المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (أديان اليونان والرومان)   ‌ ‌دين اليونان الحمد لله - الأديان والمذاهب - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 علم الأديان نشأته وأهميته وتعريفه

- ‌مقدمة عن تاريخ علم الأديان

- ‌تعريف الدين

- ‌وحدة الدين

- ‌الدرس: 2 الفرق الدين السماوي والوضعي، والملة والنحلة، والشريعة والمنهاج، وموقف الإسلام من الأديان

- ‌الفرق بين الدين السماوي والدين الوضعي

- ‌الفرق بين الملة والنحلة

- ‌الفرق بين الشريعة والمنهاج

- ‌موقف الإسلام من الأديان الأخرى، وعلاقته بها

- ‌الدرس: 3 الدين وضرورته في الحياة، وأهم عوامل الانحراف عن الدين الصحيح وطرق معالجته

- ‌ضرورة الدين في حياة الإنسان

- ‌عوامل الانحراف عن الدين الصحيح، وطرق معالجة هذا الانحراف

- ‌الدرس: 4 نشأة العقيدة الإلهية

- ‌فطرية التدين

- ‌نشأة العقيدة الإلهية، والرد على من قال بتطور العقيدة

- ‌الدرس: 5 اليهودية؛ تسميتها ونشأتها، والمصدر الأول لها: التوراة

- ‌الحديث عن اليهودية من حيث التسمية والنشأة

- ‌المصدر الثاني من مصادر اليهودية: التوراة

- ‌الدرس: 6 المصدر الثاني لليهودية: التلمود

- ‌تعريف التلمود، ونشأته، ولغته، ومحتواه، ومنزلته عند اليهود

- ‌نماذج مما اشتمل عليه التلمود

- ‌الدرس: 7 المصدر الثالث لليهودية: بروتوكولات حكماء صهيون، وأهم المعتقدات اليهودية (1)

- ‌المصدر الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون

- ‌موقف اليهود من الإيمان بالله تعالى وملائكته

- ‌الدرس: 8 أهم المعتقدات اليهودية (2)

- ‌موقف اليهود من الإيمان بالكتب

- ‌موقف اليهود من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 9 أهم المعتقدات اليهودية (3)

- ‌معتقدات اليهود في الأنبياء

- ‌موقف اليهود من الإيمان باليوم الآخر

- ‌الدرس: 10 النصرانية من حيث التسمية والمصادر

- ‌أصل التسمية بالنصرانية والمسيحية

- ‌النصرانية من حيث المصادر المعتمدة عندهم، وتاريخها، والنظر إليها

- ‌الدرس: 11 أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها

- ‌التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم

- ‌إبطال دعوى ألوهية عيسى عليه السلام وبنوته من القرآن الكريم ومن نصوص أناجيله، وإثبات نبوته

- ‌إبطال دعوى ألوهية عيسى عليه السلام أو التثليث بدليل عقلي

- ‌الدرس: 12 تابع أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها

- ‌قصة الصلب والفداء

- ‌إبطال دعوى صلب المسيح من القرآن الكريم، ومن الإنجيل

- ‌إبطال دعوى صلب المسيح بدليل تاريخي

- ‌إبطال دعوى صلب المسيح بالأدلة العقلية

- ‌الدرس: 13 الديانة المصرية القديمة

- ‌مصادر دراسة الدين المصري

- ‌أهم معتقدات المصريين القدماء

- ‌الدرس: 14 أديان الهند الكبرى

- ‌مصادر الديانة الهندوسية

- ‌العق يدة الهندوسية أو البرهمية

- ‌العقيدة الثالثة: تناسخ الأرواح

- ‌من عقائد الهندوسيين: الإيمان بالجنة والنار

- ‌الدرس: 15 تابع أديان الهند الكبرى

- ‌الديانة البوذية

- ‌الديانة الجينية

- ‌دور المذاهب في نشأة وتطور أديان الهند

- ‌الدرس: 16 أديان الصين واليابان

- ‌دين الصينيين: "الديانة الكنفشوسية

- ‌رأي العلماء في نشأة وتطور أديان الصين

- ‌الدرس: 17 أديان الفرس

- ‌مصادر أديان الفرس

- ‌التعريف بزرادشت

- ‌أركان الدين الفارسي

- ‌آراء العلماء في دين الفرس

- ‌الدرس: 18 أديان اليونان والرومان

- ‌دين اليونان

- ‌دين الرومان

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (أديان اليونان والرومان)   ‌ ‌دين اليونان الحمد لله

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثامن عشر

(أديان اليونان والرومان)

‌دين اليونان

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

بقي لنا نظرات إجمالية حول أديان اليونان والرومان.

