المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله البديع الرفيع، الذي - خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي - جـ ١

[الحموي، ابن حجة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد وتقديم:

- ‌التعريف بالكاتب:

- ‌مقدمة الكاتب:

- ‌الجناس:

- ‌ذكر الجناس المركب والمطلق:

- ‌ذكر الجناس الملفق:

- ‌الجناس المذيل واللاحق:

- ‌الجناس التام والمطرف:

- ‌الجناس المصحف والمحرف

- ‌الجناس اللفظي والمقلوب:

- ‌ذكر الجناس المعنوي:

- ‌ذكر الاستطراد:

- ‌ذكر الاستعارة:

- ‌ذكر الاستخدام:

- ‌ذكر الهزل الذي يراد به الجد:

- ‌ذكر المقابلة:

- ‌ذكر الالتفات:

- ‌ذكر الافتنان:

- ‌ذكر الاستدراك:

- ‌ذكر الطي والنشر:

- ‌ذكر الطباق:

- ‌ذكر النزاهة:

- ‌ذكر التخيير:

- ‌ذكر الإبهام:

- ‌ذكر إرسال المثل:

- ‌ذكر التهكم:

- ‌ذكر المراجعة:

- ‌ذكر التوشيح:

- ‌ذكر تشابه الأطراف:

- ‌ذكر التغاير:

- ‌ذكر التذييل:

- ‌ذكر التفويف:

- ‌ذكر المواربة:

- ‌ذكر الكلام الجامع:

- ‌ذكر المناقضة:

- ‌ذكر التصدير أو رد العجز على الصدر:

- ‌ذكر القول بالموجب أو أسلوب الحكيم:

- ‌ذكر الهجو في معرض المدح:

- ‌ذكر الاستثناء:

- ‌ذكر التشريع:

- ‌ذكر التتميم:

- ‌ذكر تجاهل العارف:

- ‌ذكر الاكتفاء:

- ‌ذكر مراعاة النظير:

- ‌ذكر التمثيل:

- ‌ذكر التوجيه:

- ‌ذكر عتاب المرء نفسه:

- ‌ذكر القسم:

- ‌ذكر حسن التخلص:

- ‌ذكر الاطراد:

- ‌ذكر العكس:

- ‌ذكر الترديد:

- ‌ذكر التكرار:

- ‌ذكر المذهب الكلامي:

- ‌ذكر المناسبة:

- ‌ذكر التوشيع:

- ‌ذكر التكميل:

- ‌ذكر التفريق:

- ‌ذكر التشطير:

- ‌ذكر التشبيه

- ‌مدخل

- ‌التشبيه بالتلميح:

- ‌ذكر تشبيه شيئين بشيئين:

- ‌ذكر الانسجام

- ‌الانسجام في النثر

- ‌الانسجام في الشعر:

- ‌ذكر التفصيل:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌مقدمة الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله البديع الرفيع، الذي

‌مقدمة الكاتب:

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله البديع الرفيع، الذي أحسن ابتداء خلقنا بصنعته، وأولانا جميل الصنيع فاستهلت الأصوات ببراعة توحيده وهو البصير السميع، أدّب نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه حتى أرشدنا، جزاه الله عنا خيرًا إلى سلوك الأدب وأوضح لنا بديعه وغريبه. نحمده حمدًا يحصن به التخلص من غزل الشهوة إلى حسن الختام، ونشكره شكر من شعر ببديع صفاته فأحسن النظم، وأعوذ بالله من قوم لا يشعرون بهذا النظام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة شاعر بأنه الواحد، وأن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث من بيت عربي، فصاحته على الأعراب والإعراب أعظم شاهد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين هم نظام هذا البيت الشريف، ودوائر بحره وأنواع بديعه وديباج صدره، وسلم تسليمًا كثيرًا.

وبعد: فهذه البديعية التي نسجتها بمدحه صلى الله عليه وسلم، على منوال طرز البردة، [و] كان مولانا المقر الأشرف العالي المولوي القاضوي المخدومي الناصري، سيدي محمد بن البارزي الجهني الشافعي، صاحب ديوان الإنشاء، الشريف بالممالك الإسلامية المحروسة، جمل الله الوجود بوجوده، هو الذي ثقف لي هذه الصعدة وحلب لي ضرعها الحافل، لحصول هذه الزبدة، وما ذاك إلا أنه وقف بدمشق المحروسة على قصيدة بديعية للشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله تعالى، التزم فيها بتسمية النوع البديعي، وورى بها من جنس الغزل، ليتميز بذلك على الشيخ صفي الدين الحلي تغمده الله تعالى برحمته، لأنه ما التزم في بديعيته بحمل هذا العبء الثقيل غير أن الشيخ عز الدين ما أعرب عن بناء بيوت أذن الله أن ترفع، ولا طالت يده لإبهام العقادة إلى شيء من إشارات ابن أبي

ص: 17

الأصبع، وربما رضي، في الغالب، بتسمية النوع ولم يعرب عن المسمى، ونثر شمل الألفاظ والمعاني، لشدة ما عقده نظمًا.

فيا دارها بالخيف إن مزارها

قريب ولكن دون ذلك أهوال

فاستخار الله مولانا الناصري، المشار إليه، ورسم لي بنظم قصيدة أطرز حلتها ببديع هذا الالتزام، وأجازي الحلي برق السحر الحلال، الذي ينفث في عقد الأقلام، فصرت أشيد البيت فيرسم لي بهدمه.

وخراب البيوت، في هذا البناء صعب على الناس، ويقول: بيت الصفي أصفى موردًا، وأنور اقتباسًا. فأسن كل ما حده الفكر؛ وأراجعه ببيت له على المناظرة طاقة، فيحكم لي بالسبق وينقلني إلى غيره، وقد صار لي فكرة إلى الغايات سباقة. فجاءت بديعية هدمت بها ما نخته الموصلي، في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي1 مقيدًا بتسمية النوع، وهو من ذلك محلول العقال، وسميتها: تقديم أبي بكر، عالمًا أن لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال.

وكان المشار إليه، عظم الله شأنه، هو الذي مشى أمامي وأشار إلى هذا السلوك وأرشد، فاقتديت برأيه، وهل يقتدي أبو بكر بغير محمد؟

1 يقصد صفي الدين الحلي.

ص: 18

في حسن الابتداء وبراعة الاستهلال:

حسن الابتداء عند المتقدمين:

لي في ابتداء مدحكم يا عُرب ذي سلم

براعة تستهل الدمع في العلم

اعلم أنه اتفق علماء البديع، على أن براعة المطلع عبارة عن طلوع أهلة1 المعاني واضحة في استهلالها، وأن لا يتجافى بجنوب الألفاظ عن مضاجع الرقة، وأن يكون التشبيب بنسبها مرقصا عند السماع، وطرق السهولة متكفلة لها بالسلامة من تجشم الحزن2 ومطلعها، مع اجتناب الحشو، ليس له تعلق بما بعده. وشرطوا أن يجتهد الناظم في تناسب قسميه، بحيث لا يكون شطره الأول أجنبيا من شطره الثاني.

وقد سمى ابن المعتز براعة الاستهلال، حسن الابتداء، وفي هذه التسمة تنبيه على تحسين المطالع، وإن أخل الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء، وأورد في هذا الباب قول النابغة:

كليني لهمٍ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب3

قال زكي الدين بن أبي الأصبع: لعمري لقد أحسن ابن المعتز الاختيار، فإني أظنه نظر بين هذا الابتداء وبين ابتداء امرئ القيس، حيث قال:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل4

1 أهلة المعاني: بداياتها

2 الحزن: من الأرض الوعر، ومن الكلام الغريب المعقد.

3 ناصب: متعب.

4 سقط اللوى الدخول وحومل: أسماء أماكن في الصحراء.

ص: 19

فرأى ابتداء امرئ القس، على تقدمه وكثرة معانيه، متفاوت القسمين جدًّا لأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني، وليس في الشطر الثاني شيء من ذلك. وعلى هذا التقدير مطلع النابغة أفضل، من جهة ملايمة ألفاظه وتناسب النفوس، إلا الاقتصار على سماع صدر البيت؛ فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في شطر بيت، وإذا تأمل الناقد البيت بكماله، ظهر له تفاوت القسمين.

وقال، أعني ابن أبي الأصبع: إذا وصلت إلى قول البحتري، من هذا الباب، وصلت إلى غاية لا تدرك، وهو قوله:

بودّي لو يهوى العذول ويعشقُ

ليعلم أسباب الهوى كيف تعلق

انتهى كلام زكي الدين بن أبي الأصبع.

ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي حيث قال:

أتراها لكثرة العشاق

تحسب الدمع خلقة في المآقي

ومثله قوله، "أي قول حبيب":

حشاشة نفس ودّعت يوم ودعوا

فلم أدر أي الظاعنين أشيع1

وما ألطف قول أبي تمام في هذا الباب:

لا أنت أنت ولا الديار ديار

خف الهوى وتقضت الأوطار2

ومثله قول أبي العلاء المعري:

يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر

لعل بالجزع أعوانا على السهر

وقد خلب القلوب ابن المعتز في تناسب القسمين بقوله:

أخذت من شبابي الأيام

وتولى الصبا عليه السلام

1 حشاشة النفس: بقيتها - الظاعنين الراحلين.

2 الأوطار: مفردها وطر وهي الحاجة.

ص: 20

وما أحلى ما ناسب ابن هانئ، قسمي مطلعه بالاستعارات الفائقة، حيث قال:

بسم الصباح لأعين الندماء

وانشق جيب غلالة الظلماء1

وقال الشريف أبو جعفر البياضي، يشير إلى الرفق بالإبل عند السرى2، وتلطف ما شاء في تناسب القسمين، حيث قال:

رفقًا بهن فما خلقن حديدا

أو ما تراها أعظمًا وجلودا

وهذه القصيدة، طريقها الغريب، لم يسلكها غيره، فإن نسجها جميعها على هذا المنوال ومنها:

يفلين ناصية الفلا بمناسم

وسم الوجا بدمائهن البيدا3

فكأنهن نثرن درًّا بالخطا

ونظمن منه بسيرهن عقودا

ومما يعذب في الذوق من هذا الباب قول ابن قاضي ميلة:

يزيد الهوى دمعي وقلبي المعنف

ويحيي جفوني الوجد وهو المكلف

وقد نبه مشايخ البديع على يقظة الناظم في حسن الابتداء، فإنه أول شيء يقرع الأسماع ويتعين على ناظمه النظر في أحوال المخاطبين والممدوحين، وتفقد ما يكرهون سماعه ويتطيرون منه، ليتجنب ذكره، ويختار لأوقات المدح ما يناسبها. وخطاب الملوك في حسن الابتداء هو العمدة في حسن الأدب فقد حكي أن أبا النجم الشاعر، دخل على هشام بن عبد الملك في مجلسه، فأنشده من نظمه:

صفراء قد كادت ولما تفعل

كأنها في الأفق عين الأحول4

وهشام بن عبد الملك أحول، فأخرجه وأمر بحبسه.

وكذلك اتفق لجرير مع أبيه عبد الملك، فإنه دخل عليه وقد مدحه بقصيدة حائية أولها:"أتصحو أم فؤادك غير صاح". فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن الفاعلة.

