الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر حسن التخلص:
ومن غدا قسمه التشبيب في غزل
…
حسن التخلص بالمختار من قسمي
حسن التخلص: هو أن يستطرد الشاعر المتمكن، من معنى إلى معنى آخر يتعلق بممدوحه، بتخلص سهل يختلس اختلاسًا رشيقًا دقيق المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع في الثاني، لشدة الممازجة والالتئام والانسجام بينهما، حتى كأنهما أفرغا في قالب واحد. ولا يشترط أن يتعين المتخلص منه، بل يجري ذلك في أي معنى كان، فإن الشاعر قد يتخلص من نسيب أو غزل، أو فخر أو وصف روض أو وصف طلل بال أو ربع خال، أو معنى من المعاني يؤدي إلى مدح أو هجو أو وصف في حرب، أو غير ذلك، ولكن الأحسن أن يتخلص الشاعر من الغزل إلى المدح.
والفرق بين التخلص والاستطراد، أن الاستطراد يشترط فيه الرجوع إلى الكلام الأول، أو قطع الكلام، فيكون المستطرد به آخر كلامه، والأمران معدومان في التخلص، فإنه لا يرجع إلى الأول ولا يقطع الكلام، بل يستمر على ما يتخلص إليه.
وهذا النوع، أعني حسن التخلص، اعتنى به المتأخرون دون العرب ومن جرى مجراهم من المخضرمين، ولكنه لم يفتهم، فإنهم أوردوا لزهير في هذا الباب قوله:
إن البخيل ملوم حيث كان
…
ولكن الكريم على علاته هرم1
انظر إلى هذا العربي القديم، كيف أحسن التخلص من غير اعتناء، في بيت
1 هرم: هرم بن سنان وقد سبقت الإشارة إلى هذا البيت.
واحد، وهذا هو الغاية القوى عند المتأخرين الذين اعتنوا به. وعلى كل تقدير فمن كلام العرب استنبط كل فن، فإنهم ولاة هذا الشأن، لكنهم كانوا يؤثرون عدم التكلف، ولا يرتبكون من فنون البديع إلا ما خلا من التعسف. فمن ذلك قول الفرزدق، وأجاد إلى الغاية:
وركب كأن الريح تطلب عندهم
…
لها ترة من جذبها بالعصائب1
سروا يخبطون الليل وهي تلفهم
…
إلى شعب الأكوار من كل جانب2
إذا آنسوا نارًا يقولون ليتها
…
وقد حضرت أيديهم نار غالب
ومثله قول أبي نواس:
تقول التي من بيتها خف محملي
…
يعز علينا أن نراك تسير
ما دون مصر للغنى متطلب
…
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر
…
جرت فجرى في إثرهن عبير3
دعيني أكثر حاسديك برحلة
…
إلى بلد فيه الخصيب أمير
ومثله في الحسن قوله:
وإذا جلست إلى المدام وشربه
…
فاجعل حديثك كله في الكاس4
وإذا نزعت عن الغواية فليكن
…
لله ذاك النزع لا للناس
وإذا أردت مديح قوم لم تمن
…
في مدحهم فادمح بني العباس5
أقول: إن هذه الطريق التي مشى عليها أبو نواس ومن تقدمه من المتقدمين، ممن أوردت نظمه في هذا الباب، وهي حسن التخلص بيت واحد باستطراد رشيق، ينتقل الشاعر به من الشطر الأول إلى الشطر الثاني، فاتت فحولًا من الشعراء كالبحتري وأبي تمام في غالب القصائد، على أنهما المقدمان في هذا الشأن.
وقد تقرر أن حسن التخلص ما كان في بيت واحد، يثب الشاعر من شطره الأول إلى الثاني وثبة تدل على رشاقته وقوته وتمكنه في هذا الفن. وإذا لم يكن التخلص
1 التِرة: الثأر.
2 يخبطون: يسيرون على غير هدى، الأكوار: جمع مفرده الكورة وهي الناحية والمكان.
3 البوادر: أوائل الدموع.
4 الشَرْب: الذين يشربون الخمر.
5 مان: يَمْين والأمر مُنْ، والمصدر المين وهو الكذب والنفاق.
كذلك سمي اقتضابًا، وهو أن ينتقل الشاعر من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما، كأنه استهل كلامًا آخر. وعلى هذه الطريقة مشى غالب العرب، وغالب المخضرمين وكثير من شعراء المولدين، فمن ذلك قول البحتري في قصيد، وقد جرى في ميادين غزلها إلى أن قال من غير ارتباط:
وردنا إلى الفتح بين خاقان إنه
…
أعم ندى فيكم وأيسر مطلبا
وهذه النبذة التي أبرزتها هنا، من نظم المتقدمين في حسن التخلص، عزيزة الوجود، فإنها ما تيسرت إلا بعد الجهد في جمعها. وهذا النوع البديعي ما اعتنى به غير حذاق المتأخرين، وما نسجوه جميعه إلا على المنوال المذكور. ولعمري إنها طريقة بديعة، ونوع من السحر يدل على رسوخ القدم في البلاغة. وتمكن الذهن من البراعة، وإن لم يكن كذلك لم يعد من أنواع البديع. والقرائح تختلف فيه وتتفاوت، وقد عنَّ لي أن أنبه على قبح المخالص التي لا تعد من أنواع البديع، لينفتح ذهن المبتدئ في هذا الفن، فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي، وإن كانت له المخالص الفائقة:
غدا بك كل خلو مستهاما
…
وأصبح مستور خليعًا
أحبك أو يقولوا جر نمل
…
ثبيرًا وابن إبراهيم ريعا1
انظر ما أبرد هذا الخلص وأشد تعسفه، ومعناه أنه علق انقضاء حبها على غير ممكن، وهو أن يجر النمل الجبل المسمى ثبيرًا وأن يخاف ممدوحه، فجعل خوف الممدوح نظير جر النمل لثبير ليقرر أن كلًا منهما من المستحيلات، ومن تخاليصه القبيحة أيضًا قوله:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي
…
إلى التي تركتني في الهوى مثلًا
وسبب قبح هذ المخلص، كونه جعل ممدوحه ساعيًا بينه وبين محبوبته في الوصال، ولا خفاء في دنو هذه المرتبة، وقد سبقه أبو نواس إلى ذلك، ولكنه أقل شفاعة، مع أن الكل قبيح، حيث قال:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد
…
هواك لعل الفضل يجمع بيننا
وقد سبقهما إلى ذلك قيس بن ذريح، حين طلق لبني وتزوَّجت غيره فندم على ذلك وشبب بها في كل معنى، فرحمه ابن أبي عتيق، فسعى في طلاقها من زوجها، وأعادها إلى قيس، فقال يمدحه:
1 ريعا: من الروع وهو الخوف.