ومع دين اليونان:

تعتبر أديان اليونان نموذجًا واضحًا لعجز العقل البشري عن الوصول وحده إلى الدين الصحيح ومعرفة الله تعالى، فبرغم الرقي العقلي الذي برز في اليونان منذ القديم؛ حيث وُضعت هناك أصول الفلسفة، وقواعد التفكير العقلي السليم- برغم ذلك نرى سذاجة اليونان في تصور الآلهة وإحاطتها بالأساطير والخيالات.

إن هوميروس الشاعر اليوناني الكبير يضع قصيدته الإلياذة والأوديسة في نظم رائع جميل، يتحدث عن آلهة قومه، ويصوّرهم من واقع وجودهم، كما أن فلاسفة اليونان ساهموا مع الشعراء في الحديث عن الدين واتجاهاته، وبرغم هؤلاء العباقرة -شعراء وفلاسفة- فإن اليونانيين اتخذوا عديدًا من الآلهة، وجعلوا لهم مقرًّا رسميًّا فوق جبال الأولمبا في مكان يعرف بالأكربول.

ومن آلهتهم زيوس إله الجو، وصانع المطر أكبر الآلهة، وأعظمها شأنًا، ومن الأساطير الدائرة حول هذا الإله أن أباه كان يخاف على ملكه حتى من أبنائه؛ ولذلك قسا على زيوس وابتعدت به أمه حتى شب وترعرع، وتمكن من الاستيلاء على ملك أبيه، بعد معارك طاحنة مع أعداء الخير، وبعد أن دان له ملك أبيه رحل إلى بلاد اليونان، وسلب سلطة إلهية يونانية صغيرة، وأخضعها لسلطانه وهيمنته، ثم تزوج وأنجب عددًا من الأبناء.

ومن آلهتهم أثينا البنت الكبرى للإله زيوس، وهي إله الحكمة والعلوم والفنون، وكانت مقربة لأبيها، وقد أقام لها اليونان معبدًا ضخمًا وتمثالًا من الذهب يعد آية في الفن والروعة، وبها تسمى عاصمة اليونان حديثًا.

ص: 407

ومن آلهتهم أبوللو أحد أبناء زيوس، وهو إله الشباب والقوة، يضر ويفيد، واليونانيون يمثلونه بشابٍّ جميل، وبيده القوس، وعدد من السهام رمزًا للقوة والانطلاق.

ومن آلهتهم أفروديت إله الحب والجمال، ومن مهامه إتمام عملية التزويج والولادة بمساعدة ولدها كيوبيد، واليونانيون يمثلونها بامرأة جميلة تبدو دائمًا مبتسمة، وهي راكبة عربة يجرها طائران كبيران، هكذا تمتد الآلهة في أسرة زيوس لتضم جميع أولاده، وأخواته، وزوجاته؛ حيث يتولى كلٌّ منهم التأليه في جانب ما، ويلاحظ إحاطة جميع هذه الآلهة بسائر أنشطة البشر ولو كانت سيئة، فهيرا زوجة زيوس تخونه وتعشق أريس، وزيوس نفسه يعشق مايه، وينجب منها هرميس المعروف بأنه المرشد السماوي الذي يحمل إرشادت أبيه؛ ليعلم بها الأنفس الضالة، وهذا المرشد تجده حينما يغادر السماء يتواطأ مع اللصوص، ويغش أباه الإله العظيم.

