الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأما تميم تميم بن مر
…
فألفاهم القوم روبى نياما1
ولولا الإطالة لذكرت ما دخل فيما أوردته من الزحاف، وقد أوردت هنا خمسة عشر بحرًا، ولم أذكر المتدارك، إذ هو محدث اخترعه المتأخرون، ولم تعرفه العرب في الزمن المتقدم، وهو خارج عن الخمسة عشر بحرًا، وقال ابن الحجاب في عروضه:
وخسمة عشر دون ما متدارك
…
وما عده منها الخليل فعدلا
1 روبى: جمع رائب وهو الذي يبدو كالدايخ.
الانسجام في الشعر:
انتهى ما أوردته من الانسجام المنثور، وأما الانسجام في النظم، قد تقدم وتقرر أن أصحاب المذهب الغرامي هم سكان بيوته العامرة، وكناس1 آرامه التي هي غير نافرة. ولكن العرب على كل تقدير ملوك هذا الشأن، وقلائد هذا العقيان. وقد عنَّ لي أن أذكر، هنا، ما فرّوا به من وعر التركيب وشروعه في أبياتهم على سهل الانسجام، وأركض في أثر هذه الأبيات بسوابق الفحول، فإنها أبيات لها حرمة وذمام، وأعرّج بعد ذلك على البيوت الغرامية، وأتنسم أخبار الهوى من بين تلك الخيام، فمن الانسجام الذي وقع للعرب، وكاد أن يسيل رقة لسهولته، قول امرئ القيس في معلقته:
أغرَّك مني أن حبك قاتلي
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وقوله من غير المعلقة:
أجارتنا إنا غريبان ههنا
…
وكل غريب للغريب نسيب
ومثله، في الانسجام والرقة، قول طرفة بن العبد في معلقته:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي2
ومثله قوله منها:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
…
على الحر من وقع الحسام المهند3
ومثله قوله منها:
فإن مت فانعيني بما أنا أهله
…
وشقي عليَّ الجيب يا أم معبد4
1الكناس: بيت الرئم.
2 دفع: ردّ، بادر: واجه.
3 مضاضة: إيلامًا.
4 اذكري موتي بما أستحقه. وشقي عليَّ الجيب: أي اندبيني، من الندبة، وشق الجيب علامة الحزن.
ومثله قوله منها:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له
…
بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد
لعمرك ما الأيام إلا مفازة
…
فما اسطعت من معروفها فتزود
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكل قرين بالمقارن يقتدي
ومثله، في لطف الانسجام، قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
ومن هاب أسبابا المنايا ينلنه
…
ولو رام أسباب السماء بسلم
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
…
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يغترر يحسب عدوًّا صديقه
…
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
…
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
…
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم1
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
…
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
…
ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم
وأحسن ختامها في الانسجام بقوله:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غد عمي
ومثله قول لبيد بن ربيعة من معلقته:
فاقنع بما قسم المليك فإنما
…
قسم الخلائق بيننا علامها
وإذا الأمانة قسمت في معشر
…
أوفى بأعظم حظنا قسامها
ومن الغايات، في باب الانسجام، قول عنترة في معلقته:
فإذا شربت فإنني مستهلك
…
مالي وعرضي وافر لم يكلم2
وإذا صحوت فما أقصر عن ندى
…
وكما علمت شمايلي وتكرمي3
ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
…
ونبطش حين نبطش قادرينا
1 صانع: داري من المصانعة وهي المداراة والمداهنة.
2 وافر: لا يمسه سوء، لم يكلم: لم يخدش.
3 الندى: الكرم والجود.
إذا ما الملك سام الناس خسفًا
…
أبينا أن يقر الخسف فينا1
إذا بلغ الفطام الطفل منا
…
تخر له الجبابر ساجدينا2
ملأنا البر حتى ضاق عنا
…
وظهر البحر نملؤه سفينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومثله قول الحارث بن حلزة في معلقته وهي المعلقة السابعة:
لا يقيم العزيز في البلد السهـ
…
ـل ولا ينفع الذليل النجاء3
ومن الانسجامات التي عدها صاحب المرقص والمطرب، من المطرب قول زهير:
تراه إذا ما جئته متهلالًا
…
كأنك معطيه الذي أنت سائله
ومن الانسجامات المعدودة من المرقص، قول النابغة الذبياني:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ومن الانسجام المعدود من المطرب، قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه
…
لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأكسبه
…
ولست للعرض إن أودى بمحتال4
وعدوا من الانسجام المرقص، قول كعب بن هير:
ولا تمسَّكُ بالعهد الذي وعدت
…
إلا كما يمسك الماء الغرابيل5
ومن المطرب قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عُرابة باليمين
ويعجبني من لامية العرب قول الشنفرى بن مالك:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القلى متحول6
1 سام: أولى. الخسف: الذل والظلم.
2 الجبابر: الجبابرة. ويروى هذا البيت: إذا بلغ الفطام "لنا صبي" بدل: "الطفل منا".
3 السهل: المهان. النجاء: النجاة هربًا.
4 أودى: ذهب ونفد.
5 الغرابيل: جمع غربال آلة يدوية بدائية لتنقية الحبوب وهو عبارة عن قطعة من الخشب مستديرة تلصق عليها قطعة من الجلد مخرمة.
6 منأى: مبعد. القلى: الهجر.
ومثله من لامية العجم، وإن تأخر عصرها:
إن العلى حدثتني وهي صادقة
…
فيما تحدث أن العز في النقل
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى
…
لم تبرح الشمس يومًا دارة الحمل1
وعدوا من الانسجام المطرب قول مجنون ليلى في قصيدته المشهورة:
وقد خبروني أن تيماء منزل
…
لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا ستنقضي
…
فما للنوى ترمي بليلى المراميا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
…
وقد عشت دهرًا لا أعد اللياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني
…
أحدث عنك النفس يا ليل خاليا
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا
…
علينا فقد أمسى هوانًا يمانيا2
يمينًا إذا كانت يمينًا فإن تكن
…
شمالًا ينازعني الهوى من شماليا
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها
…
اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا
خليلي لا والله لا أملك الذي
…
قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
…
فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
ولو أن واش باليمامة داره
…
وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا3
وماذا لهم لا أحسن الله حالهم
…
من الحظ في تصريم ليلى حباليا4
وددت على حبي الحياة لو أنه
…
يزاد لها في عمرها من حياتيا
على أنني راضي بأن أحمل الهوى
…
أخلص منه لا عليَّ ولا ليا
إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني
…
فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا5
فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا
…
وتذهل حتى لا تجيب المناديا
ومن المرقص، في باب الانسجام، قول كثير عزة:
ولما قضينا من منى كل حاجة
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
1 دارة الحمل: من أبراج الشمس الفلكية.
2 عرّجوا: ميلوا ومروا.
3 الواشي: الذي يسعى للفرقة بين الأحباء.
4 الضمير في لهم وما لهم يعود على الوشاة، تصريم: تقطيع حبال الود.
5 كواسيا: جمع كاسي، وهو الممتلئ. أو المغطى لحمًا.
وعدوا من المطرب، في باب الانسجام، قول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا1
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
…
وهن أضعف خلق الله أركانا
وعدوا من المطرب قول بشار بن برد:
إذا جئته في حاجة سد بابه
…
فلم تلقه إلا وأنت كمين2
ومن انسجامات نسيبه، التي ليس مناسب قوله:
هل تعلمين وراء الحب منزلة
…
تدني إليك فإن الحب أقصاني
ومثله قوله:
أنا والله أشتهي سحر عينيك
…
وأخشى مصارع العشاق
ومثله قوله:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم
…
سمعت بها والأذن كالعين تعشق
ويعجبني من لطيف الانسجام، قول العباس بن الأحنف:
أفدي الذين أذاقوني مودتهم
…
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبًا
…
بثقل ما حملوني منهم قعدوا
ومثله قوله:
لولا محبتكم لما عاتبتُكُمُ
…
ولكنتم عندي كبعض الناس
ومثله قوله:
طاف الهوى في عباد الله كلهم
…
حتى إذا مر بي من بينهم وقفا
ومثله قوله:
وسعى بنا واش فقالوا إنها
…
لهي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم
…
إني ليعجبني المحب الجاحد
تقدم لهذين البيتين نكتة لطيفة تؤيد تأكيد انسجامهما وعذوبة ألفاظهما، وهي أنه رفع للرشيد موت العباس، وإبراهيم الموصلي المعروف بالنديم، والكسائي، وهشيمة الخمارة، في يوم واحد، فأمر المأمون أن يصلى عليهم فخرج فصفوا بين يديه، فقال:
1 الحور: شدة سواد سواد العين مع شدة بياض بياضها.
2 كمين: أي كامن حتى لا يراك.
من الأول. فقالوا: إبراهيم الموصلي. فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف. فقدم وصلى عليه. فلما فرغ وانصرف، دنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بالتقديم على من حضر! فقال: بقوله: وسعى بنا واش. البيتين، ثم قال: أتحفظهما؟ فقلت: نعم. فقال: أليس من قال هذا الشعر، أولى بالتقديم؟ فقلت: بلى والله يا سيدي. انتهى.
وقد تقدم قولي وتكرر: أن أصحاب الطريق الغرامية هم موالي رقيق الانسجام وتجار سوقه، ولولا نسمات أنفاسهم ما تنسمنا أخبار الحمى وتغزلنا في سفحه وعقيقه. وقد ألجأتني ضرورة الجنسية إلى ضم المتقدمين مع المتأخرين، لئلا ينفرط لعقودها نظام: وإذا أخرت من تقدم وأوردت له غير الطريق الغرامي، كان جلّ القصد من ذلك معرفة أنواع الانسجام. فمن الانسجام الغرامي قول الشريف الرضي، وهو الذي قال في حقه الثعالبي في كتاب اليتيمة: هو أشعر الطالبيين، قديمًا وحديثًا، على كثرة شعرائهم المفلقين. ولو قلت: إنه أشعر قريش، لم أبعد عن الصدق والقول الموعود بإيراده قوله:
نسرق الدمع في الجيوب حياءً
…
وبنا ما بنا من الأشواق1
لا أذم السراء في طلب العـ
…
ـز ولكن في فرقة العشاق
يوم لا غير زفرة من فؤاد
…
ذي قروح ورشقة من مآق
والثرى منتش يعاقره السيـ
…
ـر دمًا جاريًا بأيد النياق2
أمعيني على بلوغ الأماني
…
وشفائي من علتي واشتياقي
أينعت بيننا المودة حتى
…
جللتنا والزهر بالأوراق3
كم مقام خضنا حشاه إلى اللهـ
…
ـو جميعًا والليل ملقى الرواق4
ومزجنا خمر الرضابين في الرشـ
…
ـف برغم المدام تحت العناق
قم نبارد رمي الظلام ببين
…
بسهام الخطوب في الاتفاق
واغتنمها قبل الفراق فيما نعـ
…
ـلم يومًا حتى يكون التلاقي
نحن غصنان ضمنا عاطف الوجد
…
جميعًا في الحب ضم النطاق5
في جبين الزمان منك ومني
…
غرَّة كوكبية الائتلاق
1 الجيوب: مفردها جيب وهو فتحة الثوب التي يدخل منها الرأس.
2 يعاقره، يساقيه. يشربا معًا.
3 أينعت: نضجت. جللتنا: غطتنا.
4 الرواق: الستار. ورواق الليل ظلامه.
5 النطاق: حزام يشد به الوسط.
كلما كرَّت الليالي علينا
…
شق منا الوفا جيب الشقاق
أيها الرائح المغذُّ تحمل
…
حاجة للمتيم المشتاق1
أقر مني السلام أهل المصلى
…
فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد
…
أن قلبي إليه بالأشواق
وإذاما سئت عني فقل نضـ
…
ـو هوى ما أظنه اليوم باقي2
وابك عني فطالما كنت من قبـ
…
ـل أعير الدموع للعشاق
ومثله قوله من أبيات:
سهمك مدلول على مقتلي
…
فمن يرى سهمك يا قاتل
ليس لقتلي ثائر يتقي
…
وليس في سفك دمعي طائل
قد رضا المقتول كل الرضا
…
وا عجبًا لم سخط القاتل
ومثله قوله من أبيات:
نكست لحظ العين حين خطا
…
والبين يرمقني ويرمقه
أذبت دمعي يوم ودعني
…
في صحن خد ذاب رونقه
واللثم يركض في سوالفه
…
يكاد خيل الدمع يسبقه
ومثله قوله:
خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى
…
فلاقي به ليلًا نسيم ربى نجد
فإن بذاك الحيّ حبًّا عهدته
…
وبالرغم مني أن يطول به عهدي
ولولا تداوي القلب من ألم الجوى
…
بذكر تلاقينا قضيت من الوجد3
ومثله قوله من أبيات:
عارضا بي ركب الحجاز أسائله
…
متى عهده، بسكان سلع
واستملا حديث من سكن الجز
…
ع ولا تكتباه إلا بدمعي4
عزني أن أرى الديار بطرفي
…
فلعلي أرى الديار بسمعي5
1 المغذ: المسرع السير.
2 نضو: ضعيف مهزول.
3 الجوى: شدة الشوق. قضى: مات. الوجد: الاشتياق الشديد.
4 استملا: اطلبا إملاء، والإملاء هو أن يقرأ أحد شخصين ويكتب الثاني.
5 عزني: أي لم أستطع.
ومن الانسجامات، التي ينسجم الدمع لرقتها، قول تلميذه مهيار الديلمي:
ظن غداة البين أن قد سلما
…
لما رمى سهمًا وما أجرى دما
فعاد يستقري حشاه فإذا
…
فؤاده من بينهم قد عدما1
يا قاتل الله العيون خلقت
…
لو أخطأ فكيف صارت أسهما
أودعني السقيم وولى هازئا
…
يقول قم واستشف ماء زمزما
ولو أباح ما حمى من ريقه
…
لكان أشفى لي من الماء اللما2
وا بأبي ومن يبيع بأبي
…
على الظما ذاك الزلال الشبما3
كأنما الصهباء في كافورة
…
قد مزجت وجلَّ عن كأنما
ومثله قوله:
استنجدُ الصبر فيكم وهو مغلوب
…
وأسال النوم عنكم وهو مسلوب
وأبتغي عندكم قلبًا سحت به
…
وكيف يرجع شيء وهو موهوب
ما كنت أعلم ما مقدار وصلكم
…
حتى هجرت وبعض الهجر تأديب
ومثله قوله وهو في غاية اللطف:
بطرفك والمسحور يقسم بالسحر
…
أعمدًا رماني أم أصاب ولا يدري
رنا اللحظة الأولى فقلت مجرّب
…
وكرَّرها أخرى فأحسست بالشرّ
ومثله قوله في اللطف:
من عذيري يوم شرفي الحمى
…
من هوى جدّ بقلبي مرحا4
الصبا إن كان لا بد الصبا
…
إنها كانت لقلبي أروحا
يا نداماي بسلع هل أرى
…
ذلك المغبق والمصطبحا5
1 يستفري: يتفحص.
