المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة - الأديان والمذاهب - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 علم الأديان نشأته وأهميته وتعريفه

- ‌مقدمة عن تاريخ علم الأديان

- ‌تعريف الدين

- ‌وحدة الدين

- ‌الدرس: 2 الفرق الدين السماوي والوضعي، والملة والنحلة، والشريعة والمنهاج، وموقف الإسلام من الأديان

- ‌الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي

- ‌الفرق بين الملة والنحلة

- ‌الفرق بين الشريعة والمنهاج

- ‌موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وعلاقته بها

- ‌الدرس: 3 الدين وضرورته في الحياة، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح وطرق معالجته

- ‌ضرورة الدين في حياة الإنسان

- ‌عوامل الانحراف عن الدين الصحيح، وطرق معالجة هذا الانحراف

- ‌الدرس: 4 نشأة العقيدة الإلهية

- ‌فطرية التدين

- ‌نشأة العقيدة الإلهية، والرد على من قال بتطور العقيدة

- ‌الدرس: 5 اليهودية؛ تسميتها ونشأتها، والمصدر الأول لها: التوراة

- ‌الحديث عن اليهودية من حيث التسمية والنشأة

- ‌المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة

- ‌الدرس: 6 المصدر الثاني لليهودية: التلمود

- ‌تعريف التلمود، ونشأته، ولغته، ومحتواه، ومنزلته عند اليهود

- ‌نماذج مما اشتمل عليه التلمود

- ‌الدرس: 7 المصدر الثالث لليهودية: بروتوكولات حكماء صهيون، وأهم المعتقدات اليهودية (1)

- ‌المصدر الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون

- ‌موقف اليهود من الإيمان بالله تعالى وملائكته

- ‌الدرس: 8 أهم المعتقدات اليهودية (2)

- ‌موقف اليهود من الإيمان بالكتب

- ‌موقف اليهود من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 9 أهم المعتقدات اليهودية (3)

- ‌معتقدات اليهود في الأنبياء

- ‌موقف اليهود من الإيمان باليوم الآخر

- ‌الدرس: 10 النصرانية من حيث التسمية والمصادر

- ‌أصل التسمية بالنصرانية والمسيحية

- ‌النصرانية من حيث المصادر المعتمدة عندهم، وتاريخها، والنظر إليها

- ‌الدرس: 11 أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها

- ‌التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم

- ‌إبطال دعوى ألوهية عيسى عليه السلام وبنوته من القرآن الكريم ومن نصوص أناجيله، وإثبات نبوته

- ‌إبطال دعوى ألوهية عيسى عليه السلام أو التثليث بدليل عقلي

- ‌الدرس: 12 تابع أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها

- ‌قصة الصلب والفداء

- ‌إبطال دعوى صلب المسيح من القرآن الكريم، ومن الإنجيل

- ‌إبطال دعوى صلب المسيح بدليل تاريخي

- ‌إبطال دعوى صلب المسيح بالأدلة العقلية

- ‌الدرس: 13 الديانة المصرية القديمة

- ‌مصادر دراسة الدين المصري

- ‌أهم معتقدات المصريين القدماء

- ‌الدرس: 14 أديان الهند الكبرى

- ‌مصادر الديانة الهندوسية

- ‌العق يدة الهندوسية أو البرهمية

- ‌العقيدة الثالثة: تناسخ الأرواح

- ‌من عقائد الهندوسيين: الإيمان بالجنة والنار

- ‌الدرس: 15 تابع أديان الهند الكبرى

- ‌الديانة البوذية

- ‌الديانة الجينية

- ‌دور المذاهب في نشأة وتطور أديان الهند

- ‌الدرس: 16 أديان الصين واليابان

- ‌دين الصينيين: "الديانة الكنفشوسية

- ‌رأي العلماء في نشأة وتطور أديان الصين

- ‌الدرس: 17 أديان الفرس

- ‌مصادر أديان الفرس

- ‌التعريف بزرادشت

- ‌أركان الدين الفارسي

- ‌آراء العلماء في دين الفرس

- ‌الدرس: 18 أديان اليونان والرومان

- ‌دين اليونان

- ‌دين الرومان

الفصل: ‌المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة

ولكن من الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها دونما، وراءها من عوامل المصادفة العارضة، والتدبير المقصود".

