الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوافظ الموابذة، الذين هم كبار رجال الدين الفارسي، مع كتابته على النحو المذكور، والذي يجعلنا نلحق هذه المعلومات بالأساطير شبه الإجماع عند علماء الأديان على أن الفستا لم تدوّن طيلة عدة قرون، كما أن التسليم بهذه الروايات يؤدي إلى عدم ضياعها وتحريفها، بينما المعروف أن أكثر من ثلاثة أربعها .. إن أي: كتاب ينال هذا الاهتمام حفظًا وتدوينًا كفيلٌ باستمراره مع الزمان، وبخاصة أنه وجد بين دولة تقدستة وأمة تدين به، لكن الثابت عدم استمراره، مما يؤكد أن الروايات المذكورة مبالغٌ فيها وبعيدة عن الواقع.
وقد اهتم علماء الدين الفارسي بشرح الفستا، وإحاطته بالحواشي التي تشرحه وتشرح شرحه وتبين شرح شرحه؛ وذلك واضح من الزِّند، وهو كتاب يشرح الفستا، وقد ألف بعد الفستا بمدة طويلة، والباذند وهو شرح للزند، والإياردا وهو شرح للبازند، وهذه الشروح كُتبت باللغة الفهلوية بلغة الفرس القديمة، وترجمها العلماء في العصر الحديث إلى عددٍ من اللغات الحية مع ترجمة الفستا، والعلماء المحدثون يرون أن أهم ما يوضّح العقيدة الدينية للفرس هو كتاب التراتيل المعروف باسم الياسنا، وهو القسم الثالث من الفستا، ويرون أنه يتضمن العناصر القديمة للزرادشتية، ويحتوي على أقوال زرادشت؛ ولهذا نجد العلماء يهتمون بدارسة هذا القسم وتحليله أكثر من غيره.
التعريف بزرادشت
ثانيا: التعريف بزرادشت:
اختلف علماء الدين في حقيقة شخصية زرادشت؛ فمنهم من يرى أنها شخصية أسطورية لا وجود لها في الحقيقة، صنعها الكهنة ورجال الدين الفارسي، من
أجل تدعيم عملهم وتحقيق مكاسب لهم ولذويهم، وكل ما روي عن الإنسان اختلاق، وتأليف سواء كان منبعه دين قديم أو وضع بشري محدد، والقائلون بهذا لا يجدون دليلًا حقيقيًّا، وكل ما يستدلون به ما يروى عن نشأة زرادشت وحياته؛ حيث يرون تشابهًا بين ذلك وبين أحداث تعرّض لها رُسل الله من أمثال إبراهيم وعيسى، ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- وهذا الرأي لا يصح التسليم به لقيامه على الفرض المجرد من الدليل، بينما الموضوع له أهميته التي لا بد لها من البراهين القوية والأدلة الساطعة.
وأيضًا فإن المكتشفات العلمية الحديثة تؤكد بطلان هذا الرأي، ومن العلماء من يرى أن زرادشت شخصية حقيقية، وأنه هو إبراهيم عليه السلام الذي ورد ذكره في الكتب السماوية التوراة القرآن الكريم، يستدل هذا البعض بما ورد في سيرة زرادشت من أحداث تشبه بعض معجزات إبراهيم عليه السلام وبعض أحداثه التي حدثت معه مثل نجاته عليه السلام من النار بعد أن ألقي فيها، ومثل تأمله في الكواكب والنجوم، ومثل دعوته إلى الإيمان بالواحد الخالق بكل هذه الظواهر ولجميع المخلوقات، وهذه الأدلة لا تَثبت مدعاها؛ لأن التشابه في بعض الأحداث في حياة شخصين أمرٌ ممكن، كما أن من أحداث سيرة زرادشت ما يشبه بعض ما جاء، وما حدث مع موسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- مثل البَشريات والإرهاصات العديدة التي جاءت لأمه أثناء مولده، ومثل نجاته بصورة معجزة من محاولات قتله المتكررة، ومثل انتصاره على السحرة وإعجازهم، ومثل هذا التشابه جائز من غير أن يكون الشخصان شخصًا واحدًا.
