الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-184 -
افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق
يوم 2/ 4/ 1375هـ
مرّ على هذا اليوم ثلاثمئة وخمسة وسبعون شهراً، ولكنه ماثل أمام ناظري أراه الآن كما رأيته يوم كان؛ لا لأن لي ذاكرة قوية لا تنسى، بل لأنه كان يوماً عظيماً لا يُنسى. والذي ميّزه أمران: الأول أنه واحد من الأيام التي ظهر فيها الجوهر الثمين المكنون في صدور هذه الأمّة، أمّة محمد ‘. والثاني: أنه كان في عهد (قصير) من العهود القليلة التي كان فيها الشعب والحكومة يمشيان في طريق واحد إلى غاية واحدة، أو كانا -كما يقولون في هذه الأيام- في خندق واحد.
وبيان ذلك أنني (وقد أكملتُ من أيام التاسعة والسبعين من عمري)(1) لم أكَد أجد في بلدي إلاّ حكومات لا يراها أهل البلد منه، بل يعدّونها بعيدة عنه عدوّة له، متربّصة به تكيد له، من عهد الاتحاديّين الأتراك: جمال وأنور وطلعت ووزير المالية اليهودي دافيد الذي سمّى نفسه جاويد، وأصولهم من الدونمة من اليهود
(1) كتبت هذه الحلقة سنة 1406هـ.
الذين أظهروا الإسلام. ثم جاء غورو وخلفاؤه من المفوّضين الفرنسيين الذين حكموا بلادنا وهم غرباء عنا، لا دينهم من ديننا ولا لسانهم من لساننا ولا نحن منهم ولا هم منا. ثم جاءت عهود بكينا في أكثرها منها، ثم بكينا بعدها عليها لمّا ابتُلينا بما هو أشدّ منها.
لم أشعر بأن الحكومة حكومتنا إلاّ في أيام معدودات، منها أيام الشريف فيصلبن الحسين في الشام (وإن كان لي وكان للإسلام في ثورة أبيه الحسين كلام)، ومنها هذا العهد مِن حُكم شكري بك القوتلي، العهد الذي كان فيه أسبوع التسلّح. وأنا هنا أمثّل ولا أستقصي.
والثانية: أني كتبت من قديم أقول (ولست أحفظ الألفاظ ولكن أسوق المعاني): إن لكل أمة يوماً تنشط فيه روحها وتظهر فيه شمائلها وتبدو عظمتها، ولكن هذا اليوم يستفرغ طاقتها ويستنفد ذخيرتها، فلا ترى بعده مثله: مقدونيا لمّا قادها الإسكندر المقدوني، القائد العظيم الذي يُخطئ ناسٌ فيحسبونه ذا القرنين الذي شرّفه فذكره القرآن. الإسكندر الذي مشى بجيشه إلى أقصى الشرق فاتحاً، وامتدّ ظلّ رايته على هذا الركن من الدنيا قروناً، ثم لم يُذكَر اسم مقدونيا في تاريخ المعالي والأمجاد بعده كما لم يُذكَر قبله.
وكذلك اليونان، ملكت يوماً زمام الفكر البشري ثم فقدته ولم تمسكه مرة أخرى. حتى روما التي أقامت مُلكاً قلّ ما يسامقه من الممالك، لم يعُد لها مثل ذلك الملك ولم يعُد يظهر فيها أولئك القُوّاد العظام: يوليوس وأوغسطوس. وعدوّة روما التي
نازلتها وكانت يوماً قريعتها وأوشكت أن تظفر بها، وما هي إلاّ مستعمَرة فينيقية صغيرة قادها القائد البطل «هاني بعل» فجعلها تنازل روما، هي قرطاجة التي تقع اليوم في أرض تونس، برق لها بارق مجد ثم اختفى. ونابليون وهتلر، ومن قبلهما شارلمان وشارلكان، ومن بعدهما الإمبراطورية النمساوية، وبريطانيا العظمى التي لم تعُد عظمى والتي غابت عنها الشمس وما كانت تغيب من قبلُ عن أملاكها، وما ترون الآن من سلطان الروس والأمريكان
…
لكلّ أمّة يوم تنهض فيه، تكون قبله نائمة وترجع بعده إلى المنام، إلاّ أمّة محمد ‘؛ فإن البطولة سجيّة فيها، تجري في عروقها، تخالط روحها، فكلما أدركها ليلٌ وظنّ الناس أنها قد انتهت أرجعها صفاءُ الليل إلى نفسها فحاسبَتها، وسدّت الثلمات في قلعتها، وجدّدَت من عتادها، وأصلحت ما بينها وبين ربها، فطلع عليها بعد الليل فجرُ نهار جديد.