جزى الرحمن أفضل ما يجازي
…
على الإحسان خيرًا من صديق
فقد جربت إخواني جميعًا
…
فما ألفيت كابن أبي عتيق
سعى في جمع شملي بعد صدع
…
ورأي حدت فيه عن الطريق
وأطفأ لوعة كانت بقلبي
…
أغصتني حرارتها بريقي
فلما سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: يا حبيب أمسك عن هذا المدح فما يسمعه أحد إلا ظنني قواد.
ومن المخالص التي استحسنوها للبحتري قوله:
رباع تردت بالرياض مجودة
…
بكل جديد الماء عذب الموارد
إذا راوحتها مزنة بكرت لها
…
شآبيب مجتاز عليها وقاصد1
كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت
…
عليها بتلك البارقات الرواعد
ومن المخالص المستحسنة، لأبي تمام، قوله من قصيدة:
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت
…
نفسي على إلف سواك تحوم
لا والذي هو عالم أن النوى
…
مر وأن أبا الحسين كريم2
هذا المخلص مقدم على مخالص البحتري من وجوه: أحدها، التخلص من النسيب إلى المدح، والثاني حسن الانسجام، والثالث، وهو جل القصد، الوثبة في بيت التخلص من الشطر الأول إلى الشطر الثاني بأسرع اختلاس. وهذا الذي عقد المتأخرون الخناصر عليه. وصار لهم فيه اليد الطولى، ومثله قوله من قصيدة:
فالأرض معروف السماء قرى لها
…
وبنو الرجاء لهم بنو العباس
ومن مخالص أبي الطيب الفائقة، قوله من قصيدة يمدح بها أبا أيوب، أحمد بن عمران بن ماهويه، مطلعها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها
…
داني الصفات بعيد موصوفاتها
معنى هذا المطلع في غاية الحسن والغرابة، فإنه يقول هذا سرب حيل بيني وبين كل حسناء منه، وهذه الحسناء صفاتها دانية عند ذكرها بالقول، ولكن ذاتها الموصوفة بعيدة، ولم يزل في غرابة هذا الأسلوب إلى أن قال متحمسًا:
1 الشآبيب: حمع مفرده شؤبوب وهو الدفعة من المطر الشديد.
2 النوى: الغربة، والبعد.
ومطالب فيها الهلاك أتيتها
…
ثبت الجنان كأنني لم آتها
أقبلنها غرر الجياد كأنما
…
أيدي بني عمران في جبهاتها
أقول: سبحان المانح هذا هو السحر الحلال، والشرب الذي أمست المشارب لصافية عنده كالآل. ومثله في الغرابة التي هي من معجزات المتنبي، قوله من قصيدة مدح بها علي بن عامر، ويعرض بذكر أبيه عامر ومدحه بعد وفاته، مطلعها:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
…
وحيدًا وما قولي كذا ومعي الصبر
وما أحلى ما قال بعده:
وأعجب من ذا كل يوم سلامتي
…
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
ولم يزل ينفث بصدق عزائمه، في هذا السحر الذي سحر به العقول، وخلب القلوب، إلى أن قال:
ويوم وصلناه بليل كأنما
…
على أفقه برقه حلل حمر
وليل وصلناه بيوم كأنما
…
على متنه من دجنه حلل خضر1
وغيث ظننا تحته أن عامرًا
…
علا لم يمت أو في السحاب له قبر
ومثله قوله، من قصيدة دالية يمدح بها سيف الدولة بن حمدان مطلعها:
عواذل ذات الخال فيَّ حواسد
…
وإن ضجيع الخود مني لماجد2
وما ألطف ما قال بعده:
يردّ يدًا عن ثوبها وهو قادر
…
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
ولما انتظم له هذا الدر في هذه الأسلاك البديعية قال:
خليليَّ إني لا أرى غير شاعر
…
فكم منهم الدعوى ومني القصائد
فلا تعجبا أن السيوف كثيرة
…
ولكن سيف الدولة اليوم واحد
ومن مخالص أبي العلاء أحمد بن سليمان، على طريق المديح، فإنه لم يكن من طلاب الفرد، قوله من قصيدة:
ولو أن المطي لها عقول
…
وحقك نشد لها عقالا
1 دجنه: ظلمته الشديدة.
2 الخود: المرأة الشابة.
مواصلة بها رحلي كأني
…
من الدنيا أريد بها انتقالا
سألن فقلن مقصدنا سعيد
…
فكان اسم الأمير لهن فالا1
هذا المخلص أيضًا من العجائب، فإن الشيخ أبا العلاء سبكه في قالب التورية والاتفاق البديع، وكان اسم الأمير في فالهم سعيدًا، والعرب ما برحوا يتفاءلون بالاسم الحسن ويتطيرون من ضده، ومما استحسن لابن حجاج من المخالص قوله:
ألا يا ماء دجلة لست تدري
…
بأني حاسد لك طول عمري
ولو أني استطعت سَكَرْت سِكرًا
…
عليك فلم تكن ماء تجري
فقال الماء قل لي كل هذا
…
بم استوجبته يا ليت شعري
فقلت له لأنك كل يوم
…
تمر على أبي الفضل بن بشر
تراه ولا أراه وذاك شيء
…
يضيق عن احتمالك فيه صبري
قال صاحب المثل السائر، حين أورد هذه الأبيات: ما علمت معنى في هذا المقصد أبدع ولا أعذب ولا أرق ولا أحلى من معنى هذا اللفظ، ويكفي ابن حجاج من الفضيلة أن يكون له مثل هذه الأبيات. قلت: ولعمري إن المخلص والأبيات بكمالها، دون إطناب ابن الأثير في الوصف. ولكن قال زكي الدين بن أبي الأصبع، في كتابه المسمى بـ"تحرير التحبير" لما انتهى إلى هذا النوع، أعني حسن التخلص: إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب، فمن ذلك قوله على طريقته المعهودة منه:
وقد بادلتها فمبالها لي
…
بمشورة استها ولها قذالي2
كما لابن لعميد جميع مدحي
…
ودنيا ابن العميد جميعها لي
ومن المخالص الفائقة قول الأستاذ أبي الحسن مهيار بن مرزويه الكاتب، من قصيدة بائية يمدح بها الأمير سيف الدولة ابن مزيد مطلعها:
هب من زمانك بعض الجد للعب
…
واهجر إلى راحة شيئًا من التعب
ولم يزل ماشيًا على هذا السنن إلى أن قال:
تسعى السقاة علينا بين منتظر
…
بلوغ كأس ووثاب بمستلب
كأنما قولنا للبابلي أدِر
…
سلافة قولنا للمزيدي هب
1 فالا: أي يتفاءلون به.
