الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث
(الدين وضرورته في الحياة، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح وطرق معالجته)
ضرورة الدين في حياة الإنسان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا وأستاذنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، الصادق الوعد الأمين اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه ومن اهتدى بهديه، وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:
الدين ضرورة من ضرورات الحياة لا تقل عن الهواء والماء والغذاء، إن لم تجد عليه فلن ينعم الإنسان ولن يسعد إلا في ظل الدين، هو إن وجد طريقه للغذاء المادي فهذا غذاء الجسد، لكن أهم من ذلك غذاء الروح؛ ومن ثم فالإنسان بحاجة إلى الدين في حياته حتى ينعم، حتى يسعد حتى يستقر، وإلا فالإنسان في خوف وحزن إلَّا أن يكون مؤمنًا تقيًا كما ذكرنا بالآية:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62: 64).
والإنسان في هلع وفزع وجزع ومنع من خير إلا أن يكون صاحب دين، وصاحب إيمان حق كما قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ* وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ* وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ* أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} (المعارج: 19 - 35).
هذا وإن ما يشهده العالم اليوم في ظل الحضارة والتقدم، والرقي والرفاهية على حساب راحته النفسية والروحية؛ مما أصاب العالم كله بسعار لا نهاية له، ولا راحة معه لخير دليل على أن الدين فطرة النفس البشرية لا تسعد إلا في ظله، ويوم تستظل بغيره تفقد الأمن والأمان والاستقرار.
إن تلك الحضارة يوم أن أسقطت الدين من حساباتها، وانصرفت إلى نزواتها أيقظت في الإنسان شقه وقتلت فيه الشق الآخر أيقظت فيه شق الحيوان، فتحول إلى قطيع همه اللقمة والشهوة، والمصلحة حتى اتخمت البطون، وقتلت فيه الإنسان، ففقد المجتمع أمنه واستقامته فصار من الناس من سكن الأجداث أي: القبور وهم أحياء يتقلبون بين الأتراح والأفراح، وهم في لعبهم ولهوهم غافلون حتى يأذن الله تعالى لهم باليقظة والإفاقة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11) لقد ولد الإنسان متدينًا، ولم يكن التدين نتيجة تطور وارتقاء، ولم يكن نتيجة خرافات أو أساطير أو من صنع الدهاة والكهان، ولا من صنع السحرة أو الأقوياء، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين كما قال الشاعر:
ومن رضي الحياة بغير دين
…
فقد رضي الفناء لها قرينا
ولا حياة لمن لم يحي ِ دينَا
…
.................
إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض، واستعمره فيها وجعله سيدًا، وسخر له ما في السماوات، وما في الأرض جميعًا منه من أجل أن يكون عبدًا له وحده أينما ولى فثم الله، فيسبح بحمده، ويقدسه، ويعبده، ويمجده، كما قال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) تلك هي الغاية الكبرى، والحكمة الأولى من خلق الإنسان، وهو الذي يحتاج إلى هذه العبادة مع أنها لا تزيد في ملك الله ولا تنقصه، ولا تضره سبحانه أو تنفعه، ولكنها علامة الصدق، ورمز الوفاء {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك: 2).
والإنسان من غير هذا التوجه الكريم إلى خالق الكون ومدبره ضعيف في هذا الكون وحيد في هذا الوجود؛ لأنه يكون مبتوت الصلة بالكون وما فيه، فتتولد
في نفسه الهواجس وتحيط به الظنون يخشى أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق؛ لذلك فهو يحتاج إلى إيمان يملأ قلبه ويربطه بالكون مخلوقًا، وبإله الكون خالقًا حتى يعلم الإنسان سبب وجوده، ومصيره المحتوم بعد رحلة الحياة وكذلك حتى يعلم الإنسان ما علاقته بالكون، وما هي الصلة بينه وبين غيره من المخلوقات كل ما في الكون قد خلق للإنسان.
أما الإنسان نفسه فقد خُلِقَ لله جل في علاه؛ لمعرفته وعبادته، وأداء أمانته في الأرض، وكفى بهذا شرفًا وفخرًا؛ فالإنسان سيد في الكون عبد لخالقه وحده؛ ومن ثم فإن الدين ضرورة في حياة الإنسان من أجل معرفة غاية الوجود الإنساني، فبالدين يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لمسيرته وجهة ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى، ولعيشه طعمًا ومذاقًا، وأنه ليس ذرة تافهة تائهة في الفضاء، ولا مخلوقا سائبًا يخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء كالذين جحدوا الله، أو شكوا فيه، فلم يعرفوا لماذا وجدوا، ولماذا يعيشون، ولماذا يموتون، كلا إنه لا يعيش في عماية، ولا يمشي إلى غير غاية، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره، واستبانة لمصيره بعد أن عرف الله، وأقر له بالوحدانية. أما الذي قال:
لبست ثوب العيش لم أستشر
…
وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أمض الثوب عني ولم أدرِ
…
لماذا جئت أين المفر
أو ما قاله الآخر:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.
