الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
(أديان الصين واليابان)
دين الصينيين: "الديانة الكنفشوسية
"
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، الغر الميامين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
أهم أديان الصين وكذلك اليابان متمثلةً في الديانة الكنفشوسية.
دين الصينيين:
يعود تاريخ ظهور الأديان في الصين إلى عصور موغلة في القدم، برغم أن ما اكتشفه العلماءُ من مصادر يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد وما بعده، وهو القرن الذي ظهر فيه "كنفشيوس" ولذلك كان الحديث عن أديان الصين بصورة مفصلة من واقع هذه المصادر التي تُشير في بعض نصوصها إلى الحِكم والمعتقدات القديمة، ولولا الأساطير الشعبية الكثيرة التي تدور حول الشخصيات الصينية التي لها قداستها قبل القرن السادس قبل الميلاد بوقت طويل، وتتحدث عن معتقداتهم، لولا ذلك لنسي العالم الدين الصيني القديم، ولأغفله العلماء بصورة كاملة.
إن أديان الصين خليط عجيب من العادات المحلية، والثقافات الأجنبية، والفلسفات التي وجدت مع دعاتها، وانتشرت في البلاد كلها.
أولًا: ما هي المصادر الدينية لأديان الصين؟
تتعدد المصادر الدينية في الصين وتتخذ صورًا أدبيةً كثيرةً، فبعضها منظوم، وبعضها منثور، وبعضها في صورة حوار، وبعضها على هيئة مقالة أدبية. ومن الممكن حصرها في قسمين رئيسيين:
القسم الأول: وهذا القسم يتضمن كتبًا خمسة حيث يحتوي كل كتاب على موضوع معين، ويسمى باسم أحد الملوك القدماء، ويقول المؤرخون: إن هذه
الكتب قديمة وليست من وضع "كنفشيوس" إلا أنها تنسب لـ"كنفشيوس" باعتبار أنه نقَّحها وشرحها، وأضاف إليها بعض الحواشي لدرجة أن القيمة الحقيقية لهذه الكتب توجد في الحواشي:
والكتاب الأول: يسمى كتاب "الملك ب" يتناول موضوعاتٍ أخلاقية، وسياسية، وروحية، وجل استخداماته يكون في الأغراض الدينية من أمثال تحديد الصفات، الرجل المثالي الذي يكون في انسجام مع السماء والأرض، والفصول الأربعة، ومن أمثال الحديث عن كيفية الخلق بواسطة الآلهة.
والكتاب الثاني: يعرف بكتاب "الملك شو" ويتضمن مجموعة من الوثائق القديمة، ولذلك اشتهر بأنه كتاب التسجيلات، ويتناول الكتابُ الإشارةَ إلى نظام حكومة فاضلة يهيمن عليها مبعوث إلهي كريم، كما يتناول العديدَ من الوصايا التي وجهها هذا المبعوث إلى ولاته وأفراد شعبه.
والكتاب الثالث: يُعرف بكتاب "الملك شي" ويتضمن الأناشيدَ والتراتيلَ والأغانيَ التي يصيح الصينيون بها عند تقديم القربان العظيم لمذبح السماء وفق نظام معين.
والكتاب الرابع: يعرف بكتاب "الملك لي" ويتضمن مجموعةً من التعاليم المحددة للواجبات الدينية في داخل أسرة، والمبينة لضرورة تقديم القرابين، وضرورة الاهتمام بالمراسم الدينية في الأعياد الواردة في الكتب المقدسة.
والكتاب الخامس: يعرف بكتاب "الملك تش" ويسمى بكتاب الربيع والخريف، ويقال: إن هذا الكتاب كله من وضع "كنفشيوس" ويرجح هذا أنه كتب بأسلوب قصصي خالي من الحواشي، وهذا ما اشتهر به "كنفشيوس" إذ كان يقول القصص متضمن الأحكام الدينية والأخلاقية التي تظهر من وراء النص على منهج الكتابة الرمزية.
