المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر إرسال المثل: - خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي - جـ ١

[الحموي، ابن حجة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد وتقديم:

- ‌التعريف بالكاتب:

- ‌مقدمة الكاتب:

- ‌الجناس:

- ‌ذكر الجناس المركب والمطلق:

- ‌ذكر الجناس الملفق:

- ‌الجناس المذيل واللاحق:

- ‌الجناس التام والمطرف:

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب:

- ‌ذكر الجناس المعنوي:

- ‌ذكر الاستطراد:

- ‌ذكر الاستعارة:

- ‌ذكر الاستخدام:

- ‌ذكر الهزل الذي يراد به الجد:

- ‌ذكر المقابلة:

- ‌ذكر الالتفات:

- ‌ذكر الافتنان:

- ‌ذكر الاستدراك:

- ‌ذكر الطي والنشر:

- ‌ذكر الطباق:

- ‌ذكر النزاهة:

- ‌ذكر التخيير:

- ‌ذكر الإبهام:

- ‌ذكر إرسال المثل:

- ‌ذكر التهكم:

- ‌ذكر المراجعة:

- ‌ذكر التوشيح:

- ‌ذكر تشابه الأطراف:

- ‌ذكر التغاير:

- ‌ذكر التذييل:

- ‌ذكر التفويف:

- ‌ذكر المواربة:

- ‌ذكر الكلام الجامع:

- ‌ذكر المناقضة:

- ‌ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر:

- ‌ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم:

- ‌ذكر الهجو في معرض المدح:

- ‌ذكر الاستثناء:

- ‌ذكر التشريع:

- ‌ذكر التتميم:

- ‌ذكر تجاهل العارف:

- ‌ذكر الاكتفاء:

- ‌ذكر مراعاة النظير:

- ‌ذكر التمثيل:

- ‌ذكر التوجيه:

- ‌ذكر عتاب المرء نفسه:

- ‌ذكر القسم:

- ‌ذكر حسن التخلص:

- ‌ذكر الاطراد:

- ‌ذكر العكس:

- ‌ذكر الترديد:

- ‌ذكر التكرار:

- ‌ذكر المذهب الكلامي:

- ‌ذكر المناسبة:

- ‌ذكر التوشيع:

- ‌ذكر التكميل:

- ‌ذكر التفريق:

- ‌ذكر التشطير:

- ‌ذكر التشبيه

- ‌مدخل

- ‌التشبيه بالتلميح:

- ‌ذكر تشبيه شيئين بشيئين:

- ‌ذكر الانسجام

- ‌الانسجام في النثر

- ‌الانسجام في الشعر:

- ‌ذكر التفصيل:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ذكر إرسال المثل:

‌ذكر إرسال المثل:

كم تمثلت إذ أرخوا شعورهم

وقلت بالله خلوا الرقص في الظلم

إرسال المثل نوع لطيف في البديع، ولم ينظمه في بديعيته غير الشيخ صفي الدين، وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر، في بعض بيت، بما يجري مجرى المثل، من حكمة أو نعت أو غير ذلك مما يحسن التمثل به، كقوله تعالى:{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} 1 وقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 2 وقوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} وقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 4.

ومما جاء من ذلك في السنة الشريفة، قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الأمور أوساطها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا يوم القيامة" وقوله صلى الله عليه وسلم: "البلاء موكل بالمنطق".

وقد احتوى كتاب أبي أحمد العسكري على كثير من هذا الباب، ومن أمثلته في الشعر قول زهير:

وهل ينبت الخطمي إلا وشيجة

وتغرس إلا في منابتها النخل5

1 النجم: 53/ 58.

2 النمل: 27/ 88.

3 البقرة: 12/ 138.

4 الإسراء: 17/ 7.

5 الخطمي: نبات ليفي يتداوى به - والوشيجة: الألياف.

ص: 186

ومثله قول النابغة:

ولست بمتسبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

ومثله قول بشار:

فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه

مقارف ذنب مرة ومجانبه1

وما أحلى ما قال بعده:

إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه2

قول أبي تمام:

فلو صورت نفسك لم تزدها

على ما فيك من كرم الطباع

وكقوله:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأوّل

وذكر ابن أبي الأصبع، في كتابه المسمى "بتحرير التحبير" إنه استخرج أمثال أبي تمام من شعره، فوجدها تسعين نصفًا وثلثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتًا، واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي، فوجدها مائة نصف وثلاثة وسبعين نصفًا وأربعمائة بيت، ولكنه أخرج من أمثال أبي الطيب ما ولده من أمثال أبي تمام، وصدر الجميع بما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال، بزيادات على ذلك، وهي أمثال الأشعار السنية والحماسة وأمثال أبي نواس، بعد أن ألحق أمثال القرآن بأمثال دواوين الإسلام السنية، وختم الجميع بأمثال العامة في كتاب الأمثال له.

ومما سار من أمثال الطغرائي، في لامية العجم، قوله:

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

لو أن في شرف المأوى منى

لم تبرح الشمس يومًا دارة الحمل3

أعلل النفس بالآمال أرقبها

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

وعادة النصل أن يزهى بجوهره

وليس يعمل إلا في يدي بطل

ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني

حتى أرى دولة الأوغاد والسفل4

1 مقارف الذنب: مرتكبه.

2 القذى: الكدر.

3 دارة الحمل: من منازل الشمس.

4 الأوغاد: السوقة من الناس، واللئام الأخساء.

ص: 187

هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا

من قبله فتمنى فسحة الأجل

وإن علاني من دوني فلا عجب

لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل

فاصبر لها غير محتال ولا ضجر

في حادث الدهر ما يغني عن الحيل1

أعدى عدوك أدنى من وثقت به

فحاذر الناس واصحبهم على دخل2

وإنما رجل الدنيا وواحدها

من لا يعول في الدنيا على رجل3

يا واردا سؤر عيش كله كدر

أنفقت صفوك في أيامك الأول4

فيم اقتحامك لج البحر تركبه

وأنت تكفيك منه مصة الوشل5

ملك القناعة لا يخشى عليه ولا

يحتاج فيه إلى الأنصار والخول6

ترجو البقاء بدار لا بقاء لها

فهل سمعت بظل غير منتقل

ويا أمينا على الأسرار مطلعا

اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل7

وممن سار في مجرى هذه القصيدة ووزنها، أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها:

أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل

دعا فلباه قبل الركب والإبل8

وما صبابة مشتاق على أمل

من اللقاء كمشتاق بلا أمل

والهجر أقتل لي مما أراقبه

أنا الغريق فما خوفي من البلل

قد ذقت شدة أيامي ولذتها

فما حصلت على صاب ولا عسل9

خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

انظر إلى محاسن هذين الفحلين إلى الغاية التي تمثلا بها في الشمس وزحل، وتأخر سوابق الأفهام عن معرفة السابق منهما إلى الغاية، ومنها قوله:

وقد وجدت مكان القول ذا سعة

وإن وجدت لسانًا قائلًا فقل

لعل عتبك محمود عواقبه

فربما صحت الأجسام بالعلل

1 حادث: جديد

2 الدخل: الحذر. ومداخلة الشك.

3 يعول: يتكل.

4 السؤر: البقية الباقية من الشيء.

5 الوشل: الماء القليل.

6 الخول: الإماء والعبيد.

7 الزلل: الخطأ.

8 الطلل: الأثر.