2 اللما: أخذه بأجمعه. وتقدير الكلام: لو أباح ما حمى من ريقه فإن أخذ هذا الريق بأجمعه كان أشفى لي من شرب الماء.
3 الشبم: من الماء: البارد.
4 العذير: الناصر والمساعد.
5 المغبق والمصطبحا: مكان الاغتباق أو مكان شرب الغبوق وهو شرب الخمر مساءً، ومكان الاصطباح وهو شرب الصبوح أي شرب الخمرة صباحًا.
اذكرونا مثل ذكرانا لكم
…
رب ذكرى قربت من نزحا
وارحموا صبًّا إذا غنى بكم
…
شرب الدمع وعاف القدحا
منها:
وعرفت الهم مذ فارقتكم
…
فكأني ما عرفت الفرحا
ومثله قوله من قصيدة:
بكر العارض يحدوه النعامى
…
فسقاك الريّ يا دار أماما1
وتمشت فيك أرواح الصبا
…
يتأرّجن بأنفاس الخزامى2
قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي
…
للمحبين مناخًا ومقاما3
وبجرعاء الحمى قلبي فعج
…
بالحمى واقر على قلبي السلاما4
وترحل فتحدث عجبا
…
إن قلبًا سار عن جسم أقاما
قل لجيران الغضى آهًا على
…
طيب عيش بالغضى لو كان داما
حملوا ريح الصبا من نشركم
…
قبل أن تحمل شيحًا أو ثماما5
وابعثوا أشباحكم لي في الكرى
…
إن أذنتم لجفوني أن تناما
ومن الغايات، في باب الانسجام، قول الوأواء الدمشقي:
بالله ربكما عوجا على سكني
…
وعاتباه لعل العتب يعطفه6
وحدثاه وقولا في حديثكما
…
مابال عبدك بالهرجان تتلفه
فإن تبسم قولا في ملاطفة
…
ما ضر لو بوصال منكم تسعفه
وإن بدا لكما في وجهه غضب
…
فغالطاه وقولا فليس نعرفه
1 العارض: المطر. يحدوه: يسوقه. النعامى: ريح الجنوب لأنها في الصحراء أندى الرياح وأرطبها.
2 أرواح: جمع ريح. الصبا: رياح تهب على الصحراء العربية من جهة الشرق، تقابلها الدبور وتحمل عادة الروائح الزكية. تأرج: صار ريحه ريح الأريج.
3 قضى: حكم. مناخًا: محط رحال. ماقما: مكان الإقامة.
4 عج: أمر من عاج: عرّج ومرّ....
5 النشر: الرائحة الطيبة. الشيح: نبات سهلي طيب الرائحة. الثمام: عشب من الفصيلة النجيلية فروعه مزدحمه، مجتمعه.
6 السكن: الزوج ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} الروم 30/ 21. وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الأعراف: 7/ 189.
ومثله، في اللطف ورقة الانسجام، قول الأرجاني:
حيتك غادية الهوى من مربع
…
رجعت عهودي فيك أم لم ترجع
ما أسأروا في كأس دمعي فضلة
…
عنهم فأجلعها نصيب المربع1
لم يبكني إلا حديث فراقهم
…
لما أسر به إليَّ مودعي
هو ذلك الدر الذي ألقيتم
…
في مسمعي ألقيته من أدمعي
ومثله قوله:
عوجا عليها أيها الركب
…
لا عار أن يتساعد الصحب
قد كان لي قلب ولا ألم
…
واليوم لي ألم ولا قلب
ومثله قوله:
أما الفؤاد فإنهم ذهبوا به
…
يوم النوى فبقيت صفر الأضلع2
فكأننا لما عقدنا للنوى
…
حلفًا بغير رهائن لم يقنع
فرهينتي معهم فؤادي دائمًا
…
والطيف من سلمى رهينتهم معي
ومثله في اللطف قول الطغرائي:
خبروها أني مرضت فقالت
…
أضنى طارفًا شكا أم تليدا3
وأشاروا بأن تعود وسادي
…
فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خفية وهي تشكو
…
ألم البعد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك
…
أن أمالت عليَّ عطفًا وجيدًا
وألطف منه، بل من النسيم، قوله:
بالله يا ريح إن مكنت ثانية
…
من صدغه فأقيمي فيه واستتري
وراقبي غفلة منه لتنتهزي
…
لي فرصة وتعودي منه بالظفر
وباكري ورد عذب من مقبله
…
مقابل الطعم بين الطيب والخصر
ولا تمسي عذاريه فتفتضحي
…
بنفحة المسك بين الورد والصدر4
1 أسأروا: أبقوا، من السؤر وهو البقية من كل شيء.
2 صفر الأضلع: فارغ الأضلع، ويقال: صفر اليدين للذي لا يحمل شيئًا.
3 الضنى: المرض والألم، الطارف: الجديد، التليد. القديم.
4 الورد والصدور: الورود المجييء، والصدور: العودة والرجوع.
وإن قدرت على تشويش طرته
…
فشوشيها ولا تبقي ولا تذري
ثم اسلكي بين برديه على مهل
…
واستبضعي وانثني منه على قدر1
ونبهيني دون القوم وانتفضي
…
عليَّ والليل في شك من السحر
لعل نفحة طيب منك نائبة
…
تقضي لبانة قلب عاقر الوطر2
وممن برع في الطريق الغرامية، وأينع زهر نظمه في حدائق الانسجام بها، الشيخ تقي الدين السروجي رحمه الله تعالى. قال الشيخ أثير الدين أبو حيان، رحمه الله: كان الشيخ تقي الدين، مع زهده وعفته، مغرمًا بحب الجمال، وكان يغني بشعره الغرامي في عصره، لرقة انسجامه وعذوبة ألفاظه. وقال الشهاب محمود: كان الشيخ تقي الدين يكره مكانًا يكون فيه امرأة، ومن دعاه من أصحابه قال: شرطي معروف، وهو أن لا يحضر في المجلس امرأة. وكنا يومًا في دعوة، فأحضر صاحب الدعوة شواء وأمر بإدخاله إلى النساء يقطعنه ويجعلنه في الصحون، فلما حضر بعد ذلك تقرف منه، وقال: كيف يؤكل وقد لمسنه بأيديهن. وذكر أبو حيان: أنه لما توفي بالقاهرة، رابع رمضان المعظم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، قال أبو محبوبه: والله ما أدفنه إلا في قبر ولدي، فإنه كان يهواه في الحياة، وما أفرق بينهما في الممات. هذا لما كان يعهده من دينه وعفافه، فمن اسنجاماته الغرامية:
أنعم بوصلك لي فهذا وقته
…
يكفي من الهجران ما قد ذقته
أنفقت عمري في هواك وليتني
…
أعطي وصولًا بالذي أنفقته3
يا من شغلت بحبه عن غيره
…
وسلوت كل الناس حين عشقته
كم جال في ميدان حبك فارس
…
بالصدق فيك لي رضاك سبقته
أنت الذي جمع المحاسن وجهه
…
لكن عليه تصبري فرقته
قال الوشاة قد ادعى بك نسبة
…
فسررت لما قلت قد صدقته
بالله إن سألوك عني قل لهم
…
عبدي وملك يدي وما أعتقته
أو قيل مشتاق إليك فقل لهم
…
أدري بذا وأنا الذي شوقته
وما ألطف ما قال منها:
يا حسن طيف من خيالك زارني
…
من عظم وجدي فيهما حققته
فمضى وفي قلبي عليه حسرة
…
لو كان يمكنني الرقاد لحقته
1 استبضعي: أي مري على البُضع وهو فرج المرأة.
2 اللبانة: الحاجة. العاقر: التي لا تلد. الوطر: الحاجة.
3 وصول: جمع وصل: وهو عبارة عن ورقة تثبت الإنفاق "مستحدثه".
قلت: ما نفثات السحر، إذا صدقت عزائمها، بأوصل إلى القلوب من هذه النفثات، ولا لسلاف ظلم الحبائب مع حلاوة التقبيل عذوبة هذه الرشفات.
وعدّوا من المرقص الغرامي في باب الانسجام، قول ابن الخياط الدمشقي:
أغار إذا آنست في الحي أنه
…
حذارًا وخوفًا أن تكون لحبه1
ومثله قول ظاهر الحداد، وقد عدوه من المرقص:
ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي
…
كذا عادني في الصبح مع من أحبه
ومثله قول خالد الكاتب، وعدوه له من المطرب:
رقدت ولم ترث للساهر
…
وليل المحب بلا آخر
ومثله قول راجح الحلي، وعدّوه من المرقص:
يا ليل طلت ولم ترق لمغرم
…
لم يظلموا إذ لقبوك بكافر2
ومثله قول ابن تقي، وهو معدود من المرقص:
باعدته عن أضلع تشتاقه
…
كي لا ينام على فراش خافق
ويعجبني في هذا الباب قول النجيب بن الدباغ، وهو معدود من المرقص:
يا رب إن قدرته لمقبل
…
غيري فللمسواك أو للأكؤس3
ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث
…
يا رب فَلْيَكُ شمعة في المجلس
وإذا حكمت لنا بعين مراقب
…
في الحب فلتك من عيون النرجس
وعدّوا من مرقصات الطريق الغرامية قول القائل:
أستغفر الله إلا من محبتكم
…
فإنها حسناتي حين ألقاه
فإن يقولوا بأن العشق معصية
…
فالعشق أحسن ما يعصى به الله
ومن مطرب الانسجام الغرامي، قول علية بنت المهدي:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي
…
تروع الهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضًا
…
فأين حلاوات الرسائل والكتب
1 أنة: واحدة الأنين وهو صوت الموجوع.
2 الكافر: من أسماء الليل.
3 المسواك: غصن شجر تنظف به الأسنان.
ومثله من المطرب، قول الحسين بن الضحاك:
له عبثات عند كل تحية
…
بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد1
رعى الله عصرًا لم نبت فيه ليلة
…
خليًّا ولكن من حبيب على وعد2
ومن الغايات في هذا الباب، أعني الانسجام الغرامي، ما كان يكثر من الترنم به أبو القاسم القشيري وهو:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا
…
وشهدت حين نكرر التوديعا3
أيقنت أن من الدموع محدثًا
…
وعلمت أن من الحديث دموعا
ومثله قول خالد الكاتب:
بكى عاذلي من رحمتي فرحمته
…
وكم مثله من مسعد ومعين
ورقت دموع العين حتى كأنها
…
دموع دموعي لا دموع جفوني
ويعجبني، من هذا الباب، قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
على عصر أيام الصبابة والصبا
…
ووصل الغواني والتذاذي بالشرب
سلام امرئ لم تبق منه بقية
…
سوى نظر العينين أو شهوة القلب
ومن غراميات القاضي الفاضل، في باب الانسجام قوله:
ترى لحنيني أو حنين الحمائم
…
جرت فحكت دمعي دموع الغمائم
وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا
…
فكل أرها دارسات المعالم4
لقد ضعفت ريح الصبا فوصلتها
…
فمنِّي لا منها هبوب السمائم5
دعوا نفس المقروح يحمله الصبا
…
وإن كان يهفو بالغصون النواعم6
تأخرت في حمل السلام عليكم
…
لدينا لما قد حملت من سمائم
فلا تسمعوا إلا حديثًا لناظري
…
يعاد بألفاظ الدموع السواجم7
1 عبثات: غمزات وهي من العبث وهو اللعب الذي لا طائل تحته.
2 خليًّا: وحيدًا، أو خاليًا من شيء ما.
3 بيننا: الأولى فراقنا.
4 دارسات المعالم: ممحوات الآثار.
5 السمائم: جمع سموم وهي رياح حارة.
6 الصبا: رياح تحمل روائح طيبة تهب على الجزيرة العربية من جهة الشرق.
7 السواجم: المنسكبة، سجم الدمع: انصب وانسكب.
ومثله قوله:
يا طرف مالك ساهد في راقد
…
يا قلب مالك راغب في زاهد
من يشتري عمري الرخيص جميعه
…
من وصلك الغالي بيوم واحد
عاتبته فتوردت وجناته
…
والقلب صخر لا يلين لقاصد
فنظرت من ذي في حرير ناعم
…
وضربت من ذا في حديد بارد
ويعجبني من غراميات البهاء زهير قوله:
عتبتكم عتب المحب حبيبه
…
وقلت بإدلال فقولوا بإصغاء
لعلكم قد صدكم عن زيارتي
…
مخافة أمواه لدمعي وأنواء1
فلو صدق الحب الذي تدعونه
…
وأخلصتم فيه مشيتم على الماء
وإن تك أنفاسي خشيتم لهيبها
…
وهالتكم نيران وجد بأحشائي
فكونوا رفاعيين فى الحب مرة
…
وخوضوا لظى نار لشوقي حمراء2
وألطف منه وأسجم قوله:
تعيش أنت وتبقى
…
أنا الذي مت عشقا
حاشاك يا نور عيني
…
تلقى الذي أنا ألقى
ولم أجد بين موتي
…
وبين هجرك فرقا
يا أنعم الناس بالًا
…
إلى متى فيك أشقى
سمعت عنك حديثًا
…
يا رب لا كان صدقا
وما عهدتك إلا
…
من أكرم الناس خلقا
لك الحياة فإني
…
أموت لا شك حقا
يا ألف مولاي مهلا
…
يا ألف مولاي رفقا
قد كان ما كان مني
…
والله خير وأبقى
ومثله قوله:
أنت الحبيب الأول
…
ولك الهوى المستقبل
عندي لك الود الذي
…
هو ما عهدت وأكمل
1 أمواه: جمع ماء. الأنواء: الأمواج.
2 رفاعيين: نسبة إلى رفاعة الطهطاوي. لشوقي: يتبادر إلى الذهن شوقي الشاعر وهي تورية المقصود بها الشوق.