إن آلهة اليونان بدأت مسيطرة على القوى الطبيعية بصورة غامضة، ثم أخذت تترقى وظائفها، واتضحت ذواتها، خرجت إلى عالم النور وتميزت بعضها عن بعض، ولم تنحصر عددًا وإنما تزايدت بصورة بيّنة، ودائمًا وضع اليونانيون آلهتهم في صورة جميلة متحضرة تدل على الذوق الرفيع والسحر الأخّاذ؛ لقد صور هوميروس شاعر الإغريق الآلهة اليونانية في شعره الرائع في أبهى الصور وأحلاها، فمهّد بذلك أمام الفنانين الطريق ليصنعوا تماثيل الآلهة من المعادن الثمينة في هيئة رائعة الحسن خالية من العيب تأخذ الألباب والأبصار، والآلهة كما تكلم عنهم هوميروس لها سلطة عظمى على الحياة، ولها إرادة وقدرة على كل ما يحدث من خير أو من شر؛ ومن أجل هذا التزم اليونانيون بطقوس معينة يتجهون بها للآلهة كالذبح والتراتيل.

ص: 408

لكن هل الآلهة من أسرة زيوس هي كل الآلهة - وبخاصة في المرحلة الأولى؟

لم تكن الآلهة البشرية هي كل الآلهة عند اليونان؛ لأننا نجدهم يؤمنون بآلهة خفية غامضة تميل لنشر الذعر والخوف بين الناس، وكان يرونها فوق الطبيعة وأقوى منها؛ ولذلك لم يتمكنوا من تحديد حقيقتها، لقد درج اليونانيون على تصوير آلهتهم المعروفة والخفية بأنها تُنزل قضاءها الرهيب بالخلائق، وأحاطوا هذا المعنى بالأساطير العديدة المدونة في أشعار مطولة، وكانت هذه الأساطير هي أساس روايات التراجيديا اليونانية، ذلك الفن الأدبي الذي نبع في بلاد اليونان وامتد بروعته وتأثيره إلى العالم كله.

قد استمر اليونانيون على ما هم عليه بالنسبة للآلهة حتى جاء القرن الخامس قبل الميلاد، وفيه يحدث تنظيمٌ جديد في نظرة اليونان لآلهتهم؛ حيث يُرفع إله واحد فوق جميع الآلهة، ذاك الإله هو زيوس ممثل العدالة، وكل الآلهة تخضع لقوة هذا الإله وسلطانه، كل ما يقع للناس هو بأمر زيوس، وأيضًا فإن زيوس يؤثر خيرًا وشرًّا بكل عدل ونزاهة وأمانة، وقد سلك الشعراء هذا المنحى في أشعارهم خلال القرن الخامس قبل الميلاد وبعده، ومن خلال بحث فلاسفة اليونان عن أصل العالم اتفقوا على أن أصل العالم واحد، قالوا: إنه النار أو الماء أو التراب أو العدد أو الموجود نفسه، ومهما تباينت آراء الفلاسفة في أصل العالم، فإنهم اتفقوا على أن هذا الأصل فيه قوة وإبداع لا يحاكي الإنسان الفاني لا في شكله، ولا في عقله، وما التماثيل التي صنعها الفنانون إلا صناعة بشرية صاغها الناس خضوعًا لأمزجتهم وميولهم الخاصة!

وجاء أفلاطون ووضع نظريته في المثل حيث يرى أن الموجودات كلها خيالات وصور ممثلة لحقيقة موجودة في الملأ الأعلى، وهي الوجود المؤثر في الكون

ص: 409

المرئي، قد سمى أفلاطون هذا الموجود الحقيقي بالخير الأسمى أو مثال الخير، وإذا تتبعنا أقواله عن هذا الوجود الحقيقي نجده يشير إلى الله، ويعبر عنه أحيانًا بصيغة المفرد، وأحيانًا أخرى بصيغة الجمع، ويقول: إن هناك خالقًا أعلى يدبر العالم ويحكمه، وبعد أفلاطون صار الفلاسفة على نمطه في تجريد التفكير فيما وراء الطبيعة أو الحقيقة الإلهية، وما يحيط بها من غيب؛ حيث نجد أرسطو يقول: إن الله هو الموجود حقًّا؛ لأن له أتم صورة، كلما قارب الشيء من كمال الصورة كان أقرب إلى الحقيقة، وهي العلة الصورية والغائية والمحركة لهذا العالم، وإذا كان الله هو العلة الصورية كان الله مثلًا أو فكرة أو عقلًا، وإذا كان هو العلة الغائية كان هو غاية الغايات، وهو الذي يسعى إليه ويقصد نحوه كل موجود، وإذا كان هو العلة المحركة كان هو المحرك الأول، وهو مصدر كل حركة، وإن كان هو ليس متحركًا.

