الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كراهية بين الناس؛ ولذلك اعتبر من أقدم الشيوعيين في العالم، وقد كلّف مازدك أتباعه بعبادات معينة، وصور الآلهة المعبودة بصور جسمية؛ حيث جعله قاعدًا على كرسيه العلوي يعاونه أربع قوى من ورائهم سبعة آخرون وهكذا.
وعلى نمط ماني ومازدك ظهرت آراء متعددة لأشخاص آخرين، وكلهم يحرّفون تعاليم زرادشت، ويخلطونها بالآراء الفاسدة الباطلة.
آراء العلماء في دين الفرس
رابعا: آراء العلماء في دين الفرس:
اتخذ العلماء مواقف متعددة في تفسير نشأة الزرادشتية وتطورها؛ فمن قائل بالتطور الديني على أساس أن عقائد الفرس بدأت بالخرافات والأساطير وتأليه الظواهر المحسوسة مع تعدد الآلهة، وأنها استمرت في التطور حتى عرفت التوحيد الخالص في المراحل الراقية، ومن قائل بأن الرسالات الإلهية ظهرت في بلاد الفرس، وأنها هي التي علّمت الناس هناك وحدانية الله تعالى.
وهكذا إن الحقائق العلمية تؤيد القول بوجود رسالات صحيحة في الفرس على الأساس الذي بيناه من قبل، وهو إرسال الرسل إلى جميع الأمم، ولأن العقول البشرية لا تصل وحدها إلى التوحيد الخالص بحقائقه التي يأتي بها الرسل، وأيضًا فإن التطور يقتضي الترقي المستمر نحو الأفضل، بينما في أديان الفرس نرى أن دعوة من جاءوا بعد زرادشت كانت انحدارًا وانتكاسًا حيث دعا ماني ومازدك وغيرهما إلى تعدد الآلهة بعدما دعا زرادشت إلى التوحيد، ومع ترجيحنا هذا، فإن القول بأن زرادشت هو الرسول المبعوث لا نعلّق عليه نفيًا أو إثباتًا؛ حيث لا
تنهض الأدلة مثبتة أو نافية، وكل ما يمكن القول به أن النبوة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست ممنوعة، لكن الإيمان برسول معين توقف على ورود ذكره في القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي قص أخبار بعض الرسل، وأشار إلى وجود رسل لم يرد لهم ذكر؛ ولذلك لزم التسليم بإمكانية إرسال رسول لكل أمة من غير تعيين شخصه ما لم يرد له ذكرٌ في القرآن الكريم.
وهذه خلاصة نذكرها عن دين الفرس:
الديانة الفارسية من الديانات الآسيوية القديمة، التي جذبت انتباه الباحثين وعلماء الأديان؛ إذ جاءت متكاملة الجوانب واضحة المعالم متميزة عن كل الديانات الآسيوية القديمة، ولقد عاش الأقدمون من الفارسيين حياة بدائية، ومارسوا عبادات وثنية، واصطنعوا دينًا خرافيًا يعتمد على السحر والشعوذة، ويألِّهوا مظاهر الطبيعة، فعبدوا الشمس إلهًا؛ لأنها تنتج المحاصيل وسموها الإله نِثرا، وعبدوا الأرض إلها للخصوبة لخصوبة تربتها وسموها الإله أنيتا، كذلك جعلوا المطر إلهًا والريح إلهًا والسحاب، وكل ما ينفعهم في البيئة الزراعية وحياتهم الرعوية إلهًا، يتوجهون إليه بالتقديس والدعاء، ويتقدمون إليه بالقرابين من أطيب طعامهم، وفي صناعة آلهتهم من الأصنام بمختلف أنواع المادة المصنّعة باختلاف الطبقات؛ فالفقراء أصنامهم من الطين والحجارة طبقة الموسرة من الفضة، والطبقة الغنية من الذهب، وأقامت المعابد، وتقربت للآلهة بواسطة الكهنة.
وظلت الأحوال الدينية هكذا في بلاد فارس حتى جاء زرادشت الذي ولد على الراجح عام 660 قبل الميلاد، وهم يجعلون لزرادشت معجزات كثيرة عند
ولادته، وفي حالة الحمل به، ولما وُلد زرادشت أخذ يدعو إلى الدين الذي أرسل به، وينهى الناس عن الأوثان والشيطان، ولكن الناس في البداية صدوه وأعرضوا عنه، فاشتكى لربه أهورمزدا "الإله الأعظم"، وبذا يقول الشهرستاني: "وكان دين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما كانت دعوة زرادشت تقوم على ذلك وعلى توحيد الله عز وجل ذهب بعض العلماء أنه كان نبيَّا مرسلًا من الله لأهل فارس ووصل بهم الأمر إلى أن قالوا: إن زرادشت هو إبراهيم عليه السلام، وهذا قول باطل مردود، وإن كان ما ورد عنه -إن صح- لا يحول دون نبوته ورسالته، والله أعلم.