2 المبال: مكان خروج البول، الإست: مكان خروج فضلات الطعام من الجسم، والأديب الحق يربأ بنفسه وبكتبه، عن ذكر فاحش القول
…
ومثله قوله من قصيدة حائية، يمدح بها الأستاذ أبا طالب بن أيوب:
يامن ثناياه التي
…
غولطت عنها بالأقاحي
غلط المقايس ابن أيـ
…
ـوب السحابة في السماح
ويعجبني من مخالصه قوله، من قصيدة رائية يمدح بها فخر الملك ولم يزل يرفل في حلل غزلها ونسيبها إلى أن قال:
أرى كبدي وقد بردت قليلا
…
أمات اللهم أم عاش السرور
أم الأيام خالفتني لأني
…
بفخر الملك منها أستجير
ومما يعجبني، أيضًا إلى الغاية، قوله، من قصيدة عينية يمدح بها الوزير عميد الدولة مطلعها:
لو كان يرفق ظاعن بمشيع
…
ردُّوا فؤادي يوم كاظمة معي
ولم يزل يطلق العنان في هذه الحلبة إلى أن سبق إلى غاية قال فيها:
إن شاء بعدهم الحيا فلينسكب
…
أو شاء ظل غمامه فليقع
فمقيل جسمي في ذويل ربوعهم
…
كاف وشربي من فواضل أدمعي
كرمت جفوني في الديار فأخصبت
…
فغنيت أن أرد المياه وارتعي
فكأن دمعي مدّ من أيدي بني
…
عبد الرحيم ومائها المستنبع
وما أحلى ما قال بعده، وهو مخلص آخر:
وكأن ليلي من تفاوت طوله
…
أسيافهم موصولة بالأدرع
ولم أكثر من محاسن مهيار هنا إلا لعلمي بغرابة شعره، وعزة وجود ديوانه.
ومن المخالص التي تصلح أن تكون واسطة في هذا العقد، قول أفقه الشعراء، وأشعر الفقهاء، كما قال: وهو القاضي أبو بكر أحمد الأرجاني، من قصيدة يمدح بها ولي الدين الكاتب مطلعها:
وعدت باستراقة للقاء
…
وبإهداء زورة في خفاء1
وما أحلى ما قال بعده:
ثم غارت من أن يماشيها الظـ
…
ـل فسارت في ليلة ظلماء
1 الزورة: الزيارة.
ثم خافت لما رأت أنجم الليـ
…
ـل شبيهات أعين الرقباء
فاستنابت طيفًا يلم ومن يمـ
…
ـلك عينًا تهم بالإغفاء1
هكذا نيلها إذا نولتنا
…
وعناء تسمح البخلاء
يهدم الانتهاء باليأس منها
…
ما بناه الرجاء الابتداء
ولم يزل راتعًا في هذه الحدائق الغضة إلى أن قال:
تركتني معنيًا لمغانٍ
…
وأعادت أصدقائي
رنقت مشربي وقد كان عين الشمـ
…
ـس والماء دونه في الصفاء2
بعد عهدي بعيشتي وهي خضرا
…
تتثنى كالبانة الغناء
وأموري كأنها ألفات
…
خطهن الولي في الاستواء
ومن جواهر مخالصة المنتظمة في هذا المسلك قوله، من قصيدة رائية يمدح بها سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري، مترسل الخلافة وكاتب إنشائها، مطلعها:
سلا رسومًا أقامت بعدما ساروا
…
أعندها من أهيل الحي أخبار3
وروِّحا عاتقي من حملها مننًا
…
للسحب فيها وللأجفان أستار4
ولم يزل مبدرًا5 في هذا الأفق النير إلى أن قال:
أقسمت ما كل هذا الضيم محتمل
…
ولا فؤادي على ما شمت صبار
إلا لأنك مني اليوم نازلة
…
في القلب حيث سديد الدولة الجار
ومن مخالصه الصافية التي مازجها بسلاف التورية قوله، من قصيدة بائية يمدح بها شهاب الدين أحمد بن أسعد الطغرائي مطلعها:
إذا لم يخن صب ففيم عتاب
…
وإن لم يكن ذنب فمم متاب
وما ألطف ما قال بعده:
أجل ما لنا إلا هواهم جناية
…
فهل عندهم غير الصدود عقاب
1 ألم الطيف: مر بسرعة.
2 رنقت مشربي: عكّرته وخلطت ماءه بالتراب.
3 الرسوم: الأطلال والبقايا، أُهيل: تصغير أهل للتحبب.
4 روح: أراح.
5 مبدرًا: أي مشرقًا كالبدر.
ولم يزل سائرًا في سهولة هذه الجادة إلى أن قال:
فلا تكثرن شكوى الزمان فإنما
…
لكل ملم جيشة وذهاب1
وقد كان ليل الفضل في الدهر داجيًا
…
إلى أن بدا للناظرين شهاب
والأرجاني أيضًا نظمه غريب في هذه البلاد، فلذلك أوردت منه هنا هذه النبذة اللطيفة، والله أعلم.