1 الجيب: من الثوب مكان إدخال الرأس منه - الغلالة: الثوب والستر.

2 السرى: السير ليلًا.

3 يفلين: يثلمن - الناصية: غرة الشيء وأوله وناصية الأرض وجهها - الفلا: الفلاة: وهي الأرض الواسعة - المناسم: مفردها منسم وهو للإبل بمثابة القدم للإنسان - وسم: علّم - الوجا: نوع من السير الذي يشقق المناسم.

4 هذا البيت في مدح هشام بن عبد الملك الأحول وهو في صفة الشمس قبيل الغروب.

ص: 21

ومن هذه الجهة بعينها عابوا على أبي الطيب المتنبي خطابه لممدوحه، في مطلع قصيدة حيث قال:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكنَّ أمانيا

ومن مستقبحات الابتداء، قول البحتري وقد أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي أولها:"لك الويل من ليل تقاصر آخره" فقال: بل لك الويل والخزي، وأما قصة إسحاق بن إبراهيم الموصلي، في هذا الباب، فإني أنفعل وأخجل عند سماعها، وما ذاك إلا أنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان، فشرع في إنشاء قصيدة نزل بمطلعها إلى الحضيض، وكان هو وحكاية الحال في طرفي نقيض، وهو:

يا دار غيرك البلا ومحاك

يا ليت شعري ما الذي أبلاك

فتطير المعتصم من قبح هذا المطلع، وأمر بهدم القصر على الفور، فتعوذ بالله من آفة الغفلة، هذا مع يقظة إسحاق وسير الركبان بحسن محاضرته ومنادمته للخلفاء، ولكنه قد يخبو الزناد وقد يكبو الجواد، مع أنه قيل: إن أحسن ابتداء ابتدأ به مولد، قول إسحاق الموصلي حيث قال:

هل إلى أن تنام عيني سبيل

إن عهدي بالنوم عهد طويل

فانظر إلى هذا الأديب الحاذق المتيقظ، كيف استطردت به خيول السهو إلى أن خاطب المعتصم، في قصر رياحين تشييده غضة1 بخطاب الأطلال البالية، وانظر إلى حشمة أبي نواس كيف خاطب الدمن بخطاب تود القصور العالية أن تتحلى بشعاره، مع بلوغه في تناسب الطرف الأقصى، حيث قال:

لمن دمن تزداد حسن رسوم

على طول ما أقوت وطيب نسيم2

وقصة ذي الرمة مع عبد الملك تقارب قصة إسحاق مع المعتصم، فإنه دخل عليه يومًا فأمره بإنشاد شيء من شعره فأنشد قوله:"ما بال عينك منها الماء ينسكب" وكان يعبين عبد الملك رمش فهي تدمع أبدًا، فتوهم أنه خاطبه وعرض به، فقال له: ما سؤالك عن هذا يابن الفاعلة. فمقته وأمر بإخراجه.

1 حديث البناء.

2 دمن جمع مفرده دمنه، وهي آثار الناس وما سودوا - رسوم: جمع مفرده رسم وهو الأثر - أقوت: خربت.

ص: 22

حسن الابتداء عند المحدثين:

انتهى ما أوردته من حسن الابتداء للعرب والمولدين وفحول الشعراء، ونبهت على حسنه وقبيحه، ولكن جذبتني يا أخا العرب نسبة المتأخرين إلى أن أثبت، في هذا المحل، تشبيهًا ونسيبها وأظهر، في شرح هذه البديعة الآهلة، بديعها وغريبها ليعلم من تنزه في هذه الحدائق الزاهرة، أن ما ربيع الآخر من ربيع الأول ببعيد، وأن لكل زمان بديعًا تمتع بلذة الجديد، وهنا بحث لطيف وهو أن الاستشهاد بكلام المولدين وغيرهم من المتأخرين ليس فيه نقص، لأن البديع أحد علوم الأدب الستة، وذلك أنك إذا نظرت في الكلام العربي، إما أن تبحث عن المعنى الذي وضع له اللفظ، وهو علم اللغة، وإما أن تبحث عن ذات اللفظ بحسب ما يعتريه، وهو علم التصريف، وإما أن تبحث عن المعنى الذي يفهم من الكلام المركب بحسب اختلاف أواخر الكلم، وهو علم العربية، وإما أن تبحث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال بحسب الوضع اللغوي، وهو علم المعاني، وإما أن تبحث عن طرق دلالة الكلام إيضاحًا وخفاء بحسب الدلالة العقلية، وهو علم البيان، وإما أن تبحث عن وجوه تحسين الكلام، وهو علم البديع. فالعلوم الثلاثة الأول، يستشهد عليها بكلام العرب نظمًا ونثرًا، لأن المعتبر فيها ضبط ألفاظهم والعلوم الثلاثة الأخيرة يستشهد عليها بكلام العرب وغيرهم، لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذا كان الرجوع إلى العقل.

وقال أبو الفتح عثمان بن جني: المولودون يستشهد بهم في المعاني، كما يستشهد بالقدماء في الألفاظ. قال ابن رشيق في العمدة: الذي ذكره أبو الفتح صحيح بين لأن المعاني اتسعت باتساع الناس في الدنيا وانتشار العرب بالإسلام في أقطار الأرض، فإنهم حضروا الحواضر، وتفننوا في المطاعم والملابس، وعرفوا بالعيان ما دلتهم عليه بداهة عقولهم، من فضل التشبيه ونحوه، ومن هنا يحكى عن ابن الرومي أن لائمًا لامه وقال له: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز، وأنت أشعر منه؟ فقال له: أنشدني شيئًا من قوله أعجز عن مثله، فأنشده في صفة الهلال:

فانظر إليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر

فقال له ابن الرومي: زدني، فأنشده:

كأن آذريونها

والشمس فيه كاليه1

مداهن من ذهب

فيها بقايا غاليه

1 الآذريون: نبات زهره أصفر أو أحمر ذهبي في وسطه خمل أسود - كاليه: مصفرّة؟

ص: 23

فقال: واغوثاه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون1 بيته لأنه ابن الخلفاء، وأنا مشغول بالتصرف في الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرة وأهجو هذا كرة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طورا. انتهى كلام ابن رشيق.

ورأيت الشيخ شمس الدين بن الصائغ، رحمه الله تعالى، قد استشهد في شرح البردة، الذي سماه بالرقم، بغالب أهل عصره، في ما عرض له من أنواع البديع، حتى أورد لهم شيئًا من محاسن الزجل.

رجع إلى ما كنا فيه، من حسن الابتداء وتناسب القسمين، وإيراد ما وعدنا به من كلام المتأخرين. قال قاضي هذه الصناعة وفاضلها والمتأخر الذي لم يتقدم عليه بغير الزمان أوائلها:

زار الصباح فكيف حالك يا دجى

قم فاستذمَّ بفرعه أو فالنجا

انظر إلى حسن هذا الابتداء، كيف جمع، مع اجتناب الحشو، بين رقة النسيب وطرق التشبيب وتناسب القسمين وغرابة المعنى. ومثله قوله يخاطب العاذل:

أخرج حديثك من سمعي فما دخلا

لا ترم بالقول سهمًا ربما قتلا

وما أطلف ما قال بعده:

وما يخف على قلبي حديثك لي

لا والذي خلق الإنسان والجبلا

ومثله قوله:

سمعتك والقلب لم يسمع

فكم ذا تقول وكم لا أعي

وما ألطف ما قال بعده:

يقول وما عنده أنني

بغير فؤاد ولا أضلع

أما مع هذا الفتى قلبه

فقلت نعم يا فتى ما معي

وأما مطلع قصيدة ابن النبيه، فإن الأذواق السليمة تنتبه به إلى فتح هذا الباب، وهو:

يا ساكني السفح كم عين بكم سفحت

نزحتم فهي بعد الباب ما نزحت

1 ماعون: اسم جامع لمنافع البيت مما جرت العادة بإعارته.

ص: 24

والقصيدة كلها تحف وطرف، وعارضها ابن نباتة، فما حلا معها مكرر نباته، وأجرى الصفي معها ينابيع فكره، فما صفا له معها مورد، وجاراها الصفدي فتصفدت1 سوابق قافية عن لحاقها، ومنها:

وروضة وجنات الورد قد خجلت

فيها ضحى وعيون النرجس انفتحت2

تشاجر الطير في أفنانها سحرًا

ومالت القضب للتعنيق فاصطلحت3

والقطر قد رش نوب الدوح حين رأى

مجامر الزهر في أذياله نفحت4

ومما يحسن نظامه في هذا السلك قوله:

رنا وانثنى كالسيف والصعدة السمرا

فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى5

ومما اختاره الشيخ جمال الدين بن نباتة، رحمه الله، من ديوان أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس، وهو حسن في هذا الباب، قوله:

كم مقلة للشقيق الغض رمداء

إنسانها سابح في بحر أنداء6

وقوله:

قفا واسألا مني زفيرا وأدمعا

أكانا لهم إلا مصيفًا ومربعا

وهو من الغايات التي اختارها الشيخ جمال الدين بن نباتة، من شعر ابن قلاقس، فإنه قال: طالعت ديوان الأديب البارع، أبي الفتوح نصر الله بن قلاقس، فطالعت الفن الغريب وفتح علي بتأمل ألفاظه فتلوت:{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} . بيد أني وجدت له حسنات تبهر العقول فضلًا وسيئات يكاد بذكرها ابن قلاقس يقلي7. انتهى كلام الشيخ جمال الدين بن نباتة.

ومما وقع في تناسب القسمين إلى الغاية، قول الشيخ ظهير الدين بن البارزي رحمه الله، وهو:

1 تصفدت: كُبلت بالأصفاد والقيود.

2 وجنات: جمع مفرده وجنة وهي كرسي الخد.

3 أفنان: جمع مفرده فنن وهو الغصن - سحرًا: أي وقت السحر قبيل الفجر.

4 مجامر: جمع مفرده مجمرة وهي وعاء يوضع فيه البخور.

5 رنا: نظر - انثنى: عاد ورجع - الصعدة: القناة المستوية التي لا تحتاج إلى تثقيف.

6 الشقيق: الأزهار المعروفة بشقائق النعمان، لونها أحمر قان. والغصن: الطري - رمداء: أصابها الرمد وهو مرض يصيب العيون. إنسانها: إنسان العين: البؤبؤ.

7 يقلي: يبغض ويُهجَر.

