الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوم، وأنزل عليه كتابًا أو لم ينزل عليه كتابًا، لكن أوحي إليه بحكمٍ لم يكن في شريعة من قبله، وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس العكس -وهذا هو الراجح والله أعلم.
نشأة العقيدة الإلهية، والرد على من قال بتطور العقيدة
بقي لنا أن نقف وقفة حول نشأة العقيدة الإلهية؛ لنرد على المزاعم في تلك القضية، ونقصد بنشأة العقيدة الصورة التي ظهر فيها الدين أول ما ظهر، أي: الأولية التاريخية المطلقة التي لا تتقيد بزمنٍ معين منذ أن دبت قدمً الإنسان على ذلك الكوكب، ولتقرير هذه البداية نجد أن العلماء ينقسمون إلى قسمين متعاكسين.
وقبل أن نعرض هذين الرأيين علينا أن نفرق بين أمرين، وهما فطرية التدين، وفطرية التوحيد؛ أما فطرية التدين: فقد اتفق علماء الأديان إلا من شذ منهم على أن التدين أمر فطري في الإنسان مركوز فيه، أي: أن الخضوع والتذلل والخوف من كائن أعلى موجود في النفس، ومحاولة إرضاء هذا الكائن، والتذلل له أمر غريزي يلبي نداء الفطرة، وكذا الإحساس الفطري على الحياة الآخرة، وأنها دار الجزاء لما قدم الإنسان من أعمال، كما أن الإنسان مدني بطبعه، فلا يستطيع أن يعيش بمعزل عن بني جنسه، بل لا بد من التعاون مع الجماعة.
وأما عن موضوع هذا التدين أي: المعبود الذي تعلق به هذا التدين هل تعلق أول ما تعلق بالإله الواحد الموجد لهذا الكون، أم تعلقت هذه الغريزة
بآلهة شتى؟ الطبيعة وما حوته من جمادات وحيوانات وأرواح، ثم تطورت إلى أن وصلت للإله الواحد، لقد ذكرت: أن العلماء في هذه المسألة لهم رأيان هما:
الرأي الأول: المذهب التقدمي أو التصاعدي، ويتزعمه فريق من علماء الأديان والمقارنة، ومن علماء الاجتماع الدين أمثال:"سبنسر" و"فرويد" و"دوركايم" وغيرهم من علماء الغرب مسيحيين ويهود، وتبعهم قليل من المسلمين مثل العقاد في كتابه (الله) وطه الهاشمي في كتابه (تاريخ الأديان) وفلسفتها يرى هذا الفريق أن التدين بدأ بالخرافة والأوهام، ثم انتقل إلى الوثنية والشرك، وأخذ الإنسان يتطور في دينه، وعقيدته على مدى الأجيال حتى وصل إلى التوحيد والتوحيد في نظرهم هو آخر مرحلة في التصور والتدرج، وأن الاعتراف بالإله الواحد مسبوق بعبادة الشمس.
يقول العقاد: "ترقى الإنسان في العقائد، كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه، وصناعته، فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى".
فيرى أصحاب هذا الرأي أن عقيدة التوحيد ظهرت متأخرة بالقياس إلى ظهور الوثنية، والشرك ظهرت عقيدة التوحيد بعد أن توسعت مدارك الإنسان، فشعر أن ما كان يتصوره من وجود قوى روحانية عليا في الأشياء التي عبدها لم تكن سوى وهم وخداع، وصار يقتصد في الشرك إلى أن وصل إلى التوحيد، وهم يعتبرون أن إخناتون أقدم الموحدين لأنه دعا إلى عبادة الشمس وحدها دون بقية المعبودات عند المصريين، ثم يتحدثون عن التوحيد كآخر طور من أطوار العقيدة، كما جاء في الإسلام.
وقد كتب العقاد كتابًا عن نشأة العقيدة أسماه (الله) تفاجئك وتَفْجَئُكَ مقدمته بهذه العبارة: موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية منذ أن اتخذ الإنسان ربًا إلى أن عرف الله الواحد، واهتدى إلى نزاهة التوحيد، ثم قال:"الرجوع إلى أصول الأديان في العصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان التدين، ولا على أنها تبحث عن محال، فكل ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة شاملة في عصرٍ واحدٍ، وأن الناس يستعدون لعرفانها عصرًا بعد عصر وطورًا بعد طور، وأسلوبًا بعد أسلوب، كما يستعدون لعرفان الحقائق الصغرى على نحو أصعب، وأعجب من استعدادهم، لعرفان هذه الحقائق التي يحيط بها العقل، ويتناولها الحس والعيان".