وأيضًا فإن الأدلة الثابتة تؤكد أن زرادشت ليس هو إبراهيم عليه السلام؛ لأن إبراهيم عليه السلام نشأ في بلدة أور ببلاد الكلدان، بينما زرادشت ولد بأذربيجان؛
ولأن إبراهيم رحل إلى مكة بينما زرادشت لم يرحل إلى بلاد الحجاز، ولم تكن له بها صلة؛ ولأن إبراهيم تزوج من سارة وهاجر، بينما زرادشت تزوج من امرأة واحدة هي هفويه، ولأن إبراهيم عليه السلام ظهر في القرن السابع عشر قبل الميلاد بينما ظهر زرادشت في القرن السابع قبل الميلاد، وكل هذا يؤكد أن زرادشت شخصية حقيقية، وليس هو سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وإذا ثبت هذا، فمن يكون زرادشت؟
ولد زرادشت في مدينة أذربيجان الواقعة غربي بحر القزوين في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، ويروى أن أباه كان يرعى ماشيته ذات يوم إذ تراءى له شبحان نورانيان، اقتربا منه وقد ناله وقدما له غصنًا مقدسًا، وأمراه أن يحمل الغصن ويقدّمه لزوجته؛ لأنه يحمل في كيانه الطفل الروحاني، وصدع أبوه بالأمر، فحملت زوجته لليلته، وبعد خمسة شهور من الحمل أتت لأمه البشارات المتتالية، وعندما ولد لم يبكِ كسائر الأطفال، وإنما فَهِق بصوتٍ عالٍ اهتزت له أركان البيت، وهربت الأرواح الشريرة، وارتعد كبير السحرة فرقًا؛ لأنه يعلم أن هذا الوليد سيقدر على السحرة والكهان ويخرجهم من البلاد.
وقد تعرض زرادشت لمحاولات متعددة من السحرة لقتله بأن ألقي في طريق قطيع كبير من الماشية لتدوسه، لكن بقرةً أسرعت نحو الطفل ووقفت فوقه تحرسه حتى مر القطيع، وألقي في وكرَ الذئاب لتأكله أو ليموت جوعًا لكن الذئاب تسمّرت وأقبلت عنزتان، ودخلتا الوكر معه لترضعاه، ولما بلغ زرادشت السابعة من عمره أرسله أبوه إلى حكماء الفرس؛ ليتعلم منهم، ويتلقى الحكمة، واستمرت هذه الفترة ثمانية أعوام تزوج خلالها، وعاشق مهنة خدمة المرضى وعلاجهم،
ولم تكن مصاحبة آلام الناس وأحزانهم النهاية في نشاط زرادشت، بل إنها كانت البداية؛ حيث أخذ يتساءل ويبحث عن مصدر الشرور والمتاعب، ويعجب من عدم سيطرة الخير على كل شيء، وقرر هجر زوجته والانقطاع للتأمل والبحث فوق جبل سابلا.
وذات يومٍ أدرك من تأمله في الليل والنهار أن العالم يضم الخير والشر كما يضم اليوم الليل والنهار، هكذا في صورة مستمرة من غير طغيان أحدهما على الآخر، ومع اكتشاف لهذه الحقيقة سأل نفسه: لماذا خلق الخير والشر معًا؟! ولم يدم به التساؤل طويلًا، فلقد أتاه كبير الملائكة، وقاده إلى الله تعالى أهورامزدا إله النور الأعظم، الذي يحيط به ضياء عظيم؛ حيث تلقى كلمات الحق والحقيقة وتعلم أسرار الوحي المقدسة، واستمع إلهه للنبوة.