وحديث أرسطو، وإن كان ذا تركيب عقلي، فإنه غامض مبهم يوقع القارئ في البحث من جديد عن الإله الذي دعا إليه أرسطو، ويسأل: هل الله مشخص موجود أم لا وجود له في الحقيقة؟ وتساهم آراء أرسطو في تأييد هذا وذاك، الأمر الذي يؤكد غموض الفكرة وخفاءها، يستمر الفلاسفة في مسيرتهم حتى تظهر الأفلاطونية الحديثة في مدرسة الإسكندرية، وتحاول تفسير غموض الفكر اليوناني الفلسفي، فتقول بالواحد غير المتعدد فوق المادة وفوق الروح، قائم بنفسه، ولا يمكن وصفه إلا بصفات سلبية، وهو ليس مادة، وليس حركة، وليس صفة، ولا نهاية له وهكذا، ومن هذا الواحد انبثق العقل ليفكر في الله وفي نفسه، وقد خلع أفلوطين على هذا العقل خصائص المثال الموجود الحقيقي عند أفلاطون.

ص: 410

ومن العقل انبثقت النفس، ولها نيلان تعلو إلى الواحد، وتهبط إلى الطبيعة، إن النفس الكلية أقل مرتبةً من العقل، ومن النفس انبثقت نفس ثانية هي الطبيعة، وهي نفس جزئية وسعادتها في اقترابها إلى أصلها أي: النفس الكلية، وشقاؤها في الهبوط إلى الدرجة التي تليها، وهي المادة.

إذن، فهناك الواحد والعقل، والنفس الكلية، والنفس الجزئية، وبعد ذلك نسأل: هل هذا توضيح أم إخفاء؟ إنه إخفاء بلا شك، ولا لوم على الفلاسفة في هذا، فهم بشر تحركوا على قدر طاقاتهم، ويلاحظ أن الأفلاطونية الحديثة وجدت في أوائل القرن الثالث الميلادي، لدرجة أن من العلماء من يرى أن الغموض الذي دخل في المسيحية في تفسيرها للتوحيد حيث تقول: إن الأب والابن والروح القدس أقانيم ثلاثة، تعني واحدًا هو الله، وتقول: إن الابن انبثق من الأب، والروح القدس انبثق من الأب أو منه ومن الابن، وإذا علم أن الأقنوم يعني ذاتًا مستقلة بصفات إلهية مستقلة؛ لظهر أمامنا الغموض الذي دخل في المسيحية من خلال فلسفة الإغريق، وفكر أفلوطين.

إن الذي يقارن بين الأقانيم الثلاثة، وبين الواحد والعقل والنفس في الأفلوطونية -يرى وحدة الفكر والتصور بلا فرق، إلا في أن المسيحية ترى أن الأقانيم متساوية في الجوهر والرتبة، بينما الأفلاطونية لا تساوي بين الواحد والعقل والنفس؛ ترى أنها منبثقة عن بعضها كما ذكرنا، وإنها تمثل ثلاث درجات روحية متفاوتة، لا يمكن القول بأن العقل البشري، وهو صانع أديان اليونان كان يتحرك للأمام ويتطور إلى العلا؛ لأن الآلهة يومًا كانت في زيوس وأسرته، كانت تزداد عددًا وتقل قدرًا، ولم يحط بها رقي أو سمو إلا في جانب التصوير الأدبي.

ص: 411

ولما انتقلت قيادة الفكر إلى فلاسفة الإغريق لم يحققوا تطورًا؛ لأنهم أخذوا يبحثون في الأصل الواحد للكائنات، وأخذ كل منهم يهدم ما قال به غيره؛ فطاليس قال بالماء، وقال إنكسمينث بالهواء، والفيثاغوريون قالوا بالعدد، واستمر الأمر على هذا حتى جاء أفلاطون وأرسطو فزادوا الأمر تعقيدًا وغموضًا، بل إن أفلوطين قال بالتعدد والكثرة في الآلهة، وهذا يدل على عجز العقل البشري في مجال الدين، وعدم تمكنه أن يتطور به، وفي نفس الوقت يكون حقًّا.