واستدلوا على رأيهم بما يلي: أن الإنسان أخذ يتطور حضاريًا واجتماعيًا من سكنى الكهوف وأغوار الجبال إلى السكنى في البيوت المتخذة من الوبر والشعر، ثم البيوت المصنوعة من الطين، ثم القصور الضخمة، ومتع الحياة إلى آخره، فإذا كان كذلك، فلابد وأن يكون الإنسان قد تطور في العقيدة كذلك من عبادة الطبيعة، والأرواح إلى الإله الوحي.
الدليل الثاني: وجود بعض القبائل المتخلفة في استراليا ووسط أفريقيا، وبعض سكان أفريقيا، وبعض سكان أمريكا ما زالوا يعبدون الأصنام والأوثان، وهم مع ذلك متخلفون اجتماعيًّا، فهناك ارتباط بين هذا التخلف الاجتماعي وبين العقائد الدينية الباطلة المبنية على الأوهام والأساطير.
الثالث: كما يستدلون بالقرآن الكريم، وهو ما ورد في سورة الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام في الآيات الكريمة: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 75 - 79) الآيات.
ذلك أنهم يستنتجون من هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام قد تدرج في عقيدته وتدينه من الإيمان بالكواكب المتعددة إلى الإيمان بالقمر ثم الشمس، وهي أكبر ما تقع عليه العين، ثم انتهى إلى عقيدة التوحيد، ونفي الشرك هذه أدلتهم، وآخر ما في جعبتهم.
وللرد عليهم نقول:
أما عن الدليل الأول، وهو تطور العقيدة تابع للتطور الاجتماعي والحضاري فهذه شبهة واهية ذلك أنه قياس مع الفارق، فالتقدم الحضاري والاجتماعي والصناعي تقدم في الأمور المادية، والدين لا يتعلق بالأمور المادية، وإنما يتعلق بالأمور الروحية المعنوية التجريدية تلك الأمور المتعلقة بالنفس والروح؛ فالجامع بين المقيس عليه معدوم، فيبطل هذا القياس بالإضافة إلى أن التطور تطورت فيه الأمور من الأشياء البسيطة إلى المعقدة المركبة، وليست الأديان كذلك.
أما عن الدليل الثاني: الذي يفيد أن هناك ارتباطًا بين التخلف الاجتماعي، والعقائد الباطلة فهي شبهةٌ واهيةٌ كَذِلَكَ، فليس هناك ارتباط بين الحضارة والمدنية، وبين التدين والعبادة.
فالهند مثلًا بلغت شأنًا كبيرًا في الحضارة والمدنية، وشأوًا بعيدًا، ولا زال أغلب سكانها إلى الآن يعبدون الأبقار، وروسيا والصين مبلغًا مبلغًا عظيمًا من الرقي الحضاري، والاكتشاف التكنولوجي، ومع ذلك فجمهور السكان لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجود الخالق؛ إذًا فليس هناك جامع مشترك في الارتباط بين التخلف والأساطير الخرافية.
وأما عن الدليل الثالث: وهو الفهم الخاطئ للآيات من سورة الأنعام في قصة محاجة إبراهيم عليه السلام لعبدة الكواكب؛ فهي أوهى من سابقيها وأبسط من أن يرد عليها؛ إذ ليس المقصود من الآيات.
كما ذهب العقاد والهاشمي وغيرهم من المستشرقين: أن إبراهيم عليه السلام وهو النبي المعصوم كان شاكًّا في عقيدته، أو تطور من عبادة الكواكب إلى التوحيد، وإنما وجد إبراهيم عليه السلام قومًا يعبدون هذه الأشياء ويقدسونها، فأراد أن يقيم الأدلة الحسية على بطلانها بطريقة التدرج إلى الإيمان، وبأسلوب المجاراة الذي يوهم الخصم بأنه معه فيما يعتقد بشرط مسبق، وهو أن الإله الذي يجب الإيمان به إذا ظهر لا يأفل، ولا يغيب، فلم يتحقق هذا الشرط في شيء من آلهتهم التي يعبدونها؛ فتوجه بهم بعد ذلك إلى الإيمان الحق بالخالق المبدع؛ لهذا الكون بعد أن أبطل عقيدة الإيمان بالكواكب، والقمر والشمس؛ لأنها أشياء تغيب، وتزول، ولا يصح للإله أن يغيب، أو يزول؛ فإبراهيم عليه السلام لم يكن ينظر، ويبحث ليصل إلى التوحيد، وإنما كان يناظر، وفرق بين النظر والمناظرة.