كلا فقد اتضحت وجهته الربانية، وعرف من أين جاء، ولم جاء، وإلى من فراره، وأين قراره إنه عن طريق التدين يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها، والتي تطلب الإيمان بالله تعالى ولا يعوضها شيء غيره يقول تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30).
واهتداء الإنسان إلى فطرته ليس كسبًا رخيصًا بل هو كسب كبير، وغنى عظيم فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه ومع فطرة الوجود الكبير من حوله، فالكون كله رباني، رباني الوجهة يسبح بحمد الله {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44).
والحقيقة: أن في فطرة الإنسان فراغًا لا يملؤه علم، ولا ثقافة، ولا فلسفة إنما يملؤه الإيمان بالله -جل وعلا- وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله وتؤمن به وتتوجه إليه، هناك تستريح من تعب، وترتوي من ظمأ، وتأمن من خوف هناك تحس بالهداية بعد الحيرة، والاستقرار بعد التخبط، والاطمئنان بعد القلق، ووجدان المنزل والأهل بعد طول الغربة، والضرب في أرض التيه كالذي قال:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
…
كما قر عينًا بالأيام المسافر
فإذا لم يجد الإنسان ربه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ فما أشقى حياته، وما أتعس حظه وما أخيب سعيه إنه لن يجد السعادة، ولن يجد السكينة ولن يجد الحقيقة بل لن يجد نفسه ذاتها كالذين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم إن الإنسان خلق عجيب جمع بين قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله فمن عرف جانب الطين، ونسي نفخة الروح لم يعرف حقيقة الإنسان، ومن أعطى الجزء
الطيني فيه غذاءه، وريه مما أنبتت الأرض، ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان ومعرفة الله، فقد بخس الفطرة الإنسانية حقها وجهل قدرها، وحرمها ما بها حياتها وقوامها.
قال ابن القيم رحمه الله: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذيبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه، وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا، وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا".
إنها الفطرة البشرية الأصيلة التي لا تجد سكينتها إلا في الاهتداء إلى الله والإيمان به، والالتجاء إليه إنها الفطرة التي لم يملك مشركو العرب في جاهليتهم أن ينكروها مكابرةً وعنادًا:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 61) وقد يتراكم على هذه الفطرة صدأ الشبهات، أو غبار الشهوات، وقد تنحرف، وتتدنس باتباع الظن واتباع الهوى، أو التقليد الجاهل للأجداد والآباء، أو الطاعة العمياء للسادة والكبراء، وقد يصاب الإنسان بداء الغرور والعجب؛ فيظن نفسه شيئًا يقوم وحده، ويستغني عن الله؛ بيد أن هذه الفطرة تذبل ولا تموت، وتكمن ولا تزول؛ فإذا أصاب الإنسان من شدائد الحياة وكوارثها ما لا قبل له به، ولا يد له، ولا للناس في دفعه، ولا رفعه؛ فسرعان ما تزول القشرة السطحية المضللة، وتبرز الفطرة العميقة الكامنة، وينطلق الصوت المخنوق المحبوس داعيًا ربه منيبًا إليه كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء: 67).
هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، وعلى ذلك فحاجة الإنسان إلى الدين هو احتياج في أصله يدور حول هذه المعاني السامية، ويسير في فلك هذه الغايات النبيلة، كحاجة الإنسان إلى الكرامة والعزة، أو حاجته إلى السعادة والأمل، أو احتياجه إلى الطمأنينة والهدوء، أو حاجته إلى الرشد والهدى.
والإنسان أيُّ إنسان سواء من كان في قمة الحضارة، أو من كان في حضيض التأخر الإنسان البدائي، وإنسان عالم الذرة والكمبيوتر، وإنسان البادية وإنسان المدينة، إنسان الحضر، وإنسان الصحراء الإنسان الغربي والشرقي على كل سواء يبحثون عن هذه المعاني النفسية، وينادون جميعًا لاستكمال هذا البنيان الداخلي، وذلك الكمال النفسي، فكل في حاجة إليه، والكل مفتقر إليه.
إن الدين وحده الذي صاحب البشرية منذ طفولتها، ولم يفارقها في صباها وشبابها وكهولتها، ولم يزل سلطانه مهيمنًا عليها هو الذي يحل لغز الوجود، ويفسر سر الحياة والموت، وغير ذلك إنه الدين نحن أحوج ما نكون إليه، والناس بغير دين يكونون كالأموات، كما قال رب الأرض والسماوات:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) فالحياة مع هذا الدين سيما الحق قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (الأنعام: 122).
إن الإنسان بغير دين كالأعرج أو الأعوج غذى جسده، ولم يغذِ روحه فلن يجد سعادته، ولن يجد سكينته، وسائر الكفار مع ما أوتوا من نعم الدنيا وزخارفها، لكنهم غفلوا عن الدين، وعن الآخرة؛ فكان الأمر، كما قال الله: {يَعْلَمُونَ