القلب فيك مقيد
…
الدمع منك مسلسل
يا من يهد بالصدو
…
د نعم تقول وتفعل
قد صح عذرك في الهوى
…
لكنني أتعلل1
نفدت معاذيري التي
…
ألقى بها من يسأل
حتام أكذب للورى
…
وإلى متى أتحمل
قل للعذول لقد أطلـ
…
ـت لمن تقول وتعذل
عاتبت من لا يرعوي
…
وعذلت من لا يقبل
غضب العذول أخف من
…
غضب الحبيب وأسهل
ومن انسجاماته التي تكاد أن لا تكون موزونة:
إن شكا القلب هجركم
…
مهد الحب عذركم
لو رأيتم محلكم
…
من فؤادي لسركم
لو أمرتم بما عسى
…
ما تعديت أمركم
قصروا مدة الجفا
…
طوّل الله عمركم
شرفوني بزورة
…
شرَّف الله قدركم
كنت أرجو بأنكم
…
شهركم لي ودهركم
قد نسيتم وإنما
…
أنا لم أنس ذكركم
وصبرتم وليتني
…
كنت أعطيت صبركم
ورأيتم تجلدي
…
في هواكم فسركم2
لو وصلتم محبكم
…
ما الذي كان ضركم
ومن انسجاماته التي هي في غاية الظرف:
يا قلب بعض الناس هل
…
للضيف عندك زاويه
إني ببابك قد وقفـ
…
ـت عسى ترد جوابيه
يا ملبسي ثوب الضنا
…
يهنأك ثوب العافيه
لم يبق مني في القميـ
…
ـص سوى رسوم باليه3
وحشاشة ما أبقت الأشـ
…
ـواق منها باقية4
1 التعلل: تسلية النفس وتمنيتها.
2 التجلد: شدة الصبر.
3 رسوم: بقايا.
4 الحشاشة: بقية الروح.
يا من إليه المشتكى
…
أنت العليم بحاليه
وإليك عني يا غرا
…
م فقد عرفت مكانيه
فكأنما لك قد قعد
…
ت على طريق القافيه
من لي بلقب اشتر
…
يه من القلوب القاسيه
مولاي يا قلبي العزيـ
…
ـز ويا حياتي الغاليه
إني لأطلب حاجة
…
ليست عليك بخافيه
أنعم علي بقبلة
…
هبة وإلا عاريه1
وأعيدها لك لا عدمـ
…
ـت بعينها وكما هيه
وإذا أردت زيادة
…
خذها ونفسي راضيه
ومثله قوله في هذا الروي:
قالوا كبرت عن الصبا
…
وقطعت تلك الناحية
فدع الصبا لرجاله
…
واخلع ثياب العاريه
ونعم كبرت وإنما
…
تلك الشمائل باقيه
وتفوح من عطفي أنـ
…
ـفاس الشباب كما هيه
ويميل بي نحو الصبا
…
قلب رقيق الحاشيه
فيه من الطرب القديـ
…
ـم بقية في الزاويه
ومن غراميات الحاجري، في هذا الباب:
لك أن تشوّقي إلى الأوطان
…
وعليَّ أن أبكي بدمع قانِ
إن الذي رحلوا غداة المنحنى
…
ملئوا القلوب لواعج الأشجان2
فلأبعثن من النسيم إليهم
…
ما خل بالأغصان والغزلان
نزلوا برامة قاطنين فلا تسل
…
ما حل بالأغصان والغزلان
وقد تقدم قولي: إن الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، سقى الله من غيث الرحمة ثراه، هو غيث هذا الانسجام، وغريم هذا الغرام. فمن انسجاماته الغرامية الموعود بإيرادها، قوله:
حديثي في المكبة ليس يشرح
…
فدعني من حديث اللوم واسرح
1 العارية: استعارة.
2 اللواعج: جمع لاعج وهو المحرق. والشجان: جمع شجن وهو الحزن.
فما لك مطمع ببراح قلبي
…
عن الحب الذي أعيا وبرح1
فكم من لائم أنحى إلى أن
…
تأمل من هويت فما نتنحنح
فيا لله ما أشهى وأبهى
…
ويا لله ما أحلى وأملح
له طرف يقول الحرب أحرى
…
ولي قلبي يقول الصلح أصلح
سألت سواره المثري فنادى
…
فقير وشاحه الله يفتح2
وماس من القوام بغصن بان
…
إذا أنشدت أغزالي ترنح3
وحياني بألحاظ مراض
…
صحيحات فأمرضني وصحح
أعاتبه فلا يصغى لعتبي
…
ولا أسلو فأتركه وأربح
ومن غايات انسجامه قوله:
كم شرحت من وجد
…
كم سفحت من دمعه
كم بعثت من رسل
…
دفعة على دفعه
بنتم وأعرضتم
…
ما أمرها جرعه
هل عليكم باس
…
في المقال بالرجعة4
قد حججت مغناكم
…
لا تحرموا المتعه5
تترك سني فيكم
…
سادتي من البدعه6
هذه صباباتي
…
والوصال في منعه7
كيف لو تعلمتم
…
غير هذه الصنعه
1 برح: اشتد بصاحبه فلم يتركه يبرح مكانه.
2 الله يفتح: تعبير يستمعله المسؤول إذا أرد المنع.
3 ماس: تمايل - أغزال: غزليات - ترنح: تمايل حتى بدا كالسكران يوشك على الوقوع.
4 القول بالرجعة: الاعتقاد بأن الأئمة يرجعون مع ظالميهم ليقتصوا منهم آخره هو الاعتقاد برجعة الإمام محمد بن الحسن العسكري بعد غيبتان: صغرى وكبرى، وأنه "سيملأ الأرض عدلا، كما ملئت ظلما وجورا" وهذا من اعتقادات الشيعة. أو هو مذهب من يؤمن بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت.
5 حجبت مغناكم: زرت داركم - المتعة: التمتع بالنساء: والمتعة كانت سنة على زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فجاء عمر بن الخطاب فحرمها وقال: "متعتان كانتا زمن النبي أنا أحرمهما وأعاقب عليهما". ولا يزال الشيعة يطبقون السنة في المتعة إلى يومنا هذا.
6 البدعة: إحداث شيء في الدين لم يكن فيه، هذا من الافتراء والكفر.
7 المنعة: حماية منيعة، أي لا يمكن الوصول إليه.
يا مليك قلبي خذ
…
ما يليه بالشفعه1
واسِ بيننا أو لا
…
ردنا إلى القرعه
لا تحل عني قلبي
…
ليس فيه من نجعه2
قد تركت أرداني
…
من مدامعي نقعه3
ما لناظري كحل
…
غير هذه الطلعه
ومثله قوله:
خبروه تفصيل حالي جمله
…
فعساه يرق لي ولعله
كم تنحنحت إذ تبدى حذارًا
…
من رقيبي وكم تكلفت سعله4
ليس لي عن هدى هواه ضلال
…
أكثر اللوم عاذلي أو أقله
ركبت في جبلتي نشوة العشـ
…
ـق وصعب تغيير ما في الجبله
سادتي عادوا رضاكم وعودا
…
عن جفاكم فما بقي فيَّ فضله
ذبت شوقًا فعالجوني بقرب
…
مت عشقًا فحنطوني بقبله5
وأشغلوني عن لائم ما أتاني
…
برشاد أتته آفة غفله
قلت بالله خلني فتمادى
…
وقليل من يترك الشر لله
ومثله قوله:
صب أخذ الهوى زمامه
…
قد صار جمالكم أمامه
في حسنكم البديع شغل
…
عن علوة لي وعن إمامه
من لي بمحجب أراه
…
بالفكر ولا أرى خيامه
أشدو بتغزلي لديه
…
فيه فيحدّ لي خصامه
يزهو ويقول كان ماذا
…
لو يترك جاهل كلامه
شبهت بطلعتي هلالًا
…
ما كنت رضيفته قلامه6
والغصن حسبته شبيهًا
…
مني بتعطف وقامه
1 الشفعة: حق الجار في تملك العقار جبرًا على مشتريه بشروطه التي رسمها الفقهاء.
2 النجعة: قصد ذي المعروف لمعروفه، وموضع الأمل.
3 أردان: جمع ردن وهو كُم الثوب. نقعة: كثير التبلل بالدموع.
4 سعلة: واحدة السعال وهو النفث الذي يصدر عن المصدور.
5 حنط: تحنيطًا: حفظ الجسم من التلف بمواد خاصة.
6 القلامة: القطعة من الظفر.
والظبي إذا رنت لحاظي
…
لا كيد له ولا كرامه
أفديه بمهجتي وإني
…
لا حسرة لي ولا ندامه
كم دعوة موعد لوصل
…
قامت لحضورها القيامه
أخبرت بها العذول لكن
…
ما قلت له كم الغرامه1
ومثله قوله:
لا تعاتبني فلا عتب عليّ
…
خرج الأمر وعقلي من يدي
ليس للنصح قبول يرتجى
…
عند شيخ هام وجدا بصبي
وأرى لومك يغريني به
…
لا تزدني أو فزدني يا أخي
أنا في الحب إمام فإذا
…
صرت من أبنائه فاخضع لدي
لا تسل غيريَ في شرع الهوى
…
وخذ التنزيل فيه عن أبي
خلقي أني شحيح بهم
…
وبرحي لهم حاتم طي2
فاختصر في شرح أشواقي فإن
…
رمت إسهابًا فوكل مقلتي
سادتي فارقتكم فاستلبت
…
بنوا كم راحتي من راحتي3
فاجبروا قلبي بشيء منكم
…
فلقد أوتيتم من كل شيء4
صادني منكم غرير أغيد
…
فيه ما يشغل عن هند ومي5
قلت قد أضنيت جسمي قال قد
…
قلت كي تذهب روحي قال كي
قلت أفديك بنفسي قال مه
…
ما إليك الأمر فيها بل إلي6
ومثله قوله، من أبيات يخاطب العذول:
أراك بخيلًا بعوني فهبني
…
سكوتك عني إذا لم تعني
ذممت الهوى ورجوت السلو
…
فأبكيت عيني وأضحكت سني
فإن عفت شربي من خمرتي
…
فدعني ما بين كأسي ودني7
وإياك عربدتي فاخشها
…
فإني قد أخذ السكر مني
1 الغرامه: الجزية.
2 شحيح: بخيل. حاتم طي: يضرب به المثل في الكرم عند العرب.
3 النوى: السفر. راحتي: الأولى بمعنى الاستراحة والثانية اليد.
4 جَبَر: أصلح الخراب.
5 الغرير: المغرور الذي لا تجربه له.
6 مه: لغة في مه الاستفهامية.
7 الدن: وعاء الخمر.
ويعبجني من انسجامات ابن سنا الملك قوله:
دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى
…
فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى1
وأبصرت في خديه ماء وخضرة
…
فما أملح المرعى وما أعذب الوردا
تلهب ماء الخد أو سال جمره
…
فيا ماء ما أذكى ويا جمر ما أندى
أقول لناه قد أشار بتركه
…
لقد زدتني فيما أشرت به زهدا
فلم لا نهيت الثغر أن يعذب اللمى
…
ولم لا أمرت الصبر أن يكتم النهدا2
وأقسم ما عندي إليه صبابة
…
وكيف وجور الشوق لم يبق لي عندا
وفي القلب نيران الخليل توقدت
…
وما ذقت منها لا سلامًا ولا بردا3
ومثله قوله، ويعجبني إلى الغاية:
نعم المشوق وأنعم المعشوق
…
فالعيش كالمخصر الرقيق رقيق
خصر أدير عليه معصم قبلة
…
فكأن تقبيلي له تعنيق
ونعم لقد طرق الحبيب وماله
…
إلا خدود العاشقين طريق
فرشوا الخدود طريقه فكأنما
…
زفراتهم لقدومه تطريق4
وافى وصبح جبينه متنفس
…
وأتى وجيد رقيبه مخنوق5
قصنعته فيه صناعة شعرية
…
فالصدر يرحب والعناق يضيق
ومثله قوله، وهو في غاية الظرف:
لا أجازي حبيب قلبي بجرمه
…
أنا أحنى عليه من قلب أمه
ضن عني بريقه فتحيلـ
…
ـت إلى أن سرقته عند لثمه
وإلى اليوم من ثلاثين يومًا
…
لم تزل من فمي حلاوة طعمه
إن قلبي لصدره ورقادي
…
ملك أجفانه وروحي لجسمه
يكسر الجفن بالفتور ومالي
…
عمل وقت كسره غير ضمه
1 أو إحدى وتسعين قبلة.
2 اللمى: سمرة في الشفاه. النهد: الثدي إذا نهد في الصدر.
3 نيران الخليل: تلميح إلى قصة سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وإلقائه في النار بعد تحطيم الأصنام.
4 التطريق: وقع الخطى.
5 مخنوق: مزنّر.
ومن غراميات الشاب الظريف، شمس الدين محمد بن العفيف، قوله في باب الانسجام:
عفا الله عن قوم عفا الصبر منهم
…
فلو رمت ذكري غيرهم خانني الفم1
تجنوا كأن لا ودّ بيني وبينهم
…
قديمًا وحتى ما كأنهم هم
وبالجزع أحباب إذا ما ذكرتهم
…
شرقت بدمع في أواخره دم
ومشبوب ناري وجنة وجناية
…
تعلمه ألحاظه كيف يظلم
ألم وما في الركب منا متيم
…
وعاد وما في الركب إلا متيم
وليس الهوى إلا التفاتة طامح
…
يروق لعينيه الجمال المنعم
خليلي ما للقلب هاجت شجونه
…
وعاوده داء من الشوق مؤلم
أظن ديار الحي منا قريبة
…
وغلا فمنها نفحة تتنسم
ومثله قوله:
لا تخف ما فعلت بك الأشواق
…
واشرح هواك فكلنا عشاق
فعسى يعينك من شكوت له الهوى
…
في حمله فالعاشقون رفاق
لا تجزعن فلست أول مغرم
…
فتكت به الوجنات والأحداق
واصبر على هجر الحبيب فربما
…
عاد الوصول وللهوى أخلاق
كم ليلة أسهرت أحداقي بها
…
وجدًا وللأفكار بي إحداق2
يا رب قد بعد الذين أحبهم
…
عني وقد ألف الفراق فراق
واسود حظي عندهم لما سرى
…
فيه بنار صبابتي إحراق
عرب رأيت أصح ميثاق لهم
…
أن لا يصح لديهم ميثاق
ومثله قوله:
بتثني قوامك الممشوق
…
وبأنوار وجهك المعشوق
ومعنى للحسن مبتكر فيـ
…
ـك وقلب كقلبي المحروق
جُدْ بوصل أو زروة أو بوعد
…
أو كلام أو وقفة في الطريق
أو بإرسالك السلام مع الريـ
…
ـح وإلا فبالخيال الطروق3
1 عفا: زال.
2 إحداق: إحاطة.
3 الطروق: الملم بالمكان.