ص: 25

يذكرني وجدي الحمام إذا غنى

لأنا كلانا في الهوى يعشق الغصنا1

ذكر الصلاح الكتبي، في كتابه فوات الوفيات، أن الشيخ أثير الدين أبا حيان قال: رأيت الشيخ المذكور صوفيا بحماة المحروسة، وأنشدني لنفسه هذه القصيدة وعدة مقاطيع منها:

أراك فأستحيي فأُطرِقُ هيبة

وأُخفي الذي بي من هواك وأكتُم

وهيهات أن يخفى وأنت جعلتني

جميعي لسانا في الهوى يتكلم

وتوفي بعد الثمانين والستمائة، وأما مطلع الشيخ شمس الدين بن العفيف في هذا الباب، فظرافته لا تنكر، لأنه كان ينعت بالشاب الظريف، قال في شطره الأول:

أعز الله أنصار العيون

وفي الثاني

"وخلد ملك هاتيك الجفون"

وما أظرف ما قاله بعده:

وضاعف بالفتور لها اقتدارًا

وجدد نعمة الحسن المصون

وما أحسن ابتداءات الشيخ عبد العزيز الأنصاري، شيخ شيوخ حماة، فجميعها نسجت على هذا المنوال، منها قوله:

حروف غرامي كلها حرف إغراء

على أن سقمي بعض أفعال أسماء

وقوله:

ويلاه من نومي المشرد

أواه من شملي المبدد

وقوله:

أهلا بطيفكم وسهلا

لو كنت للإغفاء أهلا

وما أحلى ما قاله بعده:

لكنه وافى وقد

حلف السهاد علي أن لا

وقد توارد هو وابن عنين في هذا المعنى، ولك كساه ديباجة تأخذ بمجامع القلوب، ومطلع ابن عنين قوله:

ماذا على طيف الأحبة لو سرى

وعليهم لو سامحوني بالكرى2

1 وجدي: شدة شوقي

2 الكرى: الإغفاء دون النوم.

ص: 26

وقول مهيار الديلمي، في هذا الباب، مشهور والذي أقوله: إن الشيخ جمال الدين بن نباتة، نبات هذا البستان وقلادة هذا العقيان، ومن مطالعه التي هي أبهج من مطالع الشمس قوله في هذا الباب:

في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيدُ

هذا المدام وهاتيك العناقيد

وقوله:

بدا ورنت لواحظه دَلالا

فما أبهى الغزالة والغزالا

وقوله:

سلبت عقلي بأحداث وأقداح

يا ساجيَ الطرف بل يا ساقي الراح1

وما ألطف ما قال بعده:

سكران من مقلة الساقي وقهوته

فاترك ملامك في السكرين يا صاح

وقوله:

إنسان عيني بتعجيل السهاد بلي

عمري لقد خلق الإنسان من عجلِ

وقوله:

قام يرنو بمقلة كحلاء

علمتني الجنون بالسوداء

وقوله:

نفس عن الحب ما حادت وما غفلت

بأي ذنب وقاك الله قد قتلت

وقد تقدم شروط، لابد من اجتنابها في حسن الابتداء، منها الحشو، ولكن وقاك الله حشو اللوزينج2.

وقوله:

لام العذار أطالت فيك تسهيدي

كأنها لغرامي لام توكيد

ولولا الإطالة لأفعمت الأذواق من هذا السكر النباتي.

ورأيت للشيخ صفي الدين الحلي في "الأرتقيات" قصيدة قافية مطلعها في هذا الباب فيه، وهو قوله:

قفي ودعينا قبل وشك التفرق

فلما أنا من يحيا إلى حين نلتقي

وأنشدني من لفظه، الشيخ عز الدين الموصلي قصيدة نونية، نظمها بحماة، ومطلعها في حسن الابتداء حسن:

سمعنا حمام الدوح في روحة غنا

فأذكرنا ربع الحبائب والمغنى

ولقد سهوت عن مطلع الشيخ علاء الدين علي بن المظفر الكندي، الشهير بالوادعي، فإنه ليس له في تناسب القسمين قسيم وهو:

بدر إذا ما بدا محياه

أقول ربي وربك الله

1 أحداق: مفرده حدقة وهو السواد المستدير في العين - ساجي: فاتر وساكن، والطرف: العين.

2 اللوزينج: من الحلوى، شبيه القطايف يؤدم بدهن اللوز.

ص: 27

وعارضة الشيخ جمال الدين بن نباتة، في هذه القصيدة بعينها، وترقى إلى مطلع بدره وزاحمه في حسنه فمطلع الشيخ جمال الدين:

له إذا غازلتك عيناه

سهام لحظ أجارك الله

من مطالعي، التي حصل لي فيها الفتوح في هذا الباب، قولي:

طلعتم بدورًا في أعزل المطالع

فبشرني قلبي بسعد طوالعي1

وقولي:

إغراء لحظك ما لي منه تحذير

ولا لتعريف وجدي فيك تنكير

وقولي:

في عروض الجفا بحور دموعي

ما أفادت قلبي سوى التقطيع

وقولي:

لله قوم لنظم الوصل قد نثروا

شعرت في حبهم يا ليتهم شعروا

وقولي:

جردت سيف اللحظ عند تهددي

يا قاتلي فسلبتني بمنجرد2

وقولي:

هواي بسفح القاسمية والجسر

ذا هبَّ ذاك الريح فهو الهوى العذري

وكأني بمنتقد تأمل قلبه على المتقدمين، بكثرة النقد، ومالت نفسه، إلي مع المتأخرين ليستوفي الشروط الأدبية في مباشرة هذا العقد. وقولي:

قال مال غصن النقا عن صبه هيفًا

يا ليته بنسيم العتب لو عطا3

فأقول وبالله المستعان إن جماعة من المخاديم بدمشق رسموا أن أعارض شيئًا من نظم الشيخ جمال الدين بن نباتة وتخيروا لي خمس قصائد منها قصيدته الكافية التي مطلعها:

تصرمت الأيام دون وصالك

فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك4

فلما انتهت إلى معارضتها وجدت، بين الشطر الثاني من المطلع وبين الشطر الأول، مباينة، كما تقدم في مطلع امرئ القيس من الكلام على أن في شطره الأول ما ليس في الثاني.

وقد اتفق علماء البديع على أن عدم تناسب القسمين نقص في حسن الابتداء، وقد تقدم قول زكي الدين بن أبي الصبع: إن مطلع النابغة أفضل من مطلع امرئ القيس، لتناسب القسمين، وإن كان مطلع امرئ القيس أكثر معاني. انتهى ولو قال الشيخ جمال الدين في مطلعه:

1 طوالعي: مفردها طالع وهو الحظ.

2 جرد السيف: أعده للمعركة - المنجرد: الذي تعرى من ثوبه.

3 هيفا: طولا واستقامة. النقا: الكثيب من الرمل.

4 تصرمت: انقضت - الوصال: اللقاء.

ص: 28

تمذهبت في هجري بطول مطالِكِ

فمن شافعي في الحب يا ابنة مالك1

لجمع بين تناسب القسمين.

ومطلعي الذي عارضت به الشيخ جمال الدين:

رضيع الهوى يشكو فطام وصالك

فداوي بني الحب يا ابنة مالك

وكذلك من مطلع الشيخ صفي الدين الحلي، في قصيدته الجيمية التي هي من جملة القصائد الأرتقيات التي امتدح بها الملك المنصور صاحب ماردين:

جاءت لتنظر ما أبقت من المهج

فعطرت سائر الأرجاء بالأرج2

فالشطر الثاني ليس من جنس الشطر الأول، فإن الشطر الأول في الطريق الغرامية ليس له مثيل ومن أنكر هذا النقد، ينتظر في مطلع الشيخ شرف الدين عمر بن الفارض قدس الله سره، فإنه في هذا الباب طرفة، وهو:

ما بين معترك الأحداق والمهج

أنا القتيل بلا إثم ولا حرج

وهنا نكتة لطيفة تؤيد هذا النقد.

اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي الأديب المشهور الذي من نظمه قوله:

وا طُول شوقي إلى ثغور

ملأي من الشهد الرحيق

عنها أخذت الذي تراه

يعذب من شعري الرقيق

لما ورد إلى هذه البلاد، اجتمع بالصاحب بهاء الدين زهير، وتطفل على موائد طريقته الغرامية، وسأله الإرشاد إلى سلوكها، فقال له: طالع ديوان الحاجري والتلعرفي وأكثر المطالعة فيهما وراجعني بعد ذلك، فغاب عنه مدة وأكثر من مطالعة الديوانين، إل أن حفظ غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا في الغراميات فأنشده الصاحب بهاء الدين زهير، في غصون المحاضرة:"يا بان وادي الأجرع"، وقال: أشتهي أن يكمل لي هذا المطلع فافْتَكَر قليلًا وقال: "سقيت غيث الأدمع" فقال: والله حسن لكن الأقر إلى الطريق الغرامي أن تقول: "هل ملت من طرب معي"، وما ألطف مطلع الحجاري في هذا الطريق:

1 مطالك: إخلافك الوعد.

2 الأرج: الرائحة الطيبة.

ص: 29

لك أن تشوقني الأوطان

وعلي أن أبكي بدمع قان

والآراء على هذا النوع، تستحسن هنا مطلع ناصر الدين بن النقيب، فإنه أعدل شاهد مقبول، والتشبيب بنفسه الطيب يغني، في هذه الحضرة، عن الموصول، وهو:

قلدت يوم البيت جيد مودعي

دررًا نظمت عقودها من أدمعي

وبالنسبة إلى حسن الابتداءات، مطلع اليخ برهان الدين القيراطي مع حسنه وبهجته، فيه نقص وهو:

قسما بروضة خدها ونباتها

وبآسها المخضل في جنباتها1

فإنه لم يأت بجوانب القسم، ولا ما يحسن السكوت على مطلعه، ولا تتم الفائدة إلا به. ومشايخ البديع قرروا أن لا يكون المطلع متعلقًا بما بعده، في حسن الابتداء.

وقد آن أن أحبس عنان القلم، فإن الشرح قد طال، ولم أطله إلا ليزداد الطالب إيضاحًا ويداوي علل فهمه بحكم المتقدمين، ويتنزه في رياض الأدب على النبات الغض من نظم المتأخرين.

براعة الاستهلال في النظم:

انتهى من أوردته في حسن الابتداء وقد فرع المتأخرون منه براعة الاستهلال، وفي النظم والنثر، وفيها زيادة على حسن الابتداء، فإنهم شرطوا في براعة الاستهلال، أن يكون مطلع القصيدة دالًا على ما بنيت عليه، مشعرًا بغرض الناظم، من غير تصريح بل بإشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم، ويستدل بها على قصده، من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو، وكذلك في النثر، فإذا جمع الناظم بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان، وإن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء.

وما سمي هذا النوع براعة الاستهلال إلا لأن المتكلم يفهم غرضه من كلامه، عند ابتداء رفع صوته به، ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال، يقال: استهل المولود صارخًا، إذا رفع صوته عند الولادة. وأهل الحجيج، إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي الهلال هلالًا، لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته. ومما وقع من براعات الاستهلال التي

1 الآس: شجر دائم الخضرة، بيضي الوريق أبيض الزهر عطريه - المخضل: الندى.

