الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر النزاهة:
نزهت لفظي عن فحش وقلت هم
…
عرب وفي حبهم يا غربة الذمم1
النزاهة ما نظمها أحد في بديعيته إلا صفي الدين الحلي، وقد تقدم القول أنه ذكر عن بديعيته، أنها نتيجة سبعين كتابًا في هذا الفن. وهو نوع غريب تجول سوابق الذوق السليم في حلبة ميدانه، وتغرد سواجع الحشمة على بديع أفنانه، لأنه هجو في الأصل، ولكنه عبارة عن "الإتيان بألفاظ فيها معنى الهجو الذي إذا سمعته العذراء في خدرها لا تنفر منه" وهذه عبارة عمرو بن العلاء لما سئل عن أحسن الهجو.
وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز عجائب، منها قوله تعالى:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2 فإن ألفاظ الذم المخبر عنها، في كلام الآية، أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الفحش في الهجاء والمرض. هنا عبارة عن إبطان الكفر.
ومن النزاهة البديعية في النظم، قول أبي تمام:
بني فعيلة ما بالي وبالكم
…
وفي البلاد مناديح ومضطرب3
لحاجة لي فيكم ليس يشبهها
…
إلا لجاجكم في أنكم عرب4
1 نزه: رفع وربأ به.
2 النور: 24/ 48-50.
3 مناديح: متسع.
4 اللجاجة: الإلحاح.
ومن غريب هذا النوع، قول معبد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قومًا إلى سماع قينة له، ثم انكشف له بعد هذا أنهم كانوا ينالون منها القبيح:
ألم أقل لك إن القوم بغيتهم
…
في ربة العود لا في رنة العود
لا تأسفن على الشاة التي عقرت
…
فأنت غادرتها في مسرح السيد1
فانظر إلى مصاحبة هذه المعاني ونزاهة ألفاظها عن الفحش.
ومن ذلك قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
…
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا2
وقالوا أحسن ما وقع في هذا الباب قوله أيضًا:
لو أن تغلب جمعت أنسابها
…
يوم التفاخر لم تزن مثقالا3
فانظر إلى هذا الهجو المنكي4، كيف بالغ في تنزيه ألفاظه عن الفحش، وفيه معنى الهزل الذي يراد به الجد، وهو غاية في هذا النوع.
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي:
حسبي بذكرك لي ذمًّا ومنقصة
…
فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم
وقال إنها بالذال المعجمة، فإن جل قصده الذم هنا، والذي أقوله: إن هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة، وليته استضاء بما قاله جرير ومشى على سنته.
والعميان لم ينظموا هذا النوع، وبيت الشيخ عز الدين نظمه في بديعيته لأجل معارضة الصفي، وقال في بيته يخاطب العاذل:
لقد تفيهقت بالتشديق في عذلي
…
كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم5
قد تقرر أن النزاهة هجو، ولكن شرطوا أن لا ينظم هجوهًا إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في درها، والذي أقوله، وأنا أستغفر الله: إن ألفاظ عز الدين في بيته ينفر منها
1 عقرت: ذبحت - السيد: الذئاب.
2 نمير وكعب وكلاب: من قبائل العرب.
3 المثقال: وزن يساوي عرفًا درهمًا ونصف درهم.
4 المنكي: القاهر.
5 تفيهق: في الكلام: توسع وتنطع به، التشديق: مد الكلام.
الجان فكيف حال العذراء! وحاصل القضية، أنه نزه ألفاظه عن النزاهة، ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره، وما أحقه بقول القائل:
وما مثله إلا كفارغ حمص
…
خلي من المعنى ولكن يفرقع
بيت بديعيتي:
نزهت لفظي عن فحش وقلت لهم
…
عرب وفي حيهم يا غربة الذمم
وحشمة النزاهة لا تخفى على أهل الذوق السليم والعلم، مع ما فيها من عدم التكليف في الميل عن التعسف. والذي أقوله إن بيتي في هذا الباب جر أذيال البلاغة مع جرير وشاركه في العذوبة والتباري، ولكن له نبأ في التسمية صدر عن خبير.