9 الصاب: شراب مرٌّ.

ص: 188

لأن حلمك حلم لا تكلفه

ليس التكحل في العينين كالكحل1

وما ثناك كلام الناس عن كرم

ومن يسد طريق العارض الهطل

وقد عن لي أن أجمع هنا ما حلا بذوقي من أمثال أبي الطيب المتنبي، وإن كان فيها ما ولده من شعر أبي تمام، كما ذكره ابن أبي الأصبع، فإن القصد أن نصيرها عمدة لأهل الإنشاء إذا أوردوها في الوقائع التي تليق بها على اختلاف أنواعها، فمن ذلك قوله:

إذا صديق نكرت جانبه

لم تعيني في فراقه الحيل

في سعة الخافقين مضطرب

وفي بلاد من أختها بدل

وقوله من قصيدة:

أشد الغم عندي في سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

ومن يك ذا فم مر مريض

يجد مرًّا به الماء الزلالا2

وقوله من قصيدة:

ذل من يغبط الذليل بعيش

رب عيش أخف منه الحمام3

كل حلم أتى بغير اقتدار

حجة لاجئ إليها اللئام

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

خير أعضائنا الرءوس ولكن

فضلتها بقصدك الأقدام

وقوله:

ما كل من طلب المعالي نافذًا

فيها ولا كل الرجال فحولا

تلف الذي اتخذ الجراءة خلة

وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا4

وقوله:

ومكايد السفهاء واقعة بهم

وعداوة الشعراء بئس المقتنى

ويعجبني قوله في الهجو، وهو مما نحن فيه:

فلو كنت أمرأ تهجى هجونا

ولكن ضاق قطر عن مسير5

1 الكحل: سواد في محجر العين إذ تبدو وكأنها مكحلة بالكحل.

2 الزلالا: الصافي من كل كدر.

3 يغبط: يحسد، الحمام: الموت.

4 تلف: هلك، خلة: خصلة وهي واحدة الخصال. كما أن خلة واحدة الخلال.

5 القطر: البلد.

ص: 189

وقوله:

فقر الجهول بلا لب إلى أدب

فقر الحمار بلا رأس إلى رسن

قد هوّن الصبر عندي كل نازلة

ولين العزم خد المركب الخشن1

لا يعجبن مضيمًا حسن بزته

وهل تروق دفينا جودة الكفن2

وقال من أبيات قوله:

عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا

فلما دهتني لم تزدني بها علما

وكنت قبيل الموت أستعظم النوى

فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى

فلا عبرت بي ساعة لا تعزني

ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما

وقوله أيضا:

وأنا الذي أجتلب المنية طرفه

فمن المطالب والقتيل القاتل

أنعم ولذ فللأمور أواخر

أبدًا كما كانت لهن أوائل

للهو آونة تمر كأنها

قبل تزودها حبيب راحل

جمح الزمان فما لذيذ خالص

مما يشوب ولا سرور كامل3

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني فاضل4

وقال في قصيدة، وهي أبلغ ما يكون في المدح:

أعيا زوالك عن محل نلته

لا تخرج الأقمار من هالاتها5

وقال في قصيدة:

وأشجع مني كل يوم سلامتي

وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر

ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها

فمفترق جاران دارهما عمر6

ومن ينفق الساعات في جمع ماله

مخافة فقر فالذي فعل الفقر

وأستكبر الأخبار قبل لقائه

فلما التقينا صغر الخَبَرُ الخُبْرُ

وإني رأيت الضر أحسن منظرًا

وأهون من مرأى صغير به كِبر7

1 النازلة: المصيبة تنزل بالإنسان.

2 مضيمًا: مقيمًا على الضيم وهو الغم والحزن.

3 جمح: جار وحاد عن جادة الصواب، خالص: لا يشوبه كدر.

4 ناقص: إنسان ناقص، وكل إنسان ناقص.

5 هالاتها: واحدتها هالة، وهي ما يحيط بالقمر كالدائرة من النور.

6 ذر: اترك - البين: الموت والفراق.

7 الكبر: الكبرياء والتكبر.

ص: 190

ويعجبني من المديح منها "شعر":

وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله

ولكن لشعري فيك من نفسه

وقال من قصيدة:

وما ليل بأطول من نهار

يظل بلحظ حسادي مشوبا

ولا موت بأنقص من حياة

أرى لهم معي فيها نصيبا

عرفت نوائب الحدثان حتى

لو انتسبت لكنت لها نقيبا1

وما أظرف ما قال منها:

وشيخ في الشباب وليس شيخًا

يسمى كل من بلغ المشيبا

قسا فالأسد تفزع من يديه

ورق فنحن نفزع أن يذوبا

وقال من قصيدة، وهي التي ذكروا أنه ادعى فيها النبوة:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بد2

وقال من قصيدة:

قد كنت أشفق من دمعي على بصري

فاليوم كل عزيز بعدكم هانا3

إذا قدمت على الأهوال شيعني

قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا

أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني

ولا أعاتبه صفحًا وأهوانًا

وهكذا كنت في أهلي وفي وطني

إن النفيس عزيز حيثما كانا4

لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعًا

ولا أبيت على ما فات حسرانا5

ولا أسر بما غير الحميد به

ولو حملت إليَّ الدهر ملآنا

وقوله من قصيدة:

فما لي وللدنيا طلابي نجومها

ومسعاي منها في شدوق الأراقم6

1 النقيب: السيد.

2 نكد: تنغيص العيش.

3 أُشفِقُ: أخاف.

4 النفيس: العزيز والغالي والثمين.

5 أشرئب: أمد عنقي لأتطلع حسرانًا: تحسرًا.

6 طلابي: أي ما أطلب - شدوق: جمع مفرده شدق وهو الفم أو شطره - الأراقم: من الحيات، أخبثها: مفردها أرقم.

ص: 191

من الحلم أن يستعمل الجهل دونه

إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم1

ومن عرف الأيام معرفتي بها

وبالناس روى سيفه غير راحم

ولولا احتقاري الأسد شبهتها بهم

ولكنها معدودة في البهايم2

وكاد سروري لا يفي بندامتي

على تركه في عمري المتقادم

وقال من قصيدة:

وأحسب أني لو هويت فراقكم

لفارقكتم والدهر أخبث صاحب

فيا ليت ما بيني وبين أحبتي

من البعد ما بيني وبين المصائب3

يهون على مثلي إذا رام حاجة

وقوع العوالي دونها والقواضب4

كثير حياة المرء مثل قليلها

يزول وباقي عيشه مثل ذاهب

بأي بلاد لم أجر ذوائبي

وأي مكان لم تطأه ركائبي5

وتخلص إلى مديح طاهر، ولكنه أتى في تخلصه بالعجائب، فقال:

كأن رحيلي كان من كف طاهر

فأثبت كوري في ظهور المواهب6

ما يقول: أثبت كوري في ظهور المواهب، إلا المتنبي.

ومن أبياته التي سارت أمثالا قوله:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم7

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

وكل شجاعة في المرء تغني

ولا مثل الشجاعة في الحليم

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم8

ولكن تأخذ الأسماع منه

على قدر القرائح والفهوم

1 الحلم: العقل.

2 البهايم: والبهائم: الدواب.

3 إشارة إلى انعدام البعد بينه وبين المصائب، فهو يتمنى انعدام هذا البعد بينه وبين الأحبة.

4 رام: أراد وقصد - العوالي والقواضب: الرماح والسيوف.

