الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر المذهب الكلامي:
ومذهبي في كلامي أنَّ بعثته
…
لو لم تكن ما تميزنا على الأمم
المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ وهو في الاصطلاح: أن يأتي البليغ على صحة دعواه، وإبطال دعوى خصمه، بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام، إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة.
وقيل: إن ابن المعتز قال: لا أعلم ذلك في القرآن، أعني المذهب الكلامي، وليس عدم علمه مانعًا علم غيره، ولم يستشهد على المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن، وأوضح الأدلة في شواهد هذا النوع، وأبلغها قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} 1. هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله، وتمام الدليل أن تقول: لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكتيم كثيرًا" وتمام الدليل أن يقال لكنكم ضحكتم كثيرًا وبكيتم قليلًا، فلم تلعموا ما أعلم، فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام، ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي:
لو يكون الحب وصلًا كله
…
لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجرًا كله
…
لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا
…
يستطاب الماء إلا بالعلل2
فالبيتان الأولان قياس شرطي، والثالث قياس فقهي، فإنه قاس الوصل على الماء،
1 الأنبياء: 22/ 21.
2 العلل: الشربة الأولى، والنهل: الشربة الثانية.
فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش، فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر. وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور، مها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من تميم. فقال أبو دلف:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
…
ولو سلكت سبل الهداية ضلت1
فقال له التميمي: نعم بتلك الهداية جئت إليك. فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال.
ولعمري، إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره، وأعذب في الذوق وأسل في التركيب، فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها، وهذه الجملة، على اصطلاحهم، مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم، وعلى هذه الطريقة نظمت بيت البديعية، وكذلك العميان، ويأتي ذلك في موضعه، فبيت بديعية الشريف صفي الدين الحلي:
كم بين من أقسم الله العلي به
…
وبين من جاء باسم الله في القسم
بيت الشيخ صفي الدين الحلي ليس لنور المذهب الكلامي فيه إشراق، ولكنه ملحق بالأقيسة الحملية.
وبيت العميان قد تقدم أنه من الأقيسة الشرطية، وهو قولهم في مديح النبي صلى الله عليه وسلم:
لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت
…
كل الأنام وأروت قلب كل ظمي
جملة هذا البيت هي الجمل الواقعة بعد لو وجوابها، فإنهم استدلوا بها على ما تقدم من الحكم: وهو أن كفه صلى الله عليه وسلم محيط بالبحر، وبيان صحة ذلك أنها بلغت أن تشمل كل الأنام وتعمهم بالري، وهذا دليل واضح على أنها محيطة بالبحر.
وقد تعين أن أقدم بيت بديعيتي، هنا على بيت الشيخ عز الدين، وأفرط سبحة الترتيب لوجهين: أحدهما، أن بيتي وبيت العميان أقرا ببهجة هذا النوع في مطلع واحد، وهو القياس الشرطي، والثاني، أن الشيخ عز الدين لم يتمسك في المذهب الكلامي إلا بالقول الضعيف، وبيت بديعيتي، أقول فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ومذهبي في كلامي أن بعثته
…
لو لم تكن ما تميزنا على الأمم
1 القطا: الحمام الزاجل وكان يستعمل لنقل الرسائل، ومن هنا يضرب به المثل في معرفة الطرق.
دليل هذا القياس الشرطي، في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأمة تميزت بها على سائر الأمة، أوضح من النهار الذي لم يحتج عند ظهوره، إلى إقامة دليل. وبيت الشيخ عز الدين، وفي بديعيته قوله:
بمذهب من كلام الله ينسخ شر
…
ع الأولين ببشرى من كلامهم1
كأن الشيخ عز الدين غفر الله له يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه بمذهب من كلام الله أي القرآن ينسخ شرع الأولين، وكأنه جعل حجته القاطعة في المذهب الكلامي، والله أعلم. قوله: ببشرى من كلامهم، أي من كلام الأولين. ولم أرَ في هذا البيت للمذهب كلامًا ولا للكلام مذهبًا غير ما ذكرته، وفوق كل ذي علم عليم.
1 ينسخ: يبطل الحكم، ومنه قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} البقرة: 2/ 106.