الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها)
التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أنتقل بك إلى الكلام عن أهم معتقدات النصرانية مع الرد عليها.
معتقدات النصرانية في أهمها قضية التثليث والصلب والفداء، فنقول -وبالله التوفيق-: عقيدة النصارى التي لا تختلف بالنسبة لها الكنائس، وهي أصل الدستور الذي بيّنه مجمع نِيقِيا هي الإيمان بإله واحد، آب واحد، ضابط الكل خالق السماء والأرض كل ما يُرى وما لا يُرى، وبرب واحد يسوع الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهر، من نور الله، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساوٍ للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء.
والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خطايانا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء تأنس، وصلب عنا في عهد بِيلاطِس، وتألم وقُبر وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب، وسيأتي بالمجد ليدين الأحياء والأموات، ولا فناء لملكه، والإيمان بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب، الذي هو مع الابن يسجد له ويمجده الناطق بالأنبياء.
هذا هو جوهر العقيدة المسيحية ولُبها، والذي يقوم على هذه العناصر الثلاثة؛ العنصر الأول: التثليث والإيمان بثلاثة أقانيم. والعنصر الثاني: صلب المسيح فداء عن الخليقة وقيامه من قبره ورفعه. والعنصر الثالث: أنه يدين الأحياء والأموات.
ولنتكلم عن كل واحد من هذه العناصر فنقول أولًا: عقيدة التثليث بألسنة وأقلام المسيحيين:
قال الدكتور برست في (تاريخ الكتاب المقدس): "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير. ويفهم من هذا أن الأقانيم الثلاثة عناصر متلازمة لذات الخالق.
وقد فسر هذا المعنى القس بوتر في رسالة صغيرة سماها (الأصول والفروع) وإليك ما جاء فيها: "بعدما خلق الله العالم وتوج خليقته بالإنسان، لبث حينًا من الدهر لا يعلن له سوى ما يختص بوحدانيته، كما يتبين ذلك من التوراة، على أنه لا يزال المدقق يرى بين سطورها إشارات وراء الوحدانية؛ لأنك إذا قرأت فيها بإمعان تجد هذه العبارات: كلمة الله، أو حكمة الله، أو روح القدس، ولم يعلم من نزلت إليهم التوراة ما تكنه هذه الكلمات من المعاني؛ لأنه لم يكن قد أتى الوقت المعين الذي قصد الله فيه إيضاحه على وجه الكمال والتفصيل.
ومع ذلك فمن يقرأ التوراة في ضوء الإنجيل يقف على المراد؛ إذ يجدها تشير إلى أقانيم في اللاهوت، ثم جاء المسيح إلى العالم، ران بتعاليمه وأعماله المدونة في الإنجيل أن له نسبة سرية أزلية إلى الله، تفوق الإدراك، ونراه مسمى في أسفار اليهود كلمة الله، وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة.
ثم لما صعد إلى السماء أرسل روحه ليسكن بين المؤمنين، قد تبين أن لهذه الروح أيضًا نسبة أزلية إلى الله فائقة كما للابن، ويسمى الروح القدس، وهي ذات العبارة المعلنة في التوراة كما ذكرنا.
مما تقدم يتضح بجلاء أن المسمى بكلمة الله، والمسمى بروح الله في نصوص التوراة هما المسيح والروح القدس، المذكوران في الإنجيل، فما لمحت إليه التوراة صرح به الإنجيل كل التصريح، وأن وحدة الجوهر لا يناقضها تعدد الأقانيم.
وكل من أنار الله ذهنه وفتح قلبه في فهم الكتاب المقدس، لا يقدر أن يفسر الكلمة بمجرد أمر من الله أو قول مفرد، ولا يفسر الروح القوة التأثيرية، بل لا بد له أن يعلم أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم، متساوية في الكمالات الإلهية، وممتازة في الاسم والعمل، والكلمة والروح القدس اثنان منهم، ويدعى الأقنوم الأول الأب. ويظهر من هذه التسمية أنه مصدر كل الأشياء ومرجعها، وأن نسبته للكلمة ليست صورية، بل شخصية حقيقية، ويمثل الأفهام محبته الفائقة وحكمته الرائعة.
ويدعى الأقنوم الثاني الكلمة، بأن يعلن مشيئته بعبارة وافية، وأنه وسيط المخابرة بين الله والناس، ويدعى أيضًا الابن؛ لأنه يمثل العقل نسبة المحبة والوحدة بينه وبين أبيه، وطاعته الكاملة لمشيئته، والتمييز بين نسبته هو إلى أبيه، ونسبة كل الأشياء إليه.
ويدعى الثالث الروح القدس، الدلالة على النسبة بينه وبين الأب والابن، وعلى عمله في تنوير أرواح البشر وحثهم على طاعته، وبناء على ما تقدم يظهر جليًّا أن عبارة الابن لا يشير -كما فهم بعضهم خطأ- إلى ولادة بشرية، ولكنها تصف سرية فائقة بين أقنوم وآخر في اللاهوت الواحد.
وإذا أراد الله أن يفهمنا تلك النسبة، لم تكن عبارة أنسب من الابن للدلالة على المحبة والوحدة في الذات، والأمانة للمشورة الإلهية، وأما من حيث الولادة البشرية فالله منزه عنها. لأجل هذه الإيضاحات علم خدام الدين المسيحي
واللاهوتيون -حسب ما قررته الكلمة الإلهية- أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم حسب نص الكلمة الأزلية، ولكل منهم عمل خاص في البشر". انتهى كلامه من (تاريخ الكتاب المقدس).