وبهذا، فإن إسناد الكتب الخمسة للكنفشيوس ليس إسنادًا حقيقيًّا إلا في الكتاب الخامس فقط، كما أن اعتبار هذه الكتب مقدسة مجاراة للمفهوم الصيني عنها، حيث وردت تصريحات كثيرة تنسب بعضها للفلاسفة وتنسب بعضها الآخر للحكماء، وهكذا مما يجعل قداستها محل نظر وتأمل.
القسم الثاني: المختارات: ويشتمل هذا القسم على كتب أربعة من وضع "كنفشيوس" وزملائه، وأهميتها ترجعُ إلى تضمنها للنظريات الأساسية لمذهب "كنفشيوس" وفلسفته. ولذلك نجد الكتب تسمى باسم النظريات التي تحويها، وهي:"المنتخبات الأدبية الدينية"، "العلم العظيم"، "القصد والتدبير"، "المجتمع العظيم".
وسوف تتضح هذه المفاهيم حين نتناول التعاليم الدينية الصينية بصورة مفصلة واضحة.
ويلاحظ هنا أن الأديان في الصين ليس من وضع "كنفشيوس" فقط، ولكنه برز من بين جميع الحكماء والعلماء باعتبار ما أسداه لأمته من فضل، وباعتباره أنه الذي حول الأساطير والخيالات إلى واقع عملي التزم به الصينيون، وساروا به طوال عصور متتالية.
مَن هو كنفشيوس؟
وُلِدَ كنفشيوس في سنة 551 قبل الميلاد في مقاطعة "لَو" من أعمال ولاية "شانتنج" وكان أبوه ضابطًا حربيًّا من سلالة عريقة، وبعد إنجابه لولده بثلاث سنوات مات وتركه وحيدًا فقيرًا، وبعد أن شب الطفل انصرف إلى البحث والدرس وخصوصًا في الآداب القديمة. ولما بلغ أشده اشتغل بوظيفة التدريس، وتعلم منها
الصبرَ وحبَّ الخير، ومداومة النصيحة، الأمر الذي جعل شهرته تنتشر بين الناس، ثم عمل في الحكومة مدة رجع بعدها إلى التدريس مرة ثانية؛ حيث أقبل عليه بعض الشباب، فبشرهم بفلسفته الاجتماعية والسياسية، وقد أعجب تلاميذه به إعجابًا شديدًا، واعتبروه أحدَ الأبطال العظام.
وقد سمع الملك "شو" به فدعاه إلى مجلسه فلبى دعوته، وانتقل إلى عاصمة الإقليم حيث التقى بالعديد من العلماء والمصلحين، وبعد مدة تقلد منصب رئيس القضاة، ثم انتقل منها إلى رئاسة الوزراء، فكانت فرصة يطبق فيها أفكاره النظرية وقد نجح في ذلك، حيث اختفت الجرائم والسرقات، وانتشر الأمن والاطمئنان، وانمحت صور الاستغلال والظلم في كل مكان. وتبعًا لسنة الحياة أوقع حاسدوه بينه وبين الملك، وراحوا يتزلفون للحاكم بكافة الصور الخسيسة، حتى حولوا إعجابه بالرجل إلى كراهية وعدم التقدير، الأمر الذي جعل "كنفشيوس" يتنازل عن الرئاسة على الفور؛ لأنه لم يسع إليها قط، وتفرغ بعد ذلك مرة ثانية للتدريس، وكتابة الكتب، وشرح النصوص القديمة.
ويكفي "كنفشيوس" أنه يُنسب دائمًا لكل حكمة صينية راقية، ولكل نصيحة جميلة، ولم يستطع أعداؤه في القديم والحديث النيلَ منه، والحط من قدره، وقد توفي "كنفشيوس" سنة أربعمائة وثمان وسبعين قبل الميلاد، ولم يتزوج ولم ينجب ولدًا.