وهذا الذي ورد من أن الله يبعث لهذه الأمة كلما طال عليها الأمد وقسَت منها القلوب مَن يجدّد لها دينها، لا يأتيها بدين جديد فإن محمداً ‘ خاتم الرسل ودينه آخر الأديان، ولكن يُزيل عنه ما علق به من البدع والأدران، فيعود جديداً كما يعود الثوب الوسخ إن مسّته يد الغسّال ومشت عليه كف الكوّاء.
* * *
أعود الآن لأصل ما قطعتُ في الحلقة الماضية، ولن أروي لكم خطبتي كلها بل أنقل فقرات أخرى منها. حدّثتكم حديث
الطفل الذي هَدَته فطرته إلى التفكير في توفير الفلوس القليلة التي تقع في يده ليشتري بها سكّيناً ينتقم به لأبيه (1). فهل هدتنا عقولنا إلى شراء السلاح لنثأر به للوطن المسلوب، والعرض المستباح، والدم المُهراق؟
لقد كنت أرانا نتلقّى بوجوهنا ضربات اليهود فلا نملك إلاّ أن نذهب إلى مجلس الأمن، كما يذهب الولد المدلَّل الناعم إلى المعلّم يقول: أستاذ هذا ضربني! ويكون المعلم مشغولاً عنه فيصرفه بحركة من يده ويقول له: اذهب أنا سأؤدبّه، وهوى المعلم مع الضارب لا مع المضروب.
نحن العرب، نحن المسلمين، نحن أبناءَ مَن فتح الدنيا، نحن سلائل الأبطال الأماجيد، يكون أقصى جهدنا أن نشكو إلى مجلس الأمن: يا مجلس الأمن أدركنا، إن اليهود اعتدوا علينا؟! ويبحث مجلس الأمن ويناقش، ثم إذا أدرنا ظهورنا وانصرفنا مدّوا ألسنتهم لنا ساخرين بنا.
كنت أحني رأسي حياء وأفتّش عن قبر أواري فيه وجهي، ثم أرتدّ حياء من رُفات الجدود أن تطّلع عليّ من جوانب القبر. وكنت أتحرّق وأقول: متى نذكر رجولتنا؟ متى نستعدّ للمعركة الحمراء بالحديد والنار؟ متى نُثبِت للدنيا أننا لا نزال أبناء المعامع وفرسان الحروب؟ متى نقف على أرجلنا ونعتمد بعد الله على أنفسنا، ونعلم أنه لا ينفعنا إلا السلاح؟
(1) السكّين لفظة تؤنَّث وتُذكَّر.
لقد كنت أخاف أن أموت قبل أن أرى ذلك اليوم، فالحمد لله لقد رأيته. هذا اليوم السعيد، هذا العيد المجيد، عيد يقظة العرب.
اليوم استيقظ العرب حقاً وفارقت عيونَهم آخرُ بقية للنعاس، وإذا استيقظ العرب فقط استيقظ المسلمون. اليوم كتبنا السطر الأول من تاريخ أمجادنا الحديث. اليوم استبشر الكبير والصغير، والغني والفقير، والمالك والأجير، وأجمعت الأمة كلها برجالها ونسائها على تأييد أسبوع التسلّح.