5 ذوائبي: مفردها ذؤابة، وهي من الرحل، الجلدة المعلقة على آخره. ومن النعل، ما يلامس الأرض، ومن الشعر: الناصية وهي مقدم شعر الرأس، ركائبي: مفردها ركاب وهو ما يركب.

6 الكور: الرحل بأداته.

7 مروم: مقصود لعلوه.

8 الآفة: المرض.

ص: 192

وقال من قصيدة:

والهم يحترم الجسيم مخافة

ويشيب ناصية الصبي ويهرم1

ذو العقل يشقى في النعيم بعلقه

وأخو الجهالة في الشقاء منعم2

لا تخدعنك ما عدو دمعة

وارحم شبابك من عدوك تُرحم

وما أعظم ما قال بعده:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يراق على جوانبه الدم

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم

ومن البلية عذل من لا يرعوي

عن جهله وخطاب من لا يفهم3

والذل يظهر في الذليل مودة

وأودّ منه لمن يود الأرقم

ومن العداوة ما ينالك نفعه

ومن الصداقة ما يضر ويؤلم

أفعالُ من تلد الكرام كريمة

وفعال من تلد الأعاجم أعجم

وقوله:

كريشة بمهب الريح ساقطة

لا تستقر على حال من القلق

ويعجبني قوله من أبيات، يتمثل بها في كثيرة الإحسان المفرط:

ولم تملل تفقدك الموالي

ولم تذمم أياديك الجساما

ولكن الغيوث إذا توالت

بأرض مسافر كره المقاما

وصار أحب ما يهدي إليه

لغير قلى وداعك والسلاما4

وقال:

والغنى في يد اللئيم قبيح

قدر قبح الكريم في الإملاق5

وقال من قصيدة:

وقد يتزيا بالهوى غير أهله

ويستصحب الإنسان من لا يلائمه

1 يُهرِم: يصيب بالكِبَر.

2 وقد روي هذا البيت كما يلي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

3 ارعوى: عاد إلى رشده وتاب: وارتد عن غوايته.

4 القلى: الكره والهجر.

5 الإملاق: الفقر الشديد المدقع.

ص: 193

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها

وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه1

وما استغربت عيني فرقًا رأيته

ولا علمتني غير ما أنا عالمه

وقوله:

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسام

وقال من قصيدة:

إذا اعتاد الفتى خوض المنايا

فأهون ما تمر به الوحول

وقوله:

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاء من نبال2

فصرت إذا أصابتني سهام

تكسرت النصال على النصال

وقوله:

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطباع على الناقل

ولو زلتم ثم لم أبككم

بكيت على حبي الزائل

وقوله:

هل الولد المحبوب إلا تعلة

وهل جلوة الحسناء إلا أذى البعل3

وقد ذقت حلواء البنين على الصبا

وفلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل

وما الدهر أهل أن تؤمل عنده

حياة وإن يشتاق فيه إلى النسل

وقال:

إذا ما الناس جربهم لبيب

فإني قد أكلتهم وذاقا

وقوله:

فما ترجّي النفوس من زمن

أحمد حاليه غير محمود

وقوله:

ووجه البحر يعرف من بعيد

إذا يسجو فكيف إذا يموج4

وقال:

ليس الجمال لأنف صاح مارنه

أنف العزيز بقطع العز يجتدع5

من كان فوق محل الشمس موضعه

فليس يرفعه شيء ولا يضع6

إن السلاح جميع الناس تحمله

وليس كل ذوات المخلب السبع

وقوله مفتخرًا:

وإنا إذا ما الموت صرح في الوغى

لبسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا

وقوله:

أهم بشيء والليالي كأنها

تطاردني عن كونه وأطارد

وحيد من الخلان في كل بلدة

إذا عظم المطلوب قل المساعد

1 بلا: في الأصل وردت: بلا، وما أثبتناه أصح، لأنها مصدر بلى، الشحيح: البخيل.

2 الغشاء: العطاء وهذه أليق بالمعنى لأن الغشاء ينم عن الشفافية وهذه لا تكون في النبال.

3 الجلوة: ما يكون ليلة العرس من دوران العروس مادة يديها وعلى العريس أن يضع في كفها مبلغًا من المال في كل دورة، بينما إحداهن تغني أغنية خاصة، البعل: الزوج.

4 يسجو: يسكن ويهدأ.

5 المارن: عظم الأنف - جدع الأنف: قطعه.

6 يضع: يحط من قدره ومكانته.

ص: 194

ولكن إذا لم يحمل القلب كفه

على حالة لم يحمل الكف ساعد

منها:

بذا قضت الأيام ما بين أهلها

مصائب قوم عند قوم فوائد

وكل يرى طرق الشجاعة والندى

ولكن طبع النفس للنفس قائد

فإن قليل الحب بالعقل صالح

وإن كثير الحب بالجهل فاسد

وقوله:

وما كل وجه أبيض بمبارك

ولا كل جفن ضيق بنجيب1

كأن الردى عاد على كل ماجد

إذا لم يعوذ مجده بعيوب2

ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا

غفلنا فلم نشعر له بذنوب

فرب كئيب ليس تندى جفونه

ورب كثير الدمع غير كئيب

وفي تعب من يجحد الشمس ضوءها

ويجهد أن يأتي لها بضريب3

وقوله:

ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت

على عينه حتى يرى صدقها كذبا

ومن تكن الأسد الضواري جدوده

يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا4

ولست أبالي بعد إدراكي بالعلا

أكان تراثًا ما تناولت أم كسبا

ويعجبني، من هذه القصيدة، قوله في مديح سيف الدولة وقد كسر الدمستق5 على مرعش:

أتى مرعشًا يستقرب البعد مقبلًا

وأدبر إذ أقبلت تستبعد القربا

كذا يترك الأعداء من يكره القنا

ويقفل من كانت غنيمته رعبا

مضى بعدما التف الرماحان ساعة

كما يلتقي الهدب في الرقدة الهدبا

ولكنه ولى وللطعن سورة

إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا6

فحب الجبان النفس أوردها البقا

وحب الشجاع الحرب أوردها الخربا7

وما أحلى ما قال بعده:

ويختلف الرزقان والفعل واحد

إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا

1 نجُب: نجابة حمُد في نظره، أو في قوله وفعله.

2 عوّذ: حمى.

3 ضريب: شبيه.

4 الضواري: مفردها ضاري وهو المفترس.

5 الدمسق: لقب كان لقائد جيوش الروم - ومرعش: حصن.

6 سورة: هيجان وغضب.

7 الخربا: الهلاك.

ص: 195

ومن أنصاف مطالعه التي يتمثل بها الناس:

واحر قلباه ممن قلبه شبم1

ونصفه الثاني لأجل تمام شخص المطلع:

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

ويعجبني من هذه القصيدة قوله، يخاطب سيف الدولة ويشير إليه أنه سمع فيه كلام الأعداء، وقد أحضرهم لمواجهته ولم يخرج عن إرسال المثل:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنتم الخصم والحكم

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم2

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

ومما سار من أمثالها قوله:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة

فلا تظننن أن الليث مبتسم3

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا كل شيء بعدكم عدم

إن كان سركم ما قال حاسدنا

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

وبيننا لو رعبتم ذاك معرفة

إن المعارف في أهل النهى ذمم4

كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم

ويكره الله ما تأتون والكرم

ومنها وليس لمثله مثيل

إذا ترحلت عن قوم وقد قرروا

أن لا نفارقهم فالراحلون هم

وما أحلى ما قال بعده:

شر البلاد مكان لا صديق به

وشر ما يكسب الإنسان ما يصم5

وقال من أبيات:

وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه

محال الذنب كل المحو من جاء تائبا

وقال من قصيدة:

وما كمد الحساد شيئًا قصدته

ولكنه من يزحم البحر يغرق6

وإطراق طرف العين ليس بنافع

إذا كان طرف القلب ليس بمطرق

1 شيم: باردٌ قليل الحس.