أركان الدين الصيني:
فقد بينت المصادرُ عقائدَ الصينيين المتعددة الجوانب، والتي من أهمها:
1 -
الإيمان بالآلهة:
يرجع إيمان الصينيين بالآلهة إلى عصور سحيقة، فَهُم يؤمنون بإله يسمى "شنعتاي" وهو إله ثامن يعلو العديدَ من الآلهة، وهو في تصورهم إمبرطور قديم قدم لهم خدمات جليلة، والآلهة الصغرى عديدة؛ كالشمس والقمر والنجوم والغيوم والرعد، كما يتخذون من أسلافهم آلهةً، وتمتلئ دور العبادة باللوحات المعبرة عن هذا التعدد، حيث تُرسم لوحة تمثل إله "شنغتاي" وفي مقام منخفض عنها توضع لوحات أخرى تمثل بقية الآلهة التي يرمز إليها بصورة متعددة. وهم يكتفون في تأليه الأسلاف بكتابة أسماء الأشخاص على لوحات يحفظونها في دار الأسرة مدى حياة جيلًا أو جيلين، وبعد ذلك تنتقل إلى هيكل أسلاف الأسرة.
وكان الصينيون يعتبرون الإله "شنغتاي" عظيمًا يتجهون إليه بالذكر والقرابين، ومن أناشيدهم جاء قولهم:"إليك أيها الصانع العظيم، يتجه فكري وأنا أعبدك، لست إلا قصبة مردودة، ونبتة هزيلة، قلبي قلب نملة حقيرة، ومع ذلك فقد نِلت لديك شرفًا وحظوةً، هب لي أن أراعي وقارَ الشرائع والأحكام، باذلًا جهدي لأن أقوم بواجبي، بولاء وإخلاص؛ لترضَى بأن تقبل تقدماتنا، وترمقنا بعينيك حين نعبدك، يا ذا الصلاح غير المتناهي".
وقد يعرف هذا الإله العظيم باسم "تيان" أي: السماء، وهو اللقب الذي يستعمله "كنفشيوس" غالبًا، ومن حواشيه على كتاب "الملك ب" جاء الرجل العظيم هو ذلك الذي يكون في انسجام بصفاته مع السماء والأرض، وبتلألؤه مع الشمس والقمر، وبخطواته المنسقة مع الفصول الأربعة، وبصلته مع ما هو مستحب، ومع ما هو مشئوم، منسجمًا مع شبيه الروح الفعالة للإله، يسبق السماء فلا تعمل السماء ضده، يتبع السماء ولا يكون عمله إلا ما تحمل في ذلك
الوقت، وإذا لم تعمل السماء ضده فما أصغر الناس إيذاءَه، وما أصغرَ عملًا شبيهًا بالروح.
وبالنظر في هذه النصوص نلمح أن السماء المذكورة لا يقصد بها تلك القبة الزرقاء، بل يقصدون بها سائرَ الأفلاك ومداراتها، والقوة المسيطرة التي تسيطر عليها، وتسيرها في مداراتها، وباتصالها بالأرض وبالأمطار والرياح، تنبت الأرض من كل زوج بهيج، وكانت عبادة الصينيين للسماء؛ لأنهم يعتقدون أنها عالم حي منظم دقيق محكم، وأن كل ما في العالم من قوى مسيرة، إنما هو خاضع لسلطان السماء، وكما سمي الإله بأسماء الطبيعة فإن بعض الكهنة والأمراء سموا بأسماء تنسبهم إلى الإله الطبيعيين: ابن السماء، الأمر الذي جعل الصينيين يتجهون لتعظيم الأسلاف واتخاذهم آلهة، لدرجة أن الكثير منهم يعتقد في أن "كنفشيوس" ند للسماء يُعبد وتُقدم له القرابين.
ونظرًا لقرب الصين من الهند نجد بعض الفلاسفة الصينيين يحاول وضع مذهب صيني متأثرًا بأهم تعاليم البوذية، وبخاصة إنكارها للإله، وقولها بالتناسخ، إلا أن هذه المحاولة لم يكتب لها الانتشار وقد قام بها الفيلسوف الصيني "شوهس".