ص: 30

تشعر بغرض الناظم وقصده في قصيدة، براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال:

إذا لم يسالمك الزمان فحارب

وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب

فإشارات العتب والشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة، ويفهم منها أن بقية القصيدة تعرب عن ذلك، فإن زكي الدين بن أبي الإصبع قال: براعة الاستهلال هي ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله، وهذه القصيدة، في حكمها وتحشمها وتسيير أمثالها، نهاية، والموجب لنظمها على هذا النمط، أنه كان بينه وبين الكامل بين شارر صحبة أكيدة، قبل وزارة أبيه، فلما وزر استحال عليه فكتب إليه هذه القصيدة التي من جملتها:

ولا تحتقر كيدًا صغيرًا فربما

تموت الأفاعي من سموم العقارب

ومنها:

إذا كان رأس المال عمرك فاحترز

عليه من الإنفاق في غير واجب

فبين اختلاف الليل والصبح معرك

يكر علينا جيشه بالعجائب

ومنها:

وما راعني غدر الشباب لأنني

ألفت لهذا الخلق من كل صاحب

ومنها:

إذا كان هذا الدر معدنه فمي

فصونوه عن تقبيل راحة واهب1

رأيت رجالا حالهم في مآدب

لديكم وحالي عندكم في نوادب2

تأخرت لما قدمتكم علاكم

عليّ وتأبى الأسد سبق الثعالب

ترى أين كانوا في مواطني التي

غدوت لكم فيهن أكرم خاطب3

ليالي أتلوا ذكركم في مجالس

حديث الورى فيها بغمز الحواجب4

ومن ألطف البراعات وأحشمها، براعة مهيار الديلمي، فإنه بلغه أنه وشي به إلى ممدوحه فتنصل من ذلك، بألطف عذر وأبرزه في معرض التغزل والنسيب، فقال:

أما وهواها حلفة وتنصلا

لقد نقل الواشي إليك فامحلا5

وما أحلى ما قال بعده:

سعى جهده لكن تجاوز حده

وكثر فارتابت ولو شاء قللا

1 الراحة: باطن الكف أو جمعه. الواهب: المعطي الهبات.

2 مآدب: في فرح - نوادب: أي في حزن.

3 خاطب: طالب القرب.

4 الورى: الناس. وغمز الحواجب: تحريكها.

5 التنصل: التخلص والإنكار. الواشي: ناقل الأخبار - أمحلا: أي لم ينقل الحقيقة، كذب.

ص: 31

وأذكرني مهيار، بحسن براعته، ما كتبت به إلى سيدنا ومولانا قاضي القضاة، صدر الدين ملك المتأدبين، أبي الحسن علي بن الآدمي الحنفي، الناظر في الحكم العزيز بالديار المصرية والممالك الإسلامية، جعل الله الوجود بوجوده، من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية بدمشق المحروسة، ورياحين الشبيبة غضة، وكانت مطالعاتي قد تأخرت عن أبوابه العالية لعارض حجب الفكر عن هذا الفن، وهي رسالة مشتملة على نظم ونثر، فصدرت الجواب بقصيدة ترفل في حلل النسيب، على طريق مهيار، وكلها براعة استهلال أولها:

وصلت ولكن بعد طول تشوقي

ودنت وقد رقت لقلبي الشيق

وما أحلى ما قلت بعده:

فثملت من طرب يرجع حديثها

فكأنما قد نادمت بمعتق1

وجميعها على هذا الطريق البديعي ومثله.

إن المقر المخدومي الأميني الحمصي، لما انتقل من توقيع حمص المحروسة إلى حصابة ديوان الإنشاء بدمشق، قصد نقلتي من حماة المحروسة إلى أبوابه العالية، وحب حماة يفتر العزم عن ذلك، وهذا يفهم من قولي في بعض قصائدي فيها:

يلذ عناق الفقر لي بفنائها

وفي غيرها لم أرض بالملك والرهط2

ولكنه قطع أسئلته العالية، بعد أن كانت كئوس الإنشاء دائرة بيننا، فكتبت إليه بقصيدة تشعر بعتب لطيف، وبلابل الغزل تغرد في أفنانها، على طريقة مهيار الديلمي وطريق مولانا قاضي القضاة صدر الدين عظم الله تعالى شأنه، وبراعة استهلالها:

من بأسياف هجرهم كلمونا

ما عليهم لو أنهم كلمونا3

ولم أعرب في نحو هذه القصيدة عن غير هذه الإشارات اللطيفة.

ومنها:

غلقوا باب وصلهم فتح الله

لهم بالهناء فتحا مبينًا

وصلوا هجرنا وعيش هواهم

لم نحل عنهم ولو قطعونا4

ملكوا رقنا فصرنا عبيدًا

ليتهم بعد رقنا كاتبونا5

1 معتق: من الخمرة أجودها

2 الرهط: الجماعة. والحاشية.

3 كلمونا: الأولى من الكَلْم وهو الجرح، والثانية من الكلام.

4 نحل: من حال عن الشيء إذا حاد عنه.

5 المكاتبة: ما يتم بين العبد وسيده من اتفاق على عتقه مقابل مبلغ معين من المال.

ص: 32

ولم أزل غازل عيون هذه المعاني إلى المخلص فقلت:

حبكم فرضنا وسيف جفاكم

قد غدا في بعادنا مسنونا

والحشا لم يخن عهود وفاكم

فاسألوا من غدا عليها أمينا

ومما يشعر بالتهنئة والنصر على الأعداء، براعة العلامة لسان الدين بن الخطيب وهي:

الحق يعلو والأباطل تسفل

والحقل عن أحكامه لا يسأل

فإنه قال: نظمت للسلطان أسعده الله، وأنا بمدينة سلا، لما انفصل طالبا حقه بالأندلس، قصيدة كان صنع الله مطابقًا لاستهلالها، ووجهت بها إلى رندة قبل الفتح، ثم لما قدمت أنشدتها بين يديه بعد الفتح وفاء بنذري، وسميتها الفتح الغريب في الفتح القريب، منها:

فإذا استحالت حالة وتبدلت

فالله عز وجل لا يتبدل

واليسر بعد العسر موعود به

والصبر بالفرج القريب موكل

والمستعد بما يؤمل ظافر

وكفاك شاهد قيدوا وتوكلوا1

ومنها:

محمد والحمد منك سجية

بحليّها بين الورى يتجمل2

أما سعودك فهو دون منازع

عقد بأحكام القضاء يسجل3

ولك السجايا الغر والشيم التي

بغريبها يتمثل المتمثل4

ولك الوقار إذا نزلت على الربا

وهفت من الروع الهضاب المثل

ومنها:

عوذ كمالك ما استطعت فإنه

قد تنقص الأشياء مما تكمل5

تاب الزمان إليك مما قد جنى

والله يأمر بالمتاب ويقبل

إن كان ماض من زمانك قد مضى

بإساءة قد سرك المستقبل

هذا بذاك فشفع الثاني الذي

أضراك فيما قد جناه الأول

والله قد ولاك أمر عباده

لما ارتضاك ولاية لا تعزل

1 يؤمل: ينتظر حصول الأمر - ظاهر: من ظفر بالشيء إذا ناله. شاهد قيدوا وتوكلوا: يقصد النبي محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- لقوله: "اعقل وتوكل".

2 سجية: عادة.

3 السعد: الحظ. مفردها سعد.

4 الشيم: مفردها شيمة، وهي الخصلة الحميدة.

5 عوّذ: حماه بالتعاويذ وهي الطلاسم أو بالمعوذتين من القرآن الكريم.

ص: 33

وإذا تغمدك الإله بنصره

وقضى لك الحسنى فمن ذا يخذل

ومنها:

وظعنت عن أوطان ملكك راكبا

متن العباب فأي صبر يجمل1

والبحر قد خفقت عليك ضلوعه

والريح تبتلع الزفير وترسل

ولك الجواري المنشآت قد اغتدت

تختال في برد الشباب وترفل2

خرقاء يحملها ومن حملت به

من يعلم الأنثى وماذا تحمل3

صبحتهم غرر الجياد كأنما

سد الثنة عارض متهلل

من كل منجرد أغر محجل

يرمي الجياد به أغر محجل

زجل الجناح إذا أجد لغاية

وإذا تغنى للصهيل، فبلبل4

جيد كما التفت الظليم وفوقه

أذن ممشقة وطرف أكحل5

ومنها:

وخليج هند راق حسن صفائه

حتى يكاد به يقوم الصيقل6

غرقت بصفحته النمال وأوشكت

تبغى النجاة فأوثقتها الأرجل

فالصرح منه ممرد والصفح منـ

ـه مورد والشط منه مهدل

وبكل أزرق إن شكت ألحاظه

مره العيون فبالعجاجة يكحل7

متأود أعطافه في نشوة

مما يعل من الدماء وينهل8

عجبًا له إن النجيع بطرفه

رمد ولا يخفى عليه مقتل9

لله موقفك الذي وثباته

وثباته مثل به يتمثل10

والخيل خط والمجال صحيفة

والسمر تنقط والصوارم تشكل11

والبيض قد كسرت حروف جفونها

وعوامل الأسل المثقف تعمل12

1 العباب: عباب البحر أمواجه. ومعظم مياهه.

2 الجواري المنشآت: السفن العظيمة.

3 الخرقاء: الريح الشديدة الهبوب.

4 زجل الجناح: أي لجناحه صوت - أجد: قصد.

5 الظليم: ذكر النعام.

6 الصيقل: الصقال الذي يجلو السيوف.

7 مرِه العيون: أبيض العيون - العجاجة: الغبار الكثيف.

8 متأود: معوج - أعطافه: جنباته - يعل وينهل: العلل الشربة الأولى والنهل الشربة الثانية.

9 النجيع: دم الجوف.

10 وثباته: الأولى من الوثب وهو القفز والثانية من الثبات.

11 الخيل خط: أي صف - والمجال صحيفة: أي سهل واسع - السمر: القنا - الصوارم السيوف - تشكل: تشتبك.

12 البيض: ما يلبس على الرأس من عدة الحرب - الأسل: الرماح.

ص: 34

وهي طويلة وجميعها فرائد ولم أكثر منها إلا لعلمي أن نظم الوزير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى، غريب في هذه البلاد.

ومن البراعات التي يفهم من إشاراتها أنها تهنئة بمولود، قول أبي بكر بن الخازن رحمه الله تعالى:

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

وكوكب المجد في أفق العلا صعدا

ومما يشعر بقرينة الذوق، أن الناظم يريد الرثاء، قول التهامي:

حكم المنية في البرية جاري

ما هذه الدنيا بدار قرار

وهذه القصيدة يرثي بها ولده، وهي نسيج وحدها وواسطة عقدها.

ومها:

ومكلف الأيام ضد طباعها

متطلب في الماء جذوة نار1

جبلت على كدر وأنت تريدها

صفوًا من الأقذاء والأقذار2

وإذا رجوت المستحيل فإنما

تبنى الرجاء على شفير هار3

فالعيش نوم والمنية يقظة

والمرء بينهما خيال سار

وما أعلم أن أحدًا استهل للمراثي بأحسن من هذه البراعات، ومنها يشير إلى ولده وهو

من المعانى المستغربة:

جاورت أعدائي وجاور ربه

شتان بين جواره وجواري

وأما قصيدة الشيخ جمال الدين بن نباة، رحمه الله تعالى، في تهنئة السلطان للملك الأفضل بسلطنة حماة، وتعزيته بوفاة والده الملك المؤيد، سقى الله ثراه، فإنها من عجائب الدهر فإنه جمع فيها بين نقيضي4 المدح والرثاء في كل بيت، وبراعتها:

هناء محاذاك العزاء المقدما

فما عبس المحزون حتى تبسما

ثغور ابتسام في ثغور مدامع

شبيهان لا يمتاز ذو السبق منهما

يرد مجاري الدمع والبشر واضح

كوابل غيث في ضحى الشمس قد همى5

1 جذوة نار: قبس من نار.

2 الأقذاء: جمع مفرده قذى وهو الضيم، ومن الناس: السفلة.

3 شفير هار: الحرف الموشك على السقوط.

4 نقيضي: هكذا وردت في الأصل، والأصح: نقيضين "الشارح".

5 الوابل: الغزير من المطر - همى: هطل.