وهناك المانوية والمازدكية من ديانات الفرس المعروفة أيضًا كما أشرنا، مما يؤكد على تطور العقيدة الزرادشتية على يد البشر، فواضح أن الديانة الزرادشتية كانت في أصلها ديانة توحيد منزهٍ خالص دُعي إليها في وقت كانت فيه المجوسية تقول بأصلين أو مبدأين أو خالقين، وكان الوثنيون يعبدون الكواكب والأصنام، ولا ريب أن للزرادشتية مرجعًا من الوحي:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) فما يستطيع التطور الفكري أن يصل إلى التوحيد الحقيقي المنزه بدون معونة من الوحي أو اقتباس من ديانة موحى بها.
وواضح أن ديانة إبراهيم قد سبقت الزرادشتية بحوالي عشرة قرون، فلا مانع من أن تكون الزرادشتية مقتبسة منها أو منقولة عنها، فلما تدخل الفكر البشري الخالص مدفوعًا بطبيعة البشر العنصرية المادية الأنانية الغريزية العاجزة- أصيبت الزرادشتية بكثيرٍ من التحريف والتبديل، وأصبحت ديانة الشرك، يعتقد أتباعها بوجود إلهين أحدهما أهورامزدا، ويجعلونه إلهًا للخير، والآخر أهريمان ويجعلونه إلهًا للشر، ويرتبون على هذا الاعتقاد صراعا دائما بينهما؛ لأن كل منهما يرمي
إلى السيطرة على العالم، ويظهر أن هذا التراجع الفكري نشأ عن عدم قدرة العقل الإنساني على مجاراة الوحي في تجريد الذات الإلهية وتنزيهها، بعدما فُقد الموجهون أو قلوا.
فقد رمزت الديانة الزرادشتية إلى قدرة الذات الإلهية برمزين ماديين محسوسين؛ أحدهما النور ممثلًا في الشمس، والآخر النار، ومن ثمّ كان حرص الديانة الزرادشتية على أن يوقد في كل هيكل من هياكلها شعلة من النار، وأن تبقى مضيئة متوهجة يتعاهدها رجال الدين الموابذة والهوابذة، فيقدمون لها وقودًا من خشب الصندل وغيره من الأعشاب والمواد العطرية، وترتل حولها الأدعية وتقام الصلوات، وقد بدأ الانحراف بالمبالغة في شأن الرمز كعادة الإنسان دائمًا حتى انتهى بتقديس النار وعبادتها لذاتها، بعد أن كانت مجرد رمز لقدرة الإله، ثم أشركوا مع النار في التقديس بدرجة أقل من النار، الماء والتراب والهواء، وهكذا الإنسان في كل زمان ومكان، يبدأ انحرافه عن الحق بالمبالغة في تقدير بعض الأشياء أو المظاهر أو الناس، ثم لا يلبث هذا التقدير أن يلبس ثوب التقديس؛ ليحلّ الزيف محل الحقيقة، والباطل محل الحق، حتى يتدخل الوحي أو الرجوع إلى الوحي الصحيح لتصحيح مسار الإنسان وتوجيه العقل أو الفطرة المستقيمة إلى الصراط المستقيم.
وقد يبدأ هذا الانحراف، وينتهي إلى نتائجه السيئة في دورٍ من أرقى أدوار الحضارة المادية لأمة من الأمم إن سُمي هذا التقدم المادي البحت حضارة، كما قد يبدأ تصحيح مسار الإنسانية في دورٍ من أسفل أدوار الانحطاط البشري المادي والعقلي أيضًا، وينتهي إلى نتائج عظيمة وخيرة للمادة والمعنى إن صح المثل.