2 أُعيذها: تعبير يفيد الرقية، وهو بمعنى أحميها بالتعاويذ.

3 روي بالفعل: يبتسم.

4 النُهى: العقول، الذمم: العهود، كناية عن حفظها وعدم نسيانها.

5 يصم: يبقى وصمة وعلامة إلى آخر الدهر.

6 الكمد: الغيض - أو الغم والحزن.

ص: 196

وقوله:

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أروحانا سبلا

وقوله:

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي

وبنفسي فخرت لا بجدودي

وما أحلى ما قال في غزلها:

أي يوم سررتني بوصال

لم ترُعني ثلاثة بصدود

منها:

أين فضلي إذا قنعت من الدهـ

ـر بعيش معجل التنكيد1

عش عزيزًا أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود2

وقال من قصيدة:

وعذلت أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وقوله من قصيدة:

تحقر عندي همتي كل مطلب

ويقصر في عيني المدى المتطاول

وما أحلى ما قال بعده:

وما زلت طودا لا تزول مناكبي

إلى أن بدت للضيم في زلازل3

وله من قصيدة:

ليس التعلل بالآمال من أربي

ولا القناعة بالإقلال من شيمي4

ولا أظن بنات الدهر تتركني

حتى تسد عليها طرقها هممي

وما ألطف ما قال منها:

أرى أناسًا ومحصولي على غنم

وذكر جود ومحصولي على الكلم

لقد تصيرت حتى لات مصطبر

فالآن أقحم حتى لات مقتحم5

1 النكيد: التكدير والتنغيص.

2 البنود: الرايات والأعلام الكبيرة.

3 الطود: الشامخ المتعالي، والمناكب: جمع مفرده منكب وهو الموضع.

4 الأرب: الحاجة والمطلب، الشيمة: الخصلة والعادة.

5 لات مصطرب، ولات مقتحم. أي لات وقت اصطبار ولات مكان الاقتحام ولات بمعنى، عزّ وندر وقل.

ص: 197

وقال:

وكاتم الحب يوم البين منهتك

وصاحب الدمع لا تخفى سرائره1

وقوله:

إذا قيل رفقًا قال للحلم موضع

وحلم الفتا في غير موضعه جهل

وقال من قصيدة:

فموتي في الوغى عيشي لأني

رأيت العيش من أرب النفوس

وقال من أخرى:

إن ترمني بنكبات الدهر عن كثب

ترمي أمرأ غير رعديد ولا نكس2

وقال:

خير الطيور على القوص وشرها

يأوي الخراب ويسكن الناووسا3

وقال أيضا:

يخفي العداوة وهي خفية

نظر العدو بما أسر يبوح

وقال أيضًا:

وهبني قلت هذا الصبح ليل

أيعمى العالمون عن الضياء

وقال أيضًا:

وشغل النفس عن طلب المعالي

يبيع الشعر في سوق الكساد

ومنها:

وما ماضي الشباب بمسترد

ولا يوم يمر بمستعاد

متى لحظت بياض الشيب عيني

فقد وجدته منها في السواد

وما العضب الطريف وإن تقوى

بمنتصف من الكرم التلاد4

فإن الجرح يدمي بعد حين

غذا كان البناء على فساد

وكيف يبيت مضطجعًا جبانٌ

فرشت لجنبه شوك القتاد5

وما أحلى قوله من قصيدة:

إني وإن لمت حاسدي فما

أنكر أني عقوبة لهم

كفاني الذم أنني رجل

أكرم مال ملكته الكرم

وما أحلى ما قال بعده:

يجني الغنى للئام لو عقلوا

ما ليس يجني عليهم العدم

وقال أيضًا:

خليلك أنت لا من قلت خلي

وإن كثر التجمل والكلام

ولو لم يعل إلا ذو محل

تعالى الجيش وانحط القتام6

1 سرائر: مفردها سريره وهي دخيلة النفس.

2 رعديد: الذي يرتجف في المعركة، الجبان، والنكس: الذليل، أي الذي ينكس رأسه ويطأطئه.

3 الناووس: مقبرة النصارى، وهي معربة.

4 العضب الطريف: السيف القاطع الحديث الصنع، التلاد جمع مفردها تليد وهو القديم الموروث ضد الطريف.

5 القتاب: شجر صلب له شوك كالإبر.

6 القتام: الغبار المتصاعد أثناء المعركة.

ص: 198

وما أحلى قوله منها:

تلذ له المروءة وهي تؤذي

ومن يعشق يلذ له الغرام

ومما سار من أمثالها:

لقد حسنت بك الأيام حتى

كأنك في فم الدنيا ابتسام

تروع ركانة وتذوب ظرفا

فما ندري أشيخ أم غلام1

وقال من قصيدة:

أظمتني الدنيا فلما جئتها

مستمطرًا أمطرت عليّ مصائبا

وقال منها:

خذ من ثنائي عليك ما أستطيعه

لا تلزمني في الثناء الواجبا2

وقال من غيرها:

ولمن لبه مع غيره كيف حاله

ومن سره في جفنه كيف يكتم3

وقوله:

أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت

وإذا نطقت فإنني الجوزاء4

وإذا خفيت على الغبي فعاذر

أن لا تراني مقلة عمياء5

إن الكريم إذا أقام ببلدة

سال النضار بها وقام الماء

وقال من قصيدة:

لا تعذل المشتاق في أشواقه

حتى يكون حشاك في أحشائه

وما أحلى ما قال بعده:

إن القتيل مضرجًا بدموعه

مثل القتيل مضرجًا بدمائه6

وما أحلى ما قال من قصيدة:

إذا ما قدرت على نطفة

فإني على تركها أقدر

أصرّف نفسي كما أشتهي

وأمكلها والقنا أحمر

1 ركانة: شدة ورزانة.

2 أسطيعه: لغة في أستطيعهُ.

3 اللب: العقل.

4 الجوزاء: أحد الأبراج الفلكية.

5 عاذر: لا ألوم ولا أعنف. أجد العذر.

6 مضرجًا: ملطخًا.

ص: 199

ويطربني من مديحها قوله منها أيضًا:

كفتك المروءة ما تتقي

وآمنك الود ما تحذر

وقال:

فلا تطمعن من حاسد في مودة

وإن كنت تبديها له وتنيل1

يهون علينا أن تصاب جسومنا

وتسلم أعراض لنا وعقول

وقوله:

وما أخصك في برء بتهنئة

إذا سلمت فكل الناس قد سلموا

وقال:

ومن يجعل الضرغام للصيد بازه

تصيده الضرغام فيما تصيدا2

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم

ومن لك بالحر يحفظ اليدا

وما أحلى ما قال بعده:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضر كوضع السيف في موضع الندى

ويعجبني منها في افتخاره:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا

فسار به من لا يسير مشمرًا

وغنى به من لا يغني مغردا

ومن أمثالها:

فدع كل صوت بعدي صوتي فإنني

أنا الصائح المحكي والآخر الصدى3

وقيدت نفسي في ذراك محبة

ومن وجد الإحسان قيد تقيدا

ولقد أجاد في مديحها بقوله:

إذا سأل الإنسان أيامه الغنى

وكنت على بعد جعلتك موعدا

ومن الأمثال السائرة مطلع هذه القصيدة: لكل امرئ من دهره ما تعودا.

