعي، فإني أتيت بجملة، بعد تمام الكلام الأول، زادت معناه تحقيقًا وتوكيدًا، وجرى مجرى المثل، وفيه نوع التشريع الذي هو المقصود هنا، والله أعلم.