هذه هي الحقيقة يؤيدها الواقع المادي للأمم والحضارات كما رأينا، وكما يتضح هذا من تغير الديانة الزرادشتية إلى ديانة مانوية أو مازدكية، فهذه المانوية التي ظهرت على يد ماني بن فاتك الحكيم، وذلك بعد اضمحلال المسيحية أي: بعد ظهور دين سماوي صحيح، تعرّض للتحريف ودخلته الأهواء البشرية، وتنازعته الأغراض الدنيوية، فكان ماني أو مانو يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولكنه أدخل مع هذا القول تلك النزعة التي كثيرًا ما تصيب عباد القديم، فعاد إلى مجوسية الفرس القديمة، واقتبس منها القول بأن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين؛ أحدهما نور والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم.
ثم اختلفت المانوية في مرجع الخير والشر، ومدى ارتباطهما بالنور والظلام، ثمّ كانت المازدكية امتدادا للمانوية، وصورة جديدة للتدخل البشري، وكيفية خضوع البشر لأهوائهم وأغراضهم الدنيوية، فكان مازدك يقول بالأصلين، لكنه ادعى أن النور يعمل بالقصد والاختيار، أما الظلام فيعمل بالصدفة والاتفاق، وأن النور بهذا يكون عالمًا حساسًا، بعكس الظلام الذي يصير جاهلًا لا يدرك ولا يحس ولا يرى، ويترتب على كل هذا أن المزاج يعمل هو الآخر بالصدفة والاتفاق، ولا يعرف قصدًا ولا اختيارًا، وكذلك النجاة والخلاص يقعان بالصدفة والاتفاق لا بالاختيار، وكان مازدك يحرص في اعتقاده على تعاون الناس واتفاقهم، كما يحرص على تحقيق الحب والمودة في حياتهم، وراح يضع خطةً لتحقيق ما يحرص عليه، فوضع أوامره العامة ومنهياته في:
1 -
عدم المخالفة.
2 -
عدم المباغضة.
3 -
عدم القتال.
أما رؤياه لما يُحقق ذلك، فقد حددته في أسباب ما يراه يوقع المخالفة والمباغضة أو المقاتلة، وهي النساء والأموال، فأحل النساء وأباح الأموال، وجعل الناس شركاء فيهما كاشتراكهم في الماء والهواء والكلأ والنار، وحكي عنه أنه أمر بقتل النفس -أي: الانتحار- لتخلص من الشرّ ومزاج الظلمة، العقيدة عند مازدك برؤية العبيد قاصرة، وبعقلية البشر المستقلة العاجزة، كان مازدك يعتقد أن معبوده يجلس على كرسيه في العالم العلوي، ثم يصور نفسه ولأتباعه هذه الجلسة بصورة الملك أو القيصر أو الإمبرطور في العالم السفلي، ويقرّب الصورة أكثر فيذكر خسروبزى، وبين يديه أربعة أشخاص، وكذلك إله مازداك بين يديه أربع قوى؛ قوة التمييز، وقوة الفهم، وقوة الحفظ وقوة العلم، وهذا العدد هنا يدبر أمر العالم بسبعة من ورائهم، وهذه السبعة تدور في اثني عشر
…
إلى أخر هذا الكلام.
وكل إنسان تجتمع له هذه القوى الأربع، والسبع والاثنى عشر تصير ربانيًّا في العالم السفلي ويرفع عنه التكليف، وهكذا لا يزال العقل الإنساني يسبح وراء خيالات وأوهام يبنيها على أساس أو على غير أساس، حتى ينحرف عن الحقيقة أو يحرّفها أو يتلفها ويفسدها، وهكذا كان مازدك والمازدكية، وما تفرع عنها من فرق شملت بلاد فارس ونواحيها، وما تفرع للقول بالأصلين النور والظلمة وقدرتهما نفيًا وإثباتًا، قصدًا واختيارًا، أو طبعًا واضطرارًا،
كل هذه الاجتهادات الإنسانية لا تمثل غير الدليل الحي على أن البشر أعجز من أن يصلوا إلى الحقائق الدينية الصحيحة من غير الاستناد إلى الوحي الصحيح مهما كانت درجة حضارتهم المادية أو تقدمهم الفكري أو إنتاجهم العلمي.
وعليه، فلا دليل لأحد هنا على أن الدين الصحيح من صنع إنسان أي إنسان، كما لا دليل لأحد على أن الدين يتطور مع الحضارة المادية رقيًّا وانحلالًا، إلا أن يكون هذا الدين صناعة بشرية خالصة، وحتى هذه الصناعة البشرية الخالصة نجدها لا تُوافق في درجة إقناعها للعقل أية صناعة بشرية أخرى، كما سنرى ذلك بعد إن شاء الله في معتقدات اليونانيين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.