الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القسم:
برئت من أدبي والعز من شيمي
…
إن لم أبر بنأي عنهم قسمي
القسم أيضًا حكاية حال واقعة، وليس تحته كبير أمر، ولكن تقرر أن الشروع في المعارضة ملزم، وهو أن يقصد الشاعر الحلف على شيء، فيحلف بما يكون له مدحًا وما يكسبه فخرًا وما يكون هجاء لغيره، فمثال الأول، قول مالك بن الأشتر النخعي في معاوية بن هند:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا
…
ولقيت أضيافي بوجه عبوس1
إن لم أشن على ابن هند غارة
…
لم تخل يومًا من ذهاب نفوس
فقول ابن الأشتر تضمن المدح لنفسه والفخر الزائد والوعيد للغير، ومثله قول أبي على البصير، يعرض بعلي بن الجهم:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملي
…
وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدت عاداتي التي عودتها
…
قدمًا من الأسلاف والأخلاف
وغضضت من ناري ليخفى ضوؤها
…
وقريت عذرًا كاذبًا أضيافي2
إن لم أشن على عليّ خلة
…
تمسي قذى في أعين الأشراف3
وقد يقسم الشاعر بما يريده الممدوح ويختاره، كقول الشاعر:
إن كان لي أمل سواء أعدّه
…
فكفرت نعمتك التي لا تكفر
1 الوفر: الغنى.
2 غضضت: خففت، قريت: أطعمت.
3 الخلة: بضم الخاء الصداقة.
وأحسن ما سمع في القسم على المدح قول الشاعر:
حفت بمن سوَّى السماء وشادها
…
ومن مرج البحرين يلتقيان1
ومن قام في المعقول من غير رؤية
…
فأثبت في إدراك كل عيان
لما خلقت كفاك إلا لأربع
…
عقائل لم تعقل لهن ثواني2
لتقبيل أفواه وإعطاء نائلٍ
…
وتقليب هندي وحبس عنان
والمقدم في هذا الباب، وهو الذي انتهت إليه نهاية البلاغة، قوله تعالى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 3 فإنه قسم يوجب الفخر، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأكمل عظمة حاصلة من ربوبية السماء والأرض، وتحقيق الوعد بالرزق، وحيث أخبر سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء وأنه رب السماء، يلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره. انتهى الكلام على القسم الذي يراد به الفخر والمدح والتعظيم. وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر:
جنى وتجنى والفؤاد يطيعه
…
فلا ذاق من يجني عليه كما يجني
فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي
…
فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني
ومما جاء من القسم في الغزل قول ابن المعتز:
لا والذي سل من جفنيه سيف ردى
…
قدت له من عذاريه حمائله4
ما صارمت مقلتي دمعًا ولا وصلت
…
غمضًا ولا سالمت قلبي بلابله5
الذي وقع عليه الاتفاق أن هذا أحسن ما وقع من القسم في الغزل، إذ القسم والمقسم عليه كل منهما داخل في باب الغزل، ولكن، قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع: إن الذي وقع لجميل بن معمر العذري في هذا الباب، ما تحسن العبارة تفصح عن لفظه ووصفه، وهو قوله على لسان محبوبته:
قالت وعيش أبي وأكبر إخوتي
…
لأنبهبن الحي إن لم تخرج
فخرجت خيفة أهلها فتبسمت
…
فعلمت أن يمينها لم تلجج6
1 البيت عبارة عن آيتين من القرآن الكريم مع بعض التغيير، مَرَجَ: خلط.
2 عقائل: مفردها عقيلة وهي الفتاة الكريمة، تعقل: تربط ثواني: واحدة ثانية مثلها.
3 الذاريات: 51/ 23.
4 حمائل: السيف: مكان تعليقه في الرحل. أو في وسط الفارس.
5 صارمت: قاطعت، بلابل القلب: هواجسه والأفكار التي تحركه.
6 هذان البيتان يرويان لعمر بن أبي ربيعة وهما بشعره أشبه، والشطر الثاني من البيت الثاني منهما يروى كما يلى: فعلمت أن يمينها لم تحرج -والإحراج: المضايقة لم تلجج: لم تلح في الأمر أو لم تتردد من: تلجلج إذا تردد.
ثم قال، أعني ابن أبي الأصبع: رحم الله جميلًا لقد تظرف في هذين البيتين ما شاء، لأنه أتى بهما من باب الهزل الذي يراد به الجد، وأغرب في القسم فيهما، وأدمج في القسم حسن ائتلاف اللفظ مع المعنى، وأتى بما لا يوفيه واصف حقه. انتهى كلام ابن أبي الأصبع.