إن في المصائب ما هو أكبر من مصيبتنا في فلسطين، وإن كان حديث مصيبتنا في فلسطين أشدّ صحائف تاريخ العدوان البشري سواداً. هل تعرفون ما هو؟ هو أن تجهلوا أقداركم وتحقروا نفوسكم، وألاّ تعرفوا تحت الشمس مكانكم.
* * *
والخطبة طويلة لا أريد أن أُعيد الآن روايتها، لكن أريد أن أذكر لكم شيئاً من أثرها. لقد كتبتُ عنه مقالة هي الآن أمامي قلت فيها (1):
أما والله لولا أنني أصف مشاهد لم يمرّ عليها أسبوع، ولا تزال في عيون الناس وأسماعهم، ولا يزال حديثها على ألسنتهم، ولا تزال روعتها في قلوبهم، لحسبوا أني أتخيّل ولقال القائلون
(1) وهي مقالة «شعب لن يموت» المنشورة في كتاب «هتاف المجد» (مجاهد).
منهم: نحن نستحبّ صور الخيال ولكن إن بلغَت في الغلو هذا المبلغ صارت من المُحال. ولو رُويَت لي ولم أكن رأيتها بعينَي رأسي لم أصدقها ولو كان راويها أصدق الناس!
لقد كنا في حفلة الافتتاح كالمساجين، لا نملك خروجاً من المدرَّج لأن الأبواب كلها قد سدّتها أجساد الناس، والطرق المُفضية إليها قد سدّتها أجساد الناس، كنا محبوسين من رئيس الجمهورية والعلماء والرؤساء والوزراء إلى آخر من كان حاضراً معنا فيها، وامتدّت الحفلة خمس ساعات متتاليات والناس يقاتلون ليدخلوا إليها.
كنت أعلم وأنا أخطب في بداية الحفلة أن هذا الشعب سيستجيب وأنه سيلبّي وأنه سيُقبِل على البذل والعطاء، ولكني كنت أقلّب النظر في وجوه الحاضرين فلا أرى من أهل المال إلاّ عشرين أو ثلاثين، فكان أقصى أملي أن يُعطي هؤلاء وحدهم ثم ينتهي الفصل ويُرخى الستار. فلم تكَد تنتهي الخطب ويبدأ العشرة الكبار من رجال المال بالتبرّع، وتُذكر عشرات الآلاف، بل تُذكر مئة الألف أحياناً، ويترقّب الناس أمثال هذه الأرقام الكبار، حتى كانت مفاجأة ما كان يتوقّعها أحد وما استطاع أن ينجو من دهشتها أحد: رجل عامّي يبدو عليه الفقر، يقوم من غمار الناس ليصل إلى لجنة الجمع، فيمنعه الشرطة فلا يمتنع، بل يغامر ويتقدم حتى رآه الرئيس فأشار إليهم أن يتركوه، فتركوه فوصل، فإذا هو يُقسِم أن بنته مريضة في الدار وأنه لا يملك إلا الليرات الخمس التي استقرضها ليشتري بها لبنته الدواء، فلما رأى الاجتماع دخل ومدّ يده به ليتبرّع بها ليوم التسلّح.
ففتح بذلك الباب لهذه المكرمات التي زادت هذا الوطن شرفاً إلى شرفه، ورفعته في عيون أهله وعيون الناس فوق رفعته. وجاء جندي من جنود الدرك (الشرطة) مرتَّبه مئة وخمسون ليرة في الشهر كله، فوقف أمام الرئيس وضرب قدماً بقدم، وسلّم السلام العسكري، ثم قدم مئة ليرة. ويأتي طفل صغير بمطمورته التي يجمع فيها قروشه فيقدّمها كلها متبرّعاً بها! وأنا قاعد على المنصّة أرى هذا كله بعيني، ويتزاحم الناس على منصّة اللجنة ويتدافعون، والرابح من استطاع أن يصل إليها وأن يُعطي ما بيده، كأنه يحمل جمرة يريد أن يُسرِع بالتخلّص منها. وتتوالى مشاهد لم يرَ الناس ولم يسمعوا، ولم يقرؤوا في كتب التاريخ ما يماثلها أو يدانيها.