وقال من قصيدة:

وما التيه ظني فيهم غير أنني

بغيض إلى الجاهل المتغافل4

1 أنال: بذل وأعطي.

2 الضرغام: الأسد الغضنفر، الباز: طائر معروف يستعمل في الصيد: الباشق.

3 روي: أنا الصادح المحكي: والصادح هو البلبل المغرد، والمحكي: الذي قلد ويقلد. ويتشبه به.

والصدى: رجع الصوت.

4 التيه: الضياع.

ص: 200

وقوله:

وكيف يتم بأسك في أناس

تصيبهم فيؤلمك المصاب

وما ألطف ما قال بعده:

ترفق أيها المولى عليهم

فإن الرفق بالجاني عتاب1

وما تركوك معصية ولكن

يعاف الورد والموت الشراب2

وما جهلت أياديك البوادي

ولكن ربما خفي الصواب

وكم ذنب يولده دلال

وكم بعد يولده اقتراب

وجرم جره سفهاء قوم

وحل بغير جارمه العذاب

ومن مطالعه التي سارت أمثالًا:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام الكرائم3

ويعجبني من مديحها:

إذا كان ما تنويه فعلًا مضارعًا

مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم

وقفت وما في الموت شك لواقف

كأنك في جفن الردى وهو نائم4

وقال من قصيدة:

وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا

إذا لم يكن فوق الكرام كرائم

وقال من غيرها:

وما الحسن في وجه الفتى شرف له

إذا لم يكن في فعله والخلائق5

وقال من قصيدة:

وما في سطوة الأرباب عيب

ولا في زلة العبدان عار6

1 ترفق: تمهل - الجاني: المذنب.

2 يعاف: ينفر من الشيء ويمقته.

3 وقد روي: المكارم وهي أصح: فالكرائم: مفردها كريمة، وهي الابن والمكارم، مفردها مكرمة: وهي العمل الجيد الكريم.

4 الردى: الموت.

5 الخلائق: جمع خليقة وهي السجية والخلق الحسن.

6 السطوة: السيطرة - الأرباب: الملوك والصحاب - العبدان: جمع عبد.

ص: 201

وقال من قصيدة:

وإذا لم تجد من الناس كفؤًا

ذاتُ خدر أرادت الموت بعلا

وإذا الشيخ قال أف فما مل

حياة وإنما الضعف ملا

آلة العيش صحة وشباب

فإذا وليا عن المرء ولى

وما أحلى ما قال بعده: أ

بدًا تسترد ما تهب الدنيـ

ـيا فيا ليت جودها كان بخلًا

وقال من قصيد:

رب أمر أتاك لا تحمد الفعا

ل فيه وتحمد الأفعالا

وإذا ما خلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

ومن أنصافها: هكذا هكذا وإلا فلا لا.

وقال من قصيدة مطلعها:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

ولربما طعن الفتى أقرانه

بالرأي قبل تطاعن الأقران1

لولا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان

ولما تفاضلت النفوس ودبرت

أيدي الكماة عوالي المران2

وإذا الرماح شغلن مهجة ثائر

شغلته مهجته عن الإخوان

وقال أيضًا:

وإذا خامر الهوى قلب صب

فعليه لكل عين دليل3

وكثير من السؤال اشتياق

وكثيرمن رده تعليل

ما الذي عنده تدار المنايا

كالذي عنده تدار الشمول4

وقال من قصيدة:

ومن تفكر في الدنيا ومهجته

أقامه الفكر بين العجز والتعب

1 الأقران: الأصحاب والأنداد.

2 الكماة: الفرسان مفردها كميّ، المران: الرماح اللدنة في صلابة.

3 خامر القلب: داخله، الصب: المغرم المراهق.

4 الشمول: الخمرة إذا بُردت.

ص: 202

ومن مطالعه التي سارت أمثالًا:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وقوله منها:

إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة

فلا تستعدن الحسام اليمانيا

وللنفس أخلاق تدل على الفتى

أكان سخاء ما أتى أم تساخيا

إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذى

فلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا

خلقت ألوفًا لو رددت إلى الصبا

لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

ومن أنصافها السائرة:

ومن قصد البحر استقلَّ السواقيا1

وقال أيضًا:

فارم بي ما أردت مني فإني

أسد القلب آدمي الرواء2

وفؤادي من الملوك وإن كا

ن لساني يرى من الشعراء

وقال من قصيدة:

فما الحداثة عن حلم بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب3

ويعجبني من مديحها:

كأن كل سؤال في مسامعه

قميص يوسف في أجفان يعقوب

إذا اعترته أعاديه بمسألة

فقد عرته بجيش غير مغلوب4

وقال أيضًا:

وأتعب خلق الله من زاد همه

وقصر عما تشتهي النفس وجده

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله

ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

وما أحلى ما قال بعده:

وفي الناس من يرضى بميسور عيشه

ومركوبه رجلاه والثوب جلده

ولكن قلبًا بين جنبي ما له

مدى ينتهي بي في مراد أجده

وقال:

إذا حللت مكانا بعد صاحبه

جعلت فيه على ما قبله تيها5

1 استقل: وجدها قليلة. والسواقي: مفردها ساقية، وهي النهير الصغير.

2 أسد القلب: لي قلب أسد، آدمي الرواء: لي جسم إنسان.

3 الحداثة: صغر السن.

4 اعترته: غشيته.

5 التيه: الفخر.

ص: 203

وقوله:

وما منزل اللذات عندي بمنزل

إذا لم أبجل عنده وأكرّم1

منها:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

وعادى محبيه بقول عداته

وأصبح في ليل من الشك مظلم

أصادق نفس المرء من قبل جسمه

وأعرفها من فعله والتكلم

وأحلم عن خلي وأعلم أنه

متى أجزه حلمًا من الجهل يندم

وما كل ناو للجميل بفاعل

ولا كل فعال له بمتمم

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها

سرور محب أو إساءة مجرم

منها:

رضيت بما ترضى به لي محبة

وقدت إليك النفس قود المسلم

وقوله:

وإذا الحلم لم يكن في طباع

لم يحلّم تقدم الميلاد2

وإذا كان في الأنابيب خلف

وقع الطيش في صدور الصعاد

وقوله:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة

وإن كثرت في عين من لا يجرب

وكل امرئ يولي الجميل محبب

وكل مكان ينبت العز طيب

منها وأجاد إلى الغاية:

وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا

لمن بات في نعمائه يتقلب

وقال من قصيدة:

لا تلق دهرك إلا غير مكترث

ما دام يصحب فيه روحك البدن

فما يديم سرورًا ما سررت به

ولا يرد عليك الفائت الحزن

ما كل يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

رأيتكم لا يصون العرض جاركم

ولا يدر على مرعاكم اللبن

جزاء كل قريب منكم ملل

وحظ كل محب منكم ضغن3

وتغضبون على من نال رفدكم

حتى يعاقبه التنغيص والمنن4

وقال من قصيدة:

ومراد النفوس أهو من أن

تتعادى فيه وأن تتعانى

1 أبجل: أعظم.