قلت: وإذا وصلنا في القسم إلى باب الهزل الذي يراد به الجد، فهذب الدين بن منير الطرابلسي قائد هذا العنان، وفارس هذا الميدان، وما ذاك إلا أنه هاجر إلى مدينة السلام بغداد، والشريف الموسوي نقيب الأشراف بها، وبابه حرم الوافدين، وينابيع الفضل التي هي مناهل الواردين. وكان يقال إن الشريف المشار إليه من كبار الشيعة ببغداد، وعلى هذا أجمع غالب الناس، فجهز إليه ابن منير عند قدومه بغداد هدية مع مملوكه تتر، بل معشوقه الذي اشتهر به في الخافقين غرامه، وأبدع في أوصافه الجميلة نظامه، فقبل الشريف هديته، واستحسن المملوك فأدخله في الهدية، وقصد أن يعوضه على ذلك بأضعافه، فلما شعر ابن منير بذلك التهبت أحشاؤه على مملوكه بل معشوقه تتر، وكتب إلى الشريف على الفور قصيدة أولها:
عذبت قلبي يا تتر
…
وأطرت نومي بالفكر
ومنها:
بالمشعرين وبالصفا
…
والبيت أقسم والحجر1
وبمن سعى فيها وطا
…
ف به ولبى واعتمر
إن الشريف الموسوي
…
بن الشريف أبي مضر
أبدى الجحود ولم يرد
…
إليَّ مملوكي تتر
واليت آل أمية
…
الطهر الميامين الغرر
وجحدت بيعة حيدر
…
ورجعت عنه إلى عمر
وإذا جرى ذكر الصحابة
…
بين جمع واشتهر
قلت المقدم شيخ
…
تيم ثم صاحبه عمر2
ما سل قط ظبا على
…
آل النبي ولا شهر
1 الحجر: الحجر الأسود، وهو من المقدسات الإسلامية.
2 شيح تيم من ألقاب أبي بكر.
كلا ولا صد البتو
…
ل عن التراث ولا زجر1
وأثابها الحسنى وما
…
شق الكتاب ولا بقر2
وبكيت عثمان الشهـ
…
ـيد بكاء نسوان الحضر
وشرحت حسن صلاته
…
جنح الظلام المعتكر
ورثيت طلحة والزبـ
…
ـير بكل شعر مبتكر
وأزور قبرهما وأز
…
جر من لحاني أو زجر3
وأقول أم المؤمنين
…
عقوقها إحدى الكبر4
ركبت على جمل لتصـ
…
ـبح من بنيها في زمر
وأتت لتصلح بين جيـ
…
ـش المسلمين على غرر
فأتى أبو حسن وسل
…
حسامه وسطًا وكر
وأذاق إخوته الردى
…
وبعير أمهم عقر
ما ضره لو كان كف
…
وعف عنهم إذ قدر
وأقول إن إمامكم
…
ولى بصفين وفر
وأقول إن أخطا معا
…
وية فما أخطا القدر
هذا ولم يغدر معا
…
وية ولا عمرو مكر5
بطل بسوأته يقا
…
تل لا بصارمه الذكر
وجنيت من ثمر النوا
…
صب ما تتمر واختمر
وأقول ذنب الخارجـ
…
ـين على عليٍّ يغتفر
لا ثائر لقتالهم
…
في النهراون ولا أشر
والأشعري بما يؤ
…
ول إليه أمرهما شعر6
قال انصبوا لي منبرًا
…
فأنا البريء من الخطر
1 البتول: المنقطعة إلى عبادة الله وهو من ألقاب فاطمة الزهراء عليها السلام ابنة النبي.
2 أثابها: كافأها، يقر: العلم توسع فيه ومنه لقب محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالباقر: أي المتبحر في العلوم والمتوسع فيها.
3 أزجر: أطرد، لحاني: لامني.
4 الكبر: الكبائر من الذنوب والمعاصي. وهي التي تدخل النار ولا تغفر.
5 معاوية هو معاوية بن أبي سفيان. وعمرو هو عمرو بن العاص. أحد الحكمين في حرب صفين.
6 الأشعري: هو أبو موسى أحد الحكمين في حرب صفين.
فعلا وقال خلعت صا
…
حبكم وأوجز واختصر
وأقول إن يزيد ما
…
شرب الخمور ولا فجر
ولجيشه بالكف
…
عن أبناء فاطمة أمر
وحلقت في عشر المحرم
…
ما استطال من الشعر
ونويت صوم نهاره
…
وصيام أيام أخر
ولبست فيه أجل ثو
…
ب للملابس يدخر
وسهرت في طبخ الحبو
…
ب من العشاء إلى السحر
وغدوت مكتحلًا أصا
…
فح من لقيت من البشر
ووقفت في وسط الطريـ
…
ـق أقص شارب من عبر
وغسلت رجلي ضلة
…
ومسحت خفي في السفر
وأمين أجهر في الصلا
…
ة كمن بها قبلي جهر1
وأسن تسنيم القبو
…
ر لكل قبر محتفر
وإذا جرى ذكر الغدير
…
أقول ما صح الخبر2
ولبست فيه من الملا
…
بس ما اضمحل وما دثر
وسكنت جلق واقتديت بهم
…
وإن كانوا بقر3
وأقول مثل مقالهم
…
بالفاشر يا قد فشر4
مصطيحتي مكسورة
…
وفطيرتي فيها قصر5
نفر يرى برئيسهم
…
طيش الظليم إذا نفر6
وخفيفهم مستثقل
…
وصواب قولهم هدر
وطباعهم كجبالهم
…
طبعت وقدَّت من حجر
ما يدرك التشبيب تغـ
…
ـريد البلابل في السحر
1 أمين: هي آمين: اسم فعل أمر بمعنى استجب.
