الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الاستثناء:
عفت القدود فلم أستثن بعدهم
…
إلا معاطف أغصان بذي سلم1
الاستثناء، استثناءان: لغوي، وصناعي. فاللغوي: إخراج القليل من الكثير، وقد فرع النحاة من ذلك في كتبهم فروعًا كثيرة. والصناعيّ: هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى يزيد على معنى الاستثناء، ويكسوه بهجة وطلاوة، ويميزه بما يستحق به الإثبات في أبواب البديع، كقوله تعالى:{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ} 2، فإن في هذا الكلام معنا زائدًا على مقدار الاستثناء، وذلك لعظم الكبيرة التي أتى بها إبليس، من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملأ الأعلى، بخروجه مما دخلوا فيه من السجود لآدم، وذلك مثل قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس، من أمير ووزير، إلا فلانًا، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم مقدار كبريائه، بخلاف قولك: أمر الملك بكذا فعصاه فلان. ومثاله قوله تعالى، إخبارًا عن نوح عليه السلام:{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} 3 فإن في الإخبار عن هذه المدة، بهذه الصيغة تهويلًا على السامع، لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه، وإن في حكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة العظيمة تعظيمها، لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف، والإيجاز في اختصار هذا اللفظ، بهذه البلاغة العظيمة، ظاهر فإن لفظ القرآن أخصر وأوجز من قولنا: تسعمائة سنة وخمسين عامًا ولفظ القرآن بتقييد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة.
1 عفت: كرهت وتركت.
2 ص38/ 73، 74.
3 العنكبوت: 14/ 29.
عليه ومثله قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} 1 فالله تعالى لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي والكافر، استثنى من خلودهم في النار بلفظ مطمع، حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد} ، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار. ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة، استثنى من خلودهم ما ينفي الاستثناء، حيث قال: عطاء غير مجذوذ أي مقطوع، وهذه المعاني في هذه الآيات الشريفة زائدة على الاستثناء اللغوي.
ومن أمثال الاستثناء اللغوي في الشعر قول النميري:
فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها
…
لخلتك إلا أن تصد تراني2
هذا الاستثناء غاية الحسن، فإنه تضمن المبالغة في زيادة مدح الممدوح، وذلك أن هذا الشاعر يقول: إني لو كنت في حيز العدم، لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكنًا من رؤيتي، ليس لك مانع يمنعك عني، فالزيادة هنا في غاية اللطف وهي قوله، إلا أن تصد، فأنت في القدرة علي غير ممنوع، وهذا غاية المبالغة في المدح.
ومن الاستثناء نوع سماه ابن أبي الأصبع: استثناء الحصر، وهو غير الاستثناء الذي يخرج القليل من الكثير، ونظم فيه قوله:
إليك وإلا ما تحث الركائب
…
وعنك وإلا فالمحدث كاذب3
فإن خلاصة هذا البيت قول الناثر للمدوح: لا تحث الركائب إلا إليك، ولا يصدق المحدث إلا عنك، وهذا الحصر لا يحسن في الاستثناء الأول، فإنه لو قال سبحانه وتعالى: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وعامًا صح، لولا توخي الصدق في الخبر. وقوله تعالى:{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ} لا يمنع أن يقال ورهطه4، لولا مراعاة الصدق في الخبر.
1 هود: 106/ 11-108.
2 العنقاء: طائر خرافي غير موجود يضرب به المثل لكل شيء متعذر الوجود.
3 الحث: الإسرع.
4 رهط الرجل: قومه وعشيرته وأتباعه.
وعلى منوال الاستثناء الأول، الذي هو العمدة في هذا الباب، نظم أصحاب البديعيات وهو إخراج القليل من الكثير، بزيادة معنى بديع، يزيد على معنى الاستثناء، فبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
فكل ما سر قلبي واستراح به
…
إلا الدموع عصاني بعد بعدهم
فلبيت صفي الدين هنا غير حال من العقادة، ومراده فيه أن كل شيء كان يسره، قبل الفراق، ويطيعه عصاه، إلا الدموع فإنها أطاعته. ومعنى هذه الزيادة اللطيفة لا يخفى على أهل الذوق.
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم، وبيت الشيخ عز الدين:
الناس كل ولا استثناء لي عذروا
…
إلا العذول عصاني في ولائهم
مراد عز الدين في زيادة معناه على معنى الاستثناء أن عذوله خالف الإجماع.
وبيت بديعيتي:
عفت القدود فلم أستثن بعدهم
…
إلا معاطف أغصاني بذي سلم
قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1 هذا البيت ما أعلم أنني إذا أطنبت في وصفه، يكون الإطناب لشدة فرحي به، لكونه نظمي، أو لأن الأمر على حقيقته. فإن زيادة معناه على معنى الاستثناء، وغرابة أسلوبه، وشرف نسيبه، وحسن انسجامه، وسهولة ألفاظه، ومراعاة نظيره لا تخفى على المنصف من أهل الأدب. وأما ترشيح تورية الاستثناء، بذكر القدود والمعاطف، فإنه من النسمات التي حركت القدود والمعاطف، والتكميل بذي سلم، لكون القصيدة نبوية، في غاية الكمال. والذي أقوله: إنه ما يدخل نظر المتأمل إلى بيت أعمر منه في هذا الباب، والله أعلم بالصواب.
1 الروم: 32/ 30.