ولا أسجّل هذه المشاهد كلها. وأنّى؟ وليست عشراً ولا عشرين ولكنها بلغت المئات.
صدّقوني فإنني أكتب لكم بقلم المُخبِر الصادق لا بقلم الشاعر المبالغ. إنها مشاهد هؤلاء الذين لم يمنعهم المطر المنهمر في تلك الليلة كأفواه القِرَب، ولم تمنعهم الريح الباردة التي كانت تلسع الوجوه بأمثال السياط، من أن يزدحموا على الباب يبتغون الوصول. وقد حسبهم الشرطة قد جاؤوا للتفرّج فجعلوا يدفعونهم، لم يدروا (ولم يكن أحد ليدري) أنهم ما خرجوا من بيوتهم في هذا الليل البارد ولا وقفوا على الباب تحت المطر المنهمر ولا زاحموا إلاّ ليعطوا ويبذلوا.
لقد كان هذا الأسبوع امتحاناً لهذا الشعب وسلائقه واستعداده
للتضحية والجهاد، فنجح كما ينجح -لو كان في مكانه- كل شعب عربي مسلم. نجح فقراؤه وأوساطه نجاحاً مُفرَداً ليس له نظير. لقد ضربوا -كما يقول الرياضيون- كل رقم قياسي وسبقوا كل سابق، حتى كان منهم من فعل مثل فعل الصحابة الأوّلين. نجح فقراؤه وأوساطه، أما الأغنياء فقد سقط أكثرهم في هذا الامتحان.
وهل يتصوّر إنسان أن يكون في روائع البذل والكرم أعجب مِن صُنع هذا الحمّال العجوز، الذي كدح حياته كلها يحمل الأثقال على ظهره والهموم في قلبه حتى جمع عشرة آلاف ليرة، جمعها في ستّين سنة فجاء يبذلها كلها للتسلّح.
صدقوني فإنني أدوّن وقائع لا أضرب في متاهات الخيال. لقد بذل راضياً في لحظة واحدة ثمرة تعب ستّين سنة.
وهاتان العجوزان اللتان لا تملكان من الدنيا إلاّ الدار التي تسكنان فيها، فلما سمعتا بالدعوة إلى البذل للتسلّح جاءتا بسند التمليك. بسند التمليك يا ناس! تبرّعتا بالدار التي لا تملكان غيرها.
أرجو أن تقفوا قليلاً لتتصوّروا مبلغ هذه التضحية. إنكم تعرفون أن النساء في العادة أكثر إمساكاً وأقبض يداً من الرجال، فإن كُنّ عجائز (والعفو من سيداتي القارئات العجائز) ازداد إمساكهن وحرصهن. وجرّب -إن شئتَ الدليل- أن تُقنع عجوزاً غنية أن تنزل لك عن مئة ليرة. إنك تجد صعوبة في إقناعها وربما عجزت عنه، فكيف جادت هاتان المرأتان بكل شيء؟ أيّ حماسة بالغة دفعَتهما إليه؟ إنه الإيمان يا سادة. إنهما ما بذلتا الدار،
ولابذل الحمّال ثمرة جهد العمر، ولا أعطى كل من أعطى إلاّ ابتغاء ثواب الله. إنها لغة الدين، فإن خاطبتم المسلمين بغيرها لم يفهموا عنكم ولم تصلوا إلى ما تريدون منهم.
والعشرات من الفتيات. العشرات؟ بل المئات والله، اللواتي نزعن أساورهن من أيديهن وأقراطَهنّ من آذانهن وجُدْنَ بها.