ص: 35

سبحان المانح والله من لا يتعلم الأدب من هنا فهو من المحجوبين عن إدراكه.

وكتب إليه الشيخ صلاح الدين الصفدي قصيدة ضمن فيها أعجاز معلقة امرئ القيس، وصرح في براعتها بغليظ العتب، ولم يأت في البراعة بإشارة لطيفة يفهم منها القصد، بل صرح وقال:

أفي كل يوم منك عتب يسوءني

كجلمود صخر حطه السيل من عل

فأجابه الشيخ جمال الدين بقصيدة ضمن فيها الأعجاز المذكورة، وبراعة استهلالها:

فطمت ولائي ثم أقبلت عاتبًا

أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل1

والإشارة بقوله: أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل، لا يخفى على حذاق الأدب ما مراده منها، وفي هذا القدر كفاية، وما أحلى ما قال بعده، وهو مما قصده في تلك الإشارة.

فدونك عتب اللفظ ليس بفاحش

إذا هي نصته ولا بمعطل2

وهنا بحث وهو أني وقفت على بديعية الشيخ شمس الدين، أبي عبد الله محمد بن جابر الأندلسي، الشهيرة "ببديعية العميان" فوجدته قد صرح في براعتها بمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وهي:

بطيبة انزل ويمم سيد الأمم

وانثر له المدح وانثر طيب الكلم3

فهذه البراعة ليس فيها إشارة تشعر بغرض الناظم وقصده، بل أطلق التصريح ونثر المدح ونثر طيب الكلم، فإن قال قائل: إنها براعة استهلال، قلت: إن البديعية لابد لها من براعة وحسن مخلص وحسن ختام، فإذا كان مطلع القصيدة مبنيًّا على تصريح المدح، ولم يبق لحسن التخلص محل ولا موضع، ونظم هذه القصيدة سافل، بالنسبة إلى طريق الجماعة، غير أن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبا جعفر الأندلسي، شرحها شرحًا مفيدًا.

وهنا فائدة وهو أن الغزل، الذي يصدر به المديح النبوي، يتعين على الناظم أن يحتشم فيه ويتأدب ويتضاءل وتشبب، مطربًا بذكر سلع ورامة وسفح العقيق والعذيب

1 فطمت: قطعت - فاطم: ترخيم: فاطمة.

2 نصته: أظهرته وأبرزته - معطل: خال من الحلي.

3 يمم: توجه صوب - سيد الأمم: النبي محمد صلى الله عليه وسلم الكلم: من الكلام أطيبه وأبلغه.

ص: 36

والغوير ولعلع وأكناف حاجر1 ويطرح ذكر محاسن المرد2 والتغزل في ثقل الردف3 ودقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد وخضرة العذار4 وما أشبه ذلك، وقل من يسلك هذا الطريق من أهل الأدب وبراعة الشيخ صفي الدين الحلي، في هذا الباب، من أحسن البراعات وأحشمها، وهي:

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

وأقر السلام على عرب بذي سلم

فقد شبب بذكر سلع، والسؤال عن جيرة العلم، والسلام على عرب بذي سلم.

ولا يشكل5 على من عنده أدنى ذوق أن هذه البراعة صدرت لمديح نبوي، ومطلع البردة6 أيضًا في هذا الباب، من أحسن البراعات أيضًا وهو:

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم

فمزج دمعه بدمه، عند تذكر جيران بذي سلم، من ألطف الإشارات إلى أن القصيدة نبوية، وما أحلى ما قال بعده.

أم هبت الريح من تلقاء كاظمة

وأومض البرق في الظلماء من أضم7

وحشمة الشيخ جمال الدين بن نباتة في براعة قصيدته الرائية النبوية، يتعلم الأديب منها سلوك الأدب وهي:

صحا القلب لولا نسمة تتخطر

ولمعة برق بالفضا تتعسر8

وما أحشم قوله بعده:

وذكر جبين المالكية إن بدا

هلال الدجى والشيء بالشيء يذكر

سقى الله أكناف الفضا سائل الحيا

وإن كنت أسقي أدمعًا تتحدر9

1 أسماء أماكن.

2 المرد: جمع مفرده أمرد وهو الفتى لم تنبت له لحية.

3 الردف: المؤخرة.

4 العذار: ما سال من الشعر على جانبي الوجه.

5 يشكل: يلتبس ويختلط.

6 البردة: قصيدة مشهورة في مدح النبي. ومعنى البردة الكساء المخطط.

7 تلقاء: ناحية - كاظمة اسم مكان - أومض: لمع، أضم: اسم جبل.

8 تتسعر: تلتهب وتزداد لمعانًا.

9 الفضا والحيا: ترخيم الفضاء والحياة.

ص: 37

وأما قصيدتي النبوية، الموسومة بأمانة الخائف، فإنها عزيب1 هذا البارق، وحلبة مجرى هذه السوابق، لأنني لم أخرج في تغزلها عن التباري والتشبيب بذكر المنازل المعهودة، وبراعتها:

شدت بكم العشاق لما ترنموا

فغنوا وقد طاب المقام وزمزم2

وقلت بعده:

وضاع شذاكم بين سلع وحاجر

فكان دليل الظاعنين إليكم3

وجزتم بواد الجزع فاخضر والتوى

على خده بالنبت صدغ منمم4

ولما روى أخبار نشر ثغوركم

أراك الحمى جاء الهوى يتنسم5

وما أليقه أن يكون صدرًا للمدائح النبوية، ومنها:

فيا عرب الوادي المنيع حجابه

وأعني به قلبي الذي فيه خيموا

رفعتم قبابًا نصب عيني ونحوها

تجر ذيول الشوق والقلب يجزم

ويا من أماتونا اشتياقا وصيروا

مدامعنا غسلا لنا وتيمموا

منعتم تحيات السلام لموتنا

غرامًا وقد متنا فصلوا وسلموا

يقولون لي في الحي أين قبابهم

ومن هم من السادات قلت هم هم

عريب لهم طرفي خباء مطنب

بدمعي وقلبي نارهم حين تضرم6

ومن ألطف الإشارات إلى أن هذا التغزل صدر قصيدة نبوية قولي منها:

أوري بذكر البان والزند والنقا

وسفح اللوى والجزع والقصد أنتم7

ولم أزل في براعة الاستهلال، أستهل أهلة هذه المعاني، إلى أن وصلت إلى حسن التخلص فقلت:

1 عزيب: بعيد، أي أبعد ما يمكن أن يتوصل إليه في هذا الفن.

2 المقام: قبر النبي محمد -صلى الله تعالى عليه وسلم- وزمزم: بئر ماء أخرجها الله لهاجر زوجة إبراهيم الخليل في وادي مكة.

3 ضاع: انتشر من ضاع يضوع - والشذا: الرائحة العطرة.

4 صدغ متمم: أو منمنم، مجعد الشعر.

5 الأراك: شجر واحدته أراكة وهي نبتة شجيرة كثيرة الفروع، خوارة العود، متقابلة الأوراق.

6 مطنب: ذو طنب وهي الحبال التي تشد بها أعمدة الخيام.

7 أورى: من التورية وهي ذكر مسمى وقصد غيره.

ص: 38

تقنعت في حبي لهم فتعصبوا

علي وهم سادات من قد تلثموا

لهم حسب عان ببطحاء مكة

لأن رسول الله في الأصل منهم1

ومن الأغزال التي لا تليق أن يكون غزلها لمديح قصيد نبوي، قصيد السري الرفاء، فإنه مدح بها الفاطميين وجدهم صلى الله عليه وسلم، وجرح القلوب بندبة الحسين عليه السلام، فإنه قال منها:

مهلًا فما نقلوا آثار والده

وإنما نقضوا في قتله الدينا

وهذه القصيدة مشتملة على مدح النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته، وندبة الحسين بن علي عليهما السلام، فما ينبغي أن تكون براعتها:

نطوي الليالي علمًا أن ستطوينا

فشعشعيها بماء المزن واسقينا2

ما أحق هذه البراعة ليعدها من المديح بقول القائل:

تمنيتهم بالرقمتين ودارهم

بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه

وما كفاه حتى قال بعد ذلك:

وتوجي بكئوس الراح راحتنا

فإنماخلقت للراح أيدينا3

قامت تهز قوامًا ناعمًا سرقت

شمائل البان من أعطافه اللينا

تدير خمرًا تلقاها المزاج لها

ألقيت فوق جنى الورد نسرينا4

فلست أدري أتسقينا وقد نفحت

روائح المسك منها أم تحيينا

وقد ملكنا زمان العيش صافية

لو فاتنا الملك راحت عنه تسلينا

أقول: غفر الله له هذا الغزل، فيه إساءة أدب على مماديحه، فإنه شبب بوصف القيان5 وبذكر الخمر، وبينه وبين المديح مباينة عظيمة.

رجع إلى البراعات البارعة التي تشعر أنها صدر المديح النبوي، بالإشارات اللطيفة، منها براعة الشيخ برهان الدين القيراطي وهي قوله:

ذكر الملتقى على الصفراء

فبكاه بدمعة حمراء

1 حسب عانٍ: حسب ظاهر ومعروف.

2 شعشعيها: من شعشع الخمرة بالماء إذا مزجها به ليزيد لونها صفاء. والمزن: مفردها، مزنة وهي الغيمة الممطرة.

3 الراح: من أسماء الخمرة.

4 النسرين: نوع من الأزهار يعرف بزهرة الرب.

5 القيان: جمع مفرده قينة وهي المغنية.

ص: 39

وأما براعة بديعتي فإنها، ببركة ممدوحها صلى الله عليه وسلم، نور هذه المطالع وقبلة هذا الكلام الجامع؛ فإني جمعت فيها بين براعة الاستهلال وحسن الابتداء، بالشرط المقرر لكل منهما، وأبرزت تسمية نوعها البديعي في أحسن قوالب التورية، وشنفت1 بأقراط غزلها الأسماع، مع حشمة الألفاظ وعذوبتها وعدم تجافي جنوبها عن مضاجع الرقة وبديعية صفي الدين غزلها لا ينكر، غير أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي مورى به من جنس الغزل، ولو التزمه لتجافت عليه تلك الرقة. وأما الشيخ عز الدين الموصلي، فإنه لما التزم ذلك نحت من الجبال بيوتًا، وقد أشرت إلى ذلك في الخطبة بقولي: وهي البديعية التي هدمت بها ما نحته الموصلي في بيوته من الجبال، وجاريت الصفي مقيدًا بتسمية النوع وهو من ذلك محلول العقال، وسميتها تقديم أبي بكر عالمًا أنه لا يسمع من الحلي والموصلي في هذا التقديم مقال.

ومن أحسن إشارات براعتي التي تشعر أنها صدر مديح نبوي تشبيبي، بعرب ذي سلم، وخطابي لهم بأن لي في مدائحهم براعة تستهل الدمع، وكأنني وعدتهم بشيء لابد من القيام به، وهذا حسبما أراده ابن أبي الأصبع بقوله: براعة الاستهلال هي ابتداء الناظم بمعنى ما يريد تكميله.

براعة الاستهلال في النثر:

انتهى ما أوردته هنا من البراعات البارعة نظمًا، وأما براعات النثر فإنها مثلها، إن لم تكن براعة الخطبة أو الرسالة أو صدر الكتاب المصنف دالة على غرض المنشئ وإلا فليست ببراعة استهلال.