وقد آن لي أن أقدم مقدم النتائج، من أشعار المتأخرين في هذا النوع، فإنهم رياحين حدائقه، وأقمار مشارقه، فالمقدم هنا قاضيهم الفاضل الذي ارتفع الخلاف بقضائه، ونفذ حكمه بالموجب على ملوك هذه الصناعة، وتقدم باستيفاء شرائط التقديم، فصلى خلف إمامته الجماعة. فمن مخالصه الفاضلية، قوله من قصيدة يمدح بها خليفة الفاطميين في ذلك العصر، مطلعها:
ترى لحنيني وحنين الحمائم
…
جرت فحكت دمعي دموع الغنائم
وما أحلى ما قال بعده:
وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا
…
فكل أراها دارست المعالم2
دعوا نفس المقروح تحمله الصبا
…
وإن كان يهفو بالغصون النواعم
تأخرت في حمل السلام عليكم
…
لديها لما قد حملت من سمائم3
فلا تسمعوا إلا حديثًا لناظري
…
يعاد بألفاظ الدموع السواجم4
فإن فؤادي بعدكم قد فطمته
…
عن الشعر إلا مدحه لابن فاطم
ومثله قول العلامة الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، من قصيدة دالية يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، مطلعها:
ويلاه من نومي المشرد
…
وآه من شملي المبدَّد
ولم يزل يدير على خصور هذه الألفاظ الرقيقة، وشاحات معانيه البديعية، إلى أن قال:
أكسبني نشوة بطرف
…
سكرت من خمره فعربد5
1 ملم: مار
2 دارسات: المعالم: أي لا أثر فيها يعلم بإقامتهم.
3 السمائم: جمع مفرده سموم وهي الريح الحارة التي تهب عادة من جهة الجنوب.
4 السواجم: جمع مفرده ساجم وهو الدائم الانصباب.
5 النشوة: قمة اللذة، العربدة: السكر الشديد المصحوب بالتيه.
غصن نقا حل عقد صبري
…
بلين خصر يكاد يعقد
فمن رأى ذلك الوشاح الصا
…
ئم صلى على محمد
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها المالك الناصر صلاح الدين يوسف مطلعها:
لنا من ربة الخالين جاره
…
تواصل تارة وتصد تاره
تعاملني بما يحلى سلوى
…
ولكن ليس في جوفي مراره
ولم تزل أعين هذا الغزل الرقيق تغزله إلى أن قال:
وقالوا قد خسرت الروح فيها
…
فقلت الربح في تلك الخساره
بأيسر نظرة أسرت فؤادي
…
كما نشأ اللهيب من الشراره
ويفتك طرفها فيقول قلبي
…
أشن ترى صلاح الدين غاره
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الملك الأمجد:
ظبية حكم ظبا مقلتها
…
عزة الظبي وذل الأسد1
كنت في ترك الهوى مجتهدا
…
وهي كانت زلة المجتهد
كملت حسنًا فلولا بخلها
…
خلتها بعض خلال الأمجد
ومن المخالص التي نقلتها من ناصح بن قلاقس قوله، من قصيدة يمدح بها أبا المنصور نور الدين محمود عين الأمراء بالديار المصرية:
ماذا على العيس لو عادت بربتها
…
بقدر ما نتقاضاها المواعيدا2
رد الركاب لأمر عنَّ في خلدي
…
وسمه في بديع الحب ترديدا
وقف أبثك ما لان الحديد له
…
فإن صدقت فقل هل أبت داودا3
حلت عرا النوم عن أجفان ساهرة
…
رد الهوى هديها بالنجم معقودا
تفجرت وعصا الجوزاء تضربها
…
فأذكرتني موسى والجلاميدا
وما أحلى ما قال بعده كناية عن طول الليل:
يا ثعلب الصبح يا سرحان أوله
…
كل الثريا فقد صادقت عنقودا4
1 الظبا: للسيف حده وشفرته مفردها ظبة.
2 العيس: الجمال مفردها أعيس.
3 آب: عاد ورجع. داود: هو النبي داود عليه السلام وإليه تنسب صناعة الدروع الداودية الحديدية. كما ورد في القرآن الكريم قوله جل وعلا: {
…
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} سبأ، 34/ 10 و11.
4 السرحان: الذئب.
ولم يزل ينثر هذه العقود الثمينة، مع تفخيم هذا النظم، إلى أن قال:
ما لي وما للقوافي لا أسيرها
…
إلا وأقعد محرومًا ومحسودا
أسكرتهم بكئوس الراح مترعة
…
ولم أنل منهم إلا العرابيدا1
سمعت بالجود مفقودًا فهل أحد
…
يقول إني وجدت الجود موجودا
الحمد لله لا والله ما نظرت
…
عيناي بعد أبي المنصور محمودا
هذا المخلص خلاه نصر الله بن قلاقس، مع زيادة حسنه، بشعار التورية. ومثله قوله من قصيدة يمدح بها الشيخ سديد الدين المعروف بالحصري مطلعها:
أروه الجلنار من الخدود
…
وأخفوا عنه رمان النهود2
وقال بعده:
وحلوا مقلتيه بدرّ دمع
…
تبسم في المخانق والبرود3
وما غرسوا نخيل العيس إلا
…
وهم فيها من الطلع النضيد4
سقى مصرًا وساكنها ملث
…
طليل البرق صخاب الرعود
موارد بي لها ظمأ شديد
…
ولكن لا سبيل إلى الورود
هل الرأي السديد البعد عنها
…
نعم إن كان للشيخ السديد
ويعجبني من مخالص القاضي السعيد هبة الله بن سنا الملك قوله، من قصيدة يمدح بها القاضي الفاضل، أتى فيها بحسن لتخلص، ولم يخلص من إشراك عيون الغزل، لغرابة أسلوبها:
ضنت بطرف ظل بعدي سقمه
…
أرأيتم من ضن حتى بالضنى
يا عاذلين جهلتم فضل الهوى
…
وعذلتم فيه ولكني أنا
إني رأيت الشمس ثم رأيتها
…
ماذا علي إذا هويت الأحسنا
وسألت من أي المعادن ثغرها
…
فوجدت من عبد الرحيم المعدنا
وما أحلى ما قال بعد المخلص:
أبصرت جوهر ثغرها وكلامه
…
فعلمت حقًّا أن هذا من هنا
1 مترعة: مليئة، العرابيد: المجون والتهتك: مفردها عربدة.