ويعجبني، في هذا المعنى على هذا الطريق، قول بعض المواليا:
زر شهر في عام يا من قد غلا في السوم1
…
أو يوم في شهر أحلى من صدودك
وإن عز هذا وهذا يا عزيز القوم
…
في الدهر ساعة وإن لم ترتض في النوم
ومن ألطف انسجامات ابن العفيف قوله أيضًا:
لي من هواك بعيده وقريبه
…
ولك الجمال بديعه وغريبه
يا من أعيذ جماله بجلاله
…
حذرًا عليه من العيوب تصيبه
إن لم تكن عيني فإنك نورها
…
أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه
هل حرمة أو رحمة لمتيم
…
قد قل فيك نصيره ونصيبه
ألف القصائد في هواك تغزلًا
…
حتى كأن بك النسيب نسيبه2
لم يبق لي سر أقول تذيعه
…
عني ولا قلب أقول تذيبه
دع لي فؤادًا بالغرام تشبُّه
…
واستبق فَوْدًا بالصدود تشيبه3
كم ليلة قضيتها متسهدًا
…
والدمع يجرح مقلتي مسكوبه
والنجم أقرب من لقاك مناله
…
عندي وأبعد من رضاك مغيبه
ومثله قوله:
رشيق القامة النضره
…
لقد أصميت بالنظره4
وقد سودت حظي منـ
…
ـك يا أبهى الورى غره
سواد الخال والمقله
…
مع العار والطره
قديم الهجر هل لفتى
…
قديم في الهوى هجره
وكم تلقاه بالإيعا
…
د والإبعاد والنفره6
وكم يشكو ولا تطر
…
ح في قفته كسره6
رأينا من جفا وجنى
…
ولكن زدت في كره
فهل تمنح أو تسمـ
…
ـح بالوصل ولو مرَّه
1 السوم: الثمن.
2 النسيب: التغزل والتشبيب.
3 تشبه: تشعله. الفود: الشعر الذي على جانب الرأس مما يلي الأذنين "السالف".
4 أصمى: رمى وقتل.
5 الإيعاد: التوعد.
6 القفه: الثوب.
فقد أصبحت لا أملـ
…
ـك من صبري ولا ذره
وقد صيرني هجر
…
ك في كس أخت من أكره
ومن انسجاماته الرقيقة قوله:
حتام حظي لديك حرمان
…
وكم كذا لوعة وهجران
أين ليال مضت ونحن بها
…
أحبة في الهوى وجيران
وأين وُدٌ عهدت صحته
…
وأين عهد وأين أيمان
قد رضي الدهر والعواذل والـ
…
حساد عنا وأنت غضبان
فاسلم ولا تلتفت إلى مهج
…
بها جوى قاتل وأشجان
ونم خليًّا وقل كذا وكذا
…
من كل من أطلعت تلمسان1
ومثله قوله:
أعز الله أنصار العيون
…
وخلد ملك هاتيك الجفون
وضاعف بالفتور لها اقتدارًا
…
وإن تك أضعفت عقلي وديني
وأبقى دولة الأعطاف فينا
…
وإن جارت على قلبي الطعين2
وأسبغ ظل ذاك الشعر منه
…
على قدٍّ به هيف الغصون
وصان حجاب هاتيك الثنايا
…
وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون
حملت تسهدي والشيب هذا
…
على رأسي وذاك على عيون
ومن غراميات ابن النبيه، في باب الانسجام:
تعالى الله ما أحسن
…
شقيقًا حف بالسوسن3
خدود لثمها يبري
…
من الأسقام لو أمكن
فما تجني وحارسها
…
بقفل الصدغ قد زرفن4
غزال ضيق العينيـ
…
ـن ينسيني الرشا الأعين5
1 تلمسان: اسم بلد.
2 الطعين: المطعون: المرجوح بالرمح أو بالسيف.
3 الشقيق: شقائق النعمان، أزهار معروفة.
4 الصدغ: الشعر ما بين العين والأذن من جانب الوجه. زرفن: لم نعثر على هذه اللفظة فيما بين أيدينا وربماكانت "زرجن" ومعناها صبغ بالزرجون وهو صباغ أحمر يستخرج من شجر واحدته زرجونة.
5 الأعين: الواسع العينين.
له قلب وأعطاف
…
فما أقسى وما ألين
ولم أر قبل مبسمه
…
صغير الجوهر المثمن
أبث هواه من خوف
…
لنجم الليل لما جن1
وما ينفع كتماني
…
ودمع العين قد أعلن
وقد أسكنته قلبي
…
فسار وأحرق المسكن
ومما كتبه القاضي الفضل بخطه، وهو غاية في باب الانسجام الغرامي، وكان كثيرًا ما يترنم به، قصيدة القاضي المهذب ابن الزبير، ووجدت بخط الفاضل، غير تامة، وقد أثبت هنا منها ما وجد بخط الفاضل من غراميها، واختصرت المديح وهو:
بالله يا ريح الشما
…
ل إذا اشتملت الروح بردا
وحملت من نشر الخزا
…
مي ما اغتدى للندّ ندّا2
ونسجت ما بين الغصون
…
إذا اعتنقن هوى وودّا
وهززت عند الصبح من أعطافها
…
قدًا فقُدّا3
ونثرت فوق الماء من
…
أجيادها للزهر عقدا
فملأت صفحة وجهه
…
حتى اكتسى آسًا ووردا4
فكأنما ألفت فيـ
…
ـه منهما صدغًا وخدًّا
مرّي على برد عسا
…
هـ يزيد في مسراك بردا
نهر كنصل السيف تكسـ
…
ـو متنه الأزهار غمدا5
صقلته أنفاس النسـ
…
ـيم بمرّهن فليس يصدا
أحبابنا ما بالكم
…
فينا من الأعداء أعدى
وحياة حبكم بتر
…
بة وصلكم ما خنت عهدا
وغاية الغايات، في باب الانسجام الغرامي، ما كتبه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر إلى والده القاضي محي الدين، وقد توجه صحبة الركاب الشريف الظاهري في مهم شريف فحصل له ضعف بدمشق المحروسة، وهو:
إن شئت تبصرني وتبصر حالتي
…
قابل إذا هب النسيم قبولا
1 جن: ستر وجن الليل أظلم.
2 الخزامي: نبت طيب الرائحة. النّد: نوع من الأشجار أغصانه يتبخر بها لطيب رائحتها.
3 قدّ: شَقَّ.
4 الآس: نبات طيب الرائحة.
5 نصل السيف: شفرته. وغمد السيف: جفنه أو مكان وضعه.
تلقاه مثلي رقة ونحافة
…
ولأجل قلبك لا أقول عليلا
فهو الرسول إليك مني ليتني
…
كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
خطاب مثل هذا الولد لمثل هذا الوالد، بقوله: ولأجل قلبك لا أقول عليلا، فيه ما يفتت الأكباد، ويحرك الجماد، سبحان المانح! إن من البيان لحسرا.
ومن غراميات والده القاضي محي الدين، في باب الانسجام:
لا آخذ الله بندك
…
فكم وشى بي عندك
وقال عني بأني
…
شبهت بالغصن قدَّك
وأنت تعظم عندي
…
أن يمسي البدر عبدك
وليست والله أرضى
…
أن يحكيَ الورد خدَّك
فقاتل الله طرفي
…
فكم به نلت قصدك
ولا ر عى الله قلبي
…
فكم رعى لك عهدك
فمن ترى أنا حتى
…
جعلت صدري وكدك1
وما عشقتك وحدي
…
بل عشقتك وحدك
وكم أطعتك جهدي
…
وكم تجنيت جهدك
وبعد هذا وهذا
…
وذاك لا ذقت فقدك
ويعجبني في هذا الباب رشاقة ناصر الدين بن النقيب، بقوله:
سلك الشوق بقلبي
…
بعدكم صعب المسالك
ورمى قلبي بنيرا
…
ن ولا نيران مالك
هذه بعض صفاتي
…
طالع العبدَ بذلك
وأظرف ما رأيت في باب الانسجام الغرامي المرتجل، ما أورده صاحب "روضة الجليس ونزهة الأنيس" ذكر أنه كان بأفريقية رجل نبيه شاعر مفلق، وكان يهوى غلامًا من غلمانها جميلًا، فاشتد كلفه به، وكان الغلام يتجنى عليه ويعرض عنه كثيرًا، فانفرد بنفسه ليلة جمع فيها من سلاف الراح وسلاف الذكر، فتزايد به الوجد وقام على الفور، وقد غلب عليه السكر، مشى إلى أن انتهى إلى باب محبوبه ومعه قبس نار، فوضعه عند باب الغلام، فلما دارت النار بالباب بادر الناس بإطفائها واعتقلوه، فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله. فقال له القاضي: لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام؟ فقال مرتجلًا:
1 جعله وكده: أي جعله همه وقرر أن ينفذ شيئًا حياله.
لما تمادى على بعادي
…
وأضرم النار في فؤادي
ولم أجد من هواه بدًا
…
ولا معينًا على السهاد
حملت نفسي على وقوفي
…
ببابه حمل الجواد1
فطار من بعض نار قلبي
…
أقل في الوصف من زناد2
فأحرق الباب دون علمي
…
ولم يكن ذاك من مرادي
فرق القاضي لارتجاله الغرامي، وتحمل عنه جناية الباب.
وقد انتهت الغاية بنا إلى غراميات العارفين، وابن الفارض هو قائد زمامها، وقتيل غرامها. فمن قوله، في هذا الباب الذي ليس لغيره فيه مدخل، ما ألفته من تائيته، وجعلته قصيدًا غراميًّا ينتظم بها شمل الانسجام، وإذا هب نسيمها العذري تنسمت العشاق منه أخبار الغرام، وهو قوله:
نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي
…
فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت
تذكرني العهد القديم لأنها
…
حديثة عهد عن أهيل مودتي3
فلي بين هاتيك الخيام ضنينة
…
عليَّ بجمعي سمحة بتشتتي4
محجبة بين الأسنة والظبا
…
إليها انثنت ألبابنا إذ تثنت
تتيح المنايا إذ تبيح لنا المنى
…
وذاك رخيص منيتي بمنيتي
متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت
…
وإن أقسمت لا تبرى السقم برت5
وإن عرضت أطرق حياء وهيبة
…
وإن أعرضت اشفق فلم أتلفت
وقد سخنت عيني عليها كأنها
…
بها لم تكن يومًا من الدهر قرت6
فإنسانها ميت ودمعي غسله
…
وأكفانه ما ابيض حزنًا لفرقتي7
خرجت بها عني إليها فلم أعد
…
إليّ ومثلي لا يقول برجعة8
فوصلي قطعي واقترابي تباعدي
…
وودّي صدّي وابتدائي نهايتي
1 الجواد: الكريم.
2 الزناد: القبس من النار، ما تشعل به النار.
3 أهيل: تصغير أهل للتحبب.
4 ضنينة: بخيلة. ضدها سمحة: كريمة.
5 أولى: أقام على الوعد. لوت: أخلفت الوعد. بر القسم: وفى به.
6 سنحت العين: سفحت الدمع.
7 إنسان العين: ما ترى به "البؤبؤ".
8 القول بالرجعة من معتقدات الشيعة. وقد مر ذكره.
وفيه تلاف الجسم بالسقم صحة
…
له وتلاف النفس عين الفتوة
ولما تلاقينا عشاء وضمنا
…
سوء سبيلَيْ ذي طوى والثنية1
وضنت وما منت عليَّ بوقفة
…
تعادل عندي بالمعرّف وقفتي2
عتبتُ فلم تعتب كأن لم يكن لقا
…
وما كان إلا أن أشرت وأومت
وبانت فأما حسن صبري فخانني
…
وأما جفوني بالبكاء فوفت
أغار عليها أن أهيم بحبها
…
وأعرف مقداري فأنكر غيرتي
وكنت بها صبًّا فلما تركت ما
…
أريد أرادتني لها وأحبت
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق
…
كمجنون ليلى أو كثير عزة3
بدت فرأيت الحزم في نقض توبتي
…
وقام بها عند النهى عذر محنتي
فموتي بها وجدًا حياة هنيئة
…
وإن لم أمت في الحب عشت بغصتي
تجمعت الأهواء فيها فلا ترى
…
بها غير صب لا يرى غير صبوتي
وعندي عيدي كل يوم أرى به
…
جمال محياها بعين قريرة
وكل الليالي ليلة القدر إن دنت
…
كما كل أيام اللقا يوم جمعة
وأي بلاد الله حلت بها فما
…
أراها وفي عينيَّ حلت غير مكة
وما سكنته فهو بيت مقدس
…
بقرة عيني فيه أحشاي قرت
ومسجد الأقصى مساحب بردها
…
وطيبي ثرى أرض عليها تمشت
مواطن أفراحي ومربى مآربي
…
وأطوار أوطاري ومأمن خيفتي4
مغان بها لم يدخل الدهر بيننا
…
ولا كادنا صرف الزمان بفرقة5
ولا صحبتنا النائبات بنبوة
…
ولا حدثتنا الحادثات بنكبة6
ولا اختص وقت دون وقت بطيبة
…
بها كل أوقاتي مواسم لذتي
فإن رضيت عني فعمري كله
…
زمان الصبا طيبًا وعصر الشبيبة
وإن قربت داري فعامي كله
…
ربيع اعتدال في رياض أريضة7
1 سبيلي: طريقي. وذي طوى والثنية: مكانين.
2 المعرف: هو عرفات، والوقفه على جبل عرفات من شعائر الحج في الإسلام.
3 قيس لبنى: هو قيس بن ذريح الشاعر ولبنى حبيبته. ومجنون ليلى. هو قيس بن الملوح، الشاعر وليلى حبيبته. وكثير عزة هو كثير بن عبد الرحمن الشاعر، وعزّة حبيبته. وقصص هؤلاء في العشق مشهورة.
4 المآرب: الحاجات وكذلك أوطار.
5 مغان: ربوع، ديار غنيت بساكنيها.
6 النبوة: الطيش. نبا: طاش وخاب.
7 رياض أريضة: نضرة غناء.
بها مثل ما أمسيت أصبحت مغرمًا
…
وما أصبحت فيه من الحسن أمست
فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر
…
به كل قلب فيه كل محبة
وقد جمعت أحشاي كل صبابة
…
بها وجوى ينبيك عن كل صبوة
وكنت أرى أن التعشق منحة
…
لقلبي فما إن كان إلا لمحنتي
ألا في سبيل الحب حالي وما عسى
…
بكم أنْ ألاقي لو دريتم أحبتي1
أخذتم فؤادي وهو بعضي عندكم
…
فما ضركم لو كان بعضي جملتي
هى جسدي مما وهى جلدي لدى
…
تحمله يبلى وتبقى بليتي2
ومنذ عفار سمي وهمت وهمت في
…
وجودي فلم تظفر بكوني فكرتي3
وبالي أبلى من ثياب تجلدي
…
بل الذات في الإعدام نيطت بلذتي4
كأني هلال الشك لولا تأوهي
…
خفيت فلم تُهدَ العيون لرؤيتي
وقالوا جرت حمرًا دموعك قلت عن
…
أمور جرت في كثرة الشوق قلت
نحرت لضيف السهد في جفني الكرى
…
قرى فجرى دمعي دمًا فوق وجنتي5
فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي
…
وإيقاد نيران الخيليل كلوعتي6
ولولا زفيري أغرقتني أدمعي
…
ولولا دموعي أحرقتني زفرتي
وحزني ما يعقوب بث أقله
…
وكلُّ بلا أيوب بعض بليتي7
وكل أذى في الحب منك إذا بدا
…
جعلت له شكري مكان شكيتي
نعم وتباريح الصبابة إن عدت
…
عليَّ من النعماء في الحب عدت
وعنوان ما بي ما أبثك بعضه
…
وما تحته إظهاره فوق قدرتي
وأسكت عجزًا عن أمور كثيرة
…
بنطقي إن تحصى ولو قلت قلّت
1 درى: عرف.