وقد رأيت غالب البديعيين قد اكتفوا عند استشهادهم على براعة الاستهلال في النثر، بقول الصاحب عمرو بن مسعدة، كاتب المأمون، فإنه امتحن أن يكتب للخليفة يخبره أن بقرة ولدت عجلًا وجهه كوجه الإنسان، فكتب: الحمد الله الذي خلق الأنام في بطون الأنعام. ورأيت الشيخ صفي الدين الحلي، في شرح بديعيته، قد ألقى عند الاستشهاد بها عصا التسيار، واحتجبت عنه في هذا الأفق الشموس والأقمار، أين هو من علو مقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وقد كتب عن السلطان الملك الظاهر، إلى الأمير سنقر الفارقاني، جوابًا عن مطالعته بفتح سوس من بلاد السودان، واستهل بقوله:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} 2 الله

1 شنفت: أمتعت.

2 الإسراء: 12/ 17.

ص: 40

أكبر، إن من البلاغة لسحرًا، والله ما أظن هذا الاتفاق الغريب اتفق لناثر، ولإهلال كاتب المأمون في هذا الاستهلال بزاهر، وهذا المثال الشريف ليس له مثال، منه صدرت هذه المكاتبة إلى المجلس السامي تثني على عزائمه التي دلت على كل أمر رشيد، وأتت على كل جبار عنيد، وحكمت بعدل السيف في كل عبد سوء {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَاّمٍ لِلْعَبِيد} 1.

وبراعة الشيخ جمال الدين بن عبد الرزاق الأصفهاني، في رسالة القوس تجاري براعة القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في هذه الحلبة، وتساويها في علو هذه الرتبة، فإنه أتى بالعجائب، وأصاب غرض البلاغة بسهم صائب، واستهلها بعد البسملة بقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، فَأَتْبَعَ سَبَبًا} 2 منها: شيطان تطلع شمس النصرة من بين قرنيه، مارد لا يصلح إلا بتعريك أذنيه، صورة مركبة ليس لها من تركيب النظم إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا3 أو ما اختلط بعظم.

وأما براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة، في خطبة كتابه المسمى "بخبز الشعير" فإنها خاص الخاص ولا بد من مقدمة تكون هي النتيجة الموجبة لتسمية هذا الكتاب بخبز الشعير، فإنه مأكول مذموم، وما ذاك إلا إنه كان يخترع المعنى الذي لم يسبق إليه، ويسكنه بيتًا من أبياته العامرة بالمحاسن، فيأخذه الشيخ صلاح الدين الصفدي بلفظه، ولا يغير فيه غير البحر، وربما عام به في بحر طويل يفتقر إلى كثرة الحشو واستعمال ما لا يلائم، فلم يسع الشيخ جمال الدين إلا أنه جمعه من نظمه ونظم الشيخ صلاح الدين، واستهل خطبته بقوله تعالى:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا} 4 ورتب كتابه المذكور على قوله: قلت أنا فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال. فمن ذلك قول الشيخ جمال الدين: قلت:

ومولع بفخاخ

يمدها وشباك

قالت لي العين ماذا

يصيد قلت كراكي5

1 فصلت 41/ 46.

2 الكهف 18/ 83-85

3 الحوايا: الأمعاء وهي جمع مفرده حاوية وحاوياء.

4 نوح 71/ 28.

5 الكراكي: جمع مفرده كركيّ وهو طائر كبير، أغبر اللون، طويل العنق والرجلين، أبتر الذنب.

ص: 41

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال:

أغار على سرح الكرى عندما رمى ال

كراكي غزال للبدور يحاكي1

فقلت ارجعي يا عين عن ورد حسنه

ألم تنظريه كيف صاد كراكي

ومن ذلك، قال الشيخ جمال الدين قلت:

اسعد بها يا قمري برزة

سعيدة الطالع والغارب

صرعت طيرًا وسكنت الحشا

فما تعديت عن الواجب

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال من البحر نفسه:

قلت له والطير من فوقه

يصرعه بالبندق الصائب2

سكنت في قلبي فحركته

فقال لم أخرج عن الواجب

قال الشيخ جمال الدين: قلت:

وبمهجتي رشأ يميس قوامه

فكأنه نشوان من شفتيه3

شغف العذار بخلده ورآه قد

نعست لواحظه فدب عليه

فأخذه الصلاح وقال:

وأهيف كالغصن الرطيب إذا انثنى

تميل حمامات الأراك إليه

لمه عارض لما رأى الطرف ناعسًا

أتى خده سرا فدب عليه

وأحسن ما وقع في هذا الباب للشيخ جمال الدين أنه قال:

بروحي عاطر الأنفاس ألمى

مليّ الحسن خالي الوجنتين4

له خالان في دينار خد

تباع له القلوب بحبتين

فأخذه الصلاح وقال:

بروحي خده المحمر أضحت

عليه شامة شرط المحبة

كأن الحسن يعشقه قديمًا

فنقطه بدينار وحبه

1 يحاكي: يشبه

2 البندق: كرة في حجم البندقة يرمى بها في القتال

3 رشأ: غزال - يميس: يتمايل في مشيته - القوام: القد والقامة. نشوان: سكران.

4 ألمى: في شفتيه سُمرة.

ص: 42

فلما وقف الشيخ جمال الدين على هذين البيتين قال: لا إله إلا الله، الشيخ صلاح الدين سرق كما يقال من الحبتين حبة.

قال الشيخ جمال الدين: قلت:

يا غادرا بي ولم أغدر بصحبته

وكان مني محل السمع والبصر

قد كنت من قلبك القاسي أخال جفا

فجاء ما خلته نقشًا على حجر

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال:

ما زلت أشكو حين وفر لي الضنا

فسما وأسلمني إلى البلوى وفر

حتى توفر من شكاية لوعتي

لي قلبه فرأيت نقشا في حجر

قال الشيخ جمال الدين: قلت:

يا عاذلي شمس النهار جميلة

وجمال قاتلتي ألذ وأزين1

فانظر إلى حسنيهما متأملًا

وادفع ملامك بالتي هي أحسن

فأخذه صلاح الدين مع البحر، بل أخذ الكل مع القافية وقال:

بأبي فتاة من كمال صفاتها

وجمال بهجتها تحار الأعين

كم قد دفعت عواذلي عن وجهها

لما تبدت بالتي هي أحسن

ومن ذلك قال الشيخ جمال الدين وأجاد إلى الغاية:

فديتك أيها الرامي بقوس

ولحظ يا ضنى قلبي عليه

لقوسك نحو حاجبك انجذاب

وشبه الشيء منجذب إليه

فأخذه الشيخ صلاح الدين وقال:

تشرط من أحب فذت وجدًا

فقال وقد رأى جزعي عليه2

عقيق دمي جرى فأصاب خدي

وشبه الشيء منجذب إليه

وما أظن الشيخ صلاح الدين، غفر الله له، لما سمع ما قاله الشيخ جمال الدين ونظم بعده هذين البيتين، كان في حيز الاعتدال، وأين انجذاب القوس إلى الحاجب من

1 عاذلي: لائمي.

2 تشرط: وضع الشروط.

ص: 43

انجذاب الدم إلى الخد، وليته في براعة استهلاله بقول الله تعالى:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا} 1 قال بعدها: اللهم ومن دخل بيتي كافرًا بفوائدي المنعمة وبيت شعري، سارقًا من ألفاظه ومعانيه المحكمة، فأخجله في سره وعلانيته، وعاقب على قوله ونيته.

ومنها بلغني أن بعض أدباء عصرنا، ممن منحته ودي، وأنفقت على ذهنه الطالب ما عندي، وأقمته، وهو لا يدري الوزن، مقام من زكاه نقدي، وأودعته ذخائر فكري فأنفقتها، وأعرته أوراقي العتيقة فلا والله ما ردها ولا أعتقها، بل إنه غير الثناء بالهجاء والولاء بالجفاء، ونسبني إلى سرقة الأشعار مع الغناء عنها والغنى، فتغاضيت وقلت: هماز مشاء، بنميم2 وغصة صديق أتجرعها ولو كانت من حميم، وأخليت من حديثه باب فمي ومجلس صدري ذكره عن فكري.

ولكن، وقفت له على تصانيف وضعها في علم الأدب، والعلم عند الله تعالى، ووشحها بشعره المغصوب المنهوب، يقول: يا صاحبي، ألا لا. وما يتوضح من جيد تلك الأشعار لمعة إلا ومن لفظي مشكاتها3 ولا تتضوع زهرة إلا ومني في الحقيقة نبتها، فضحكت والله من ذهنه الذاهل وذكرت على زعمه قول القائل:

وفتى يقول الشعر إلا لأنه

فيا علمنا يسرق المسروقا

وعجبت له كيف رضي لنفسه هذا الأمر منكرا، وكيف حلا لذوقه اللطيف هذا الحرام مكررًا، وقد أوردت الآن، في هذا الكتاب، قدرًا كافيًا ووزنًا من الشعر وافيًا، وسميته، خبز الشعير المأكول المذموم، وعرضته على معدلة مولانا، ليعلم أينا مع خليله مظلوم.

ولولا الإطالة لأوردت جميع أبيات الشيخ جمال الدين التي دخلها الشيخ صلاح الدين، بغير طريق، ليرتدع القاصر عن التطاول إلى معاني الغير.

ومن البراعات التي يستهل بها في هذا الأفق الذي مرآة سمائه صقيلة، براعة المقر المخدومي القضائي الفخري عبد الرحمن بن مكانس، مالك أزمة البلاغة، وملك المتأخرين، نظمًا ونثرًا، في رسالة كتبها إلى المقر المرحومي القضائي الزيني أبا بكر

1 نوح 71/ 28.

2 الهماز: الموسوس - مشاء: الذي يمشي في الفتنة بين الناس - نميم: النمام الذي ينقل الكلام بين الناس.

3 المشكاة: ما يحمل عليه أو يوضع فيه القنديل.

ص: 44

ابن العجمي، عين كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة، وبقية الفضلاء الذين فضلوا بالطريق الفاضلية، بسبب عبد الله القيرواني الضرير، فإني نقلت من خط المشار إليه ما صورته: ورد علينا شخص من القيروان ضرير، يتعاطى نظم الشعر المقفى الموزون الخالي من المعاني، فتردّد إليّ مجالس متفرقة، ثم بلغني بعد ذلك أنه وشى إلى صاحبي الشيخ زين الدين بن العجمي، بأني اهتضمت من جانبه وانتقصته وغضضت منه، بالنسبة إلى الأدب وأنه يستعين بكلام الغير كثيرًا، فتأذى بسبب ذلك وتأذيت من كذب الناقل، فكتبت إليه رقعة براعة استهلالها {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} 1.

أقول: إنه يستغني بهذه البراعة عن الرسالة.

منها: وبلغ المملوك أنه رماه بعض الأصحاب برمية مثل هذه فأصمي2 وتردد إليه مرة أخرى فعبس وتولى أن جاءه الأعمى. ولقد خسرت صفقته، إذ المملوك ما برح مخلصًا لمولانا في ولائه، ومبايعًا له على سلطنة البلاغة وأجل من تشرف بحمل لوائه.