2 الجلنار: زهر الرمان، النهود: جمع مفرده نهد وهو الثدي إذا نهد وارتفع في الصدر
3 المخانق: جمع مفرده المخنقة. وهي القلادة، والبرود: مفرده برد: وهو الثوب الفضفاض والموشى.
4 الطلع: من النخل شيء يطلع كأنه نعلان والحَمْلُ بينهما منضود، نضيد: منضود، مصفوف.
ومثله قوله من قصيدة يمدح به الملك المعظم مطلعها:
تقنعت لكن بالحبيب المعمم
…
وفارقت لكن كل عيش مذمم1
وما أحلى ما قال بعده:
وباتت يدي في طاعة الحب والهوى
…
وشاحًا لخصر أو وسادًا لمعصم
ما أبدع ما قال منها:
سعدت ببدر خده برج عقرب
…
فكذب عندي قول كل منجم2
وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا
…
بأوضح مني حجة عند لومي
ولا سيما لما مررت بمنزل
…
كفضلة صبر في فؤادي متيم
وما بان لي إلا بعود أراكة
…
تعلق في أطرافه ضوء مبسم
سبحان المانح! والله لقد أحرز القاضي السعيد قصبات السبق برقة هذه الألفاظ وغرابة هذه المعاني، ولقد خلب القلوب وجلا ظلمة الأفهام، بقوله:
وما بان لي إلا بعود أراكة
…
تعلق في أطرافه ضوء مبسم
وأظنه من المخترعات، والله أعلم، وما أحلى ما قال بعده:
وقفت به أعتاض عن لثم مبسم
…
شهي لقلبي لثم آثار منسم3
ولم ير طرفي قط شملًا مبددا
…
يقابله إلا بدمع منظم
ولم يسل قلبي أو فمي عن غزالة
…
وعن غزل إلا بمدح المعظم
ومن المخالص البديعة قول الصاحب بهاء الدين زهير من قصيدة يمدح بها الأمير نصير الدين اللمطي، مطلعها:
لها خفر يوم اللقاء خفيرها
…
فما بالها ضنت بما لا يضيرها4
وما ألطف ما قال بعده:
أعدتها أن لا يعاد مريضها
…
وسيرتها أن لا يفك أسيرها5
1 المعمم: السيد الذي يقلده القوم أمهرم ويلجأون إليه، مذمم: مذموم لشظفه وقساوته.
2 برج العقرب: من الكواكب.
3 المنسم: خف البعير.
4 الخفر: الحياء، الخفير: الحارس، ضنت: بخلت
5 عاد المريض: زاره.
ولم يزل هائمًا في طريقه الغرامية، إلى أن قال:
وها أنا ذا كالطيف فيها صبابة
…
لعلي إذا نامت بليل أزورها
هذا المعنى قلبه الصاحب بهاء الدين زهير على من تقدمه فيه، وسبكه في أغرب القوالب البديعية، وأظنه من مخترعاته. ثم قال بعده:
من الغيد لم توقد مع الليل نارها
…
ولكنها بين الضلوع تثيرها
تقاضى غريم الشوق مني حشاشة
…
مروعة لم يبق إلا يسيرها
وإن الذي أبقته منها يد الهوى
…
فداء يشير يوم وافى نصيرها
هذا المخلص استبعد الصاحب بهاء الدين زهيرًا رقيق ألفاظه، بحشمة توريتة. ومثله في الحسن قوله من قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين بن العزيز مطلعها:
عرف الحبيب بمكانه فتدللا
…
وقنعت منه بموعد فتعللا
وما أظرف ما قال بعده:
وأرى الرسول ولم أجد في وجهه
…
بشرًا كما قد كنت أعهد أولا
ولم يزل يدير كاسات صباباته الغرامية إلى أن قال:
آها لقلب ما خلا من لوعة
…
أبدًا يحن إلى زمان قد خلا
ورسوم جسم كان يحرقه الهوى
…
لو لم تبادره الدموع لأشعلا
ولقد كتمت حديثه وحفظته
…
فوجدت دمعي قد رواه مسلسلا1
أهوى التذلل في الغرام وإنما
…
يأبى صلاح الدين أن أتذللا
وما أحلى ما قال بعد المخلص:
مهدت بالغزل الرقيق لمدحه
…
وأردت قبل الفرض أن أتنفلا2
ويعجبني أيضًا من مخالص القاضي كمال الدين بن نبيه قوله من قصيدة يمدح بها الخليفة الناصر لدين الله مطلعها:
باكر صبوحك أهنى العيش باكره
…
فقد ترنم فوق الأيك طائره3
1 رواه: حكاه. أو من الري والسقاية.
2 أتنفل: أصلي النوافل وهي من الصلاة غير الواجبة.
3 الأيك: واحدته أيكة وهي الشجر الكثيف الملتف.
ثم قال بعده:
والليل تجري الدراري في مجرته
…
كالروض تطفو على نهر أزاهره1
وكوكب الصبح نجاب على يده
…
مخلق تملأ الدنيا بشائره2
ولم يزل يتلاعب بهذه المعاني المخترعة إلى أن قال:
خذ من زمانك ما أعطاك مغتنمًا
…
وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلى أوائله
…
لكنه ربما مجت أواخره3
واجسر على فرص اللذات محتقرًا
…
عظيم ذنبك إن الله غافره
فليس يخذل في يوم الحساب فتى
…
والناصر ابن رسول الله ناصره
ويعجبني من مخالصه الموسويات قوله، من قصيدة مطلعها:
يا نار أشواقي لا تخمدي
…
لعل ضيف الطيف أن يهتدي
ولم يزل راتعًا في رياض غزلها إلى أن قال:
غازلنا من نرجس ذابل
…
وافتر عن نور أقاح ندي4
وقام يلوي صدغه قائلًا
…
لا تغترر به فكذا موعدي
فقلت يالله مات الوفا
…
فقال موسى لم يمت خذ يدي
وقوله من المخالص الأشرفيات الموسويات، في بيت المخلص الذي يستغني بتمكنه وقوته عن ذكر ما قبله:
يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه
…
قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت
ومن مخالصه الأشرفيات أيضًا قوله من قصيدة:
بتنا وقد لف العناق جسومنا
…
في بردتين تكرم وتعفف
حتى بدا فلق الصباح كجحفل
…
راياته رنك المليك الأشرفِ5
1 المجرة: مجموعة كبيرة من النجوم تبدو كالوشاح في عرض السماء.