ولقد رأيت بعيني ورأى أعضاء اللجنة بعض هذه المشاهد من الحاضرات في المدرَّج. وأنتم تعلمون أن المرأة قد تقطع الخبز عن فمها لتجعل الذهب في يدها، فكيف جادت به وبذلت راضية؟ إنها جادت به لتأخذه أضعافاً مضاعفة: سبعمئة ضعف، وربما زاد ما أخذت عن السبعمئة:{كَمَثَلِ حَبّةٍ أنْبتَتْ سَبْعَ سَنابلَ، في كلِّ سُنْبُلةٍ مئةُ حبّةٍ، واللهُ يُضاعفُ لِمَنْ يشاءُ} . وهذه الفلسطينية التي جاءت يومئذ لاجئة لم تجد ما تجود به، فحملت قِدرها التي تطبخ بها وثلاثة أثواب لها وثلاثين ليرة لا تملك غيرها، ووضعت ذلك بين أيدي لجنة التبرّع.
وليست في ذلك وحدها؛ لقد أعطى كثيرون كل ما يملكون. هذا بائع النفط مرّ «الكشّافون» الذين يجمعون التبرّعات على عربته التي تجرّها دابّته، يبيع منها ليعشّي أهله وأولاده، فسألوه التبرّع، فأخرج درجه وفيه حصيلة يومه كله وصبّه بين أيديهم. لا تحسبوها خيالات شاعر ولا صناعة روائي أديب، إنها والله حقائق رأيت شيئاً منها ورأى المئاتُ سائرَها. أعطاهم كل ما كان في الدرج، كل ما كان يملك في الدنيا من مال. وهل لهذا البيّاع من مال إلاّ ما يجمع في يومه؟
والموسيقيّ الفقير الذي لم يكن يملك من دنياه إلا قيثارته، يناجيها ويسارّها ويُلقي بصدره على صدرها يبثّها شكوى نفسه ويُفرِغ فيها أحزان فؤاده. جاء بها فوضعها على المنصّة (وأنا أرى) ومشى. وأحسستُ -من غير أن أكلّمه- أنه مشى كما يمشي المُحبّ الذي ينصرف من جنازة حبيبته بعدما واراها التراب! وبطل الدرّاجات الذي جاء بدرّاجته وهي له كالآلة للموسيقيّ، هي خليلته ونجيّته وشقيقة روحه، فتنازل عنها لأسبوع التسلّح.
وهذا المثل الرائع -في إنكار النفس والإخلاص لله وابتغاء ثوابه وحده- مَثَل ضربه تاجرٌ من دمشق، تبرّع بخمسين ألف ليرة وحلّف اللجنة الأَيْمان الغِلاظ ألاّ تبوح باسمه (فما باحت باسمه، وإن كنتُ عرفته من ذلك اليوم وامتثلت لرغبته فلم أذكره لأحد، أمّا الآن وقد مضى على الحادثة ثلاثون سنة يجوز فيها إعلان الأسرار وكشف المخبّآت -كما تصنع الآن بريطانيا بوثائقها- الآن أستطيع أن أبوح باسمه رحمة الله عليه؛ إنه الحاجّ مسلم دياب). تصوّروا هذا الرجل يسمع الثناء على هذا المتبرّع المجهول فيملك نفسه، لا تحرّكه الأثرة حتى يقول: أنا ذلك المجهول. ويجد آخرين ينتحلون هذه المزيّة لأنفسهم أو لأصحابهم فيُعلنون أن هذا المجهول هو فلان أو فلان، لناس ما دفعوا شيئاً، وهو الذي دفع خمسين ألفاً (كانت في تلك الأيام أكثر من خمسة ملايين في أيامنا)، كان يسمع ويسكت ولا يقول شيئاً، ويلقى من يلومه على أنه لم يُعطِ عطاء الكرام فلا يقول لهم: لقد أعطيت وأنا صاحب تلكم الخمسين.