2 وهى: وهن وضعف.
3 في الحقيقة أنني لم أستطع فهم معنى هذا البيت إلا أن يكون: العفار: الفطام. وسمي بمعنى عرف. فيكون المعنى: ومنذ فطام أو انقطاع عرف، غلطت وحاولت فكرتي أن تعرف وجودي فلم تظفر ولم تستطع ذلك.
4 نيط به الأمر: اقتصر عليه وصار هو مسئولًا عنه.
5 القرا: إطعام الضيف.
6 طوفان النبي نوح عليه السلام والنار التي ألقي فيها إبراهيم الخليل عليه السلام وقصتهما مشهورة في القرآن.
7 حزن يعقوب على ولده النبي يوسف عليه السلام إذ قال فيه تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} يوسف: 12/ 84. بلاء، وأيوب هو النبي أيوب عليه الصلاة والسلام ويضرب المثل بصبره.
وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب
…
وإن ملت يومًا عنه فارقت ملَّتي1
هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربًا
…
من الوصل فاختر ذاك أو خل خلتي2
ودع عنك دعوى الحب واختر لغيره
…
فؤادك وادفع عنه غيك بالتي
وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن
…
وها أنت حي إن تكن صادقًا مُت
وقالوا تلاف ما بقي منك قلت لا
…
أراني إلا للتلاف تلفتي
غرامي أقِم صبري انصرم دمعي انسجم
…
عدوي انتقم دهري احتكم حاسدي اشمت
ويا نار أحشائي أقيمي من الجوى
…
حنايا ضلوعي فهي غير قويمة
ويا جسدي المضنى تسل عن الشقا
…
ويا كبدي من لي بأني تتفتتي
ويا كلما أبقى الضنى مني ارتحل
…
فما لك مأوى في عظام رميمية
وماذا عسى عني أناجي توهمًا
…
بياء الندا أونست منك بوحشتي
فنفسي لم تجزع بإتلافها أسى
…
ولو جزعت كانت بغيري تأست3
فيا سقمي لا تبق لي رمقًا فقد
…
أبيت لبقيا العز ذلَّ البقية
ومن غرامياته التي خلبت القلوب، وعرف العارفون بها طريق التوصل إلى معرفة المحبوب، قوله من قصيدة:
أفهو إلى كل قلب بالغرام له
…
شغل وكل لسان بالهوا لهج
وكل سمع عن اللاحي به صمم
…
وكل جفن إلى الإغفاء لم يعج4
لا كان وجده به الآماق جامدة
…
ولا غرام به الأشواق لم تهج5
عذب بما شئت غير البعد عنك تجد
…
أوفى محب بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من رمق
…
لا خير في الحب إن أبقى على المهج6
من لي بإتلاف روحي في هوى رشإ
…
حلو الشمائل بالأرواح ممتزج
من مات فيه غرامًا عاش مرتقيًا
…
ما بين أهل الهوى في أرفع الدرج
وما أحلى ما قال منها:
قل للذي لامني فيه وعنفني
…
دعني وشأني وعد عن نصحك السمج7
1 الملة: المذهب الديني.
2 المأرب: الحاجة. خلّى: ترك. الخلة: المصادقة.
3 تأست: تعزّت.
4 اللاحي: اللائم. عاج: مر أو مال.
5 الآماق: المآقي وهي مجاري الدموع من العيون.
6 الرمق: بقية الحياة.
7 السمج: الذي لا يطاق. وعُدْ: كُفَّ.
فاللوم لؤم ولم يمدح به أحد
…
فهل رأيت محبا بالغرام هجي
منها:
لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي
…
وخاطري أين كنا غير منزعج
فالدار داري وحبي حاضري ومتى
…
بدا فمنعرج الجرعاءب منعرجي1
منها:
ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم
…
فسيرهم في صباح منك منبلج2
فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم
…
هم أهل بدر فلا يخشون من حرج
وما ألطف ماقال منها:
أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه
…
قول المبشر بعد اليأس بالفرج
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد
…
ذكرت ثم علي ما فيك من عوج
ومثله في الرقة والانسجام قوله من قصيدة:
أبق لي مقلة لعلي يوما
…
قبل موتي أرى بها من رآكا
أين مني ما رمت هيهات بل
…
أين لعيني باللحظ لثم ثراكا
وبشيري لو جاء منك بعطف
…
ووجودي في قبضتي قلت هاكا3
قد كفى ما جرى دما من جفون
…
لي قرحي فهل جرى ما كفاكا4
فأجر من قلاك فيك معنى
…
قبل أن يعرف الهوى يهواكا5
بانكساري بذلتي بخضوعي
…
بافتقاري بفاقتي لغناكا
لا تكلني إلى قوي جلد خا
…
ن فإني أصبحت من ضعفاكا
كنت تجفو وكان لي بعض صبر
…
أحسن الله في اصطباري عزاكا
كم صدود عساك ترحم شكوا
…
ي ولو باستماع قولي عساكا
شنع المرجفون عنك بهجري
…
وأشاعوا أني سلوت هواكا6
ما بأحشائهم عشقت فأسلو
…
عنك يوما دع يهجروا حاشاكا
1 المنعرج: الطريق الملتوي - الجرعاء: الأرض ذات الحزونة.
2 انبلج: أشرف وأطل وانكشف بعد ستر.
3 هاك: اسم فعل أمر بمعنى خذ.
4 قرحى: مقرحة مشققة.
5 القلى: الكره والهجر.
6 شنع: سعوا بما يكره منه، بشعوا - المرجفون: الوشاة الكاذبون.
كيف أسلو ومقلتي كلما لا
…
ح بريق تلتفت للقاكا
كل من في حماك يهواك لكن
…
أنا وحدي بكل من في حماكا
ومن كاساته الغرامية التي سكر العشاق بقديمها وحديثها، قوله:
أدِرْ ذِكْرَ مَنْ أهوى ولو بملام
…
فإن أحادث اللحبيب مدامي
فلي ذكرها يحلو على كل صيغة
…
ولو مزجوه عذلي بخصام1
كأن عذولي بالوصال مبشري
…
وإن كنت لم أطمع برد سلام
وما أبدع وأرق ما قال منها:
يشف عن الأسرار جسمي من الضنا
…
فنوجي بها معنى نحول عظامي2
طريح جوى حب جريح جوارح
…
قريح جفون بالدوام دوامي
صحيح عليل فاطلبوني من الضنى
…
ففيها كما شاء النحول مقامي
منها:
فلي كل عضو فيه كل حشا بها
…
إذا نظرت أغراض كل سهام
ولو بسطت جسمي رأت كل جوهر
…
به كل قلب فيه كل غرام
ومن غرامياته التي يتحرك الجماد لرقتها، قوله من قصيدة:
ما لي سوى روحي وباذل نفسه
…
في حب من يهواه ليس بمسرف3
فلئن رضيت بها لقد أسعفْتِني
…
يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
وما أسجم4 ما قال منها:
يا أهل ودي أنتم أملي ومن
…
ناداكم يا أهل ودي قد كُفي5
عودوا لما كنتم عليه من الوفا
…
كرمًا فإني ذلك الخلّ الوفي
وحياتكم وحياتكم قسمًا وفي
…
عمري بغير حياتكم لم أحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها
…
لمبشري بوصالكم لم أنصف
1 العذل: اللوم. والبيت مختل الوزن كما نرى ونرجح بدل "مزجوه""مزجوا".
2 نوجي: مجهول ناجى من المناجاة وهي المساررة. النحول: الدقة والضعف.
3 المسرف: الذي يتجاوز الاعتدال إجمالا، ومنها قوله:{وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} يونس: 10/ 12.
4 أسجم: أدعى للبكاء والدموع.
5 في الأصل: يا أهلي، وما أثبتناه أقوم للوزن وأصح.
لا تحسبوني في الهوى متصنعًا
…
كلفي بكم خلق بغير تكلف1
أخفيت حبكم فأخفاني أسى
…
حتى لعمري كدت عني أختفي
وكتمته عني فلو أبديته
…
لوجدته أخفى من اللطف الخفي
وما أحلى ما خاطب العذول منها بقوله:
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى
…
فإذا عشقت فبعد ذلك عنِّف
ما أعذب ما قال منها:
يا ما أميلح كلما يرضي
…
ورضابه يا ما أحيلاه بفي2
ولقد أحسن الله خاتمته فيها بقوله:
ما للنوى ذنب ومن أهوى معي
…
إن غاب عن إنسان عيني فهو في3
ولقد أقام القواعد الغرامية بقوله من قصيدة:
تعرض قوم للغرام وأعرضوا
…
بجانبهم عن صحة فيه واعتلوا
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم
…
وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلّوا4
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم
…
وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا5
وعن مذهبي لما استحبوا العمى على
…
الهدى حسدًا من عند أنفسهم ضلوا
وما أحلى ما قال بعده:
أحبة قلبي والمحبة شافعي
…
لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل
عسى عطفة منكم علي بنظرة
…
فقد تعبت بيني وبينكم الرسل
أحبّاي أنتم أحسن الدهر أم أسا
…
فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخلّ6
إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن
…
بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل
1 الكلف: شدة العشق. والتكلف: التصنع.
2 بفي: بفمي، وفي من الأسماء الخمسة: أب "أخ حم ذو فو".
3 أي فهو في قلبي.
4 الحظوظ: جمع حظ وهو النصيب. دعوى: أي ادعاء.
5 كلوا: تعبوا.
6 أسا: ترخيم أساء. الخل: الخليل وهو الصديق الملازم والمحب.
وما ألطف ما قال منها:
وماذا عسى يقال سوى غدا
…
بنُعم له شغل نعم لي بها شغل
أخذتم فؤادي وهو بعض وما الذي
…
يضرّكم لو كان عندكم الكل
وما أظرف ما قال منها:
تبًا له قومي إذا رأوني متيمًا
…
وقالوا بمن هذا الفتى مسه الخبل1
وقال نساء الحي عنا بذكر من
…
جفانا وبعد العز لذّ له الذلّ
إذا أنعمت نعم عليَّ بنظرة
…
فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل2
وما أرق ما قال منها:
خفيت ضني حتى لقد ضل عائدي
…
وكيف يرى العواد من لا له ظل3
وما عثرت عيني على أثري ولم
…
تدع لي رسمًا في الهوى الأعين النُجْل4
ولي همة تعلو إذا ما ذكرتها
…
وروح بذكراها إذا رخصت تغلو
فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى
…
فإن قبلتها منك يا حبذا البذل
فمن لم يجد في حب نعم بنفسه
…
وإن جاد بالدنيا إليه انتهى البخل
ومن الغراميات التي تهيج الأشواق ولواعج الغرام، وتنتظم بها عقود الانسجام، قول أحد المشايخ العارفين، الشيخ عفيف الدين التلمساني:
لُذ بالغرام ولذة الأشواق
…
واختر فناءك في الجمال الباقي
واخلع سلوك فهو ثوب مخلق
…
والبس جديد مكارم الأخلاق5
وتوق من نار الصدود بشربة
…
من ماء دمعك فهو نعم الواقي
وإذا دعاك إلى الصبا نفس الصبا
…
فأجب رسول نسيمه الخفاق
وإذا شربت الصرف6 من خمر الهوى
…
إياك تغفل عن جمال الساقي
والق الأحبة إن أردت وصالهم
…
متلذذًا بالذل والإملاق7
أوليس من أحلى المطامع في الهوى
…
عِز الحبيب وذلة العشاق
1 مسه: أصابه المس وهو الجنون. الخبل: اختلاط العقل.
2 نُعم وسعدى وجمل: أسماء عشيقات.
3 العائد: زائر المريض يجمع على عُواد.
4 الرسم: الأثر. الأعين النجل: المتسعة الجميلة.
5 مخلق: معتق ممزق بالي.
6 الصرف: من الخمر الصافية التي لم تمزج بالماء.
7 الإملاق: الفقر.
ويطربني، من رقائق انسجاماته الغرامية، قوله:
تعلم في مرافقه النديم
…
مطاوعة الأراكة للنسيم1
وعاشره بأخلاق فإني
…
وحقك عبد رق للنديم2
أعطايه أحاديث وكأسي
…
فأسكر بالحديث وبالقديم3
ولي عند الأحبة قلب صب
…
صحيح الود في جسد سقيم
أقام وسافر السلوان عنه
…
فلا اجتمع المسافر بالمقيم
وقد أوردت هنا ما أمكن من جهد الطاقة، في باب الانسجام الغرامي وبديع بيوته، وقد تقدم قولي أني أخرت فيه المتقدم، وقدمت المتأخر عصرا، لئلا ينفرط سلكه وتذهب لذته، فإن الانسجام يدخل في الأبوب الغرامية وفي غيرها، ولكنه يوجد فيها أكثر، لعذوبتها وارتياح الخواطر إليها، لا سيما غراميات العافين، مثل الشيخ شرف الدين بن الفارض وغيره.
ومما يستظرف في باب الانسجام، من الطرائق الغرامية الغريبة، قول عبد المحسن الصوري:
وأخر مسه نزولي بقرح
…
مثل ما مسني من الجوع قرح
بت ضيفا له كماحكم الدهـ
…
ـر وفي حكمه على الحر قبح
فابتداني يقول وهو من السكـ
…
ـرة بالهم طافح ليس يصحو
لم تغربت قلت قال رسول الله
…
والقول منه نصح ونجح
سافروا تنغمو فقال وقد قا
…
ل تمام الحديث صوموا تصحوا
ومن الانسجام المطرب قول مروان بن أبي حفصة:
مسحت ربيعة وجه معن سابقا
…
لما جرى وجرى ذوو الأحساب
من الانسجام المرقص قول أبي نواس:
فتشمت في مفاصهلم
…
كتمشي البرء في السقم4
1 الأراكة: شجرة خوارة العود تؤخذ منها المساويك لتنظيف الأسنان، جمع أراك.
2 الرق: العبودية.
3 أعاطيه: أتعاطى معه به أبي اعطيه ويعطيني، وهناك تورية لي لفظة الحديث إذ المعنى الذي يتبادر إلى الذهن هو الكلام. بينما المراد هو الجديد.
4 هذا البيت في وصف دبيب الخمرة في الجسم.
