الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر التوشيح:
توشيحهم بملا تلك الشعور إذا
…
لفوه طيا يعرفنا بنشرهم
اتفق علماء البديع على أن التوشيح: أن يكون معنى أول الكلام دالًا على لفظ آخره، ولهذا سموه التوشيح فإنه ينزل فيه المعنى منزلة الوشاح، وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح، وهذا النوع فرَّعه1 قدامة من ائتلاف القافية، مع ما يدل عليه سائر البيت، وقال فيه: التوشيح هو أن يكون في أول البيت معنى، إذا فهم فهمت منه قافية البيت، بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه، من جنس معنى القافية بلفظه.
وأورد ابن أبي الأصبع في "تحرير التحبير" من أعظم الشواهد على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2 فإن في معنى اصطفاء المذكورين، ما يعلم منه الفاصلة، لأن المذكورين نوع من جنس العالمين.
ومن الأمثلة الشعرية، قول الراعي النميري:
فإن وزن الحصى ووزنت قومي
…
وجدت حصى ضريبتهم رزينا3
فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى، وتحقق أن القافية
1 فرعه: جعله فرعًا.
2 آل عمران: 33/ 3
3 الضريبة: السجية، رزينا: للمذكر والمؤنث: ثقيلًا.
مجردة مطلقة رويها النون، وحرف إطلاقها الألف، ورأى في صدر البيت ذكر الزنة، تحقق أن تكون القافية رزينًا ليس إلا.
ومن عجائب أمثلة هذا النوع ما حكي عن عمر بن أبي ربيعة أنه أنشد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما:
تشط1 غدًا دار جيراننا. فقال له عبد الله: وللدار بعد غد أبعد
فقال عمر: هكذا والله قلت: فقال عبد الله بن العباس: وهكذا يكون.
ويقرب من هذه القصة قصة عديّ بن الرقاع، حين أنشد الوليد بن عبد الملك، بحضرة جرير والفرزدق، قصيدته التي مطلعها:"عرف الديار توهمًا فاعتادها" حتى انتهى إلى قوله: "تزجي أغن كأن إبرة روقه2". ثم شغل الوليد عن الاستماع، فقطع عدي الإنشاد، فقال الفرزدق لجرير: ما تراه يقول! فقال جرير: أراه يستلب بها مثلًا. فقال الفرزدق: إنه سيقول: قلم أصاب من الدواة مدادها. فلما عاد الوليد إلى الاستماع، وعاد عدي إلى الإنشاء، قال البيت: فقال الفرزدق: والله لما سمعت صدر بيته رحمته، فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدًا.
قال زكي الدين بن أبي الأصبع: الذي أقوله إن بين ابن العباس وبين الفرزدق، في استخراجهما العجزين، كما بينهما في مطلق الفضل، وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلوم، وأنا أذكر الفرق: فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم مطلعها مع معظمها، وعلم أنها دالية مردفة بألف، وهي من وزن قد عرف، ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفًا لها، قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه بالقلم في سواده، وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح أن فيها ما يدل على عجز البيت، بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء، وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي، ولا رويه من أي الحروف، ولا حركة رويه من أي الحركات، فاستخراج عجزه ارتجالًا في غاية العسر ونهاية الصعوبة، لولا ما أمد الله تعالى به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم، انتهى كلام ابن أبي الأصبع.
وبين التوشيح والتصدير فرق ظاهرمثل الصبح، ولم يحصل الالتباس إلا لكون كل منهما يدل صدره على عجزه، والفرق أن دلالة التصدير لفظية، ودلالة التوشيح معنوية،
1 تشط: تبعد.
2 تزجى تسوق، الأغن: الخشف وهو ولد الظبية ذي الصوت الذي به غنة، الإبرة: الطرف، روقه: قرنه.
والفرق بين التوشيح والتمكين أيضًا أن الوشيح قد تقدم أنه لا بد أن يتقدم قافيته معنى يدل عليها، والتمكين بخلاف ذلك.
والعميان لم ينظموا أنواع التوشيح في بديعيتهم، وبيت صفي الدين:
هم أرضعوني ثدي الوصل حالفة
…
فكيف يحصل منها حال منفطمي1
فقصيدة صفي الدين قد علم أنها ميمية، وقد مر على السامع منها عدة أبيات، وقد صدر بيت التوشيح بذكر الرضاع والثدي، فما يخفى أن تكون القافية منفطمًا إلا على كل أجنبي من هذا العلم. ولقد برز في حسن هذا التركيب باستجلاب الرقة على من تقدمه.
وبيت الشيخ عز الدين:
نومي وعقلي بتوشيح الهوى سلبا
…
فبت صبًّا بلا حُلم ولا حِلم
قال في شرحه: الهوى وشحني برداه غطاني، فسلب نومي وعقلي فصرت بلا حلم ولا حلم. وهذه عبارته بنصها.
وبيتي:
توشيحهم بملا تلك الشعور إذا
…
لفوه طيا يعرفنا بنشرهم
هذ النوع أعني التوشيح يفتقر الناظم إلى قدح زناد الفكر في سبك معانيه، مع الملكة والبسطة في علم الأدب وحسن التصرف، لا سيما إذا التزم بتسمية النوع، وأبرز التسمية منتظمة في سلك التورية من جنس الغزل، فتسمية النوع هنا قد عرفت والإتيان في هذا البيت بلفظة الملا، هو الذي رشح جانب التوشيح الجائل على العاتق والكشف، وأما توشيح الهوى في بيت الشيخ عز الدين، فلم ينسج على منوال مقبول، لأن استعارة الوشاح للهوى المقصور الذي هو الغرام، لم يفهم منها شيء يقرب من التشبيه، فإن علماء البديع قالوا: الاستعارة هي ذكر الشيء باسم غيره، وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه. وعلى هذا التقدير تكون استعارة الملا للشعور، في حالة توشيح الأحباب بها، هي الاستعارة التي يستعار منها المحاسن الأدبية، فإن حسن التشبيه قد غازل بعيون كماله غزلها، والتصريح في البيت، بلفظ اللف والنشر والطي، يعرفه من له أدنى ذوق، مع أني ما اكتفيت بذلك حتى قلت بعد اللف والطي: تعرفنا، وتعرفنا فيها الاشتراك بين المعرفة والعرف، فإذا تقرر أن القافية ميمية، ما يتصور في ذوق أن تكون القافية غير نشرهم، وقد اجتمع في هذا البيت من أنواع البديع: التورية، وحسن الاستعارة، والترشيح، والمطابقة، والبسط، والانسجام، والتمكين، والسهولة، والتوشيح الذي هو العمدة. والله أعلم بالصواب.
1 حافلة: ملأى.