2 لم يحلّم تقدم الميلاد: لا يعقل الكبر في السن.

3 الضغن: والضغينة: الحقد والبغضاء.

4 الرفد: العون والعطاء، التنغيص: تكدير العيش، المنن: جمع مِنَّة: وهي الحديث عن العطاء من قبل المعطي.

ص: 204

غير أن الفتى يلاقي المنايا

كالحات ولا يلاقي الهوانا1

ولو أن الحياة تبقى لحي

لعددنا أضلنا الشجاعانا

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تكون جبانا2

وله من قصيدة:

ولله سر في علاك وإنما

كلام العدا ضرب من الهذيان3

وقال:

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتال

وقال:

ومن يجد الطريق إلى المعالي

فلا يذر المطي بلا سنام4

وما أحلى ما قال بعده:

ولم أر في عيوب الناس نقصًا

كنقص القادرين على التمام

وملني الفراش وكان جنبي

يمل لقاءه في كل عام

ومن اختراعاته المختزنة قوله منها، ويشير إلى حمى أصابته وكانت تغشاه إذا أتى الليل

وزائرتي كأن بها حياء

فليس تزور إلا في الظلام

بذلت لها المطارف والحشايا

فعافتها وباتت في عظامي

يضيق الجلد عن نفسي وعنها

فتوسعه بأنواع السقام

إذا ما فارقتني غسلتني

كأنا عاكفان على حرام5

كأن الصبح يطردها فتجري

مدامعها بأربعة سجام6

أراقب وقتها من غير شوق

مراقبة المشوق المستهام

وتصدق وعدها والصدق شر

إذا ألقاك في الكرب العظام7

فإن أمرض فما مرض اصطباري

وإن أحمم فما حم اعتزامي

وإن أسلم فما أبقى ولكن

سلمت من الحُمام إلى الحمام 8

1 كالحات: مظلمات مدلهمات، عابسات، اله وان: الذل.

2 روي: أن تموت جبانا. والمثبت أصح.

3 الهذيان: التكلم بكلام غير معقول لمرض.

4 يذر: يترك، المطي: ما يركب، السنام: الحدبة التي تعلو ظهر البعير وقصد: بلا ركوب السنام.

5 عكف: ألزم نفسه بالأمر وداوم عليه.

6 سجام: شديدة الإنصباب.

7 الكرب العظام: الضائقات الكبيرة.

8 الحمام: الحمى. الحمام: الموت.

ص: 205

وقوله:

وللسر مني موضع لا يناله

نديم ولا يفضي إليه شراب

وما العشق إلا غرة وطماعة

يمرض قلب نفسه فيُصاب1

أعز مكان في الدنا ظهر سابح

وخير جليس في الزمان كتاب2

منها في المديح قوله في كافور:

تجاوز قدر المدح حتى كأنه

بأحسن ما يثني عليه يعاب

إذا نلت منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب

وما أحلى ما قال بعده:

وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا

له كل يوم بلدة وصحاب

من اقتضى بسوى الهندي حاجته

أجاب كل سؤال عن هل بلم3

منها:

ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة

بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم

لا تشتكون إلى خلق فتشمتهم

شكوى الجريح إلى العقبان والرخم4

وكن على حذر للناس تستره

ولا يغرك منهم ثغر مبتسم

منها:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرهم وأتيناه على الهرم

سبحان خالق نفسي كيف لذتها

فيما النفوس تراه غاية الألم

ومن أمثاله التي سارت في هجو كافور، قوله:

العبد ليس لحر صالح بأخٍ

لو أنه في ثياب الخز مولود5

لا تشتر العبد إلا والعصى معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد6

1 غرة: اغترار.

2 ظهر سابح: ظهر حصان، وروي: سرج سابح.

3 الهندي: السيف.

4 العقبان: جمع عقاب وهو طائر من الجوارح، الرخم: جمع رخمة وهو طائر من الجوارح الكبيرة.

5 الخز: الحرير الخالص.

6 أنجاس: مفردها نجس وهو القذر، مناكيد: مفردها نكد وهو قليل الخيل.

ص: 206

ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن

يسيء بي فيه كلب وهو محمود

من علم الأسود المخصي مكرمة

أقومه البيض أم آباؤه السود1

ومن أمثاله:

ومن جهلت نفسه قدره

رأى غيره منه ما لا يرى

ومن أنصافه التي سارت أمثالًا: ولا بد دون الشهد من إبر النحل.

وقال من قصيدة:

قد كنت أحذر بينهم من مثل ذا

لو كان ينفع خائفًا أن يحذرا

أعطي الزمان فما قبلت عطاءه

وأراد بي فأردت أن أتخيرا

وقال من قصيدة:

وقد يتقارب الوصفان جدًّا

وموصوفاهما متباعدان

وقوله:

نحن بنو الموتى فما بالنا

نعاف ما لا بد من شربه

تبخل أيدينا بأرواحنا

على زمان هي من كسبه

لو فكر العاشق في منتهى

حسن الذي يسبيه لم يسبه

يموت راعي الضأن في جهله

موتة جالينوس في طبه

وغاية المفرط في سلمه

كغاية المفرط في حربه

فلا قضى حاجته طالب

فؤاده يخفق من رعبه

وقال من قصيد:

إذا اشتبكت دموع في خدود

تبين من بكى ممن تباكى

ولقد رأيت، هنا في هذا القدر الذي أوردته من شعر أبي الطيب، من إرسال المثل ما تطيب به الأذواق، وتجول به فرسان الإنشاء بالحمر من جياد الأقلام في ميادين الأوراق، وعلى كل تقدير فما لأبي الطيب في حكمه وأمثاله نظير.

وهنا نكتة لطيفة وهي أن صلاح الدين الصفدي كان مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام، وهو مذهب أبي العلاء المعري، فإنه سمى ديوانه بعدما شرحه معجز أحمد فاتفق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباتة، بالديار المصرية وذاكره في أبي

1 الأسود المخصي: كافور وكان عبدًا مخصيًّا إذ كان العبيد يخصون لأنهم كانوا يخدمون النساء.

ص: 207

الطيب وأبي تمام فوجده على مذهبه، واجتمعا بعد ذلك بالشيخ أثير الدين أبي حيان، وذاكراه في ذلك فقدَّم أبا تمام، فلاماه على ذلك، فقال أنا لا أسمع لومًا في حبيب.

انتهى.

ومذهبي في ذلك مذهب الشيخ صلاح الدين ومذهب الشيخ جمال الدين، وإن كان الشيخ أثير الدين ما سمع في حبيبه لومًا، وخالف من لامه فيه، وفند1 فمن المستحيل رجوع أبي بكر عن حب أحمد، وقد عن لي أن أورد هنا ما سارت في الخافقين حكمه وأمثاله، وانقاد أهل الذوق السليم لطاعته لما ورد عليهم مثاله، وهو تأليفي الذي وسمته "بتغريد الصادح" وما ذاك إلا أن سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي، نور الله ضريحه وجعل من الحريق المختوم غبوقه وصبوحه، كان يقول: أورد أن أنتزع من الصادق والباغم2 أرجوزة مشتملة على أمثلة مرقصة وحكم بديعة، بشرط أن يكون البيت مسنجمًا مع الذي قبله والذي بعده، ولم يتيسر لي ذلك لصعوبة المسلك، انتهى.