(رحمة الله عليك يا أيها الحاجّ مسلم دياب، وما أكثر في
عامّة هذه الأمة من لا يعرفه أحد من أمثالك وأشباهك).
ماذا أصف وماذا أعدّد، وهذه المواقف قد جلّت عن الحصر؟
هذا مشهد ما أظنّ أن في المشاهد ما هو أروع منه: رجل ضرير شحّاد جاء هو وابنه الطفل المشلول يتلمّس طريقه، يُرشِده هذا الولد المسكين الذي كان يجمع نفسه ثم يقفز على ساقَين نحيلتين مقوَّستين تحسبهما عَصَوَين (مثنّى عصا)، حتى إذا بلغ المنصّة وضع عليها سبع ليرات.
سبع ليرات فقط، ولكنها أعظم بسبع مرات، بسبعين مرة، من كل ما دفع الأغنياء وما أعطت المصارف والشركات. سبع ليرات هي طعامه ولباسه ودواؤه، هي حياته وحياة ولده جاد بها. لقد كانت جماهير الناس كلما شاهدت واحدة من هذه الروائع صفّقَت وهتفت حتى تحمرّ الأكُفّ من التصفيق وتُبَحّ الأصوات من الهتاف، ولكنها صمتت حيال هذا المشهد. صمتت حتى ليُسمَع في المكان الرحيب وَجيبُ القلوب، صمتت لأن الصمت هنا أدلّ على الإعجاب من كل هتاف.
وهذه أرملة لم يبقَ لها من زوجها الضابط في الجيش العثماني إلاّ سيفه العسكريّ، فلما كان أسبوع التسلّح جاءت به، فقطعت آخر ذكرى تربطها بمواضي أيامها، بعهد العزّ والغنى إذ الشمل مجتمع والدهر بسّام والعيش رغيد، وولّت مُدبرة تستقبل وحدها ليالي الفقر السوداء.
وهؤلاء المرضى الذين جاؤوا من أسرّتهم في مستشفى
الجامعة إلى القاعة القريبة التي فيها الاجتماع وفيها منصة التبرّع، يحملون ما وصلت إليه أيديهم من مال أو متاع، لم تشغلهم أوجاعهم عن تلبية داعي الله لمّا دعاهم إلى الجهاد بالمال.
ومرضى مستشفى ابن النفيس (مستشفى السلّ) الذين تبرّعوا بثمن البيض مدة أسبوع التسلّح، ولم يستطع الطبيب أن يُقنِعهم بالاكتفاء بيوم واحد إلاّ بجفاف الريق وشقّ النفس. وأنتم تعرفون أن البيض هو حياة أولئك المسلولين شفاهم الله، هو حياتهم وقد جادوا بها. لا، لا أستطيع أن أعلّق على هذا الخبر. إني قد عجزت، وأنا مُقِرّ بعجزي، ولن أدّعي بعد اليوم أنني من فرسان الكلام وأنني من أرباب الأقلام.
لقد تكوّمَت على المنصة أكوام من ساعات اليد ومن الأقلام ومن الأساور، ولقد قُدّمت مئات من آلات التصوير والرّوَادّ (جمع رادّ أي راديو) والدرّاجات والمسدسات والأحذية وأنواع الثياب وكل ما في البيوت من غالٍ ورخيص حتى ملأت كل فراغ على المنصّة وحولها. لقد خلع كثيرون من الشباب أرديتهم لأنهم لم يجدوا ما يُعطونه غيرها وخرجوا يستقبلون برد الليل. وكان شيء لا يوصف، وإن وُصف لا يكاد يُصدَّق.