2 نجاب: صيغة مبالعة من نجب: وهو الذي يلد النجباء وهم الأخيار، المخلّق: المعروف المميز.
3 مج: عاف
4 افتر: كشف عن أسنانه عند التبسم، أقاح جمع مفرده أقحوانة، وهي أزهار مفلجة بيضًا ناصعة.
5 الجحفل: الجيش العظيم الكثير، الرنك: شعار الملوك والأمراء الأتراك والمماليك.
ويعجبني من مخالصه الأشرفيات، أيضًا، قوله من قصيدة:
يذود شبا القنا عن وجنتيها
…
كمنع الشوك للورد الجني
إذا ما رمت أقطفه بعيني
…
يقول حذار من مرعى وبي1
لسان السيف من أدنى وُشاتي
…
ومن رقباي طرف السمهري2
كأن لجفنها في كل قلب
…
فعال المشرفي الأشرفي3
ويعجبني من مخالص الشاب الظريف، شمس الدين محمد بن العفيف، قوله من قصيدة يمدح بها القاضي فتح الدين عبد الله الظاهر، تحمس في غزلها وتغزل في تحمسها إلى المخلص، مطلعها:
أرح يمينك مما أنت معتقل
…
أمضى الأسنة ما فولاذه الكحل
وما أحلى ما قال بعده:
يا من يريني المنايا واسمها نظر
…
من السيوف المواضي واسمها مقل
ما بال ألحاظك المرضى تحاربني
…
كأنما كل لحظ فارس بطل
من دونها كثب من دونها حرس
…
من دونها قضب من دونها أسل4
ومعشر لم تزل في الحرب تبصرهم
…
حمر الخدود وما من شأنها الخجل
يثني حديث الوغى أعطافم طربًا
…
كأن ذكر المنايا بينهم غزل5
من كل ذي طرة سوداء يلبسها
…
وشيبها من غبار النقع منتصل6
ضاءت بحسنهم تلك الخيام كما
…
ضاءت بوجه ابن عبد الظاهر الدول
وطالعت تقطيف الجزار فأعبجني منه مخلص قصيدة يمدح بها الأمير جمال الدين، موسى بن يغمور، مطلعها:
نقلت لقلبي ما بجفنيك من كسر
…
وعلمت جسمي بالضنى رقة الخصر
1 وبي: أي وبيل، ومرعى وبي أي سيء العاقبة.
2 وشاة: مفردها واشٍ، وهو الذي ينقل الأخبار، رقباي: أي رقبائي، مفردها رقيب وهو المراقب، السمهري: المرح المنسوب إلى سمهر وهو من أصلب الرماح.
3 المشرفي: السيف القاطع.
4 الأسل: الرماح.
5 الوغى: الحرب.
6 الطرة: الثوب المكفف، النقع: غبار المعارك، المنصل: المغطى.
ولم يزل الجزار يتقطف ما تشتهيه النفس، من هذا النوع، إلى أن قال:
وهيفاء تحكي الظبي جيدًا ومقلة
…
رنت وانثنت فارتعت بالبيض والسمر1
جسرت على لثم الشقيق بخدّها
…
ورشف رضاب لم أزل منه في سكر2
ولست أخاف السحر من لحظاتها
…
لأني بموسى قد أمنت من السحر
وما أحلى ما قال بعد تخلصه بموسى:
فتى إن سطا فرعون فقر وجدته
…
يغرقه من جود كفيه في بحر
له باليد البيضاء أعظم آية
…
إذا اسودت الأيام من نوب الدهر
ومن مخالص الشيخ جمال الدين بن نباتة، التي هي أوقع في القلوب من خالص الوداد، وتوريتها أنفس من خلاصة العقود في الأجياد، قوله من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة تاج الدين السبكي، مطلعها:
وا حيرتي بظلام الطرة الداجي
…
وشقوتي بنعيم الملمس العاجي
ولم يزل يكرر حلاوة هذا النبات إلى أن قال:
قد أسرج الحسن خديه فدونك ذا
…
سراج خد على الأكباد وهاج3
وألجم الغزل فاركض في محبته
…
طرف الهوى بعد إلجام وإسراج4
وقسم الشعر فاجعل في محاسنه
…
شذر القلائد واهد الدر للتاج
ومثله قوله، من قصيدة يمدح بها القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود، مطلعها:
بأبي نافر كثير الدلال
…
إن هذا النفار شأن الغزال5
م قال بعده:
حبذا منه مقلة لست أدري
…
أبهدب تصول أم بنبال6
صنفت شجونا بغزال جفن
…
فقرأنا مصنف الغزالي
1 الهيفاء: الدقيقة الخصر، تحكي: تشبه، الظبي؛ الغزال، رنت: نظرت، البيض والسمر: الأصل: السيوف والرماح، وربما قصد الشاعر هنا: الأسنان والشفاه.
2 جَسَر: تجرّأ، الشقيق: زهر أحمر قان، يعرف بشقائق النعمان، رشف: شرب، الرضاب: الريق.
3 أسرج: أشعل السراج، وألبس السرج للدابة.
4 ألجم: وضع اللجام في فم الدابة ليمنعها من الأكل أو ليحسن السيطرة عليها.
5 النافر: المقاطع، الهارب من النفور.
6 الهدب: الرمش تجمع على أهداف: رموش. وهي الشعر الذي ينبت على الجفن.
وهوينا حلو القوام فنادت
…
لا عجيب حلاوة العسال1
من معيني على هوى زاد حتى
…
أهملته نصائح العذال
لو رأى عاذلي حقيقة أمري
…
لرثاني ولا أقول رثى لي
في جمال الحبيب مت شجونًا
…
وبروحي أفدي تراب الجمال
ومثله قول الشيخ برهان الدين القيراطي، من قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدين الكريمي، مطلعها:
غرامي فيك يا قمري غريمي
…
وذكرك في دجى ليلي نديمي2
وقال بعده:
وملّني الحميم وصد عني
…
ومالي غير دمعي من حميم3
وكم سأل العواذل عن حديثي
…
فقلت لهم على العهد القديم
وعم تسألون ولي دموع
…
تخبرهم عن النبأ العظيم4
ولم يزل القيراطي يحرّر إبريز5 هذه المعاني إلى أن قال:
فمعوده وناظره وجسمي
…
سقيم من سقيم في سقيم
كريمٌ مال بخلًا عن ودادي
…
فلمتُ لنحو مخدوم كريم
المخالص بالتورية، على هذا النمط، طريقها مخوف وباب مسلكها مقفل، لا سيما على من كفه من هذا الفن صفر ورجله حافية وليس له محمل.