ولما قدر الله تعالى ما قدره من الاختفاء بدمشق، سنة ثلاث عشرة وثمانمائة عند حلول الملك الناصر بها، وأنا في خدمة المقر الأشرف القاضوي محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، كان الصادح والباغم بين كتبه فنظر فيه يومًا، وذكر قول قاضي القضاة صدر الدين، ورسم لي بذلك، فانتزعت له هذه الأرجوزة التي سارت غرر أمثالها، ولم يسمح الزمان لمؤلف بمثالها، ومن سافر فيها نظره وكان الذوق سليم رفيقه، علم أنها تضرب بها الأمثال على الحقيقة، وسميتها بتغريد الصادح، وصدرتها من نظمي بأبيات تقوم مقام الديباجة والخطبة هي:

الحمد لله الذي هذبنا

واختارنا للعلم إذ أدبنا

فإن للآداب فضلًا يذكر

فلا تخطاب كل من لا يشعر

يا مدَّعي الحكمة في كلامه

ومن يروم السحر في نظامه3

خد حكمًا وكلها أمثال

ليس لها في عصرنا مثال

ألفها ابن حجة للنُجَبا

لأن فيها رأس مال الأدبا4

واختارها من مفردات الصادح

فكان ذا من أكبر المصالح

من كل بيت إن تمثلت به

سكنت من سامعه في قلبه

1 فند: بين الأسباب.

2 الباغم: صاحب الصوت الرخيم.

3 يروم: يقصد.

4 النُجبا: ترخيم نجباء مفردها النجيب وهو الذكي.

ص: 208

وقد تهجمت على الشريف

لكنني خاطبت بالمعروف

وجئت من كلامه بنبذة

تجلب للسامع كل لذة

وترفع الأديب إن تمثلا

بها إذا خاطب أرباب العلا

من حكم تتبعها وصايا

مقبولة من أحسن السجايا

من أول وأوسط وآخر

جمعتها جمع أديب شاعر

حتى دنا البعيد للقريب

وانتظم البديع بالغريب

وانسجمت في جمعها أرجوزه

بديعة غريبة وجيزه

وكل من أنكر ما أحكمت في

ترتيبها يكون غير منصف

فلينظر الأصل ليعرف السبب

ويعترف إن كان من أهل الأدب

أول ما يرغب في استهلاله

من نظمه المحكم في مقاله

وهذا أوّل الصادح والباغم:

العيش بالرزق وبالتقدير

وليس بالرأي ولا التدبير

في الناس من تسعده الأقدار

وفعله جميعه إدبار

ومن هنا يأتي هذا التأليف جميعه على هذا النمط، وما أردت بهذا التنبيه إلا يقظة المتأمل:

من عرف الله أزال التهمة

وقال كل فعله للحكمة

من أنكر القضاء فهو مشرك

إن القضاء بالعباد أملك

ونحن لا نشرك بالله ولا

نقنط من رحمته إذ نبتلى1

عار علينا وقبيح ذكر

أن نجعل الكفر مكان الشكر

وليس في العالم ظلم جاري

إذ كان ما يجري بأمر الباري

وأسعد العالم عند الله

من ساعد الناس بفضل الجاه2

ومن أغاث البائس الملهوفا

أغاثه الله إذا أخيفا

إن العظيم يدفع العظيما

كما الجسيم يحمل الجسيما

فإن من خلائق الكرام

رحمة ذي البلاء والأسقام3

وإن من شرائط العلو

العطف في البؤس على العدو

1 نبتلي: نصاب بالمصائب امتحانًا وتجريبًا.

2 الجاه: كثرة المال والغنى.

3 الأسقام: الأمراض.

ص: 209

وقد علمت واللبيب يعلم

بالطبع لا يرحم من لا يرحم1

فالمرء لا يدري متى يمتحن

فإنه في دهره مرتهن

وإن نجا اليوم فما ينجو غدا

لا يأمن الآفات إلا ذو الردى

لا تغترر بالحفظ والسلامه

فإنما الحياة كالمدامه

والعمر مثل الكاس والدهر القذر

والصفو لا بدّ له من الكدر

انظر أيها المتأمل كيف اتبعت قوله: فإنما الحياة كالمدامه، بقوله: فالعمر مثل الكاس. وإذا نظرت إلى آخر البيت رأيت الاتفاق العجيب، منها:

وكل إنسان فلا بد له

من صاحب يحمل ما أثقله

جهد البلاء صحبة الأضداد

فإنها كي على الفؤاد2

أعظم ما يلقى الفتى من جهد

أن يبتلى في جنسه بالضد

فإنما الرجال بالإخوان

واليد بالساعد والبنان

لا يحقر الصحبة إلا جاهل

أو مارق عن الرشاد غافل3

صحبة يوم نسب قريب

وذمة يحفظه اللبيب

وموجب الصداقة المساعده

ومقتضى المودة المعاضده

لاسيما في النوب الشدائد

والمحن العظيمة الأوابد4

فالمرء يحيى أبدا أخاه

وهو إذا ما عد من أعداه

وإن من عاشر قوما يوما

ينصرهم ولا يخاف لوما

وإن من حارب من لا يقوى

لحربه جر إليه البلوى

فحارب الأكفاء والأقرانا

فالمرء لا يحارب السلطانا

واقنع إذا حاربت بالسلامه

واحذر فعالا توجب الندامة

فالتاجر الكيس في التجاره

من خاف في متجره الخساره5

يجهد في تحصيل رأس ماله

ثم يروم الربح باحتياله

وإن رأيت النصر قد لاح لكا

فلا تقصر واحترز أن تهلكا

واسبق إلى الأجود سبق الناقد

فسبقك الخصم من المكايد6

1 اللبيب: الذكي الماهر.

2 كي: لذع.

3 المارق: الخارج، الرشاد: الهدى.

4 الأوابد: العظيمة. النوب: المصائب.

5 الكيس: اللبق الماهر.

6 الناقد: الذي يحسن التميز بين الجيد والرديء، المكايد: مفردها مكيدة وهي الحيلة.

ص: 210

وانتهز الفرصة إن الفرصة

تصير إن لم تنتهزها غصة

كم نظر الغالب يفترك

عنه التوقي واستهان فهلك1

ومن أضاع جنده في السلم

لم يحفظوه في لقاء الخصم

وإن من لا يحفظ القلوبا

يخذل حين يشهد الحروبا

والجند لا يرعون من أضاعهم

كلا ولا يحمون من أجاعهم

وأضعف الملوك طرًّا عقدا

من غره السلم فأقصى الجندا

والحزم والتدبير روح العزم

لا خير في عزم بغير حزم

والحزم كل الحزم في المطاولة

والصبر لا في السرعة المزاوله2

وفي الخطوب تظهر الجواهر

ما غلب الأيام إلا الصابر

لا تيأسن من فرج ولطف

وقوة تظهر بعد ضعف

فربما جاء بعد الياس

روح بلا كد ولا التماس3

في لمحة الطرف بكاء وضحك

وناجذ باد ودمع ينسفك4

تنال بالرفق وبالتأني

ما لم تنل بالحرص والتعني

ما أحسن الثبات والتجلدا

والحيرة والتبلدا

ليس الفتى إلا الذي إن طرقه

خطب تلقاه بصبر وثقه

إذا الرزايا أقبلت ولم تقف

فثم أحوال الرجال تختلف

وكم لقيت لذة في زمني

فاصبر الآن لهذي المحن

فالموت لا يكون إلا مرة

والموت أحلى من حياة مره

إني من الموت على يقين

فاجهد الآن لما يقيني5

صبرًا على أهوالها ولا ضجر

وربما فاز الفتى إذا صبر

لا يجزع الحر من المصائب

كلا ولا يخضع للنوائب

فالحر للعبء الثقيل يحمل

والصبر عند النائبات يجمل

لكل شيء مدة وتنقضي

ما غلب الأيام من رضي

قد صدق القائل في الكلام

ليس النهى بعظم العظام

لا خير في جسامة الأجسام

بل هو في العقول والأفهام

فالخيل للحرب وللجمال

والإبل للحمل والترحال

1 التوقي: الاحتراس.