‌المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة

تلك إشارة حول اليهودية من حيث التسمية والنشأة، فماذا عن المصادر مما شاع عند الناس، أو ما هو معروف أن التوراة هي كتاب اليهود، أو المصدر الأساسي لهذه الديانة؟

ينبغي أن نعلم جيدًا أن التوراة، أو العهد القديم كما يسمونها ليست وحدها هي المصدر المقدس عند اليهود، بل هناك مصادر أخرى لا تقل قداسة عن التوراة، بل تزيد عنها كثيرا، وخاصة في العصر الحديث، وهذه المصادر هي:

أولًا: العهد القديم أو التوراة، ثانيًا: التلمود، ثالثًا: بروتوكولات حكماء صهيون، وهي من حيث القداسة أهمها، وأقدسها عند اليهود المعاصرين بروتوكولات حكماء صهيون. وثانيًا: التلمود، وأخيرًا: العهد القديم.

وقد ساد الظن أمدًا طويلًا في أن الأسفار التي دونت قبل ميلاد المسيح هي وحدها الكتب، أو كتب اليهود المقدسة؛ لأنها الكتب المعروفة والمدونة، وهي التي ورد ذكرها على ألسنة المسلمين والمسيحيين إلا أن الظن لم يدُم طويلًا بعدما ظهرت كتب أخرى من أهمها التلمود والبروتوكولات مع عدد من الشروح المتعلقة بهما.

وقد عرف بعدُ أن اليهود قصدوا إخفاء هذه الكتب عن العالم؛ لما فيها من تعاليم تسيء إلى غير اليهود بل ليست مجرد إساءة فقط، ولكنها كيفية التخلص من هذا

ص: 105

العالم؛ ليبقى اليهود وحدهم، وإن كان لابد من بقاء العالم، فليكن خدمًا وحميرًا لشعب الله المختار.

نتعرف على هذه المصادر واحدًا تلو الآخر، أولًا: العهد القديم:

يذكر العهد، ويراد به الميثاق العهد هو الميثاق الذي أخذه الله على عباده؛ ليلتزموا بما عاهدهم عليه. وينقسم العهد في الاصطلاح الديني إلى قديم وحديث؛ باعتبار بعثة المسيح عليه السلام فما كان قبله يعرف بالعهد القديم، ويسمى التوراة، وما كان بعده يعرف بالعهد الجديد، ويسمى الإنجيل، وأول من أطلق اسم العهد القديم بولس الرسول كما يزعم النصارى في رسالته الثانية إلى أهل "كورنثوس" إذ قال:"بل أغلظت أذهانهم؛ لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه، عند قراءة العهد العتيق باقٍ غير منكشف" الرسالة الثانية إصحاح 3 فقرة 14.

وتشير الفقرة إلى عادة يهودية، وهي وضع برقع على الوجه عند قراءة شيء من العهد القديم لغلظةِ قلوبهم. هذا من حيث معنى العهد.

أما العهد اصطلاحًا: فالعهد القديم كتاب اليهودية الرئيسي حيث يحتوي على الشريعة والتعاليم الإلهية، كما يتضمن تفصيلات التاريخ اليهودي، ويحتوي كذلك على ألوان من الآداب، والأشعار الإرشادية، وأيضًا ففيه تصوير للعقيدة، وسير لأنبياء بني إسرائيل، هذا ويزعم اليهود أنهم يعتمدون في عبادتهم وتشريعاتهم، وآرائهم، ومعاملاتهم على ما جاء في التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام والتوراة كلمة عبرية معناها الشريعة، أو التعاليم الدينية.