ونزل زرادشت للجبل حاملًا رسالة الله للإيرانيين، ومعه كتاب الوحي، لكنه قوبل بالإعراض والصدود من قومه، ومن عشيرته الأقربين، وقضى في دعوته عشر سنوات متحملًا الأهوال صابرًا على الأذى محتسبًا ذلك عند أهورامزدا، الذي ظل يؤيده ويقوِّي عزيمته، ويثبّت عقيدته بالوحي المتوالي، ويقال: إن الله كلامه شفاهة وظهر له كبار الملائكة، وبعد أن جاوز عمره الأربعين آمن أخوه بدعوته، وأخبره بأنه يدعوه بأفكار صعبة لا يفهمها إلا المتعلمون والخاصة، فبدأ زرادشت لساعته يدعو المتعلمين والخاصة مبتدئًا بالملك كشتسيب والملكة والأمراء المقيمين في بلخ، وعقد الملك مناظرة بين حاشيته وبين زرادشت حتى تبين له صدق الدعوة، فآمن بالزرادشت واتبعه.
لكن الكهنة دبّروا مؤامرة كاذبة لزرادشت أدت بالملك أن يسجنه بتهمة السحر والشعوذة، وحدث أن جواد الملك أصيب بمرض غريب أدى إلى تقلص قوائمه
الأربعة ودخولها في بطنه، ولم يعد يظهر منها سوى الأطراف، وجمع المالك أشهر الأطباء لعلاج الجواد لكنهم عجزوا وأصيبوا بالحيرة أمام هذا المرض العجيب، وبلغ الخبر زرادشت وهو في السجن، فأرسل إلى الملك أخبره أنه يمكنه علاج الجواد، فجيء به على الفَور، فلما حضر طلب من الملك شروطًا تتحقق إذا أبرأ الجواد، فَقبل الملك ونفذ الشروط بالفعل؛ حيث آمن به حينما برأت ساقه الأمامية اليمنى، وآمن ابنه حينما برأت ساقه الأمامية اليسرى، وآمنت الملكة مع شفاء الساق الثالثة، وحاكم المتآمرين على زرادشت بعد شفاء الساق الرابعة.
ومضت الأيام والخوارق تظهر لزرادشت حتى تم له النصر، وانتشرت دعوته في إيران بمساعدة الدولة وعلى رأسها الملك والأمراء، وبعد أن اتجه زرادشت بدعوته إلى مملكة توران التي رفضت الدعوة، واشتبكوا في حرب مع الإيرانيين، وحاصروا مدينة بلخ واستولوا عليها وأقبلوا على زرادشت وهو يصلي في المعبد، وطعنوه في ظهره فسقط صريعًا، ومعه عدد كبير من الكهنة، وكان ذلك في سنة ثمانمائة وثلاث وخمسين قبل الميلاد تقريبًا، وعمره سبعة وسبعون عاما.
ولكن هل يعتبر زرادشت رسولًا من الله تعالى لقومه؟
هنا يختلف علماء الأديان؛ حيث يذهب البعض إلى التسليم بسائر ما رويناه في نشأته، ويرى ما فيها من إرهاصات ومعجزات، وقيام زرادشت بدعوة قومه إلى توحيد الإله أهورامزدا دليلًا على رسالته ونبوته، ويمثل هذا الاتجاه الأستاذ حامد عبد القادر في كتابه (زرادشت الحكيم نبي قدامى الإيرانيين)؛ حيث يقول: "إن هذا الرجل إذا قيس بمقياس التاريخ، وجب أن يعدّ في صف كبار الأنبياء الذين ظهروا في شتى البيئات والعصور، وأرشدوا الناس إلى طريق الحق والخير؛ لما
عرف عنهم من دقة استقامة، وشدة إخلاص لربه، وتفرغه لتقديسه، وقوة إيمانه برسالته، وشدة تحمسه في نشر دعوته" والكاتب يبين أهم الأسباب الدافعة للقول بنبوة زرادشت، ويوجزها في المعجزة، ونزول الوحي والدعوة إلى الإيمان بإله واحد هو أهورامزدا؛ أي: أنا خالق الكون.
