الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-196 -
وقفة استراحة
في الهند اليوم خلاف بين المسلمين وبين مَن بأيديهم الحكم موضوعه «الأحوال الشخصية» للمسلمين. وقد قرأت أن وزراء العدل الذين اجتمعوا من أقلّ من شهر قرّروا إصدار قانون موحَّد للأحوال الشخصية. والمبدأ المعمول به في القانون الدولي أن الأجانب في البلد الذي ينزلونه يحاكَمون في الأحوال الشخصية وفق قوانين بلادهم، وهذا كله يدلّكم أو يذكّركم بأن الأحوال الشخصية من أهم فروع الحقوق، وأنه إن انحصر اهتمام التجّار مثلاً بقانون التجارة فإن الأحوال الشخصية تكاد تهمّ كل رجل في الأمّة وكل امرأة، لأنها المنهج الذي تتبعه الأسرة ولأن الأمّة إنما تتألف من مجموعة أسر.
وقد كنت بدأت الكلام على قانون الأحوال الشخصية السوري لأنه أول قانون شامل لأحكامها صدر في البلاد العربية، ثم وجدت أن هذا الموضوع لا يعجب أكثر القراء ولا يُطربهم، ولا يكشف دخائل العواطف في النفوس ولا يجلو مواطن الجمال في الوجود، ولا يدخل في باب الأدب الذي يستهوي القراء ويمسّ حبّات قلوبهم، ولكن لا بد منه، فهو كطبق الطعام المليء
بالشحم واللحم والدهن، ولا بدّ قبله من مشهّيات ومرغّبات.
لذلك عزمت على أن أجعل هذه الحلقة وقفة استراحة فأعرض فيها صوراً سريعة من ذكرياتي، يستريح القراء بها ويستعدّون للكلام على قانون الأحوال الشخصية.
* * *
دخلت الحرم مرة في رمضان فلم أجد مكاناً، لا أعني أنه كان ممتلئاً بالمصلّين، ولكن كانت الأمكنة محجوزة بالمصلَّيات، وكل من وضع سجّادة أو خرقة في موضع ظنّ أنه امتلكه، ومن الناس من راقبتُه من بعيد، فإذا هو يبسط سجّادتين أو ثلاثاً ويقعد على واحدة منها، فإذا جاء من يريد الصلاة في المكان أفهمه أن له أصحاباً.
ثم وجدت مكاناً فارغاً في الصف فوقفت فيه وأقيمت الصلاة، فإذا أنا برجل يخترق الصفوف يمرّ أمام المصلّين، وعليه ثوب يبدو أنه كان يوماً من الأيام أبيض، ثم تبدّل لونه على توالي الشهور وركبته الأوساخ على الأوساخ حتى لم يعُد له لون يُعرَف! ولم يكفِه ذلك حتى توضّأ من زمزم، ونضح الماء على ثوبه فابتلّ وصار
…
تصوروا ماذا صار. ثم لم يَرُق له إلاّ أن يزاحم المصلّين وأن يحشر نفسه بيني وبين جاري، وكنت ألبس ثوباً أبيض أخذتُه من دار التنظيف قبل ساعة، فجعلتُ أضمّ ثوبي، وكلما رآني ضممته ظنّ أني أوسع له فازداد التصاقاً بي، حتى صرنا كما قال العباسبن الأحنف
…
ولكن لا مكان هنا لأروي ما قال العباسبن الأحنف. وكان كلما ركع باعد بين رجليه لأنه
سمع أن صفّ المصلّين يكون متماسكاً متداني الأكتاف والأقدام، حتى كاد ينفسخ وهو يدوس بإحدى قدميه على قدمي وبالأخرى على قدم جاري!
ودخلنا في الصلاة فكان في حركة مستمرّة، يسوّي عقاله، ويدخل إصبعه في أنفه ثم يمسحها بثوبه، ويُخرِج من جيبه خرقة سوداء لعله يعدّها منديلاً، فيقرّبها من فمه ويصنع فيها ما لا يحسن ذكره ووصفه، وسواكه في يده يُديره في فمه ثم يعصره بإصبعه ويتجشأ بصوت مُنكَر، وينظّف أذنه بإصبعه
…
أي أنه لم يهدأ لحظة واحدة. وأنا أقول لكم الحقّ: إني لم أعرف كيف صلّيت. فلما قُضيَت الصلاة حاولت أن أفهمه بلطف أن النظافة من آداب المسجد وأن الخشوع من لوازم الصلاة، فلم يفهم، وقدّرت أنه لا يحسن العربية وظنّ أني أترفّع عنه لأنه -كما يقول- فقير ويردّد كلمة فقير، فتركته.