ص: 106

فقد اعتمد اليهود تسعة وثلاثين سفرًا أطلق عليها اسم العهد القديم، ويعتبرونها أسفارًا مقدسة أي: موصى بها، ويطلقون على خمسة منها إطلاقًا حقيقيًا اسم التوراة، أو كتب موسى؛ لأنها في زعمهم أنزل الله على موسى عليه السلام وكتبها موسى بنفسه، وهذه الأسفار الخمسة هي سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر التثنية، وسفر اللاويين، وسفر العدد.

أما الأربعة والثلاثون سفرا الباقية؛ فمنسوبة إلى أشخاص كتبوها بعد موسى عليه السلام بأزمانٍ متفاوتة في الطول والقصر، وهي: يشوع، والقضاة، وراعون، وصموئيل الأول، وصموئيل الثاني، والملوك الأول، والملوك الثاني، وأخبار الأيام الأول، وأخبار الأيام الثاني، و"عزرا" و"نحميا" و"إستير" و"أيوب" و"المزامير والأمثال والجامعة ونشيد الإنشاد و"إشعياء" و"إرمياء" و"مراثي" "إرمياء" و"حزقيال" و"دانيال" و"هوشع" و"يوئيل" و"عاموس" و"عويديا" و"يونان" و"ميخا" و"ناحوم" و"حبقوق" و"صفنيا" و"حجا" وزكريا وملاخ.

وهذه الأسفار الأربعة والثلاثون مقدسة أيضًا عند اليهود، ويطلق عليها تجوزًا مع الأسفار الخمسة السابقة اسم التوراة من باب إطلاق الجزء على الكل.

والأسفار في جملتها صبغتها دينية إلا أن منها ما يغلب عليه الطابع التاريخي كأسفار التكوين والخروج، ويشوع، والقضاة، وأخبار الأيام و"عزرا" و"نحميا" ومنها ما يغلب عليه الطابع التشريعي، والأخلاقي، والتوجيهي كأسفار اللاويين، والمزامير، والجامعة، و"إشعياء" و"مراثي إرمياء" كذلك منها ما هو طويل كسفر التكوين، والمزامير، و"إشعياء" و"إرمياء" ومنها ما هو قصير كسفر "عويديا" و"حجى" و"حبقوق".

بعد هذا التعريف الموجز للأسفار المقدسة عند اليهود، والتي يطلقون عليها اسم التوراة نسأل هل هذه الأسفار المقدسة عندهم هي التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام؟

ص: 107

للإجابة على هذا السؤال نقول: إن الذي ينظر في هذه الأسفار يجد فيها من التناقض والافتراء والانحراف عن الحق، وسوء التعبير ما يجعله يحكم عليها بأنها في مجموعها ليست هي التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام وهذه بعض الأدلة على ذلك.

أولًا: اعترف القرآن الكريم بالتوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام ومدحها في آيات كثيرة من ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} (آل عمران: 2 - 4) وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44).

وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن اليهود قد امتدت أيديهم إلى التوراة فحرفوها، وبدلوها وأخفوا منها ما لا يتفق مع أهوائهم وشهواتهم كما قال تعالى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 75 - 79).

كما قال تعالى: {يَا أَهْل الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (المائدة: 15) كما قال تعالى أيضًا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا

ص: 108

قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13).

بل إن التوراة ذاتها قد ذكرت هذا التحريف بصريح العبارة في كثير من نصوصها ومنه: "ماذا يصنع بي البشر اليوم كله يحرفون كلامي" سفر المزامير إصحاح 56 الفقرة 4، 5، وفيها أيضًا كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب" سفر إرميا إصحاح 8 فقرة 8، وفيها: "أما وحي الرب فلا تذكروه؛ لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه؛ إذ قد حرفتم كلام الإله الحي" سفر إرميا إصحاح 23 فقرة 36.