ومولانا بحمد الله أولى من استفتى قلبه، واستدل على صفاء صدق محبته، بشواهد المحبة، ولمسئول من صدقاته أمران: أحدهما الجواب، فإنه يقوم عند المملوك مقام الفرج من هذه الشدة، والآخر رد كل فاسق عن هذا الباب العالي، فإن أبا بكر أولى من يصلب في الردة. انتهى كلام القاضي فخر الدين.

ولقد كشف الشيخ جمال الدين بن نباتة عن هذا الوجع القناع، وأظهر من بهجته، في رسالة السيف والقلم، ما ليس لمطالع البدور عليه اطلاع، فإن الرسالة مبنية على المفاخر بينهما، ولما انتصب القلم لمفاخرة السيف كانت براعته {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 3 واستهل بعدها بقوله: الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم. وبراعة استهلال السيف قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 4 واستهل بعده بقوله: الحمد الله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف، وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف5، وما أظن أن أحدًا من المتقدمين نسج على هذا المنال، ولا نفث في عقد أقلامهم مثل هذا السحر الحلال.

1 النور: 24/ 61.

2 أصمي: لم يسمع له.

3 القلم: 1/ 68، 2.

4 الحديث: 20/ 57.

5 الحتوف: المنايا مفردها حتف.

ص: 45

وممن طلع من العصريين في هذا الأفق الساطع فأبدر ورقي ببلاغته أعواد هذا المنبر، القاضي ناصر الدين بن البرازي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، فإنه اتفق له بحماة محنة، كان لطف الله تعالى متكفلًا له بالسلامة منها، ولم يضرم نارها إلا من غذي بلبان نعمته، قديمًا وحديثًا، فالحمد لله الذي أسعف الإسلام والمسلمين بنجاته، وأمتع العلم الشريف والرياسة بطول حياته، ولما هاجر من حماة المحروسة إلى دمشق المحروسة، كان إذ ذاك مولانا السطلان الملك المؤيد كافلها، ففوض إليه خطاب الجامع الأموي، فلم يبق أحد من أعيان دمشق حتى حضر في تلك الجمعة، لأجل سماع الخطبة، فكانت براعة خطبته: الحمد الله الذي أيد محمدًا بهرجته، ونقله من أحب البقاع إليه لما اختاره من تأييده ورفعته، فعلت1 بالجامع الأموي أصوات ترنم حركت أعواد المنبر طربًا، وكاد النسر أن يصفق لها بجناحيه عجبًا.

وما ألطف براعة الشيخ العلامة نور الدين أبي الثناء محمود الشافعي، الناظر في الحكم العزيز بحماة المحروسة، والشهير بخطيب الدهشة بحماة المحروسة، في كتاب أدعيته المسمى "بدواء المصاب في الدعاء المجاب"، وهي: الحمد لله سامع الدعاء، ودافع البلاء. وفيها البناء والتأسيس، فإنه أشار بسامع الدعاء إلى الدعاء المجاب، وبدافع البلاء إلى دواء المصاب.

وأما براعة خطيب الخطباء أبي يحيى عبد الرحمن بن نباتة الفارقي، فإنها شغلت أفكاري مدة ولم يسعني غير السكوت والإحجام عنها، فإنه استهلها في خطبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الحمد لله المنتقم ممن خالفه، المهلك من آسفه. ولقد اعتذر عنها جماعة من أكابر العلماء.

وأورد الشيخ سري الدين بن هانئ، في شرحه الذي كتبه على ديوان الخطب، على هذه البراعة عذر لأبي البقاء، أرجو أن تهب عليه نسمات القبول.

وما أحشم ما استهل الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي، في خطبة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: الحمد لله الذي استأثر بالبقاء، وحق له أن يستأثر وحكم بالفناء على سكان هذا الفناء3، فأذعنوا لحكمه القاهر.

وأما خطبة الشيخ صفي الدين، في صدر شرح بديعيته، فإن استهلالها نير، ولكن فيه نظر وبعض مباينة عما نحن فيه، فإنه قال: الحمد لله الذي حلل لنا سحر البيان.

1 في الأصل فعلا والأصح ما أثبتناه "الشارح".

2 الفناء: الأولى بفتح الفاء: الموت، والثانية بكسرها: المكان الواسع "الدنيا".

ص: 46

وكتابه مبني على البديع. ولهذا استهليت خطبة شرح بديعيتي بقوله: الحمد لله البديع الرفيع. ولما جمعت ديواني استهليت خطبتي بقولي: الحمد لله الذي لا يحصر مجموع فضله ديوان.

وكان قد رسم لي أن أنشئ صداقا للملك الناصر، وأنا إذ ذاك بدمشق، وقد حل ركابه الشريف بها على بنت المرحوم الشريف السيفي كشبغا الظاهر الحموي، فاستهليت بقولي: الحمد لله الذي أيد السنة الشريفة بقوة ناصر. وتمثلت، بعد هذا التاريخ بالمواقف الشريفة الإمامية الخليفية المستعينية العباسية، زاد الله شرفها تعظيمًا، فبرزت إلى أوامرها المطاعة، أن أنشئ عهدًا بكفالة السلطنة، بالبلاد الهندية للسلطان العادل مظفر شاه شمس الدنيا والدين صاحب دهلي1 والفتوحات الهندية، فاستهليت براعته بقولي: الحمد لله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به. وقلت بعد الاستهلال: وثبت أوتاده ليفوز من تمسك، من غير فاصلة، بسببه، وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا، فأفرغ على أطراف الأرض حلل الخلافة الشريفة، وعلم أن في خلفها الزاهر زهرة الحياة الدنيا، فقال عز من قائل:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 2 واختارها من بيت براعة استهلاله من أول بيت وضع للناس، وسبقت إرادته وله الحمد أن تكون هذه النهاية الشريفة، من سقاية بني العباس، وذلك في العشر الأواخر من رمضان، سنة ثلاث عشرة وثمانمائة.

ومما أنشأته في الديار المصرية وقد استقريت منشئ ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، تقليد مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري محمد بن البارزي الجهني الشافعي، عظم الله شأنه، بصحابة ديوان الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية، بتاريخ شوال سنة خمس عشرة وثمانمائة، واستهليته بقولي: الحمد الله الذي أودع محمدًا سره. وقلت بعد الاستهلال: وجعله ناصر دينه، فحل به عقد الشرك، وشدّ أزره، وأرسله لينشئ مصالح الأمة، فهذبنا برسالته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وبين ديوان الإنشاء الشريف، بصاحب من بيت ظهر التمييز بكتابته، وأيد الإسلام والمسلمين بملك مؤيد تمسك بمحمد وصحابته. وأنشأت بعد هذا التاريخ توقيعًا لرئيس الطب بالديار المصرية، فكانت براعته: الحمد لله الحكيم اللطيف.

وبراعة الشيخ صلاح الدين الصفدي، في شرح لامية العجم، في غاية الحسن،

1 نظمها: دلهي، وقد أصابها التحريف "الشارح".

2 البقرة: 2/ 30.

ص: 47

فإنه استهلها بقوله: الحمد لله الذي شرح صدر من تأدب. والكتاب مبني على شيء من علم الأدب.

وأما البراعات التي يحلو تقبيلها بوجنات الطروس، فمنها براعة الشيخ جمال الدين بن نباتة، من رسالة كتبها إلى القاضي علاء الدين الحسني، واستهلها بقوله: يقبل الأرض العلية على السحاب نسبًا. وقال بعد الاستهلال: الموفية على حصباء الأنجم حسبًا. هذا الأدب إن أطنبت في وصفه فهو فوق الوصف.

وكتب إليه الشيخ برهان الدين القيراطي، من القاهرة المحروسة إلى دمشق المحروسة، رسالة بليغة واستهلها بقوله: يقبل الأرض التي سقت السماء نباتها. وقال بعد البراعة: وحرس الله ذاتها وعمر معاني الحسن أبياتها.

ومن أظرف ما وقع من البراعات المتوشحة برداء التبكيت، براعة القاضي فخر الدين عبد الوهاب، كاتب الدرج، فإنه كان له صديق منهم يعبده، فكتب إليه رسالة يداعبه فيها، واستهلها بقوله: يقبل اليد الشهابية، كثر الله عبيدها. وقال بعد البراعة: وضاعف خدمها وأضعف حسودها. وقد خطر لي أن أوردها بكمالها لوجازتها1 وغرابة أسلوبها، فإنه قال بعد يقبل الأرض إلخ: وينهي بعد ولاء يمتد ودعاء يستد2 وثناء كأنه عنبر أو كافور راوند3، إن مولانا توجه، والأعضاء خلفه سائره، وكل عين لغيبته ساهره، ولا يخفى عليه شوق العليل إلى الشفاء، والظمآن إلى صيِّب الماء، والغريب إلى بلده، والمحصور إلى سعة مسلكه ومقعده، فمولانا يطوي هذه الشقة، ويقصر هذه المدة، ويدع أحد غلمانه يسد مسده4، فالمملوك قلق لسماع أخبار التشويش في البلاد، وتطرق أهل الجرائم والفساد، فمولانا يرسم لغلمانه أن يشمروا في خدمته ذيلًا، ويسهروا عليه بالنوبة5 لمن يطرق ليلًا، والله المسئول أن تكون هذه السفرة معجلة، ويخص فيها بالتبرك مخرجه ومدخله، ويبلغه من فضله مزيدًا، ويجعل يومه عليه مباركًا وليله عليه سعيدًا.

وكتب المقر للمخدومي فضل الله بن مكانس، مجد الأدب الذي ظهر من بيته

1 لوجازتها: من الإيجاز وهو الاستغناء من الكلام بما قل ودل.

2 يستد: يستجاب.

3 الراوند: نبات عشبي يطلق البطن.

4 يسد مسده: يقوم مكانه.

5 النوبة: الدور.

ص: 48

فجره، ورضيع لبانه الذي ما سقانا منه ذره إلا قلنا لله دره، إلى والد المقر المرحومي الفخري، من القاهرة إلى حلب، وهو صحبة الركاب الشريف الظاهري يشكو إليه رمدًا حصل له بعده، وكان مبدأ الرسالة قوله:

ما الطرف بعدكم بالنوم مكحول

هذا وكم بيننا من ربعكم ميل1

وقال بعد الاستهلال: لا استهلت لمولانا دموع، ولا جفا جفنه مدى الليالي هجوع2.

منها: يطالع العلوم الكريمة بما قاساه طرف المملوك من الرمد، وما حصل عليه من الكمد3.

إن عيني مذ غاب شخصك عنها

يأمر السهد في كراها وينهى

بدموع كأنهن الغوادي

لا تسل ما جرى على الخد منها4

فلو رآه وقد أخذت عيناه من العناصر الثلاثة بنصيب، وعوضها الهاء عن التراب بمضاعفة الماء اللهيب، لرأى من نارها ما يفحم القلوب، ومن دمعها ما هو البلاء المصبوب، واستمر انهمالها حتى أنشدها المتوجع: قارنها الدمع فبئس القرين. وطالت مدّة رمده، حتى لقد أتى على الإنسان حين وتزايد خوف المملوك على مقلتيه، وشحه بكريمتيه، ففصد في الذراعين، وكاد أن يصير، لولا أن منََّ الله تعالى عليه، أثرًا بعد عين.