2 المزاولة: الممارسة.

3 الكد: التعب، الالتماس: طلب الشيء ممن هو فوقك رتبة.

4 الناجذ: الناب والسن.

5 يقيني: من وقى؛ حمى.

ص: 211

لا تحتقر شيئا صغيرا محتقر

فربما أسالت الدم الإبر

لا تحرج الخصم ففي إحراجه

جميع ما تكره من لجاجه1

لا تطلب الفائت باللجاج

وكن إذا كويت ذا إنضاج2

فعاجز من ترك الموجودا

طماعة وطلب المفقودا

وفتش الأمور عن أسرارها

كم نكتة جاءتك مع إظهارها

لزمت للجهل قبيح الظاهر

وما نظرت حسن السرائر

ليس يضر البدر في سناه

إن الضرير قض لا يراه

كم حكمة أضحت بها المحافل

نافقة وأنت عنها غافل

ويغفلون عن خفي الحكمه

ولو رأوها لأزالوا التهمه

كم حسن ظاهره قبح

وسمج عنوانه مليح3

والحق قد تعلمه ثقيل

يأباه إلا نفر قليل

فالعاقل الكامل في الرجال

لا ينثني لزخرف المقال

إن العدو قوله مردود

وقلما يصدق الحسود

لا تقبل الدعوى بغير شاهد

لا سيما إن كان من معاند

أيؤخذ البريء بالسقيم

والرجل المحسن باللئيم

كذاك من يستنصح الأعادي

يردونه بالغش والفساد4

إنَّ أكلَّ من ترى أذهانا

من حسب الإساءة الإحسانا5

فادفع إساءة العدا بالحسنى

ولا تخل يسراك مثل اليمنى

وللرجال فاعلمن مكايد

وخدع منكرة شدائد

فالندب لا يخضع للشدائد

قط ولا يغتاظ بالمكايد6

فرقع الخرق بلطف واجتهد

وامكر إذا لم ينفع الصدق وكد

فهكذا الحازم إذ يكيد

يبلغ في الأعداء ما يريد

وهو بريء منهم في الظاهر

وغيره مختصب الأظافر7

1 اللجاجة: التمادي في العناد.

2 اللجاج: الإلحاح.

3 السمج: القبيح الذي لا يطاق.

4 يردونه: يهلكونه من أردى: أهلك.

5 أكل: من الكلال وهو الفساد.

6 الندب: الذي ينتدب لقضاء الحاجة والنجدة، يغتاظ: يغضب ويثور.

7 متخضب: مدهون، مصبوغ.

ص: 212

والشهم من يصلح أمر نفسه

ولو بقتل ولده وعرسه

فإن من يقصد قلع ضرسه

لم يعتمد إلا صلاح نفسه

وإن من خص اللئيم بالندا

وجدته كمن يربي أسدا1

وليس في طبع اللئيم شكر

وليس في أصل الدنيء نصر

وإن من ألزمه وكلفه

ضد الذي في طبعه ما أنصفه

كذاك من يصطنع الجهالا

ويؤثر الأرذال والأنذال2

لو أنكم أفاضل أحرار

ما ظهرت بينكم الأسرار

إن الأصول تجذب الفروعا

والعرق دساس إذا أطيعا3

ما طاب فرع أصله خبيث

ولا زكا من مجده حديث

قد يدركون رتبا في الدنيا

ويبلغون وطرا من بغيا

لكنهم لا يبلغون في الكرم

مبلغ من كاب له فيها قدم

وكل من تمايلت أطرافه

في طيها وكرمت أسلافه

كان خليقًا بالعلا وبالكرم

وبرعت في أصله حسن الشيم4

لولا بنو آدم بين العالم

ما بان للعقول فضل العالم

فواحد يعطيك فضلا وكرم

فذاك من يكفره فقد ظلم

وواحد يعطيك للمصانعة

أو حاجة له إليك واقعه5

لا تشرهن إلى حطام عاجل

كم أكلة أودت بنفس الآكل

واحذر أخي يا فتى من الشره

وقس بما رأيته ما لم تره6

فليس من قبل الفتى أو كرمه

إفساد شخص كامل لقرمه7

فالبغي داء ماله دواء

ليس لملك معه بقاء

والبغي فاحذره وخيم المرتع

والعجب فاتركه شديد المصرع

والغدر بالعهد قبيح جدًّا

شر الورى من ليس يرعى العهدا

1 الندا: العطاء والهبة والكرم.

2 يصطنع: يستعملهم على أعماله.

3 دساس: مؤثر. وهو من قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في علم الوراثة: "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس".

4 خليقًا: جديرًا.

5 المصانعة: التزلف، والمداهنة والمداراة.

6 الشره: النهمفي الأكل وشدة الجشع والطمع.

7 قرمه: شهوته ورغبته.

ص: 213

عند تمام الأمر يبدو نقصه

وربما ضر الحريص حرصه

وربما ضرك بعض مالكا

وساءك المحسن من رجالكا

فالمرء يفدي نفسه بوفره

عساه أن ينجو به من أسره

تمت، وختمها شيخنا رحمه الله بقوله:

لا تعطين شيئًا بغير فائده

فإنها من السجايا الفاسده

هذا الذي ألفته واخترته

من رجز الشريف وانتخبته

وحرمة الآداب يا أهل الأدب

إن الشريف قد أتانا بالعجب

قلنا جميعًا إذ سمعنا رجزه

كم قد أتى محمد بمعجزه

من كل بيت شطره قصيد

وكلنا لبيته عبيد

فرحمة الله له في الآخرة

خاتمة مع الهبات الوافرة

ثم الصلاة والسلام دائمًا

على الذي للرسل جاء خاتمًا

انتهى ما أوردته من أمثال أبي الطيب المتنبي، وأمثال الصادح والباغم، ولم أقصد بذلك إلا أخذ ما يحتاج المتأدب إليه، في إرسال المثل على أنواعه، خصوصًا أهل الإنشاء فإنه حلبة جولاتهم، وعمدة فرسانهم، وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته:

رجوتكم نصحاء في الشدائد لي

لضعف رشدي واستسمنت ذا ورم

فقوله: استسمنت ذا ورم من الأمثال السائرة، ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته:

أنوار بهجة إرسالها مثلًا

يلوح أشهر من نار على علم

فقوله: أشهر من نار على علم، من الأمثال السائرة، وبيتي:

وكم تمثلت إذ أرخوا شعورهم

وقلت: بالله خلوا الرقص في الظلم

فالرقص في الظلم من الأمثال السائرة، ولكن قولي لهم بعد إرخاء الشعور: خلوا الرقص في الظلم، لا يخفى على الحذاق من أهل الأدب.

ص: 214