ومن مخالصي التي ما برحت التورية في أبواب بيوتها خادمه، وكم سلكت هذا الطريق المخوف وعادت إلى بيوتها سالمه، قولي من قصيدة أمتدح بها شرف الدين صدقة ابن الشماع الشهير في دمشق بابن مسعود، وكان من أعز الأصحاب، وممن رشف معنا في ذلك العصر سلافة الآداب، مطلعها:
سهام جفنيك في الحشا رشقة
…
رفقًا لما مهجة الشيحي درقه6
1 العسال: الذي يستخرج العسل.
2 الغريم: العدو اللدود.
3 حميم: صديق.
4 هذا البيت هو عبارة عن آية قرآنية غير فيها الشاعر حتى تتناسب والشعر: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} النبأ: 78/ 1 و2
5 الإبريز: الذهب والفضة.
6 الدرقة: الترس من جلد خالص.
وبكر هذه القافية أنا أبو عذرتها، وأول من حصل له الفتح في تحريك نكتتها، وقلت بعد المطلع منها:
أنفقت عمري وصحتي شغفا
…
عليك والصبر آخر النفقة
غصن خلاف يميس من خفر
…
قلوبنا في هواه متفقه
قوامه في اعتداله إلف
…
سبحان من مده ومن مشقه1
عيناي بالثغر مع ذوائبه
…
في أوَّل الاصطباح مغتبقه2
أمير حسن بقرطه ظهرت
…
له جنود لكن من الحلقه
عامر بيت الوصال خربه
…
وقال ما أنت هذه الطبقه
بدر منير قسا برؤيته
…
لكن نرى عند خده شفقه
قالوا لبدر التمام منه ضيا
…
قلت وعيش الهوى لقد محقه3
وحمل الصبح من محاسنه
…
أثقال نور لكنه فلقه
وماس في الروض كل غصن نقا
…
غدا إلى الله رافعًا ورقه
وانظر إلى الظبي كيف يرمقه
…
ويأخذ الغنج منه بالسرقه
فقيل والظبي ما يقابل
…
فقلت والله ما له حدقه4
قلت له إن جفن مقلته
…
يشبه سهمًا بعجبه رشقه
خفت من القتل رحت أملقه
…
سابقني مدمعي جرى ملقه5
ولم أزل ناشرًا علم التورية إلى أن وصلت إلى المخلص بها فقلت:
طرقت بب الحبيب والرقبا
…
عليَّ من خيفة اللقا حنقه6
قالوا فما تبتغي فقلت لهم
…
حتى تخلصت أبغي صدقه
قولي: حتى تخلصت، لا يخفى ما في من زيادة الحسن على أهل النظر من أهل الأدب، ومثله قولي من قصيدة مصغرة مدحت بها قاضي القضاة شمس الدين النويري، مطلعها:
طريفي من لييلات الهجير
…
مقيريح الجفين من السهير9
1 مشق: أطال.
2 الاغتباق: شرب الخمرة مساء.
3 محقه: أدخله في المحاق وهي من منازل القمر حيث لا تمكن رؤيته لعدم إضاءته.
4 الحدقة: سواد العين.
5 أملقه: أتقرب إليه، ملقه: جريان الدمع بسب ضرب العين.
6 حَنقَه: جمع مفرده حانق وهو الغاضب.
7 القصيدة كلها مصغرة: طُريفي تصغير: طريفي، لييلات تصغير ليلات، الهجير: تصغير الهجر مقيريح: تصغير مقروح: أي مجروح- الجفين: الجفن- السهير: السهر، وهكذا كل ألفاظ القصيدة.
وقلت بعد المطلع:
بعيد غزيلي وجوير قلبي
…
دميعي في وجيناتي جويري
يديوي تريكي المحيا
…
غويب عن عويشقه الحضير
عبيسي اللحيظ له وجيه
…
ضوي نويره لبني بديري
حياء مقيلتيه سبا عقيلي
…
ولكن الحديد غدا جميري
رويض وجينتيه له عنيدي
…
نسيب في النظيم إلى زهير
مسيبل الشعير على كفيل
…
يذكرنا مويجات البحير
بدير في الظهير له نوير
…
مثيل شكيله ما في العصير
حويجبه القويس له سهيم
…
مويض في القلب بلا وتير
شفيفته قفيل من عقيق
…
مقيفيل على درّ الثغير
عذيره النويزل دار حتى
…
تشوق للنزيل وللدوير
لثمت خديده فجرى دميعي
…
فما أحلى الزهير على النهير
دنينير الوجيه له بقلبي
…
نقيد ليس يصرف عن صديري
أتاه سويئلًا يومًا دميعي
…
فقال أنا جعيدي الشعير
شهير وصيله عندي يويم
…
ويوم هجيره مثل الشهير
تبسم لي سحيرًا عن رويض
…
فقلت ولي دميع كالمطير
نثرت دميعتي بنظيم ثغر
…
فما أحلى النظيم مع النثير
لفيظك والمقيلة مع نظيمي
…
سحير في سحير في سحير
شعيرك مذ أضل عويشقيه
…
هدينا في الظليمة بالنوير
ولم أستطرد إلى غالب أبيات هذه القصيدة إلا لغرابة أسلوبها، فإنني لم أزل أجذب القلوب إلى تحبيب تصغيرها، ومغازلة عيون أغزالها، إلى أن أبدر بدر مخلصها في أفق توريته. ومثله قولي من قصيدة كتبت بها من حماة الحروسة إلى المقر المرحومي الأميني، صاحب ديوان الإنشاء الشريف، بدمشق المحروسة:
يا نزلا لا حمى الفراديس بالشا
…
م وأعلامهم على قاسيونا1
1 الفراديس: جمع مفرده فرادس وهو الرجل الضخم العظام. أو جمع فردوس وهو البستان، قاسين: جبل يشرف على دمشق.