وفيها أيضًا: "اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم، وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات، وأشهد عليهم السماء والأرض؛ لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون، وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به، ويصيبكم الشر في آخر الأيام؛ لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم" سفر التثنية إصحاح 31 فقرة 28 و29.

وفيها كذلك: "ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب، فتصير أعمالهم في الظلمة، ويقولون: من يبصرنا، ومن يعرفنا يا لتحريفكم" سفر إشعياء إصحاح 29 الفقرة 15، 16.

وفيها أيضًا: "حتى من يوجد في قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم أي: طبيعته معوجة ملآنة من الشر والحماقة كما هو في قاموس الكتاب المقدس، بل هم أنبياء خداع قلبهم الذين يفكرون أن ينسوا شعبي اسمي بأحلامهم التي يقصونها الرجل على صاحبه كما نسي آباؤهم اسمي لأجل البعث النبي الذي معه حلم فليقص حلمًا، والذي معه كلمتي فليتكلم بكلمة الحق، ما للتين مع الحنطة".

ص: 109

يقول الرب: سفر إرميا إصحاح 23 الفقرة 26 إلى 28 وفيها أيضًا: "فلا تسمعوا لكلام الأنبياء، والذين يكلمونكم قائلين: لا تخدموا ملك بابل؛ لأنهم إنما يتنبئون لكم بالكذب؛ لأني لم أرسلهم يقول الرب بل هم يتنبئون باسمي بالكذب؛ لكي أطردكم فتهلكوا أنتم والأنبياء الذين يتنبئون لكم" سفر إرمياء إصحاح 27 فقرة 14، و15. فتلك شهادة التوراة على نفسها نستأنس بها مع ما جاء في القرآن الكريم، ومع ما سنفصل القول فيه -إن شاء الله.

ثانيًا: نثبت انقطاع سند التوراة؛ فإن التوراة الموجودة حاليًا ليس لها سند متصل إلى موسى عليه السلام بل هي على النقيض من ذلك؛ إذ يوجد فيها ما يدل دلالة قاطعة على أنها كتبت بعده بزمن طويل؛ فمثلًا جاء في سفر التثنية بخصوص وفاة موسى عليه السلام نص يقول: "فمات موسى عبد الرب في أرض "موآب"، ولا يعرف شخص قبره حتى يومنا هذا" سفر التثنية إصحاح 34 الفقرة 5 و6 بتصرف، فهذا النص هل يحتمل أن يكون كتبه موسى عليه السلام وأنه من التوراة التي نزلت عليه، كما جاء فيها أيضًا:"ولم يكن بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى" سفر التثنية إصحاح 34 الفقرة 10.

فهل هذا مما أملاه الله لموسى أيضًا، لقد قرأتُ التوراة وتصفحتُهَا، وأمعنت النظر فيها، فوجدتها لا تزيد عن كتاب سيرة يحكي حال موسى عليه السلام مع أتباعه، وحال بني إسرائيل من قبل ذلك ومن بعده، بل يحمل في طياته من التناقضات والمخالفات، والاتهامات الشيء الكثير، كما يمكن أن نذكر طرفًا من ذلك بعد إن شاء الله.

ومن الواضح: أن مثل هذا الكلام مكتوب بعد وفاة موسى عليه السلام هذا وقد أقام الشيخ رحمة الله الهندي أدلة متعددة على انقطاع سند التوراة، فقال ما ملخصه: "اعلم -أرشدك الله تعالى- أنه لابد لكون الكتاب، أو السفر سماويًّا واجب

ص: 110

التسليم أن يثبت أولًا بدليل تام أن هذا الكتاب كتب بواسطة النبي الفلاني، ووصل بعد ذلك إلينا بالسند المتصل بلا تغيير، ولا تبديل والاستناد إلى شخص ذي إلهام بمجرد الظن، والوهم لا يكفي في إثبات أنه من تصنيف ذلك الشخص، وكذلك مجرد ادعاء فرقة أو فرق لا يكفي، ثم برهن على ذلك بالأسفار، وأنه لا سند لكون هذه التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام من تصنيفاته، ويدل عليها أمور منها أن تواتر هذه التوراة منقطع قبل زمان يوشيا بن آمون.