ومن العجيب في العقيدة الصينية أنها تربط بين الآلهة المتعددة برباط واحد مشترك، فالأعمال مقدرة عند السماء، والإمبراطور الكاهن ابنان للسماء يعبدان من الناس، وعليهما أن يعبدَا السماء، والعقوبة للمسيء تأتي من قبل البشر بتسليط السماء لهم بصورة مستترة. جاء في أساطير الصين: أن ملِكًا استولى على العرش بعد أن انتصر على الملك الذي قبله وقتله، ثم قال: أعطى الإله لكل إنسان ضميرًا إذا اتبعه يحفظه، ويقوده إلى الطريق السوي، والإله دائمًا يبارك الطيب، ويعاقب الرديء، وكذلك أنزل المصائب على بيت الملك السابق حتى يضع حدًّا لآلامه ومساوئه.
وعلى الجملة: فإن الباحث في العقيدة الصينية بالنسبة للآلهة يجد خلطًا وتداخلًا بين توحيدهم للإله وبين تعديدهم له، مما حدَا ببعض العلماء أن يتصور ذلك نتيجة تأثرهم بعقائد الدول المجاورة، الأمر الذي جعلهم يفرزون عقيدةً خاصةً بهم، جامعة للقضايا المتناقضة في المسألة الواحدة.
والذي يهمنا هو مجرد الإحاطة بعقيدة الصينيين في الآلهة، ومعرفة مدى تصورهم في هذا المجال، إنهم كان يعتقدون في الآلهة -في آلهة متعددة- وينظرون إلى إله واحد منها على أنه أعظمها جميعًا، يمنحهم البركة، ويجتهد الصيني في إرضائه، فبرضاء هذا الإله العظيم الذي هو في السماء أو الذي هو السماء ترضى جميع الآلهة؛ لأنه تستمد حاجتها منه، فالمطر إله ينزل من السماء، والسحب إله تأتي هي الأخرى من السماء، والريح إله تهب أيضًا من السماء، والرعد والبرق وقوس قزح موجودة للرائي من السماء، والأسلاف صعدت أرواحهم للسماء.
وبهذا فالسماء رب الأرباب، وإله الآلهة. ومن الأناشيد التي كانوا يناجون بها الإله العظيم، جاء قولهم:"اجعلني وقورًا، طريق السماء واضحة، وتحديداتها غير هين الاحتفاظ بها، لا تجعلني أقول إنها مرتفعة جدًّا وبعيدة عني، إنها تصعد وتنزل نحو أفعالنا، تراقبنا يوميًّا حيث تكون، لست إلا كطفل صغير بغير نباهة حتى أحترم واجباتي، سأتعلم القبض بقوة على وميض المعرفة حتى أصل إلى النباهة المنيرة، أعنِّي لاحتمال عبء منصبي، وأرني كيف أظهر بسلوك فاضل".
وهكذا، اعتقد الصينيون في آلهة أحاطوها بالتقديس والاحترام والتعظيم.
الركن الثاني: العبادة والقرابين:
تتضمن الكتب الصينية القديمة تصويرًا لبعض القرابين وألوان العبادات التي يؤديها الصيني لآلهته في احتفالات عامة، ومن أهمها القربان الذي يقدم بمذبح
السماء في احتفال ديني يُعلن عنه بأمر إمبراطوري، وتتم ترتيباته تحت إشراف المجلس الكهنوتي، ويحدد مجلس التنجيم التاريخَ المعين له، وقبل الاحتفال بخمسة أيام تفحص الضحايا المقدمة للقربان؛ للتأكد من سلامتها، وينقش خطاب الإمبراطور على لوحة خاصة، وفي اليوم السابق ليوم القربان يقام عرض فخم يسير إلى ساحة المعبد، ويُعرف المعبد بمذبح السماء، ويتكون من ثلاث شرفات، ترتكز الواحدة فوق الأخرى، وأعلاها يبلغ قطرها تسعين قدمًا، والوسطى قدرها مائة وخمسون قدمًا، والثالثة وهي الأدنى مائتان وعشرة أقدام.