ومثله قوله:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تزل الأحزان ساحتها
…
لو مسها حجر مسته سراء1
من كف ذات حر في زي ذي ذكر
…
لها محبان لوطي وزناء2
قامت بإبريقها والليل معتكر
…
فلاح من وجهها في البيت لألاء3
وأرسلت من فم الإبريق صافية
…
كأنما أخذها للعقل إغفاء
رقت عن الماء حتى ما يلائمها
…
لطافة وخفي عن شكلها الماء4
ومن الانسجام المطرب قول محمد بن صالح الحسني:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى
…
برق تألف موهنًا لمعانه5
يبدو كحاشية الرداء وصوته
…
صعب الذرا متمنع أردانه6
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه
…
والماء ما سحت به أجفانه
وعدوا من الانسجام المطرب قول عبد الرحمن العطوي، في رثاء أحمد بن أبي دؤاد:
وليس صرير النعش ما تسمعونه
…
ولكنه أصلاب قوم تقصف7
وليس فتيق المسك ما تجدونه
…
ولكنه ذاك الثناء المخلف
1 السرا: الحياة والحركة.
2 الحر: فرج المرأة. اللوطي: هو الذي يأتي الرجال شهوة من دون النساء: الزناء: كثير الزنى وهو ممارسة الشهوة مع المحصنات من النساء.
3 اللألأ: البريق واللمعان.
4 هذا البيت يروى:
جفت عن الماء حتى ما يلائمها
لطافة وجفى عن شكلها الماء
والذي نراه:
رقت عن الماء حتى ما يلائمها لطافة
وجفى عن شكلها الماء
فلا يكون قد تغير فيه سوى لفظة "خفى" فهي على الأصح "جفى" لمناسبة المعنى، وقد أصابها التصحيف. والله أعلم.
5 الموهن: ما بعد منتصف الليل.
6 الأردان: جمع مفرده ردن وهو كم الثوب وأطرافه.
7 الصرير: صوت الأخشاب والجنادب و.... أصلاب: جمع مفرده صلب وهو هنا الهيكل العظمي أو الظهر منه فقط.
وعدوا من الانسجام المرقص قول العكوك في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلف
…
بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
…
ولت الدنيا على أثره
ومن الانسجام المرقص، قول بكر بن النطاح:
من كان مرعى عزمه وهمومه
…
روض الأماني لم يزل مهزولا
ومن الانسجام المطرب، قول أبي تمام:
ولو لم يكن في كفه غير نفسه
…
لجاد فيها فليتق الله شائله
ومثله قوله:
ظبي تقنصته لما نصبت له
…
في آخر الليل أشراكًا من الحلم
ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن:
بها غير معذول فداوي خمارها
…
وصل بعشيات الغبوق ابتكارها1
موردة من كف ظبي كأنما
…
تناولها من خده فأدارها
ومن الانسجام المطرب قول دعبل:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
…
من كان يألفهم في الموطن الخشن
ومن الانسجام المرقص قول أبي علي البصير:
لعمر أبيك ما نسب المعلى
…
إلى كرم وفي الدنيا كريم
وعدوا من الانسجام المطرب قول يزيد بن خالد المهلبي:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
…
كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
ومن الانسجام المرقص قول البحتري:
تخفي الزجاجة لونها فكأنها
…
في الكف قائمة بغير إناء
ومثله قوله:
متعتب في غير ما متعتب
…
إن لم يجد جرمًا عليَّ تجرَّما
1 الغبوق: أو الاغتباق: شرب الخمرة مساء.
ألف الصدود فلو يمرّ خياله
…
بالصب في سِنة الكرى ما سلما1
ومن الانسجام المرقص قول ابن الرومي:
فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت
…
وقع السهام ونزعهن أليم
ومثله قوله يخاطب بني طاهر:
علوتم علينا علو النجوم
…
فجودوا علينا بأنوائها2
وعدوا من المطرب قول أبي العتاهية:
أتته الخلافة منقادة
…
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
…
ولم يك يصلح إلا لها
ومثله في المطرب قول سلم الخاسر:
لا تسأل المرء عن خلائقه
…
في وجهه شاهد من الخبر
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن المعتز:
أهلًا بفطر قد أنار هلاله
…
فالآن فاغد إلى المدام وبكر3
فانظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
وعدوا من مرقصات المتنبي قوله:
وأصبح شعري منهما في مكانة
…
وفي عنق الحسناء قد يحسن العقد
ومثله قوله:
والهجر أقتل لي مما أراقبه
…
أنا الغريق فما خوفي من البلل
ومثله قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال4
1 السِّنَة: النعاس. والكرى: الإغفاء.
2 أنواء الجوم: ميلانها للغروب. والمقصود أنه يبقى لها القليل من الإضاءة فجودوا علينا بالقليل والله أعلم.
3 الفطر: عيد الفطر في نهاية شهر رمضان.
4 تفق: مضارع مجزوم من فاق: يفوق: يتفوق عليه.
ومن الانسجام المرقص قول أبي نصر بن نباتة:
لم يبق جودك لي شيئًا أؤمله
…
تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
ومن الانسجام قول الوأواء الدمشقي:
وأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت
…
وردًا وعضت على العناب بالبرد1
ومثله قوله:
متى أرعى رياض الحسن منه
…
وعيني قد تضمنها غدير
ومن انسجام المرقص قول أبي العباس الضبي:
زعم البنفسج أنه كعذاره
…
حسنًا فسلوا من قفاه لسانه
ومن الانسجام المرقص قول أبي الحسن اللحام:
يا سائلي عن خالد عهدي به
…
رطب العجان وكفه كالجلمد2
كالأقحوان غداة غب سمائه
…
جفت أعاليه وأسفله ندي
وعدوا من الانسجام المطرب قول أبي نصر العتبي:
الله يعلم أني لست ذا بخل
…
ولست ملتمسًا في البخل لي عللا
لكن طاقة مثلي غير خافية
…
والذرّ يعذر في القدر الذي حملا3
وعدوا من الانسجام المرقص المطرب قول أبي الفرج بن هند:
عابوه لما التحى فقلنا
…
عبتم وغبتم عن الجمال
هذا غزال ولا عجيب
…
تولد المسك في الغزال
ومثله قول الأمير شمس المعالي قابوس:
وفي السماء نجوم ما لها عدد
…
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الحجاج:
كأن أيري شمع في رخاوته
…
فكلما لمسته راحتي لان
1 اللؤلؤ: الدمع. النرجس: العيون. الورد: الخدود. العناب: الشفاه. البرد: الأسنان.
2 العجان: لم نعثر على معنى هذه اللفظة في ما بين يدينا ولكن نرجح أن تكون: الأصابع.
3 الذر: صغار النمل.
ومثله قوله:
فأصبح الدهر به هيضة
…
فنحن غرقى في خرا الدهر1
وعدوا من المرقص قول أبي العلاء المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره
…
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وعدوا من الانسجام المرقص قول المنازي، الذي لا يوجد في معناه مثله:
وقانا لفحة الرمضاء واد
…
سقاه مضاعف الغيث العميم2
نزلنا دوحه فحنا علينا
…
حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا
…
ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا
…
فيحجبها ويأذن للنسيم
تروع حصاة حالية العذارى
…
فتلمس جانب العقد النظيم
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الشحناء العسقلاني:
ومهفهف علق السقام بطرفه
…
وسرى فحيم في معاقد خصره3
مزقت أثواب الظلام بثغره
…
ثم انثنيت أحوكها من شعره
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الخياط الدمشقي، وهو من شعراء المائة السادسة:
ومحتجب بين السنة معرض
…
وفي القلب من إعراضه مثل حجبه
أغار إذا آنست في الحي أنة
…
حذارًا وخوفًا أن تكون لحبه
وهذا الانسجام غرامي وعدوا من الانسجام المرقص قول القاضي الأرجاني:
وما ينزل الغيث إلا لأن
…
يقبّل بين يديك الثرى
ومثله قول ابن الهبارية:
ولولا نداه خفت نار ذكائه
…
عليه ولكن الندى مانع الوقد4
1 الهيضة: مرض يصاب صاحبه بالإسهال والاستفراغ "الكوليرا".
2 الرمضاء: شدة الحر. الغيث العميم: المطر الذي يعم البلاد.
3 المهفهف: الممشوق القد، الضامر البطن. الدقيق الخصر. الفخيم: الفخم عظيم القدر.
4 الندى: الجود والكرم. الوَقْد: الاشتعال.
وعدوا من المرقص قول أبي عبد الله النقاش البغدادي:
إذا وجد الشيخ من نفسه
…
نشاطًا فذلك موت خفي
ألست ترى أن ضوء السراج
…
له لهب عندما ينطفي
ومن الانسجام المرقص قول ابن المفضل البغدادي:
خطرت فكاد الورق يسجع فوقها
…
إن الحمام لمغرم بالبان1
من معشر نشروا على هام الربا
…
للطارقين ذوائب النيران
ومثله قول سبط التعاويذي:
بين السيوف وعينيه مشاركة
…
من أجلها قيل للأغماد أجفان
ومن الانسجام المرقص قول القاضي الفاضل، في وكيله الشريف الكحال:
رجل توكل لي وكحلني
…
فأصبت في عيني وفي عيني2
ومثله قوله فيه:
عادى بني العباس حتى أنه
…
خلع السواد من العيون بكحله
ومثله قول ابن الساعاتي:
والطير يقرأ والغدير صحيفة
…
والريح تكتب والغمام ينقط
ومثله قوله في النهر:
صدأ الظلام يزيد رونق حسنه
…
أرأيت سيفًا قط يصقل بالصدا
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الملك بن مازة البخاري، وقد دخل عليه مملوك وفي يده قوس:
نهاني لما بدا عقرب
…
على خدّه أن أروم السفر3
فقلت وفي يده قوسه
…
أسير ففي القوس حل القمر
1 الورق: جمع مفرده ورقاء وهي الحمامة.
2 عيني الأولى عضو الإبصار. والثانية بمعنى صديقي الخدوم.
3 العقرب: ما تجعد من الشعر. أروم: أطلب.
ومثله قول ابن أردخل التكريتي:
ألفيّ القوام عني أمالو
…
هـ فقلبي مكسور تلك الإمالة
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن عنين:
دمشق فبي شوق إليها مبرِّح
…
وإن لج واش أو ألح عذول
بلاد بها الحصباء در وتربها
…
عبير وأنفاس الشمال شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق
…
وصح نسيم الروض وهو عليل
ومن الانسجام المرقص قول الحاجري:
إني لأعذر في الأراك حمامه الشا
…
دي كذلك تفعل العشاق
حكم الغرام الحاجري بأسرها
…
فغدت وفي أعناقها الأطواق1
وعدّوا من الانسجام المرقص قول الصاحب بهاء الدين زهير:
فيا ظبي هلا كان منك التفاتة
…
ويا غصن هلا كان منك تعطف
ويا حرم الحسن الذي هو آمن
…
وألبابنا من حوله تتخطف2
عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه
…
علي فإني أعرف الواو تعطف
وعدوا من المرقص قول محيي الدين بن زيلاق:
ومن عجبي أن يحرسوك بخادم
…
وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر
عذارك ريحان وثغرك جوهر
…
وخدك كافور وخالك عنبر
ومثله قول ابن عربي الموصلي في المرقص:
أنا صب وماء عيني صب
…
وأسير من الضنى في قيود
وشودي على الهوى أدمع العـ
…
ـين ولكنني قذفت شهودي3
ومثله قول ابن الحلاوي الموصلي:
كتبت فلولا أن هذا محلل
…
وذاك حرام قست لفظك بالسحر
1 السر: الاحتجاز.
2 الألباب: جمع لب وهو العقل.
3 القذف: الادعاء الزور، الاتهام.
فوالله ما أدري أزهر خميلة
…
بطرسك أم در يلوح على نحر1
فإن كان زهرًا فهو صنع سحابة
…
وإن كان درًا فهو من لجة البحر
ومثله قول ابن ظهير الأزبكي:
طرفي وقلبي ذا يسيل دمًا وذا
…
دون الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبك شاهدان وإنما
…
تعديل كل منهما في جرحه2
والقلب منزل القديم فإن تجد
…
فيه سواك من الأنام فنحه
انظر هذه القافية ما أحلاها وأمكنها.
ومثله قوله:
غارت مناطقه وأنجد ردفه
…
يا بعد شقة غوره من نجده3
ومن الانسجام المرقص قول تاج الدين بن الحواري:
فوالله ما أخرت عنك مدائحي
…
لأمر سوى أني عجزت عن الشكر
وقد رضت فكري مرَّة بعد مرة
…
فما ساغ أن أهدي إلى مثلكم شعري
فإن لم يكن درًا فتلك نقيصة
…
وإن كان درًا كيف يهدي إلى البحر
ويعجبني من الانسجام المرقص قول النجم القمراوي:
وحاكمت النسيم على مرور
…
بعطفيه فمال مع النسيم
ومثله قول عبد الكردي:
إذاما اشتقت يومًا أن أراكم
…
وحال البعد بينكم وبيني
بعثت لكم سوادًا في بياض
…
لأبصركم بشيء مثل عيني
وعدّوا من الانسجام المطرب قول المذهب بن الخيمي الحلي، وقد كتب إلى والده:
جننت فعوذني بكتبك أن لي
…
شياطين شوق لا يفارقن مضجعي
إذا استرقت أسرار وجدي تمرّدًا
…
بعثت إليها في الدجا شهب أدمعي
1 الطرس: ما يكتب عليه.
2 التعديل والجرح: مصطلحان في علم الرجال من علوم الحديث.
3 غارت: من الغور أي دقت حتى كادت لا تُرى. المناطق: أمكنة وضع النطاق، وهي الخصر. أنجد: من النجد، ارتفع. الردف: الكفل والعجيزة والمؤخرة.
ومن الانسجام المرقص قول ابن عبد ربه:
يا ذا الذي خط العذار بخده
…
خطين هاجا لوعة وبلابلا1
ما كنت أقطع أن لحظك صارم
…
حتى رأيت من العذار حمائلا
ومن أغرب ما رأيت من الانسجام المرقص قول جعفر بن عثمان المصحفي:
خفيت على شرابها فكأنما
…
يجدون ريًّا في غناء فارغ
ومن الانسجام المرقص قول إدريس بن السمان:
ثقلت زجاجات أتتنا فُرَّغًا
…
حتى إذاما ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت
…
وكذا الجسوم تخف بالأرواح
ومثله قول المعتمد بن عباد:
سميدع يهب الآلاف مبتدئًا
…
وبعد ذلك يُلفى وهو معتذر2
له يد كل جبار يقبلها
…
لولا نداها لقلنا إنها الحجر
ويعجبني قول الفضل بن شرف في المرقص:
لم يبق للجور في أيامكم أثر
…
إلا الذي في عيون الغيد من حور3
ومثله قوله:
تقلدتني الليالي وهي مدبرة
…
كأنني صارم في كف منهزم
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن رشيق صاحب العمدة، في المعز بن باديس سلطان أفريقية، وقد غاب يوم العيد وكان يومًا ماطرًا:
تجهّم العيد وانهلت بوادره
…
وكان يعهد منك البشر والضحكا
كأنه جاء يطوي الأرض من بعدُ
…
شوقًا إليك فلما لم يجدك بكى
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن محمد العطار:
وكأس ترينا آية الصبح والدجا
…
فأوّلها شمس وآخرها بدر
1 بلابل الشوق: وساوسه.