* * *
وكنت (1) يوماً خارجاً من داري في دمشق صباحاً مسرعاً إلى عملي في المحكمة، فما برزتُ من الباب وهممت أن أغلقه ورائي وأمضي حتى رأيت أمامي زائراً جاء يزورني. وكان رجلاً كبير السنّ جليل القدر، ولم يكن يعتادني بالزيارة فلم أستطع أن أعتذر إليه، وخفت أن يُطيل فيفوّت عليّ موعدي، ثم قلت
(1) انظر مقالة «ثلاثة مشاهد من حياتنا» في كتاب «فصول اجتماعية» ، وقد نُشرت سنة 1961، وهي تضم هذا المشهد واللذين بعده (مجاهد).
في نفسي إني أبقى معه ربع ساعة ثم أستحضر سيارة أذهب بها. ودعوته فدخل، وقعدت بين يديه كما كنت أقعد وأنا تلميذ له لمّا كنت صغيراً، وكان مدرّساً في مدرستنا، وقلت له: أهلاً وسهلاً. فقال: بكم، قلت: كيف الصحّة؟ قال: الحمد لله. قلت: شرّفتمونا. قال: أستغفر الله.
وانتهت هذه المقدمة، وانتظرت أن يبدأ الحديث بما جاء به فلم يتكلم ولم يبدُ عليه أنه ينوي الكلام، فدخلنا في الفصل الأول من أحاديث المجالس وتكلمنا عن الجوّ: تحسّن الجوّ. قال: الحمد لله. والمطر كثير. قال: حقيقة، الله يبعث الخير. انتهى الكلام عن الجوّ فلم يبدأ حديث الزائر الكريم. دخلنا الفصل الثاني من الكلام الفارغ فتكلمنا في السياسة، فتحدثنا عن إسبانيا والجنرال فرانكو وعن البرتغال وعن فنلندا وعن الأفغان.
وانتهى هذا الفصل على عجل. وجئت بالقهوة وقلت في نفسي إنه سيشربها ويحدّثني، فما نطق ولا فتح فمه، ولكن استرخى في مقعده وجعل يرتشف القهوة متمهلاً، كل ثلاث دقائق رشفة صغيرة، وأنا قاعد أتقلّب على مثل الجمر. وجعلت أنظر في الساعة وأتململ وأتحرك في مجلسي، ثم قلت له: عندنا اليوم جلسة في المحكمة، لذلك بكّرت في الذهاب. فقال: إن شغل المحاكم صعب، الله يعطيك العافية. قلت: الجلسة في التاسعة، وقد بقي دونها ثلث ساعة فقط. قال: أعانكم الله. قلت: تشرّفت بكم، وإذا كان لكم أمر فمروني به. قال: ما في شيء. قلت: هل من خدمة أقوم بها؟ قال: أبداً.
وسكت وسكتنا، وجعلنا نتبادل الأنظار كالقطط، حتى مضت الساعة التاسعة وذهب موعد الجلسة.
* * *
وكنت يوماً أستقبل في بيتي جماعة من الأصدقاء، فجاء أحد أصحابنا وجاء معه بولد صغير. وأنا لا أكره شيئاً كما أكره من يزورني ويأتيني بولده معه، ولكني تجلّدت وقلت لنفسي: إنه ضيف ولا بد من الاحتمال.
وما كاد يستقرّ في المجلس حتى شرع يتحدث عن ولده وعن ذكائه ونوادره وعن كماله، والحاضرون يبتسمون مجاملة ويتمنون أن يحسّ فيختصر هذا الحديث الثقيل، وهو يقول لولده: بابا، قم اخطب لهم خطبة. فتدلّل الولد وتمنّع وقال: ما بدّي. قال: قُم، عيب. وما زال معه في شدّ ودفع حتى استجاب وخطب خطبة كانت أزعج لسامعيها من شربة زيت خروع لشاربها، ولكنهم اضطُروا أن يكشّروا عن أنيابهم ويقولوا مجاملة: ما شاء الله. وحسبوا أن المحنة قد انتهت، ولكن الرجل عاد فقال: وهو حافظ غيرها كمان (أيضاً).