والنسخة التي وُجِدَت بعد ثماني عشرة سنة من جلوسه على سرير السلطة لا اعتماد عليها يقينًا، ومع كونها غير معتمدة ضاعت هذه النسخة أيضًا غالبًا قبل حادثة بنوخذ ناصر، أو المعروف باسم بختنصر.

وفي حادثته انعدمت التوراة، وسائر كتب العهد القديم عن صفحة العالم رأسًا، ولما كتب عزرا هذه الكتب -على زعمهم- ضاعت نسخها، وأكثر نقولها في حادثة "أنتيوكس".

جمهور أهل الكتاب يقولون: إن السفر الأول والثاني من أخبار الأيام صنفهما عزرا عليه السلام بإعانة حجي، وزكريا الرسولين عليهما السلام وهذان السفران في الحقيقة من تصنيف هؤلاء الأنبياء الثلاثة، وتناقض كلامهم في الإصحاح السابع والثامن من السفر الأول في بيان أولاد بنيامين، وهكذا خالفوا في هذا البيان هذه التوراة المشهورة من وجهين: الأول: في الأسماء والثاني: في العدد حيث يفهم من الإصحاح السابع أن أبناء بنيامين ثلاثة.

ومن الإصحاح الخامس: أنهم خمسة، ومن التوراة أنهم عشرة،

ص: 111

واتفق علماء أهل الكتاب: أن ما وقع في السفر الأول غلط، وبينوا سبب وقوع الغلط، ومن قابل الإصحاح الخامس والأربعين والسادس والأربعين من سفر حزقيال بالإصحاح الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من سفر العدد وجد مخالفات صريحة في الأحكام.

ومعروف أن حزقيال عليه السلام كان منبع التوراة، فلو كانت التوراة في زمانه مثل التوراة المشهورة لما خالفها في الأحكام، وكذلك وقع في التوراة في مواضع عديدة أن الأبناء يؤخذون بذنوب الآباء إلى ثلاثة أجيال، ووقع في الآية العشرين من الإصحاح الثامن عشر من سفر حزقيل "النفس التي تخطئ هي تموت الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن".

وَمَن طَالَعَ الزبور، وسفر نحميا، وسفر أرميا، وسفر حزقيال؛ جزم يقينًا أن طريق التصنيف في سالف الزمان كان مثل الطريق المروج الآن في أهل الإسلام إذ من المعروف أن المصنف لو كان يكتب حالات نفسه والمعاملات التي رآها بعينيه يعبر عن نفسه، وهذا الأمر لا يظهر في موضوع من مواضيع التوراة، بل تشهد عباراته أن كاتبه غير موسى عليه السلام وهذا الذي هو غير موسى جمع هذا الكتاب من الروايات، والقصص المشتهرة بين اليهود، ثم نسبها إلى الله مرة، وإلى موسى أخرى، وعبر عنه بضمير الغائب لا يقدر أحد أن يدعي بالنسبة إلى بعض الآيات، وبعض الإصحاحات أنها من كلام موسى، بل بعض الآيات تدل دلالة بينة على أن مؤلف هذا الكتاب لا يمكن أن يكون قبل داود عليه السلام بل يكون إما معاصرًا له، أو بعده.