ونجد كاتب هذا الكلام يحاول ثلاث محاولات:
أولاها: إثبات أن التوراة وجد فيها أصل التثليث، لوحت به ولم تصرح وأشارت إليه ولم توضح.
وثانيهما: أن في اللاهوت ثلاثة أقانيم هي في شعبها متغايرة، وإن كانت في جوهرها غير متغايرة.
وثالثهما: أن العلاقة بين الأب والابن ليست ولادة بشرية، بل هي علاقة المحبة والاتحاد في الجوهر.
ولقد كان بيان ذلك المعنى أوضح من هذا البيان، في قول القس إبراهيم سعيد في تفسير بشارة لوقا، فقد جاء في تفسير معنى كلمة ابن العلي، التي جاءت في "إنجيل لوقا" ما نصه: يليق أن نوضح بكلمات موجزة المعنى المراد بابن العلي أو ابن الله، فلم يقصد بها ولادة طبيعية ذاتية من الله، وإلا لقيل: ولد الله، ولم يقصد بها ما يقال عادة عن المؤمنين جميعًا أنهم أبناء الله؛ لأن نسبة المسيح لله هي غير نسبة المؤمنين عامة لله، ولم يقصد بها تفرقة في المقام من حيث الكبر والصغر، ولا الزمنية ولا في الجوهر.
لكنه تعبير يكشف عن عمق المحبة السرية، التي بين المسيح والله، وهي محبة متبادلة، وما المحبة التي بين الأب والابن الطبيعيين سوى أثر من آثارها، وشعاع
ضئيل من بهاء أنوارها، ويراد بها إظهار المسيح لنا أنه الشخص الوحيد الذي حاز رضا الله، وأطاع وصاياه، فقبل الموت موت الصليب، لذلك يقول الله فيه: هذا ابني الحبيب، الذي به سررت له اسمعوا.
وقد تكررت هذه العبارة عدة مرات مدة خدمة المسيح على الأرض؛ لأنه تم إرادة الله في الفداء، ويراد بها إظهار التشابه والتماثل في الذات وفي الصفات وفي الجوهر، كما يكون بين الأب والابن الطبيعيين، فقيل عن المسيح: إنه بهاء مجد الله ورسم جوهره. قال هو عن نفسه: من رآني فقد رأى الأب والأب واحد، ويراد بها دوام شخصية المسيح، باعتباره الوارث لكل شيء، الذي منه وبه وله كل الأشياء.
وقد يراد بها معانٍ كثيرة غير معدودة يقصر دون إدراكها العقل، وفي هذا التفسير والتفسير الذي سبقه، يبدو بجلاء أن شخصية الابن غير الأب، وكذلك روح القدس، ولكن هل يدخل في الأقنوم الثاني جسده وروحه؟
جاء في كتاب (خلاصة تاريخ المسيحية في مصر): كنيستنا المستقيمة الرأي التي تسلمت إيمانها من "كرلس" و"ديسيقورس" ومعنا الكنائس الحبشية والأرمانية والسريانية الأرثوذكسية، نعتقد أن الله ذات واحدة مثلثة الأقانيم؛ أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس، وأن الأقنوم الثاني -أي: أقنوم الابن- تجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء، مُصَيِّرًا هذا الجسد معه واحدًا وحدة ذاتية جوهرية، منزهة عن الاختلاط والامتزاج، والاستحالة بريئة من الانفصال.
وبهذا الاتحاد صار الابن المتجسد طبيعة واحدة من طبيعتين ومشيئة واحدة، وتعتقد الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية بأن للأقنوم الثاني طبعيتين ومشيئتين.
من هذا ترى أن الكنائس كلها تعتقد التثليث وهذا هو موضع اتفاق، ولكن موضع الخلاف بينها هو العنصر الإلهي في المسيح، أهو للجسد الذي تكون من روح القدس ومن مريم العذراء، الذي باختلاطه بعنصر إلهي صار طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، أم أن الأقنوم الثاني له طبيعتان ومشيئتان.
ومن هذا كله يفهم أن المسيحيين على اختلافهم يعتقدون أن في اللاهوت ثلاثة يعبدون، وعباراتهم تفيد بمقتضاها أنهم متغايرون، وإن اتحدوا في الجوهر والقدم والصفات والتشابه بينهم كامل، ولكن كتابهم يحاولون أن يجعلوهم جميعًا أقانيم لشيء واحد، وبعبارة صحيحة: يحاولون الجمع بين التثليث والوحدانية، ولكن عند هذه المحاولة تستغلق فكرة التثليث وتصير بعيدة عن التصور، كما هي في ذاتها مستحيلة التصديق، وإن كُتابهم أنفسهم يعتقدون أنها بعيدة التصور عند هذه المحاولة؛ لأن من أصعب الأشياء الجمع بين الوحدانية والتثليث.
فنرى صاحب رسالة (الأصول والفروع) بعد بيان عقيدة التثليث يقول: "قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهمًا أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية".
أي أن عقيدة التثليث لا يمكن أن تنكشف للنفس على وجهها، إلا يوم تتجلى كل الأشياء لها يوم القيامة، وذلك حق، فإنهم لا يعلمون حقيقتها إلا يوم يحاسبهم الله عليها، ويومها يعلمون كذبهم ويأخذون جزاءهم، كما قال تعالى:{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 39).