وأمام الشرفات ما لا يقل عن ثلاثمائة وستين لوحة، وللشرفات سلالم أربعة، في كل جهة واحد، وحول المعبد فناء دائري وآخر أبعد من الأول مربع محاط بسور أحمر، ويتكون المعبد من داخله من فرن كبير لحرق الأضاحي، ومناضد تجمع منها الهيئات، ومخازن متعددة، وأماكن المرتلين وكبار الرسميين والكهنة، ويمتاز المعبد بالروعة والجمال والنظافة، لدرجة أن مبشرًا أمريكيًّا ذهب لزيارته منذ سنوات فخلع حذاءه من قدميه؛ محافظةً على نظافته رغم النظام لا يقضي بذلك، وقد امتلأ المعبد بالعديد من التحف النادرة التي أُهديت له في مختلف العصور.
فهذه صورة المعبد الذي يقام فيه العرض، والذي يتقدمه الإمبراطور؛ لأنه رئيس الكهنة، وبصحبة الحرس والموسيقيين، والراقصين والقواد، وأصحاب الأعلام، والمظلات والضحايا، ويظل هذا الجمع سائرًا طوال الليل حتى يأتيَ يوم الاحتفال وفيه تُحرق الضحايا، ويغسل المعبد، وتقام الدعوات والصلوات، وتلقى الأناشيد بصحبة المزامير، وذلك كله للإله العظيم السماء الذي سمي المذبح باسمه.
إن الصينيين يعتقدون في أن إشعال النار ورفع الصوت واللغو بالأناشيد والرقص، تبلغ الإله، وتحمل معها فحوى الرسالة التي يريدون بلوغها إليه، ومع اعتقاد الصينيين في الآلهة، ومع تقديمهم للقرابين وأدائهم للعبادات، مع ذلك لم يكونوا يؤمنون بجنة أو بنار، وإنما كانوا يرون أن الهدف هو إصلاح معايشهم وحياتهم التي يحبونها، ولذلك نجدهم يركزون في شعائرهم ونظمهم على الأخلاق الفاضلة، وأسس الخير والشر، وقواعد السلوك العملي الممتازة.
ولقد بلغت الأخلاق عند الصينيين درجةً من السمو أدهشت العلماءَ عندما تعرفوها، الأمر الذي جعلهم يقفون في تصور السر وراءها مواقف كثيرة.
إن المدهش في فلسفة الأخلاق عند الصينيين ارتباطها بالدين برغم ما في تدينهم من خيالات وأساطير لا صلةَ لها بالواقع، وهنا يرى الشيخ محمد أبو زهرة أن لا دهشةَ في هذا؛ لأن الأخلاق الصينية اعتمدت على العقل المطلق وفكر الحكماء، بينما الدين اعتمد على النقل، وكل منهما رضي لنفسه طريقه، وإن تشابكَا معًا في المسيرة كطبيعة الصينيين في كثير من حياتهم وآرائهم.
ثالثًا: الأخلاق الصينية:
آمن الصينيون منذ القديم بأن جميع الأحداث تتبع الأخلاق، فكلما كان الاعتدال والانسجام والفضائل تسوده المعاملة بين الناس، فالكون سائر في فلكه من غير أي اضطراب، لكن إذا حاد الإنسان عن الحق والفضيلة اضطرب بعض ما في الكون، وما الزلازل والكسوف والخسوف إلا أمارات لفساد أخلاقي. وقد اهتم جميع الفلاسفة والحكماء بهذا الجانب الهام، ومن أقوال "كنفشيوس": "إن الناس قد ولدوا صالحين ويجب أن يبقوا صالحين ما داموا أحياءً، إن الطريق
إلى البقاء صالحين طريق الحياة الصالحة، هو طريق المعرفة، وعبادة الأسلاف، ووفاء الآباء والأبناء، ووفاء المواطنين لحكامهم، وقبل كل شيء العدالة، وللعدالة، ويقول "مو" وهو فيلسوف صيني ولد بعد "كنفشيوس" وقد عرف أتباعه نظام الجماعة المنسقة، حيث يعقدون اجتماعات دورية بأمر مختارين مِن بينهم، وله كتابه المعروف بكتاب (مو) يقول: تريد السماء من الناس أن يحبوا، وأن ينفع بعضهم بعضًا، ولا تريد من الناس أن يكرهوا ويسيء بعضهم إلى بعض، وكيف يعرف هذا؛ لأن السماء تشمل الجميعَ بحبها لهم، وتشمل الجميعَ بنفعها لهم، لا وجودَ لشباب أو لمسنيين أو لأشراف أو لسوقة، فالكل راعية السماء.