وتلك حجة الله على لسان إبراهيم، كما جاء ذلك واضحًا في أول الآيات وآخرها:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام: 75). وفي آخرها: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83) إبراهيم عليه السلام صاحب رايةِ التوحيدِ، كيف يشك في الأمر، كيف يتدرج من الشرك إلى التوحيد.
إن الله عز وجل أثنى على إبراهيم عليه السلام فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120 - 123).
والحق يقال: إن عقيدة التوحيد كانت منذ منشأ الإنسان إلى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فهي البداية والخاتمة، ونصوص القرآن الكريم تؤكد بما لا يدع مقالة لقائل: إن البشرية صاحبتها عقيدة التوحيد من أول خطوة دبت بها على وجه الأرض، وما يقوله علماء مقارنة الأديان الغربيون: هذا يؤدي إلى إنكار الوحي والنبوة حيث اعتبر ظهور العقائد الدينية، وتطورها مجهودًا بشريًا نتيجة للارتقاء العقلي والثقافي؛ فأين إذًا هدي الله الذي تنزل على آدم عليه السلام:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (طه: 123).
والحق: أن آدم عليه السلام هو الذي عرف بنيه بربهم سبحانه وتعالى وبالإسلام ثم توالى موكب الإيمان بعد ذلك يتعهد البشرية أولًا بأول، ويعيدها إلى ربها إذا ضلت طريقه، أو أخطأت هداه، وكان نوح عليه السلام الذي جدد الدعوة إلى التوحيد، وأعاد إليه نقاءه وصفاءه، وحاول جاهدًا بكل ما يملك من طاقة النبي المرسل أن يخرج الناس مما انتكسوا فيه من ضلال، وكفران، وكانت النتيجة أن نجا الله نوحًا، ومن آمن معه، وأغرق من عداهم من عبدة الأصنام والأوثان، ثم استمر موكب الهداية يتجدد حينًا بعد آخر حتى جاء خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم فبنى على نهج إخوانه في الدعوة، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3).
فالعقائد لا شأن لها بالتطور، والدين بدأ وحيًا من عند الله يدعو إلى التوحيد منذ بدأ الحياة، وإذا كان انحراف قد حدث عن أصل التوحيد في تاريخ البشرية فذلك على حين فترة من الرسل، وكل الذي يمكن أن يقال هنا: إنه إن كان حدث تطور أو اختلاف بين الرسالات؛ فإنما ذلك في الشرائع والأحكام التي قد تناسب أمة، ولا تناسب أخرى؛ لذلك قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48).
أما القواعد فهي واحدة، وإنما تختلف الأحكام والفروع رحمة، وشفقة بالأمم، فالصلاة مثلا والصيام كانا في الأمم السابقة، لكن طريقة الأداء، وكيفيته قد تختلف من أمة إلى أخرى، وإن بلغ كله حد الكمال والتمام في خاتمة الشرائع والرسالات التي هيمنت على السابق، ونسخت ما لا يتفق والتطور الإنساني على نحو ما قال تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106).
وكذا يقال في الرد على مذهب التطور في الأديان: لقد كان مقتضى الوضع السليم في تعرف ما كانت عليه بداية الأديان فيها قبل التاريخ أن يسترشد في مقارنتها لا بسير الفنون والصناعات، بل بسير الديانات المعروفة منذ طفولة التاريخ إلى اليوم، وإننا لا نعرف بالاستقراء أن كل واحدة من هذه الديانات بدأت بعقيدة التوحيد النقية، ثم خالطتها الشوائب والأباطيل على طول العهد.
فالأشبه أن تكون هذه سنة التطور في الديانات كلها، وهي أن تكون بدايتها خيرًا من نهايتها، ويشهد لذلك القول قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)) ومن هنا فإن الكتب السماوية
تتفق على أن الجماعة الأولى لم تترك وشأنها تستلهم غرائزها وحدها بغير مرشد ومذكر، بل تعهدتها رعاية السماء بنور الوحي من أول يوم؛ فكان أبو البشر آدم عليه السلام وأول الأفذاذ المخلصين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرعين الأوابين، هكذا.
وأما الرأي الثاني: والذي يقول به علماء المسلمين، وبالأخص جمهور أهل السنة والجماعة، والعقلاء من علماء أوربا، وأن عقيدة التوحيد فطرية في النفس البشرية أن الإنسان الأول عرف الإله الواحد الأحد، وآمن به منذ البداية، وأن الشرك والوثنية أمور طارئة وعارضة، وانحراف طرأ على العقيدة، وممن يؤيد هذا الرأي من الغرب؛ "لان" و"بروكلمان" و"شريده" و"شميدس" وغيرهم.
والأدلة التي تؤكد أن الناس كانوا على التوحيد، ثم انحرفوا عنه ما قاله الله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213)، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 19).