2 السميدع: السيد الكريم الجواد.
3 الغيد: جمع مفرده غيداء وهي الحسناء الناعمة التي تتمايل في مشيتها.
4 تجهم: عبس.
مقطبة ما لم يزرها مزاجها
…
فإن زارها جاء التبسم والبشر
فواعجبًا للدهر لم يخل مهجة
…
من العشق حتى الماء يعشقه الخمر
ومثله قول القاضي الجليس بن الجناب المصري:
ومن عجب أن الصوارم في الوغى
…
تحيض بأيد القوم وهي ذكور1
وأعجب من ذا أنها في أكفهم
…
تأجج نارا والأكف بحور
وظريف من الانسجام المرقص قول ابن مكنسة:
والسكر في وجنته وطرفه
…
يفتح وردًا ويغض نرجسا
وعدوا من الانسجام المرقص قول ظافر الحداد:
ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي
…
كذا عادتي في الصبح مع من أحبه
ومثله قول أبي إسحاق بن خفاجة:
ونمَّت بأسرر الرياض خميلة
…
بها الزهر ثغر والنسيم لسان2
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن اللبانة:
بروحي وأهلي جيرة ما استعنتهم
…
على الدهر إلا وانثنيت معانا
أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى
…
فلم أستطع من أرضهم طيرانا3
وعدوا أيضًا من الانسجام المرقص قول ابن الرقاق:
وأغيد طاف بالكئوس ضحى
…
وحثها والصباح قد وضحا
والروض أهدى لنا شقائقه
…
وآسه العنبري قد نفحا
قلنا وأين الأقاح قال لنا
…
أودعته ثغر من سقى القدحا
فظل ساقي المدام يجحد ما
…
قال فلما تبسم افتضحا4
1 الصوارم: جمع مفرده الصارم وهو من السيوف القاطع. تحيض: تصبح حائضًا والحيض هو العادة الشهرية عند المرأة. شبه بها تقطر الدم من السيوف لشدة فتكها.
2 نمت: من النميمة، وشت ودلت عليه.
3 أراشوا: كسوه ريشًا وهنا بمعنى أغنوا لكثرة عطائهم وإعانتهم.
4 يجحد: ينكر.
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن سنا الملك.
لا تخش مني فإني كالنسيم ضنى
…
وما النسيم بمخشي على الغصن
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الدباغ، وقد تقدم:
يا رب إن قدرته لمقبِّل
…
غيري فللمسواك أو للأكؤس
ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث
…
يا رب فلتك شمعة في المجلس
وإذا قضيت لنا بعين مراقب
…
يا رب فلتك من عيون النرجس
ومثله قوله:
وأشكو إلى ليل الغدائر غدرها
…
وأملي عليه وهو في الأرض يكتب
هذه الأبيات تقدمت في باب الانسجام الغرامي، ولكن لم يظهر من مكررها غير الحلاوة.
وعدوا من الانسجام المرقص قول كمال الدين بن النبيه:
وكوكب الصبح نجاب على يده
…
مخلق تملأ الدنيا بشائره1
وعدوا من الانسجام المرقص قول الصاحب جمال الدين بن مطروح:
إذا ما اشتهى المرقص قول الصاحب جمال الدين بن مطروح:
إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها
…
فيا طيب ما تملي عليه الضفائر2
وعدوا من الانسجام المرقص قول البرهان بن الفقيه نصر الله:
أقتطف السوداء من لمتي
…
أخذًا مع البيضاء إذ تسرف3
فتخلف البيضاء أمثالها
…
وتغضب السوداء فما تخلف
حماقة السودان من ههنا
…
يعرفها من لم يكن يعرف
وعدوا من الانسجام المرقص قول أمين الدين التلمساني:
ساروا فيها وحشة الوادي لبعدهم
…
منهم ولا سيما الأغصان والكثب
1 نجاب: غطاء. المخلق: المطيب بالخلوق.
2 الخلخال: من الزينة ما يوضع فوق القدم. القرط: ما تتزين به المرأة في أذنيها الحلق. الضفائر: جدائل الشعر.
3 اللمة: أول الشعر من مقدم الرأس.
ومن الانسجامات المرجزة التي لو أدركها الشريف تطفل على نسيم أبياتها، واعترف أن ما للصادح والباغم تغريد صادحاتها، أرجوزة الشيخ جمال الدين بن نباتة، الموسومة بنظم السلوك في مصايد الملوك، التي امتدح بها الملك الأفضل بن الملك المؤيد صاحب حماة، وكان قد لقب قبل الأفضل بالمنصور، وهي:
أثنى شذا الروض على فضل السحب
…
واشتملت بالوشي أرداف الكتب1
ما بين نور مسفر اللثام
…
وزهر يضحك في الأكمام2
إن كانت الأرض لها ذخائر
…
فهي لعمري هذه الأزاهر3
قد بسطتها راحة الغمائم
…
بسط الدنانير على الدراهم
أحسن بوجه الزمن الوسيم
…
تعرف فيه نضرة النعيم
وحبذا وادي حماة الرحب
…
حيث زها العيش به والعشب
أرض الهناء والسناء والمرح
…
والأمن واليمن ورايات الفرح
ذات النواعير سقات الترب
…
وأمهات عصفه والأب4
تعلمت نوح الحمام الهتف
…
أيام كانت ذات فرع أهيف
فكلها من الحنين قلب
…
فكيف لا والما عليها صب
لله ذاك السفح والوادي الغرد
…
والماء معسول الرضاب مضطرد
يصبو بها الرائي فكيف السامع
…
ويحمد العاصي فكيف الطائع
إذا نظرت للربا والنهر
…
فارو عن الربيع أو عن جعفر
محاسنًا تلهي العيون والفكر
…
ربيع روضات وشحرور صفر
أمام كل منزل بستان
…
وبين كل قرية ميدان
أما رأيت الورق في الأوراق
…
جاذبة القلوب بالأطواق5
فبادر اللذة يا فلان
…
واغنم متى أمكنك الزمان
ولا تقل مشتي ولا مصيف
…
فكل أوقات الهنا خريف
كل زمان يتقضى بالجدل
…
زمان عيش كلما دار اعتدل
1 أرداف: أطراف وتوابع.
2 مسفر: منبلج، منكشف، أكمام الزهر: أزراراها وهي أوعيتها قبل تفتحها.
3 الذخائر: المدخرات الثمينة.
4 النواعير: مع مفرده ناعورة وهي دولاب ذي دلاء فوق بئر يخرج الماء بواسطتها. العصف: الزرع، أو ثمره، والأب: من الثمار.
5 الورق: الحمائم.
أحسن ما أذكر من أوقاته
…
وخير ما أنعت من لذاته
بروزنا للصيد فيه والقنص
…
وحوزنا من مره أحلى الفرص
وأخذنا الوحش من المسارب
…
وفعلنا في الطير فوق الواجب
لما دنا زمان رمي البندق
…
سرنا على وجه السرور المشرق1
في عصبة عادلة في الحكم
…
وغلمة مثل بدور التم2
من كل مبعثوث إلى الأطيار
…
تظله غمامة الغبار
قد حمد القوم به عقب السفر
…
عند اقتران القوس منه بالقمر
لولا حذار القوس من يديه
…
لغنت الورق على عطفيه
في كف محنية الأوصال
…
قاطعة الأعمار كالهلال
زهراء خضراء الإهاب معجبه
…
مما ثوت بين الرياض المعشبة3
فاغرة الأفواه للأطيار
…
طالبة لهن بالأوتار
كأنها بين المياه نون
…
أو حاجب بما تشا مقرون
لها بنات بالمنى معذوقه
…
من طينة واحدة مخلوقة4
سامعة لما تشير الأم
…
مع أنها مثل الحجار صم
كأنها والطير منها هارب
…
خلف الشياطين شهاب ثاقب
واهًا لها شبه كرات تخطف
…
شاهدة بالعزم وهي تقذف
حتى نزلنا بمكان مونق
…
إخوان صدق أحدقوا بالملق5
فيا له في الحسن من محل
…
مراد جد ومراد هزل
للطير في مياهه مواقع
…
كأنها من ولها فواقع6
فلم نزل في منزل كريم
…
نروي حديث الرمي عن قديم
حتى طوى الأفق رداء الورس
…
والتهم المغرب قرص الشمس7
وابتدر القوم إلى المراصد
…
من ساهر ليل التمام ساهد
كالليث يسطو كفه بأرقم
…
والبدر يرمي في الدجا بأسهم8
1 البندق: واحدته بندقة وهي ما يرمى به بواسطة البندقية.
2 غلمة: غلمان جمع غلام وهو الخادم.
3 الإهاب: الغلاف الذي يحيط بالنباتات أو بعض الحيوان، الجلد. وثوت: أقامت وسكنت.
4 معذوقه، معلمة بعلامات.
5 مونق: يانع الثمار، مفتح الأزهار. الملّق: جمع مفرده: ملق وهو الكاذب.
6 الفواقع: الفقاقيع التي تعلو سطح الماء.
7 الورس: نبات يستعمل ثمره للصباغ باللون الأحمر المائل إلى الصفرة الشبيه بالحمرة المغربية.
8 الأرقم: الغزال إذا طوقت قوائمه باللون الأبيض.
بينا الطيور في مداها ساهره
…
إذا هم من عينه بالساهره1
وأقبلت مواكب الطيور
…
على طروس الجو كالسطور
فحبذا السطور في المهارق
…
منظومة الأحرف بالبنادق2
من كل تم حق أن نسمي
…
ضياءه المشرق بدر التم
تخاله من تحت عنق قد سجا
…
طرة صبح تحت أذيال الدجا
وكل ذي حسن من الوسامه
…
تخاله في أفقه غمامه
تتبعه أوزة دكناء
…
من دونها لقلقة غراء3
تقدمها أنيسة ملوَّنه
…
تابعة من كل وصف أحسنه
يجني به الأكل خير ما جنى
…
وأحسن المأكول ما تلوَّنا
وربما مر لديها حبرج
…
كأنه على نضار يدرج4
وانقض من بعض الجبال نسر
…
له بأبراج النجوم وكر
مغير الخلق شديد الأيدي
…
يبني على الكسر حروف الصيد
تحث مسراه عقاب كاسبه
…
خافضة لحظ الطيور ناصبه5
إذا مضت جملتها المعترضه
…
تواصلت خيوطها المنقرضه
بكل كركي عجيب السير
…
كأنه طيف خيال الطير6
يحث غرونقًا شهي المجتلى
…
مقدمًا على الغرانيق العلا7
وأبيض كالغيم يسمى مرزما
…
كم بات مثل نورة مبتسما8
يحثه سبيطر قوي
…
معجزة في الطير موسويّ
كم حاش ثعبانًا وكم حواه
…
كأنه في يده عصاه
هذا وكم ذي نظر ممتاز
…
ينعت في الواجب بالعناز9
1 ساهره: سارحة. الساهره: الرض الواسعة والفلاة، وأرض الحشر.
2 المهارق: جمع مفرده مهرق وهي الصحيفة البيضاء يكتب فيها.
3 اللقلقة: واحدة اللقالق وهي طيور كبيرة طويلة المنقار والقوائم.
4 الحبرج: الحُبَارَى، طائر طويل العنق رمادي اللون يشبه الأوزة.
5 الكاسبة: من العقاب: الجارحة.
6 الكركي: طائر كبير أغبر اللون طويل العنق والرجلين أبتر الذنب.
7 الغرانيق: جمع غرنوق وهو طائر مائي أبيض طويل الساقين جميل المنظر، له قنزعة ذهبية اللون وهو شبيه الكركي.
8 المرزم: مجموعة من النجوم.
9 العناز: الجاهل.
أسود إلا لمعة في الصدر
…
كأنها نور الهدى في الكفر
فلم تزل قسينا الضواري
…
تصيبها بأعين الأوتار
حتى غدت دامية النحور
…
ساقطة منها على الخبير
كأنها وهي لدينا وُقّع
…
لدى محاريب القسي ركع
واصبحت أطيارنا قد حصلت
…
ولم تسل بأي ذنب قتلت
مستتبعًا وجه العشا وجه السحر
…
وكل وجه منهما وجه أغر
يا لك من صيد مقر العين
…
مرضي الصحاب وهو ذو الوجهين
لم نرض وما وفى من الأماني
…
حتى شفعناه بصيد ثاني
صيد الملوك الصيد بالكواسر
…
والخيل في وجه الصباح السافر1
ذاك الذي تصبو له الجوارح
…
فهي إلى طلابه طوامح
واثقة بالرزق حيث كانا
…
تغدو خماصًا وتجي بطانا2
سرنا على اسم الله والمناجح
…
نعوم في الأقطار بالسوابح3
خيل تحاذي الصيد حيث مالا
…
كأنها أضحت له ظلالا
تسعى بها قوائم لا تتبع
…
وكيف لا وهي الرياح الأربع
تحفنا من فوقها غلمان
…
كأنهم لدوحنا أغصان
ترك تريك في سماء الملبس
…
كواكبًا طالعة في الأطلس4
منظومة الأوساط بالسلاح
…
من كل سهم زجل الجناح5
وكل عضب ذرب المقاطع
…
يحرّف الهام عن المواضع6
على يد السائر منهم زاده
…
من كل باز قرم فؤاده7
قد كتبت في صدره حروف
…
تقرا بما تقوى به الضيوف
وكل شاهين شهي المرتمى
…
كبارق طار وصوب قد همي8
بينا تراه ذاهبًا لصيده
…
معتصمًا بأيده وكيده9
1 السافر: الواضح المضيء.
2 تغدو خماصًا: تروح جوعى. وتجي بطانًا: تعود ممتلئة البطون.
3 المناجح: الذين ينجحون وهم الأنبياء. السوابح: الخيول.
4 الأطلس: نوع من القماش الأملس وهو من أسماء السماء الصافية.
5 زجل الجناح: مصوت الجناح.
6 العضب: السيف القاطع: والذرب: البليغ. الهام: الرءوس والجباه.
7 القرم: القوي.
8 الشاهين: الصقر، من الطيور الجارحة. الصوب: المطر. همي: هطل.
9 الأيد: القوة.