هذا وقد وضعت الأخلاق الصينية في نظم مفصلة منها نظام صلاح الفرد والمجتمع، ويقوم على حسن أداء الفرد لواجبه، ومحافظة على حقه، كما أنهم يحددون العلاقات الرئيسية في المجتمع وهي علاقة الأمير بالرعية، وعلاقة الأب بالابن، وعلاقة الأخ بإخواته، وعلاقة الزوج بزوجته، وعلاقة الصديق بالصديق، فإن روعيت الأخلاق الفاضلة في هذه العلاقات حسن حال الفرد والمجتمع، ويسمون هذا النظام بالتبادل الحسن.
ثانيًا: نظام الفضيلة القانوني:
ويقوم على اعتبار أن الفضيلة وسط بين طرفين ولا تتحقق إلا بالاعتدال والاقتصاد في جميع الأفعال، فالقناعة مع الجد من غير استسلام فضيلة، واللين من غير ضعف فضيلة، والرحمة مع العدل مع المسيء فضيلة. وهكذا. وغاية الفضائل تحقيق الكمال الإنساني، والسعادة الدنيوية، وإقامة المجتمع على التواد والتآلف والإخلاص والإلفة.
حاجة الأخلاق للمعرفة:
ترتبط الأخلاق بالمعرفة الصحيحة ويرى "كنفشيوس": أن الشخص الكامل يكون على تمام المعرفة بنفسه وبحقائق الأشياء، ويرى أن المعرفة الصحيحة جزء غير قابل الانفصام من منهجه الخلقي، ويتميز "كنفشيوس" في هذا عن كثير من الفلاسفة بأنه ربط بين المعرفة والسلوك، فقال: مَن يعلم الحق دون من يولع بطلبه، ومَن يُولَع بطلبه دون من يطمئن إليه دائمًا، ويقسم الناس بالنسبة للمعرفة إلى أربع درجات:
الدرجة الأولى: درجة رجل وهبته السماء المعرفة وأوتي الإلهام.
والدرجة الثانية: رجل لم يؤتَ إلهامًا ولكن فيه ذكاء.
والدرجة الثالثة: رجل لم يؤتَ إلهامًا ولا ذكاء.
والدرجة الرابعة: رجل حائر به بلادة لا يعرف ولا يحاول المعرفة.
والمعرفة في هذا التقسيم تشمل العلمَ والسلوكَ.
دور الأمراء في نشر الفضيلة:
لا بد من قيام السياسة على الأخلاق، ويرى "كنفشيوس" أن الملوك والقادة يؤثرون بأخلاقهم أكثر مما يؤثرون بقوانينهم وسلطاتهم، ولذلك اهتم بإصلاح القادة؛ لتصلح الرعية، ولتنشأ الثقة بين الحاكم والمحكوم، سأله أحد تلاميذه: عن ضروريات السياسة؟ فقال: مِن ضروريات السياسة الأقوات الكافية، وذخائر الحرب الواقية، وثقة الرعية، فقال التلميذ: لو اضطررنا إلى حذف واحد من هذه الثلاثة، فبأيها نبتدئ بالحذف؟ فقال: احذفوا ذخائرَ الحرب، فقال: لو
اضطررنا إلى حذف أحد هذين الأمرين، فأيهما يُحذف، وأيهما يبقى؟ فقال: احذفوا الأقوات، فإن الموت حظ الإنسان منذ الغابر من الأزمان، ولكن السياسة لا تقوم إلا بثقة الرعية.