بالنسيم العليل منكم إذا
…
هب على الغور والربا عللونا
وارحموا سائل الدموع وبالله
…
عليكم لا تنهروا السائلينا
وإذا ما نهرتم الدمع نهرًا
…
لا تخوضو فيه مع الخائضينا
حبكم فرضنا وسيف جفاكم
…
قد غدا في بعادنا مسنونا
والحشا لم تخن عهود وفاكم
…
وسلوا من غدا عليها أمينا
ومثله قولي، من قصيدة كتبت بها من طرابلس المحروسة، إلى سيدنا قاضي القضاة تقي الدين بن الخيثمي الحنفي بحماة المحروسة، نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه:
فيا ساكني مغنى حماة نعمتم
…
صباحًا ولو ألغيتم في الورى ذكري
فودي ودّي مثل ما تعهدونه
…
ولكن صبري عنكم عاد كالصبر
وقد كنت أخشى هجركم قبل بعدكم
…
فلما بعدتم قلت آها على الهجر
وإن جلت في ميدان نظمي تشوقًا
…
تسابقني حمر المدامع بالنثر
وشيعيٌّ همي كلما رام بعدكم
…
يحاربني ناديت يا لأبي بكر
قد تقدم وتقرر أن مخالص التورية صعب مسلكها على كثير من الناس، ولم أبرز بدورها هنا كاملة إلا ليزول عن الطالب ظلمة الالتباس.
وأنشدني، من لفظه لنفسه الكريمة، أحد أعيان العصر المقر المجدي فضل الله بن مكانس، فسح الله في أجله مخلصًا من غزل إلى مديح نبوي وهو:
كم حمد السامعون وصفي
…
لغادة قينة وأغيد
فعدت عنه تقي وعودي
…
لمدح خير الأنام أحمد
هذا المخلص حلاه المقر المجدي بشعار التورية، وخفر المديح النبوي، ومخلص الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته:
من كل معربة الألفاظ معجمة
…
يزينها مدح خير العرب والعجم
الشيخ صفي الدين تخلص في بيت واحد، ووثب من شطره الأول إلى شطره الثاني على الشرط المعروف، وهذا المنوال قد تقرر أنه عليه عقدت خناصر المتأخرين، ولكن الشيخ صفي الدين وثب وثبة ضعيفة دلت على ضعف تخلصه، فإن بيته بمفرده غير صالح للتجريد. وقد تقدم القول على بيت القسم من قصيدة أنه غير صالح للتجريد أيضًا، فإنه لم يأت بجواب قسمه إلا في بيت الاستعارة، وعلى كل تقدير، إن لم يؤت ببيت القسم
وبيت الاستعارة قبل بيت التخلص، لم يحصل به فائدة، ولا يصير على مخلصه طلاوة الأدب، ويصير بينه وبين الأذواق السليمة مباينة، وقد تعين أن أورد بيت القسم وبيت الاستعارة هنا ليصيرا لمخلصه الضعيف تكأتين وهما:
لا لقبتني المعالي بابن بجدتها
…
يوم الفخار ولا برّ التقى قسمي1
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة
…
من القوافي تؤم المجد عن أمم2
من كل معربة الألفاظ معجمة
…
يزينها مدح خير العرب والعجم3
وابن الشيخ صفي الدين الحلي من قول كمال الدين بن نبيه وقد تقدم:
يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه
…
قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت
هذا المخلص لحسن تجريده يستغني به عن قصيدة. وقد تقرر أن نظام البديعيات التزموا أن يكون كل بيت منها شاهدًا على نوعه بمجرده، ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده. ومخلص العميان مثل مخلص الشيخ صفي الدين الحلي أيضًا، فإنه غير صالح للتجريد، وما تتم به الفائدة إن لم يأت ناظمه بما قبله، وعلى مذهب أصحاب البديعيات ما يصلح أن يكون شاهدًا، وهو:
يمم بنا البحر إن الركب في ظمإ
…
فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم
وقد تقدم قولي: إن العميان أتوا في براعة الاستهلال بصريح المدح، وهو قولهم فيها:
بطيبة انزل ويمم سيد الأمم
…
وانشر له المدح وانثر طيب الكلم
فإذا حصل التصريح بالمدح في المطلع الذي هو براعة الاستهلال، لم يبق لحسن التخلص موقع، فإن حسن التخلص من شرطه أن يخلص الشاعر من الغزل، إلى المديح، لا من المديح إلى المديح، وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له في المخلص ذكر، ولكنه استغنى بذكر البحر فإنه جعله كناية عن كرم النبي صلى الله عليه وسلم.
ومخلص الشيخ عز الدين في بديعتيه:
حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا
…
بمدح أكرم خلق الله كلهم
1 ابن بجدتها: سيدها والعارف بها.
2 مثقلة: محملة حملًا ثقيلًا، تؤم: تقصد، أمم: قرب.
3 معجمة: منقطة من الإعجام وهو وضع النقاط على الحروف.
الشيخ عز الدين صرح بذكر حسن التخلص في أول البيت هنا، وجل القصد أن يكون التصريح به في الشطر الثاني، مع أنه لم يأت بحسن التخلص على الشروط المقررة، فإنه انتقل من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما، كأنه استبدأ كلامًا آخر.
وقد تقدم القول في أول الباب: إن هذا النوع إذا نسج على هذا المنوال سمي اقتضابًا، ولم يكن له حظ في حسن التخلص، فإن الشيخ عز الدين قال قبل مخلصه:
وارع النظير من القوم الأولى سلفوا
…
من الشباب ومن طفل ومن هرم
ثم قال بعده:
حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا
…
بمدح أكرم خلق الله كلهم
الشيخ عز الدين استبدأ هنا كلامًا آخر، وليس بين بيت التخلص وبين ما قبله علاقة
ولا أدنى مناسبة.
وبيت بديعيتي:
ومن غدا قسمه التشبيب في غزل
…
حسن التخلص بالمختار من قسمي
هذا البيت ما يشك متأدب أنه أعمر بيوت البديعيات، وهو في غنية عن الإطناب في وصفه.