إن تخبط رجال اليونان في البحث الديني في الوقت الذي وصلوا فيه إلى القمة في علوم الفلسفة والمنطق والشعر والفن -لدليلٌ على عجز العقل في المجال الديني، واحتمال بعث رسولٍ إلى اليونانيين غير وارد؛ لأن ما وصلنا عن أديان اليونان لا يُوجد هذا الاحتمال؛ ففكرة التوحيد الخالص أو الشذرات الباقية منها لا وجود لها، هذا في الوقت الذي نسلم تسليمًا عقليًّا بأن إرسال رسل إليهم في الزمن القديم ليس مستحيلًا أبدًا.

هذا ومن خلال الحديث عن دين اليونان يستبين لنا الآتي:

تعدّ بلاد اليونان مهدًا من مهود الحضارات القديمة الخصيبة بأنواع العلوم والفنون والآداب، وجميع فروع المعارف الأخرى، التي بلغت فيها مكانة راقية تسامق الذرا، حتى لقد ظل مؤرخو الغرب يعتقدون طويلًا أن مهد المدنية الغربية كان اليونان، إلى أن تبين لهم سبق بلاد النيل ودجلة، إلا أن هذه البلاد لم تحظ برقي مماثل في العقيدة؛ لاعتمادهم في هذا الشأن على العقل الإنساني وحده، والفكر المستقل عن الوحي، وإنسان هذا شأنه لا يمكن أن يصل إلا إلى المستوى البشري العاجز الذي يحاول أن يرضي فطرته المتطلعة إلى الإيمان بمدبر لهذا الكون، بأمور

ص: 412

حسية أو خيالية ساذجة هي كل ما يمكن أن يصل إليها عقله المستقل، وهي أمور قد ترضي الفطرة إلى حين، ولكنها لا تقنع العقل إلا زمنًا يسيرًا؛ لهذا سرعان ما تتطور مثل هذه العقائد وتتغير، ولكن كل تطور وتغير يبقى ساذجًا طالما بقي الوحي بعيدًا عنها، أو بمعنى أصح طالما بقي الإنسان بعيدًا عن استمداد عقيدته من الوحي الإلهي الصحيح.

وهكذا كان شأن اليونانيين القدامى كما يبدو مما نقل عنهم في همجيتهم، ومنذ بداية تحضرهم، وتصورهم للألوهية تصورٌ عجيب؛ فهذه أرباب الأولمب الذين قلدوا في أشعار هوميروس في الملحمتين العظيمتين الإلياذة والأوديسا، وشاعت عبادتهم بين الإغريق يقول عنهم العقاد: كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلى الحضارة وتنظيم العبادات؛ فالإله زيوس أكبر أرباب الأولمب، والإله ديوس المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة، واسمه متداول في العبادات الأوربية جميعًا، مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات، والربة أرتميس، ومثلها الربة أفروديت أو فينوس هي الربة عشتار اليمانية البابلية، ومنها كلمة ستار التي تدل على النجم في بعض اللغات الأوربية الحديثة، والربة دمنس هي أيزيس المصرية كما قال هيرودت المؤرخ اليوناني المشهور، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق، وأضيف إلى هذه الأرباب أدونيس من أدوناي العبرية بمعنى السيد أو الإله، كما أضيفت إليها عبادة ديونسيس في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرًا بعبادة مترا في الديانة الأورفية السرية.