ومن أشد الأمور جذبًا لثقة الرعية التزام الحاكم بالسلوك القويم، والتزام أعوانه بالفضائل والأخلاق، ولقد سأل أمير المقاطعة "كنفشيوس" قائلًا: كيف تكتسب طاعة الرعية؟ فأجابه بقوله: إذا أُعلِيَ الصالحون وأبعد الطالحون، فولاية أهل الصلاح تجذب الناسَ إلى الحاكم، وكان يقول: لو تداولت أيدي الصالحين شئونَ الدولة لمدة قرن واحد، لتهذب الظالمون جميعًا، ولاستغنى الحاكم عن العقوبة، وما دام الصلاح لازمًا لاستتباب الأمر في الدولة، فعلى الصالحين الأكفاء أن يطلبوا الولاية لأنفسهم، وإذا نالوها وشعروا أن الحكومة ظالمة، عليهم أن يتركوا عملهم فورًا، إن الدولة تقوَى بالأخلاق والشجاعة وتعتني بالثقة، وتعيش بالأمن والهدوء.
ولعل أسلوب الحوار الذي سجل به "كنفشيوس" كتابه، وجعله بين أستاذ وتلميذ، ووضع فيه كل آرائه الأخلاقية، لدليل عملي على منهج الأستاذ في ربط العلم بالسلوك.
كيفية نشر الأخلاق؟
وضع "كنفشيوس" منهجًا لنشر فلسفته الأخلاقية طبقه على نفسه، وهو منهج مفيد لنشر الأفكار والمعتقدات، يعتمد هذا المنهج على الوسائل التالية:
أ- دعوة الأشخاص الملازمين كالأهل والأصدقاء والجيران، ولذلك كان دعوة الأبناء لآبائهم واحترامهم لهم من أولى اهتمامات "كنفشيوس".
ب- التدرج في الدعوة؛ ليكون البدء بالأمور السهلة المسلمة، ثم يكون الانتقال برفق ولين إلى بقية القضايا؛ حتى لا يسأم المدعو ولا يفر ممن يدعوه.
ج- مراعاة حال المستمع، وذلك لمخاطبة كل إنسان على قدر طاقته، فمن الناس من يستطيع محادثته في العلم ولا يمكن أن نحمله على السير معنا بمقتضى الفطرة، ومن الناس من نستطيع أن نسير بهم على الفطرة من غير أن يكونوا ذوي قدم ثابتة فيها، ومنهم من يكون ذا خلق قويم شديد التمسك بالفطرة والكمال الإنساني، ولكن لا يمكننا مشاورته في تقدير الشئون، وعلى هذا فكل إنسان له خط من الإصلاح يعالج به، ويحمل على الجادة.
د- القدوة، وذلك بتقديم الصورة العملية مع الدعوة النظرية؛ لأن الناس أكثر إلفًا بالعمل، وأسرع طاعة لصاحبه، ومن أقوال "كنفشيوس": أتظنون أني أخفي عليكم شيئًا؟ ما من أمر أعمله إلا فيه إرشاده، وهذه هي طريقتي في التربية.
الاختلاط والمعايشة: وذلك يكون بالعيش شبه الدائم مع المدعوين؛ لأن العزلة تؤدي إلى التنافر، والتعالي يحقق عدم الثقة. ومن أقوال "كنفشيوس": لا يمكن أن أعاشر الطيور والوحوش فلو لم أعاشر هذه الأمة، فمن الذي أعاشره؟ إذا كان واجب كل شخص من آحاد الأمة أن يعتزل في كهف من الكهوف، فمن الذي يبقَى في المدن يعمرها؟ وفي الأرض يفلحها ويزرعها؟ وفي الصنائع يمهر فيها؟ ومَن الذي ينسل ويعمل ليبقى الكون عامرًا ببني الإنسان؟ وإذا كان الاعتزال مقصورًا على الحكماء والفضلاء، فَمَن الذي يربي الإنسان ويؤدبه؟ أم يُترك الناس حائرين لا هادي ولا مرشد. وكان يتجه إلى الجماعات يصلحها ويؤدبها ويعظها، ولا يعتزل ويترك الناس في غيهم يعمهون.