وعلماء المسيحية يقولون ظنًّا ورجمًا بالغيب: إنها من ملحقات نبي من الأنبياء، وهذا القول مردود؛ لأنه مجردُ ادعاء منهم بلا برهان. ويقول الدكتور/ سكندر

ص: 112

كدس من فضلاء المسيحية المعتمدين في ديباجة الإنجيل الجديد: ثبت لي بظهور الأدلة الخفية ثلاثة أمور جزمًا؛ الأول: أن التوراة الموجودة ليست من تصنيف موسى، والثاني: أنها كتبت في كنعان، وأورشليم، يعني: ما كتبت في عهد موسى الذي كان بنو إسرائيل فيه في الصحارى، والثالث: لا يثبت تأليفها قبل سلطنة داود، ولا بعد زمان حزقيال، بل أنسب تأليفها إلى زمان سليمان عليه السلام بمعنى قبل ألف سنة من ميلاد المسيح، أو إلى زمان قريب منه، وليس قبل خمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام.

وقال غيرهم من علماء المسيحية ومنهم "نورتن": "إنه لا يوجد فرق معتد به في محاورة التوراة، ومحاورات سائر الكتب من العهد العتيق الذي كتب في زمان أطلق فيه بنو إسرائيل من أسر بابل مع أن بين هذين الزمانين تسعمائة عام".

ويتحدث الدكتور علي عبد الواحد وافي عن الأزمنة التي كتبت فيها الأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام فيقول: "هذا وأهم أسفار العهد القديم هي أسفار التكوين والخروج والتثنية واللاويين، والعدد التي ينسبها اليهود إلى موسى عليه السلام ويعتقدون أنها بوحي من الله، وأنها تتضمن التوراة، ولكن ظهر للمحدثين من الباحثين من ملاحظة اللغات، والأساليب التي كتبت بها هذه الأسفار، وما يشتمل عليه من موضوعات، وأحكام، وتشاريع، والبيئات الاجتماعية، والسياسية التي تنعكس فيها؛ ظهر لهم من ملاحظة هذا كله أنها قد ألفت في عصور لاحقة لعصر موسى بأمدٍ غير قصير، وعصر موسى يقع على الأرجح حوالي القرن الرابع عشر، أو الثالث عشر قبل الميلاد.

ص: 113

وأن معظم سفري التكوين والخروج قد أُلِّفَ حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد، وأن سفر التثنية قد ألف في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، وأن سفري العدد واللاويين قد أُلِّفَا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وأنها جميعًا مكتوبة بأقلام اليهود، وتتمثل في هذه الأسفار عقائد وشرائع مختلفة تعكس الأفكار والنظم المتعددة التي كانت سائدة لديهم في مختلف أدوار تاريخهم الطويل، فهي إذن تختلف كل الاختلاف عن التوراة التي يذكر القرآن أنها كتاب سماوي مقدس أنزله الله تعالى على موسى عليه السلام.

وبهذا نرى أن سند التوراة الحالية منقطع، وأنها كتبت بعد موسى عليه السلام بأزمنة مختلفة وبأياد متعددة، ورحم الله الشيخ رحمة الله الهندي فقد تناول في الكلام على أسفار العهدين العتيق والجديد، أي: التوراة والإنجيل كل باب من أبوابها، واستشهد من كلام مؤرخيهم وعلمائهم على تبيان المطعون فيه من الأبواب والآيات، وبين بالحجج الدامغة: أنه لا يوجد لدى علمائهم سند متصل لأيِّ كتابٍ من كتب العهدين ثم تناول بعد ذلك ما في الكتابين من الاختلاف والأغلاط، ثم عقد بابًا خاصًّا؛ لإثبات التحريف في كتب العهدين القديم والجديد مصداقًا لقوله تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (النساء: 46).

وأثبت أن بعض هذا التحريف كان عن عمد، وكان يأتي التحريف أحيانًا بالزيادة وأحيانًا بالنقصان وأحيانًا بالتبديل اللفظي، وساق على التحريف بالزيادة خمسة وأربعين شاهدًا، كما ساق على التبديل اللفظي خمسة وثلاثين شاهدًا.