ص: 413

ثم رسم لهم الخيال صورًا لآلهتهم الكثيرة عللوا بها سر الكائنات، وما يقع لها من أحداث، فما سطع نجم، ولا تجمعت سحابة، ولا هبت نسمة إلا وصور لهم خيالهم وراءها إلهًا موكّلا بها، وقد عبروا عن كل هذا بتماثيل ورسوم أوحى بها خيالهم أيضًا، فالموكل بالليل عندهم إله في صورة امرأة متراخية الأعضاء يداعب النعاس جفونها، وفي يدها مشعل مقلوب ويكسوها رداء قد زُين بالنجوم، وكان يعتقدون أن كبار آلهتهم يقيمون فوق جبال الإلمب أو أولمبس، وأن كبيرهم زيوس له فوقه قصرٌ وعرش، وأن من حوله أحد عشر من كبار الآلهة يدينون له بالطاعة، وينفذون أوامره ونواهيه، وكانوا يتصورون أرباب الألمب يقترفون ما يقترفه البشر من آثام، ويجرون وراء شهواتهم الشرهة.

فمثلًا قتل زيوس أباه رينوس وضاجع بنته، وهاجر سماءه؛ ليطارد عرائس البحر، ويغازل بنات الرعاة في الفلوات، وغار من ذرية الإنسان فأضمر له الشر والهلاك، وضنّ عليهم بسر النار، وعاقب المارد برموسيتوس؛ لأنه أتى للإنسان بقبس من النار من السماء، ولم يستطع خياله حتى ذلك الحين تصور الإله زيوس خالقًا للدنيا وخالقا للأرباب التي تحيطه بعرش في جبل الإلمب، فهو على الأكثر والد لبعضها، ومنافس لأنداده منها، وتعوذه أحيانًا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد، فتصيبه بدلًا منها القوة والعذر، يتصورون القدر فوق الجميع حتى زيوس نفسه يخضع لهذا القدر، ويتقيد بقيوده ويعجز عن الفكاك مما يقضيه.

وإليك صورة مفصلة بعض الشيء عن بعض الآلهة نذكرها فيما يلي:

1 -

زيوس: كان زيوس حسب اعتقاد اليونانيين القدامى ابن بكرونس، أو إله الزمن ولترا آلهة الأرض، كان أبوه قاسيًا يخشى على سلطانه حتى من أبنائه، كان يقتل من يولد له، فقررت أمه إبعاده عنه، فوكّلت إلى بعض الرعاة رعايته

ص: 414

وحمايته وتنشئته، فأخذوا يغذونه بلبان الماعز حتى شب وترعرع، ولما أصبح شابّا نحى والده عن الرياسة ثم تبوأ مكانه لكنه لم يصل إلى هدفه هذا إلا بعد معارك وقتال مرير مع أشرار المردة الذين كان من دأبهم عجم الآلهة بكتل الصخر الهائلة، تلك الكتل التي اعتقدوا بأنها كونت عند سقوطها من السماء الجزر والجبال، ثم تزوج زيوس بهيرا ملكة السماء، ودانت له الأمور، وجلس فوق عرشه وفي يمينه الرعد والبرق وعلى رأسه صولجان على هيئة النسر، أما زوجته هيرا فراحت تشرف على الزيجات والولادة، وكانوا يمثلونها بهيئة سيدة مهابة على رأسها تاج، وبجوارها طاوس.

2 -

أثينا: أثينا إلهة الحكمة والعلوم والفنون، كانت مقربة إلى كبير الآلهة زيوس؛ ولذا كان يستجيب لجميع مطالبها، ولقد أقام لها أهالي مدينة أثينا معبدًا تكريمًا لها، وأقاموا بداخله تمثالًا صنعه "فيدياس" من الذهب والعاج، وهو من أبدع ما نفذته يد إنسان، ويسمى هذا المعبد اليرسيتون.

3 -

هستيا: إلهة النار عندهم، ولقد كان من وسائل التقرب إليها مداومة إشعال النار داخل معبدها، وكانوا يرمزون لها بتمثال على هيئة امرأة وفي يدها مصباح، وعليها رداء أبيض اللون ومن فوقه وشاح أحمر.

4 -

أبوللو: وهو أحد أبناء زيوس، وقد خصه أبوه بالضوء، يقول: لأنه هو الذي يقود عربة الشمس وقد منحه أبوه كذلك الشباب وطول العمر، كما جعله يهيمن على الموسيقى والفنون والشعر والطب، وكانوا يمثلونه بشاب جميل، وبيده القوس وعددا من السهام رمزًا لأشعة للشمس.