يقول الأستاذ الدكتور/ نوح الغزالي رحمه الله: "إنه الإعجاز القرآني دون شك يلخص القصة الإنسانية في آية واحدة في نشأتها الأولى على الإيمان الحق، وفيما طرأ عليها من أهواء البشر، ونزغات الشيطان، وهو تلخيص في نفس الآية لكل مراحل الإنسانية، وهي تتكرر فيها العودة إلى الفطرة الأصيلة عن طريق نبي
يتفضل المولى سبحانه وتعالى بإرساله، ثم تنتكس لتعيد الجاهلية الأولى بصورة، أو بأخرى حتى كانت النبوة الخاتمة {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213).
والطرف العقلي: فقط هو الذي حِدَا بقلة من المفسرين أن يذهبوا إلى أن الآية لم تقرر على الإيمان، أو على الكفر أمة واحدة حتى إذا ما طولبوا بالدليل عجزوا عنه والنص القرآني السابق يؤكد أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان في أول نشأة الإنسان، وأن الكفر هو الذي طرأ عليه فبعث الله تعالى له النبيين.
ويؤكد الرازي والقفال هذا بأدلة واضحة منها: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) أن هذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الاختلاف، ويؤكد ذلك قراءة ابن مسعود "كان الناس أمة واحدة؛ فاختلفوا فبعث الله النبيين" فالفاء في قوله:"فبعث" تدل على الترتيب السببي، وتقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف، ولو كان قبل ذلك أمة واحدة على الكفر لكانت بعثة الرسل قبل هذا الاختلاف أولى؛ لأنهم بعثوا عندما كان بعضهم محقًّا، وبعضهم مبطلًا، ولن يبعثوا عندما يكونون كلهم مصرين على الكفر فهذا أولى.
دليل آخر أن الله تعالى حكم بأن الناس: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ثم درجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل، وقراءة ابن مسعود والظاهر أنه الاتفاق والحاصل المشار إليه بقوله:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} كان قبل الاختلاف الذي حدث بسبب العداوة والبغي والحسد، دليل ثالث آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولًا لأولاده الكل كانوا مسلمين مطيعين لله، ولم يحدث الاختلاف إلا بسبب البغي والحسد عندما قتل قابيل هابيل، كما هو ثابت في الآية الكريمة:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} (المائدة: 27).
هذا الصراع الذي انتهى إلى جريمة القتل أنهما كانا يتنافسان على القربى إلى الله تعالى، ويغمط أحدهما أخاه؛ لأنه تقبل من أخيه دونما يتقبل منه، وهنا ينتهز الشيطان تلك الفرصة وقعد لابن آدم بكل طريق؛ فدفعه إلى الحسد والحقد عليه حتى إذا ما سولت له نفسه قتل أخيه لم يعرف كيف يقتله ويتخلص منه، فتمثل له إبليس يضرب بالحجر رجلًا فقلده، ولم يعرف كيف يدفنه فعلمه الغراب دفن الموتى؛ فالحوار بين الأخوين يدل على معرفتهما بالله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27){إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (المائدة: 28){فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (المائدة: 29) دلالة واضحة على الإيمان بالله واليوم الآخر.
دليل رابع: أنه لما غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ثم اختلفوا بعد ذلك كما قال ابن عباس رضي الله عنهما كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة الحق فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ومن الأدلة الآية الكريمة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف: 172).
وقد كانت بعد خلق آدم عليه السلام والحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة)) مما يؤكد أن الإنسان كان على التوحيد من البداية، وأن الشرك والوثنية أمر عارض على الإنسانية، وأن المقصود بآية البقرة ويونس بأن كون الكفر باطلًا، وتزييف طريق عبادة الأصنام، وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل؛ فوجب أن يكون المراد بقوله: كان الناس، وأنهم كانوا أمة واحدة على الإسلام؛ فلما وقع الناس في الشرك بعث الله الرسل، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) فالآية صريحة الدلالة على أن الله
تعالى بعث في كل أمة، وفي كل جماعة رسولًا يأمرهم بعبادة الخالق سبحانه وتعالى وهي عقيدة التوحيد {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30).
وكما في الحديث القدسي: ((إني خلقت عبادي حنفاء؛ فَاجْتَالَتْهُم الشياطين عن دينهم)) فالمعنى: أن الله تعالى خلق عباده يدينون بالتوحيد، فجاءتهم الشياطين وحولتهم عن التوحيد إلى الشرك والوثنية؛ فهذا هو الحق الذي ندين لله عز وجل به؛ والحمد لله على نعمة التوحيد، وعلى نعمة الإسلام والإيمان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.