حتى تراه عائدًا من أفقه
…
متلزمًا طائره في عنقه
أفلح من كان على يسراه
…
حتى غدت حاسدة يمناه
تلك يد لا تعرف الإعسارا
…
لأجل هذا سميت يسارا
وكل صقر مسبل الجناح
…
مواصل الغدو والرواح
ذي مقلة لها ضرام واقد
…
يكاد يشوي ما يصيد الصائد
كأنما المخلب منه منجل
…
لحصد أعمار الطيور مرسل
يا حبذا طيور جد ولعب
…
تهوي إلى الأرض وللأفق تشب
من سنقر عالي المدى والشان
…
معظم الأخبار والعيان1
يصعد خلف الرزق ليس يمهله
…
كأنه من السما يستعجله
ومن عقاب بأسها مروع
…
كأنها للطير جن يصرع
كم جلبت لطائر من وهن
…
وكم وكم قد أهلكت من قرن2
وحبذا كواسر الكواهي
…
عديمة الأنظار والأشباه3
مخصوصة بالطرد القويم
…
حدباء كظهر الذنب الرقيم
ذاك لعمري حدب للرائي
…
يعدل ملك القلعة الحدباء
هذا وقد تجهزت أعداد
…
يجمعها الكلاب والفهاد
من كل فهد عنتري الحمله
…
إذا رأى شخص مهاة عبله4
مبارك الإقبال والإعراض
…
مستقبل الحال بناب ماض
كأنه من حسدة اكتسابه
…
قد أحرق الأنجم في إهابه
له على مسايل الجفون
…
خط كخط الألفات الجون5
ما أبصر المبصر خطًّا مثله
…
وكيف لا والخط لابن مقله
وكل منسوب إلى سلوق
…
أهرت وثاب الخطا ممشوق6
طاوي الفؤاد ناشر الأظافر
…
يا عجبًا منه لطاوٍ ناشر
1 سنقر: اسم الملك الأفضل، ابن الملك المؤيد صاحب حماة. العيان: الآثار.
2 القرن: الجيل من الناس أو الأمة ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} يونس 10/ 13: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} الإسراء: 17/ 17.
3 الكواهي: الحديدة النظر.
4 العبلاء: الممتلئة الساعدين والفخذين.
5 الجون: السوداء.
6 المنسوب إلى سلوق: الكلب السلوقي، للصيد. أهرت: نباح.
يعض بالبيض ويخطو بالقنا
…
ويسبق الوهم لإدراك المنى
كالقوس إلا أنه كالسهم
…
والغيم يجلو عن شهاب الرجم
إذا تراءى بقر الوحش اندفع
…
كأنه المريخ في الثور طلع1
قاصرة عن يده عيناه
…
مشروطة برجله أذناه
يشفعه كل عزيز عاري
…
مغالب الصيد على الأوكار
واهًا لها من أكلب طوارد
…
معربة عن مضمر المصايد
قد بالغت من طمع في كسبها
…
ففتشت عن أنفس لم تخبها
حتى إذا تمت بها الأمور
…
حفت بنا لصيدها الطيور
ما بين روضات مددنا نحوها
…
وحول آفاق ملكنا جوها
واستقبلت أطيارها البزاة
…
معلمة كأنها الغزاة2
فلم تزل تسطو سطا الحجاج
…
على الكراكي إلى الدراج3
حتى غدت تلك البزاة صرعى
…
مجموعة على التراب جمعا
على الربا من دمها خلوق
…
كأن كل نبتها شقيق
ثم عطفنا للوحوش السائحة
…
واستبقت تلك الضواري الطامحة
كلاب صيد بينها سناقر
…
تفعل في الوحش بها الفواقر
تخشى بها العقر على نفوسها
…
فالطير لاشك على رءوسها
وللكلاب حولها مغار
…
يكاد أن تقدح منه النار
من نمر لسانه يلوب
…
تقول هذا كوسج مخضوب4
يعانق الظبي عناق الوامق
…
ما كان أغنى الظبي عن معانق
والفهد لايشتد على الآجال
…
شد وصي السوء في الأموال
لا يهمل القصد ولا يخون
…
كأن كل جسمه عيون
وللزعاريات خلف الأرنب
…
حقائق تبطل كيد الثعلب5
كم برحت بالهارب المكدود
…
وطوحت بصاحب الأخدود
وربما مرت ظباء ومها
…
للنبل في أكل حشاها مشتهى
قد نسجت ملاءة من عنبر
…
تخاط من قرونها بالإبر
1 المريخ والثور: من البروج الكوكبية.
2 البزاة: جمع بازي وهو طائر معلم يصطاد بواسطته.
3 الدراج: نوع من الطيور شبيه بالسماني.
4 يلوب: يتحرك خارج فمه ولا يستقر. الكوسج: نوع من الأسماك المفترسة التي تكثر في المناطق الحارة.
5 الزعاريات: نوع من الكلاب البلدية التي تقصر أذنابها وآذانها لتصبح أقوى وأشرس.
فابتدرت أجنحة السهام
…
صائبة الأغراض والمرامي
تجرح كل سانح نفور
…
كأنه بعض شهود الزور
كأن أقطار الفلاة مجزره
…
أو روضة من الدماء مزهره
كأن صرعى وحشها كفار
…
الموت عقبى أمرها والنار
للمرء فيها منظر أحبه
…
يملأ من لحم وشحم قلبه
لله ذاك المنظر المهنا
…
أي معاد عن ذراه عدنا
قد ملئت من ظفر أيدينا
…
وقد شكرنا فضل ما حبينا
نسير حول الملك المنصور
…
كالشهب حول القمر المنير
محمد ناصر دين أحمد
…
الملك ابن الملك المؤيد
يا حبذا من والد ومن ولد
…
وحبذا من شبل ملك وأسد1
فرع زها بأصله أيوب
…
فأثمرت بحبه القلوب
قال الأنام حظه جليّ
…
قلت نعم وجده عليُّ
ذاك الذي سام العلا صبيا
…
وجاءها من مهده مهديا
محكم السطوة سحاح الديم
…
يأخذ بالسيف ويعطي بالقلم
لو لمس الصخر لفاض نهرا
…
أو صحب النجم لعاد بدرا
لا ظلم يلفى في حماه العالي
…
إلا على العداة والأموال
أما ترى الدينار منه خائفًا
…
أصفر من كف الهبات ناشفا
كالبدر في سنائه وتمه
…
والطود في وقاره وحلمه
مرأى يشف عن فخار أصل
…
ونسخة قد قوبلت بالأصل
ما ضر من خيم في جنابه
…
أن لا تكون الشهب من أطنابه
جناب عزٍ جاره لا ينكب
…
وباب نجح للغنى مجرب2
غنيت في ظلاله عن الورى
…
غني نزيل المدن عن قصد القرى
ورحت من نعماه بالتواتر
…
أروي أحاديث عطا عن جابر
يزداد لفظي بهجة ورونقا
…
كأنه الخمر إذا تعتقا
إن لم أرم ذاك الحمى العالي فمن
…
ينصرني على تصاريف الزمن
يا ناصر الدين دعاء مادح
…
ما بين روضات السطور صادح
حسبك مثلي في الأنام شاعرا
…
وحسب شعري قوة وناصرا
1 الشبل: ابن الأسد.
2 لا ينكب: لا يصاب بنكبة وهي الكارثة والمصيبة. النجح: النجاح، والغنى.
ومن الأراجيز المرتجلة، التي سارت الركبان ببلاغة ارتجالها ولطف انسجامها، أرجوزة الشيخ زين الدين عمر بن المظفر الوردي، سقى الله ثراه، التي ارتجلها بدمشق المحروسة عند الامتحان المفحم. فقد ذكر الشيخ الإمام العلامة إمام المحدثين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، أن الشيخ زين الدين المشار إليه قدم دمشق المحروسة، في أيام القاضي نجم الدين بن صصري تغمده الله برحمته ورضوانه، فأجلسه في الصفة المعروفة بالشباك في جملة الشهود، وكان يومئذ زري1 الحال، فاستخف به الشهود، فحضر يومًا كتابة مشتري ملك، فقال بعضهم: أعطو المعري يكتبه على سبيل الاستهزاء فقال الشيخ: ارسموا لي أكتبه، نظمًا ونثرًا. فزاد استهزاؤهم به فقالوا: بل نظمًا. فأخذ الطرس وكتب ارتجالًا ما صورته:
باسم إله الخلق هذا ما اشترى
…
محمد بن يونس بن سنقرا
من مالك بن أحمد بن الأزرق
…
كلاهما قد عرفا من جلق
فباعه قطعة أرض واقعة
…
بكورة الغوطة وهي جامعة2
لشجر مختلف الأجناس
…
والرض في البيع مع الغِراس
وذرع ذي الأرض بالذراع
…
عشرون في الطول بلا نزاع
وذرعها في العرض أيضًا عشره
…
وهو ذراع باليد المعتبره
وحدها من قبلة ملك التقى
…
وحائز الرومي حد المشرق3
ومن شمال ملك أولاد علي
…
والغرب ملك عامر بن جهبل
وهذه تعرف من قديم
…
بأنها قطعة بنت الرومي
بيعت صحيحًا لازمًا شرعيًّا
…
ثم شراء قاطعًا مرعيًا
بثمن مبلغه من فضه
…
وازنة جيدة مبيضه
جارية للناس في المعامله
…
ألفان منها النصف ألف كاملة
قبضها البائع منه وافيه
…
فعادت الذمة منها خاليه
وسلم الأرض إلى من اشترى
…
فقبض القطعة منه وجرى
بينهما بالبدن التفرق
…
طوعًا فما لأحد تعلق
1 زري الحال: سيئ الحال، أزرى به الفقر وضايقه.
2 الكورة: الناحية.
3 قبلة: الجهة الجنوبية. وسميت القبلة لأنها الجهة التي فيها القبلة التي نوليها إليها وجوهنا في الصلاة.
ثم ضمان الدرك المشهور
…
فيه على بائعه المذكور
وأشهدا عليهما بذاك في
…
رابع عشر رمضان الأشرف
من عام سبعمائة وعشره
…
من بعد خمسة تليها الهجره
والحمد لله وصلى ربي
…
على النبي وآله والصحب
يشهد بالمضمون من هذا عمر
…
ابن المظفر المعري إذ حضر
فلما فرغ الشيخ من نظمه، وتأمل الجماعة ارتجاله وسرعة بديهته، اتفق أنه لم يكن فيهم من يحسن النظم: فقالوا، وقد اعترفوا بفضل الشيخ وعجزوا عن رسم الشهادة: لعل الشيخ يسد عن أحدٍ منا برسم شهادته. فكتب عن شخص منهم إلى جانبه يدعى ابن رسول:
وقد حضر العقد الصحيح أحمد
…
ابن رسول وبذاك يشهد
ومما استعذب، من انسجامات الشيخ برهان الدين القيراطي، قوله، من قصيدة تائية:
أخذت بابل عنه
…
بعض تلك النفثات
فهو غصن في انعطاف
…
وغزال في التفات
حسنات الخد منه
…
قد أطالت حسراتي
كلما ساء فعالا
…
قلت إن الحسنات
ولسوء الحظ صارت
…
حسناتي سيئاتي
أعشق الشامات منه
…
وهي أسباب مماتي
ويعجبني قوله منها:
بأبي لحظ غزال
…
قائل في الخلوات
إن للموت بأقدا
…
ح جفوني سكرات
قلت قد مت غرامًا
…
قال لي مت بحياتي
ومنها:
قلت إذ حرك عودا
…
عازفًا بالنغمات
أنت مفتاح سروري
…
يا سعيد الحركات
ومن انسجاماتي الغرامية المرجزة، التي تقدمني فيها الشيخ جمال الدين بن نباتة، والشيخ زين الدين بن الوردي، قصيدتي الدالية التي كتبت بها قديمًا من حماة المحروسة، إلى
1 النفثات: واحدتها نفثه وهي المناجاة. أو السحر.
القاضي فخر الدين بن مكانس وولده القاضي مجد الدين، تغمدهما الله برحمته، وهي:
ما لمعت بارقة من نجد
…
إلا وهزتني وعود وجدي
ولا سرت سحابة مغدقة
…
إلا وكان مثلها في خدي1
فيا رعى الله زمانًا بالحمى
…
فإن لي فيه بقايا عهد
ويا رُبى مصر مراضع الحيا
…
يرضعك الغيث بذاك المهد
كم ليلة قضيتها وأنجم الـ
…
ـجوزاء فوق صدرها كالعقد
والرض قد حاكت برود وشيها
…
يحار في صفاتها ابن برد
وكوثر النير يروق منظرًا
…
حتى كأني في جنان الخلد
وهند ما تخطر في برودها
…
إلا أمالت عذبات الرند2
مضرية لكن يماني لحظها
…
منتسب في فتكه للهند
آه له من سيف لحظ باتر
…
زاد على عشاقه في الحد
عبد مناف جدها وإنما
…
قلبي لها قد صار عبد ود
يا لأمير النحل قرص وجهها
…
يشهد أن ريقها من شهد
وثغرها يقول في نظامه
…
يا يتم أبكار اللآلي بعدي
وشعرها الطائل قد قلنا له
…
أنت لنا نابغة يا جعدي
وريقها قال النباتي أنا
…
وخدها قال أنا ابن الوردي
والغصن حاكى قدَّها قالت له
…
ما أنت يا غصن الرياد قدي3
يا قدها وردفها لولاكما
…
ما اشتقت بانات الكثيب الفرد
سألتها لم صرفت عن ناظري
…
وكلفت قلبي بطول النقد
قالت تركت الفخر من بين الورى
…
وقد قعدت عن طلاب المجد
لعمري إن الشرح قد طال في نوع الانسجام، ولكن ما استطردت بخيوله إلا إلى كل مهيع4 بديغ وغريب. فبيت الشيخ صفي الدين الحلي، في بديعيته على نوع الانسجام، يقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
فذكره قد أتى في هل أتى وسبا
…
وفضله ظاهر في نون والقلم5
1 مغدقة: مطرة.
2 الرند: نبات من شجر البادية طيب الرائحة يشبه الآس.
3 حاكى: شابه. الرياد: التمايل.
4 المهيع: من كل شيء البين الواضح.
5 هل أتى، وسبأ، ونون والقلم: بدايات سور من القرآن الكريم، وهي على التوالي: الإنسان سبأ، والقلم.
انسجام الشيخ صفي الدين في بيته ظاهر. والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته:
بان انسجام كلام منزل عجب
…
يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم
بيت الشيخ عز الدين لم يكن له تعلق بما قبله من المديح النبوي، والذي يظهر لي منه أنه أشار به إلى القرآن بأنه كلام منزل، وانسجامه عجب يهدي وبخبرنا عن سالف الأمم. وبيت بديعيتي أقول فيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
له انسجام دموعي في مدائحه
…
بالله شنف بها يا طيب الكلم
ولقد عجبت من الشيخ عز الدين، كيف عقد بين انسجامه مع سهولة هذا النوع وقرب مأخذه ولطف تسميته وقبولها للاشتراك. انتهى.