ومن أعجب ما رأينا في هذا الأسبوع (وكل ما رأينا عجب) ما صنع السجناء. نزلاء السجون لم تحُلْ الأسوار ولا الأبواب بينهم وبين المشاركة في هذا الواجب، ولم تدفعهم كراهة الجند الذين يسدّون عليهم منافذ الحرية من أن يُعطوا ما عندهم لمساعدة الجند على التسلّح. وماذا ترونهم أعطوا؟ أعطوا -والله- لُحُفهَم
وأرديتهم لأنهم لا يملكون غيرها وناموا على أرض السجن بلا غطاء. اللهمّ إن هذا شيء يكبر عن التعليق. وما هم وحدهم، لقد قُدّمت مئات من الفُرُش واللحُف ومن ثياب العرس ومن خواتم الزواج.
وطالت حفلة الافتتاح ساعات، وكان المذياع يحمل إلى البيوت كل ما كان فيها من أصوات، وسرَت الحماسة من هذا البهو إلى أطراف دمشق كلها، فجفا الرجالُ والنساء والأطفال بيوتَهم في هذه الليلة الشاتية العاصفة وتسابقوا إلى منصة التبرّع، وسرت إلى البلاد البعيدة، فتعاقبَت الهواتف من مَرْجِعْيون ومن حلب تُؤذِن بتبرّع مَن فيها.
وأنا أحلف أن لو كان يُوزَّع عند هذه المنصّة المال يُعطى جزافاً لما كان الناسُ أسرعَ إليها وأزحمَ عليها ممّا كان في تلك الليلة. وكان يُسمع من المذياع صوت أعضاء اللجنة يرجون الناس أن ينتظروا دورهم ولا يتزاحموا فلا يستجيب أحد ولا ينتظر، فلما طالت صاح عريف الحفلة يرجو راحة خمس دقائق، خمس دقائق فقط ليستريح فيها أعضاء اللجنة من تعب الأخذ، لا ليستريح الناس من تعب البذل فما تعب من البذل أحد. ورُفض الرجاء وتتابعت التبرّعات، فهل سمع أحد بمثل هذا؟
أنا أعرَف الناس بطيب عنصر هذا الشعب، وأنا الذي يكتب من أكثر من ربع قرن (المقالة مكتوبة سنة 1955) أمجّد سلائقه ومزاياه، وأنا الذي جعل هذا موضوع خطبته في حفلة افتتاح الأسبوع، ومع ذلك دُهشتُ. دُهشت واللهِ ممّا رأيت. فكيف كان
هذا كله؟ كيف اندفع الناس إليه وما كانت الدعاية لهذا الأسبوع كافية؟ لا والله ولا كان ترهيب ولا إكراه، ولو كان إكراه لكان على الأغنياء الذين قصّروا، وقصّروا، وقصّروا
…
أعيدها ثلاثاً للتوكيد.
ما كان هذا بفعل بشر ولكنه بدافع إلهيّ.
وأعجب الحوادث كلها (وما أدري أيها أعجب) أن غنياً معروفاً ضنّ إلاّ بالقليل، فقدم ثلاثة آلاف وهو يقدر أن يدفع ثلاثة ملايين، فقام موظف صغير من بين الناس فذهب إلى اللجنة وقال: إن مرتّبي في الشهر مئتان وخمسون ليرة فقط، وهاكم تنازلاً عنه لمدّة سنة، أتنازل عن ثلاثة آلاف هي موردي في العام كله أصبر عنها أنا وأهلي ولو عشنا على الخبز القفار، بشرط أن تردّوا على هذا الغني آلافه الثلاثة وأن ترموا بها في وجهه!
* * *
بيدي الآن قطعة من جريدة قد اصفرّت من القِدَم، أحسبها جريدة «الأيام» ، على وجهها قطعة من خطبتي وعلى قفاها بيان من لجنة الأسبوع (وأظن أنه كان من أعضائها الصديق الأستاذ نصوح بابيل) فيه أن حصيلة حفلة الافتتاح مليون وسبعمئة ألف وستمئة وثلاثون ليرة، عدا الحليّ والساعات وأسناد التمليك ومختلف المتاع.
يا سقى الله الشام وتلك الأيام!
* * *