ص: 415

5 -

أرتيميس: وهي ابنة زيوس وكانت توءمًا لأخيها أبوللو، وهي عندهم في الأرض آلهة الغابات والصيد، وفي السماء آلهة القمر، ويشبهونها بامرأة مكشوفة القدمين في ثياب الصيد، وفوق جبينها هلال.

6 -

دميترا: وكانوا يعتقدون أنها هي التي علّمت الإنسان حرث الأرض، وبذر الحبوب، وحصاد الزرع، كما علمته عمل الخبز، وكانوا يشبهونه بأمراة تجري بحثًا عن ابنتها برثوبينا، وأحيانا يمثلونها امرأة، وعلى رأسها أكليل من نبات القمح.

7 -

إفيسيس: وهو من أبناء زيوس، وكان قبيح الخلقة أعرج، ولكنه كان أعظم اجتهادًا، وقد وكِّل إليه القيام الكثير من الأعمال، فهو الذي يصنع اللآلئ والحلي كما يصنع الأسلحة لإكليز بطل الإغريق، وهو كذلك عندهم إله الحديد والنحاس والفضة والذهب، ويرمزون له برجل في يمناه مطرقة، وفي يسراه ملقة.

8 -

عارس أو مارس: وهو عندهم إله الحرب، ويرمزون له برجل قوي في لباس الحرب من درع وخوذة، ورمح وترس.

9 -

أفروديت أو فَينوس: آلهة الجمال والحب وكان ابنها كيوبيد يساعدها في إتمام الزيجات والولادة، وفي كل ما كان له بالحب، ويمثلونها دائما مبتسمة ابتسامة تكشف عن ثناياها راكبة عربة تجرها بجعتان.

10 -

ديونيس: وكان الإغريق يعتقدون أنه هو الذي علّم الناس زراعة الكروم، وقد مثلوه برجل يركب برميلًا، وفوق رأسه إكليل من أوراق العنب، وله قرنان دلالة على القوة.

ص: 416

11 -

تيميس: وهي عندهم آلهة العدالة والقانون والسلام، ويمثلونها، وهي تقبض بإحدى يديها على السيف وترفع بالأخرى الميزان، وقد وضعت عصابة فوق عينيها رمزًا لعدم التحيز لأحد المتخاصمين.

12 -

أيروس أو كيبيود: كان رمز الحب، قد علم أبوه وقت ولادته أنه سيكون مبعث المتاعب والشقاء، وأراد التخلص منه، ولكن أمه فينوس أخفته عن أبيه في الغابات وأرضعته بلبان الماعز، ويمثلونه بطفل جميل له جناحان، وفي يده قوس وبجعبته سهام، وهو يصيب بها الناس خبط عشواء.

13 -

جوفيتيس: وهي ساقية الآلهة، ورمزوا لها بامرأة توجت رأسها بالأزهار وفي يدها قدح، وقد زعموا أنها عندما تزوجت خلفها في عملها جنياميد، وكان أمير الطلعة فاختارته الآلهة ليكون لهم ساقيًا، فحمله نسر وطار إلى جبل الألمب.

وهكذا، ما من شيء إلا نسبوه إلى إلهٍ من آلهتهم العديدة، التي ذكرنا بعضها، والتي قدّسها اليونانيون، وجعلوها آلهة وعبدوها، وقدموا لها قرابين خشية بطشها أو تزلفًا إليها ابتغاء مرضاتها، وتصوّرها على هذه الصورة الساذجة البلهاء التي تدل على طفولة فكرية، وبدائية عقائدية في وقت نمت فيه حضارتهم العلمية والمادية والأدبية إلى مستوى راقٍ يُحسدون عليه، وهذا يؤكد لنا عدم تطور الدين من الشرك إلى التوحيد كما زعم أصحاب هذه النظرية، كما يؤكد لنا الفصل الكامل بين التطور في الحضارة، والتطور في الناحية الدينية؛ ففي الوقت الذي نجد فيه تطورًا في الحضارة نجد انحدارًا في الدين من التوحيد إلى الشرك، ومن أرباب قليلة إلى أرباب كثيرة، وهذا هو واقع اليونان بما وصلت إليه من وثنية، بل وما آل إليه الأمر من إلحاد.

ص: 417