يقول الشهرستاني: "ودين زرادشت عبادة الله، والكفر بالشيطان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الخبائث" ومن أقوال الزرادشت: "النور والظلمة فصلان متضادان، وهو مبدأ موجودات العالم، وحصلت التراكيب من امتزاجهما، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة، والباري تعالى خالق النور والظلمة، ومبدعهما، وهو واحد لا شريك له، ولا ضد ولا ند، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة، لكن الخير والشر إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، والباري هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة".
ويشير الشهرستاني إلى ما يُنسب إلى زرادشت من معجزات، ومنها دخول قوائم فرس كشتاسب في بطن الفرس، وإطلاق زرادشت لها بعد عجز الأطباء، ومنها أنه مر على أعمى فوصف لقومه حشيشة عصروا ماءها في عين الأعمى فبرئ لتوِّه، وعلى هذا الاتجاه سار الأستاذ عباس العقاد في كتابه (الله)، وقد سلّم به ابن حزم بدون قطع، وهو يعتبر أهل فارس أهل كتاب بصورة عامة، ويستدل على هذا بأخذ الجزية منهم وهم المجوس.
هذا وهناك فريق آخر يرى أن زرادشت لم يكن رسولًا مبعوثًا من الله، وأن دعوته عبارة عن محاولة تطوير المجوسية القديمة وتنقيتها من بعض تعاليمها التي بان فسادها بسبب الرقي العقلي أو بسبب الاتصال بأصحاب الديانات الأخرى، يستدل أصحاب هذا الاتجاه بأن ما رُوي عن حياة زرادشت من معجزات أو
خوارق هي من فعل الكهنة، ومن الأساطير التي روجها العامة، كما أن دعوة زرادشت يشوبها الشرك وتعدد الآلهة؛ حيث تقدس النار وتدعو لعبادتها، كما أنها تنظر إلى أهورامزدا وأهرومن على اعتبار أنهما إلهان اثنان.
وبالنظر في هذه الاتجاهين نلمح ضعف الرأي الثاني؛ حيث لا دليل معه حول ما يزعمه من أسطورية نشأة زرادشت، كما أن الشرك وتعدد الآلهة، وعبادة النار وُجدت في المجوسية، وهي ليست دعوة زرادشت؛ إن المجوسية لونٌ من ألوان الشرك ظهر منذ فجر التاريخ، وقد انتشرت في ممالك فارس القديمة، وتمكنت من أن تحرّف دعوة زرادشت بعد وفاته، والذي ننبه عليه هو أن المجوسية ليست من الزرادشتية، وليست هي الزرادشتية، هذا من جهة، ومن جهة ثالثة لا نؤيد الرأي الأول على إطلاقه؛ لضياع أغلب كتب الزرادشتية، كما أن البعض الباقي يداخله شك كبير في إثبات صحة نسبته لصاحبه، كما لا ننكره على إطلاقه؛ لأن إرسال الرسل في سائر الأمم أمرٌ مقرر شرعًا عند أصحاب الملل، ومن الجائز أن يكون زرادشت واحدًا من هؤلاء الرسل.
إن الدعوة الإلهية تتضمن بشكل رئيسي الدعوة إلى الله الواحد الأحد المتصف بكل كمال يليق به الخالق لكل شيء، وتتضمن القيام بعبادات ونسك لهذا الإله، كما تشتمل على الأخلاق الفاضلة، والتعريف باليوم الآخر بما فيه من حساب، إن أي: دعوة تتضمن هذا هي دعوة رسول مرسل، فإن كان الرسول قد ذُكر في الكتب السماوية نؤمن برسالته ونصدق بدعوته، وإن لم يرد ذكره في الكتب السماوية، فإننا نتوقف مكتفين بالتسليم المجمل في قضية الإيمان بالمرسلين، وعلى الجملة فإن الأولى هو التوقف في القطع برسالة زرادشت مع الاكتفاء بدراسة تعاليمه كما وردت عند العلماء والإحاطة بما ذُكر في هذا المجال.