وكتب إلى المقر المخدومي المشار إليه، سيدنا الإمام العلامة الذي وصلت جماعة أهل العصر خلف إمامته، وملك قياد البلاغة ببراعته وعبارته، بدر الدين، رحلة الطالبين، أبو عبد الله محمد بن الدماميني المخزومي المالكي، جوابًا عن حل لغز في ورد أرسله إليه، فاستهله بقوله: يقبل الأرض وينهي ورود الجواب الذي شفى الصدور وروده؛ وقال بعد الاستهلال: واللغز الذي نسي بوروده منه، بأن الحمى وزروده منه، فاستحلى المملوك منه بالتحريف ورده، وود لو اقتطف من أغصان حروفه ورده، فرده ذل التقصير عاريًا عن ملابس عزه، وأنشد قول ابن قلاقس وهو يقلي بنار عجزه.

إذا منعتك أشجار المعالي

جناها الغض فاقنع بالشميم5

1 الربع: الديار وسكانها - والميل مقياس للطول بقدر بـ1609 أمتار.

2 هجوع: نوم.

3 الكمد: الحزن والغم.

4 الغوادي: السحاب الممطر غدوة.

5 الشميم: شم الرائحة.

ص: 49

فظهر من طريق سعده نصره، وعلم أن هذا الورد لا يحسن من غير تلك الحضرة، وأن هذه الفاكهة لا تخرجها إلا أغصان أقلام لها بيدي الراحة المخدومية بهجة ونضرة.

ومنه: وتمشى بنظر المملوك من هذا اللغز في بساتين الوزير على الحديقة، فرأى كل وردة وأخت الوجنات الحمر فتحير أوردة هي أم شقيقة، وعلمت أن الفكر القاصر لا يجارى من بديهته من بحار الفضل رويه، وأن الخاطر الذي هو على ضعف من رعايا الأدب لا يقوى على سلطان هذا اللغز لأن شوكته قوية.

منه: وتمتعت من ورده الوارد بالمشموم، ثم تذكرت البعد عن جناب المخدوم، فاستقطر البين ماء الورد من حدقي1.

وكتبت إليه من القاهرة المحروسة، في منتصف ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانمائة، عند دخولي إليها في البحر هاربًا من طرابلس الشام، وقد عضت عليَّ أنياب الحرب، بثغرها، رسالة مشتملة على حكاية الحال وربت في براعتها بمصنفين له: أحدهما الفواكه البدرية الذي جمعه من ثمار أدبه، والثاني نزول الغيث الذي نكت فيه على الغيث الذي انسجم2 في شرح لامية العجم، للشيخ صلاح الدين الصفدي، واستهليتها بقولي: يقبل الأرض التي سقى دوحها بنزول الغيث، وأثمر بالفواكه البدرية. وقلت بعد الاستهلال: وطلع بدر كمالها من الغرب، فسلمنا لمعجزاته المحمدية، وجرى لسان البلاغة في ثغرها فسما على العقد بنظمه المستجاد، وأنشد، لا فض الله فاه، وقد ابتسم عن محاسنه التي لم يخلق مثلها في البلاد:

لقد حسنت بك الأيام حتى

كأنك في فم الدنيا ابتسام

فأكرم به من مورد فضل ما برح منهله العذب كثير الزحام، ومدينة علم تشرفت بالجناب المحمدي فعلى ساكنها السلام، ومجلس حكم ما ثبت لمدعي الباطل به حجة، وعرفات أدب إن وقفت بها وقفة صرت على الحقيقة ابن حجة، وأفق معان بالغ في سمو بدر فلم يقنع بما دون النجوم، وميدان عربية يجول فيه فرسان العربية من بني مخزوم، ومنها: أورى بدخوله إلى دمشق ومطارحته للجماعة، وتالله ما لفرسان الشقر أو البلق3 في هذا الميدان مجال، وإذا عرفوا ما حصل للفارس المخزومي عندهم من الفتح، كفى الله المؤمنين القتال، وينهي بعد أدعية ما برح المملوك منتصبًا لرفعها، وتعريدًا ثنية ما

1 حدقي: عيني مفردها حدقة وهي السواد المستدير وسط العين.

2 انسجم الغيث: انسكب وانهمر

3 البُلق: مفردها أبلق وهو من الجياد الأسود الذي يتخلله بياض.

ص: 50

لسجع المطوق1 في الأوراق النباتية مثل سجعها، وأشواقًا برحت بالمملوك ولكن تمسك في مصر بالآثار:

وأبرح ما يكون الشوق يومًا

إذا دنت الديار من الديار

وهذه الرسالة لكونها نظمت في طويل البحر ومديده، يفتقر إلى سرد غالبها لتعلقها بحكاية الحال وينهي وصول المملوك إلى مصر مخيمًا بكنانتها، وهو بسهم البين مصاب مذعور لما عاينه من المصارع عند مقاتل الفرسان في منازل الأحباب، مكلمًا2 من ثغر طرابلس الشام بألسنة الرماح، محمولا على جناح غراب، وقد حكم عليه البين أن لا يبرح سفره على جناح:

وكان في البين ما كفاني

فكيف بالبين والغراب3

منها: يا مولانا، وأبثك ما لاقيت من أهوال البحر، وأحدث عنه ولا حرج، فكم وقع المملوك من أعاريضه في زحاف تقطع منه القلب لما دخل إلى دوائر تلك اللجج، وشاهدت منه سلطانًا جائرًا يأخذ كل سفينة غصبًا، ونظرت إلى الجواري الحسان وقد رمت أزر قلوعها4 وهي بين يديه لقلة رجالها تسبى، فتحققت أن رأى من جاء يسعى في الفلك غير صائب، واستصوبت هنا رأي من جاء يمشي وهو راكب، وزاد الظمأ بالمملوك وقد اتخذ في البحر سبيله، وكم قلت، من شدة الظمأ، يا ترى قبل الحفرة أطوي من البحر هذه الشقة الطويلة:

وهل أباكر بحر النيل منشرحًا

وأشرب الحلو من أكواب ملاح

بحر تلاطمت علينا أمواجه حتى متنا من الخوف، وحملنا على نعش الغراب، وقامت واوات دوائره مقام مع، فنصبنا للغرق لما استوت المياه والأخشاب، وقارن العبد فيه سوداء، استرقت مواليها وهي جارية، وغشيهم منها في اليم ما غشيهم، فهل أتاك حديث الغاشية، واقعها الريح فحملت بنا، ودخلها الماء فجاءها المخاص، وانشق قلبها لفقد رجالها وجرى ما جرى على ذلك القلب ففاض، وتوشحت بالسواد في هذا المأتم، وسارت على البحر وهي مثل وكم، سمع فيها للمغاربة على ذلك التوشيح زجل برج

1 المطوق: مفردها المطوقة وهي الحمامة.

2 مكلمًا: مجرحًا.

3 البين: الاغتراب والسفر.

4 قلوعها: أشرعتها.

ص: 51

مائي، ولكن تعرب في رفعها وخفضها عن النسر والحوت، وتتشامخ كالجبال وهي خشب مسندة، من تبطنها عد من المصبرين في التابوت، تأتي بالطباق ولكن بالمقلوب، لأن بياضها سواد، وتمشي مع الماء، وتطير مع الهواء، وصلاحها عين الفساد، إن نقر الموج على دفوقها لعبت أنامل قلوعها بالعود، وترقصنا على آلتها الحدباء، فتقوم قيامتنا من هذا الرقص الخارج ونحن قعود، وتتشامم1 وهي كما قيل أنف من السماء وإست2 في الماء، وكم تطيل الشكوى إلى قامة صاريها3 عند الميل، وهي الصعدة الصماء، فيها الهدى وليس لها عقل ولا دين، وتتصابى إذا هبت الصبا، وهي ابنة مائة وثمانين، وتوقف أحوال القوم وهي تجري بهم في موج كالجبال، وتدعي براءة الذمة وكم أغرقت لهم من أموال، هذا وكم ضعف نحيل خصرها عن تثاقل أرداف الأمواج، وكم وجلت القلوب لما صار لأهداب مجاذيفها على مقلة البحر اختلاج4 وكم أسبلت على وجنة البحر طرة قلعها، فبالغ الريح في تشويشها، وكم مر على قريتها العامرة فتركها وهي خاوية على عروشها5، تتعاظم فتهزل إلى أن ترى ضلوعها من السقم تعد، ولقد رأيتها بعد ذلك التعاظم وقد تبت وهي حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد6.

وأما البراعة التي لخطبة كتابي المسمى "بمجرى السوابق في وصف الخيول المسومة" فإنها أحرزت قصبات السبق، وهي: الحمد الله الذي يقف عند سابق فضله كل جواد ويقصر في حلبة هذا الكرم الذي ليس له غاية في بديع الاستطراد، فمن ألهمه الحزم وأرشده إلى حد المعرفة، حاز قصبات السبق ولا نقول كاد، نحمده على أن جعل لنا الخير معقودًا بنواصي الخيل، ونشكره شكرًا نعلو به على أشهب الصبح ونمتطي أدهم7 الليل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو أن نكون منها في ميادين الرحمة من السابقين، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله قائد الغر المحجلين.

وقد آن أن نقطع طول هذا البحث برسالة السكين، فإن استهلالها يسن ما كل8

1 تتشامم: تتشامخ وتعلو.

2 الإست: ما يلامس الأرض من المؤخرة عند الجلوس.

3 صارية: تجمع على صواري وهي أشرعة السفينة.

4 اختلاج: تحرك.

5 خاوية على عروشها: خربة.

6 مسد: نار.

7 أدهم الليل: ظلامه الشديد.

8 كل: فسد.

ص: 52

من الذوق: ويبرزه من قراب الشك إلى القطع باليقين، وما ذاك إلا أنه لما انفرد كمال الدين عبد الرزاق الأصفهاني برسالة القوس، واستوفى جميع المحاسن، وجاء الشيخ جمال الدين بن نباتة برسالة السيف والقلم، وأظهر فيها معجزات الأدب، أردت أن أعززهما من اختراع رسالة السكين بثالث، واستهليتها بقولي: يقبل الأرض التي قامت حدود مكارمها، وقطعت عنا مكروه الفاقة بمسنون عزائمها. منها: وينهى وصول السكين التي قطع المملوك بها أوصال الجفا، وأضافها إلى الأدوية، فحصل بها البرء والشفا، وتالله ما غابت إلا وبلغ الأقلام من تقشيرها إلى الحفى1. منها: ما شاهدها موسى إلا سجد في محراب النصاب، وذل بعدما خضعت له الرءوس والرقاب، كم أيقظت طرف القلم بعد ما خط، وعلى الحقيقة ما رؤي مثلها قط، وكم وجد الصاحب بها في المضايق نفعًا، وحكم بحسن صحبتهما قطعًا، من أجل أنها تدخل في مضايق ليس للسيف قط فيها مدخل، وكلما تفعله توجزه والرمح في تعقيده مطول، تطرف بأشعتها الباهرة عين الشمس، وبإقامتها الحد حافظت الأقلام على مواظبة الخمس، وكم لها من عجائب تركت السيف في بحر غمده كالغريق، ولو سمع بها من قبل ضربه ما حمل التطريق.

انتهى ما أوردته من براعة الاستهلال نثرًا ونظمًا ومن لم ير بهجة ما أبرزته للمتأخرين فهو في هذه أعمى.

1 الحفى: التعرية.

ص: 53