أما التحريف: بالنقصان فقد ساق عليه عشرين شاهدًا مما يدل على سعة اطلاع، وتتبع حريص لإقامة الحجة عليهم من كتبهم، فمن أراد معرفة المزيد من تناقض التوراة التي بأيدي اليهود الآن وتحريفها، فليرجع إلى كتاب (إظهار الحق) للشيخ

ص: 114

رحمة الله الهندي يجد فيه ما يشفي الغليل، ويداوي العليل، فليس المقام مقام توسع في نقد التوراة وإظهار تحريفها، ولكنه جاء عرضًا في الموضوع حيث نتحدث عن مصادر اليهود، والتي أولها التوراة.

وأذكر ثالثًا: أننا إذا نظرنا إلى التوراة الحالية من حيث المتن نجدها محشوة بالقصص والعبارات المتناقضة التي تتنزل الكتب السماوية الصحيحة عن ذكرها، فإذا تحدثت التوراة عن الله عز وجل فكأنهم يتحدثون عن إنسان أو يبدو فيها الإله أشبه بالإنسان في أحوال ضعفه وقوته، وفي ضلاله ورشده، وفي حلمه وجهله حتى لكأن الإله قد اتخذ له خيمة مع اليهود وعاش بينهم؛ ولهذا أمثلة كثيرة قَلَّ أن تخلو منها صفحة من صفحات العهد القديم، وإذا تحدثت عن نبي من الأنبياء، فكأنها تتحدث عن رعاع الناس وسفهاء الخلق، وعن أعتى الناس إجرامًا، وأحط البشرية في ارتكاب الجرائم وانتهاك الحرمات؛ لاسيما الزنا والقتل، والمكر والخداع إلى آخر تلك الصفات والموبقات.

وتتحدث في كثير من مواضعها عن الغزل والحب، وتفصيل القول في الجنس والمفاتن مما يعف اللسان عن ذكره، ويتنزه بعض الفساق أحيانًا عن قوله فضلًا عن فعله؛ فإذا وقفت على هذا، فكأنك أمام كتاب جنسٍ فاضحٍ لو لم يكن توراة مقدسة عند اليهود؛ لكان محظورًا دوليًّا ومحرمًا قانونيًّا، هذا وناهيك عن الأغلاط، والتحريفات والمتناقضات، والركاكة وسوء التعبير والتكرار من غير فائدة ولا حكمة.

فالتوراة مليئة بهذا التحريف، وهي تحدثنا عن الله عز وجل تنسب إليه الجهل، والتعب، والخوف والطيش، وما إلى ذلك، وتنسب إلى نوح عليه السلام أنه سكر

ص: 115

وتعرى، وإلى لوط أنه زنى بابنتيه وأنجب منهما "موآب" و"عامون"، وأن إبراهيم سجد للناس، وأنه ضحى بسارة، وتنسب إلى يعقوب أنه كذب على أبيه، وعيسو احتال عليه، وتنسب إلى هارون أنه صنع العجل لبني إسرائيل، وتنسب إلى داود أنه زنا، وقتل بطريقة ماكرة خبيثة لا تصدر إلا من أفسق الفاسقين في الأرض، ولم يتورع كتبتها عن ذكرها في كتاب ينسبونه زورًا وبهتانًا إلى الله تعالى الذي يختار رسله من صفوة خلقه.

وأما عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام: فقد ذكر في التوراة، ومع ذلك أنكروا نبوته وحذفوا الكثير من البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جيلًا من بعد جيل، وقبيلًا من بعد قبيل، أفلا يدل كل ذلك على تحريف التوراة؟ بلى فنحن أمام أقدم المصادر ألا وهو التوراة، أو المسمى بالعهد القديم، وهذا حاله من حيث تحريفه، وبيان أنه ليس كتابًا من عند الله تبارك وتعالى على ما هو عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 116