2 الغدير: إشارة إلى غدير خم وحديث النبي فيه حيث قال -صلى الله تعالى عليه وسلم: "من كنت مولاه فهذا على مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيف دار".
3 جلق: مكان في دمشق، وذلك إشارة إلى أنه سكن مع أهل الشام وصار مثلهم يؤيد معاوية.
4 فشر: لم نعثر على معنى لهذه اللفظة في ما بين أيدينا ونظنها عامية بمعنى: لا يمكن له أن يصل إلى هذا الأمر.
5 مصطيحتي وفطيرتي: نوعان من أنواع الخبز الأولى مستطيلة والثانية مثلثة، وتؤدمان بزبدة أو نحوها.
6 الظليم: ذكر النعام ويضرب به المثل في الطيش عند تنفيره.
وأقول في يوم تحا
…
ر له البصيرة والبصر
والصحف ينشر طيها
…
والنار ترمي بالشرر
هذا الشريف أضلني
…
بعد الهداية والنظر
فيقال خذ بيد الشريـ
…
ـف فمستقر كما سقر1
لواحة تصطو فما
…
تبقي علي ولا تذر
والله يغفر للمسى
…
ء إذا تنصل واعتذر
فاخش الإله بسوء فعـ
…
ـلك واحتذر كل الحذر
وإليكها بدوية
…
رقت لرقتها الحضر
شامية لو شامها
…
قس الفصاحة لافتخر
ودرى وأيقن أنني
…
بحر وألفاظي درر
وبديعتي كبديعة
…
عذراء ترفل في الحبر2
خبرتها فغدت كزهـ
…
ـر الروض باكره المطر
وإلى الشريف بعثتها
…
لما قراها فانبهر
رد الغلام وما استمر
…
على الجحود ولا أصر
وأثابني وجزيته
…
شكرًا وقال لقد صبر
أقول إنه يغتفر لي طول الشرح لغرابة أسلوب هذه القصيدة، فإني لم أرج بها عن القصد، لأنها مبنية على القسم وجوابه من البراعة إلى الختام، وأما هزلها الذي يراد به الجد فإنه غاية لا تدرك، وطريق ما رأينا لغيره فيها مسلك وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته على هذا النوع، أعني القسم، نسجه على المنوال الأول الذي هو مبني على المدح والفخر والتعاظم وعلو الهمة، وهو قوله:
لا لقبتني المعالي بابن بجدتها
…
يوم الفخار ولا بر التقى قسمي3
هذا البيت منسوج على المنوال المذكور، لكن فيه نقص لأنه غير صالح للتجريد، ولم يأت ناظمه بجواب القسم، إلا في بيت الاستعارة الذي ترتب بعده، وهو:
إن لم أحث مطايا العزم مثقلة
…
من القوافي تؤم المجد عن أمم4
1 سقر: من أسماء جهنم. وهذا البيت والذي بعده والبيتان اللذان قبله عبارة عن آيات قرآنية تصرف فيها الشاعر.
2 الجبر: واحدتها حبرة وهي من الثياب الفضفاض الناصع البياض.
3 ابن بجدتها: أي عالمها. والبجدة: من الأمر حقيقته وباطنه.
4 أمم: قرب.
وأصحاب البديعيات شرطوا أن يكون كل بيت شاهدًا على نوعه بمجرده، وإذا كان البيت له تعلق بما بعده أو بما قبله لا يصلح أن يكون شاهدًا على ذلك النوع.
ولقد عجبت للشيخ صفي الدين، كيف فتر عزمه وقصرت همته، عن هذا القدر الذي يتطاول إلى إدراكه كل قاصر، وأين هو من قول القائل في طريقته الغرامية التي حركت السواكن، حيث قال:
حرمت الرضا إن كنت خنتك في الهوى
…
وعوقبت بالهجران إن كنت كاذبا
انظر ما أحلى ما أتى بالقسمين وجوابيهما في بيت واحد، مع عدم التعسف والرقة التي كادت أن تسيل.
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم. وبيت الشيخ عز الدين الموصلي:
برئت من أدبي والعز من شيمي
…
إن لم أبر بنأي عنهم قسمي2
وهذا البيت مبني على الفخر والتعاظم وعلو الهمة. وفي قولي: والعز من شيمي غاية الفخر، ولكن اللطف الزائد قول الأديب، في القسم: برئت من أدبي، مع التورية التي ترفل في حلل الحشمة، وتسمية النوع والتقفية به لا تخفى على أهل الذوق من أهل الأدب، والله أعلم.
1 الشم: العالي، أدِن: اعتبر نفسي مدينًا.
2 النأي: البعد.