وانتظر أن يستبشروا بهذا الخبر ويطيروا سروراً بهذه البشارة، فلما رآهم سكتوا وأحجموا لم يسكت هو ولم يُحجِم، وقال للولد: اخطب بابا الخطبة الثانية.
ومن خطبة إلى خطبة، حتى خطب عشر خطب شعر الحاضرون كأنها عشر مطارق تنزل على رؤوسهم، وطلعت منها أرواحهم، وهو يضحك مسروراً كأنه جاء بمعجزة، ثم قال: وهو
يغني كمان. غنِّ -بابا- أغنيّة (الأغنيّة بتشديد الياء). قلت في نفسي: أعوذ بالله، خرجنا من الخطب فجاءت الأغاني! وغنّى أغنية ثم أتبعها بأخرى، فقلت: يكفي، إنه قد تعب. قال: لا (ومطّها)، إنه لا يتعب الله يسلّمه ويرضى عليه. من حقّ تعبت يابابا؟ قال: لا، ووثب ينطّ بالغرفة. قال أبوه: يعرف يلعب كمان.
وخرّب في لعبه كثيراً ممّا كان في الغرفة من التحف. وجئنا بالشاي فمدّ يده ليأخذ الفنجان، فقلت: إنه حار. قال: لا. ورفع رجله بحذائه الملوث فوضعها فوق المقعد، وأخذ الفنجان وقرّبه من فمه، فأحس حرارته فأفلته من يده فانكبّ على المقعد الجديد. وتوقعت أن يعتذر أبوه عن إفساده وجه المقعد، وإذا به لا يهتمّ بوجهه ولا قفاه، لقد اهتمّ بولده وقال له: لا ترتعب، ما صار شيء. هل احترقت يدك؟ ونظر فيها وابتسم وقال: سليمة والحمد لله.
وانتقل هو وابنه إلى مقعد آخر، وجعل الولد يكلّمه في أذنه فقال الأب: كأس ماء من فضلك، الولد عطشان. فقمت وأتيته بها. فشرب وأراق الماء على المقعد الثاني، وبعد لحظة قال أبوه: ممكن من فضلك يخرج إلى الحمام؟ قلت: قم. وأخذته بيده فصرخ صرخة أرعبَتني أنا، وحسبت أن قد أصابه أذى، وسألت: ما له؟ قال أبوه: إنه لا يخرج إلاّ معي. فقلنا: خذوا طريقاً وهاتوا طريقاً، ووقفنا حتى وصل الموكب الهمايوني إلى بيت الخلاء!
ولا أريد أن أصف لكم بقية المشهد، فتصوروا آخره من معرفة أوله.
* * *
وكنت يوماً أقطع الشارع أتلفّت ذات اليمين وذات الشمال، أرقب السيارات وهُنّ يُسرِعن مختلفات الأشكال والمظهر ولكنهن متّحدات الحقيقة والأثر، كلها تمثل الموت تحت العجلات. فما كدت أتوسط الشارع حتى سمعت نداء ملهوف يهتف باسمي، فاستدرت لأنظر فكادت درّاجة نارية تصيبني، وولّت عني وأصوات محرّكها بالضجيج وسائقها بالشتم لا تزال في أذني، ووصلت إلى الرصيف وإذا بالرجل يلحق بي يناديني.
فوقفت، فأقبل عليّ وهو مفتوح الفم من الضحك والسرور وقال: الأستاذ الطنطاوي؟ قلت متجهماً: نعم. قال: أهلاً وسهلاً، في غاية الشوق، لقد مضى زمن طويل. قلت: على ماذا؟ قال: على لقائنا. قلت: ومتى التقينا؟ قال: أنسيتني؟ قلت: مَن حضرتك؟ فضحك وقال: احزر (والكلمة فصيحة). قلت: ياأخي أنا لا أعرفك ولم أعرفك قط. فازداد ضحكاً وقال: إنك تمزح بلا شك. قلت: قُل ما تريد وخلّصنا.
فذكر اسمه، قلت: ما سمعت بهذا الاسم قبل الآن. قال: طيب، الخلاصة، متى أستطيع التشرف بزيارتك؟ قلت: وماذا تريد مني؟ قال: لا شيء، لا شيء، التشرف بك فقط. قلت: أنا مشغول ويعرف أصحابي كلهم أني لا أزور أحداً ولا أستقبل زائراً إلاّ نادراً. قال: وهذا من النادر. قلت: يارجل، هل تريد مني شيئاً؟ قال: التشرف بك فقط، أنا أحب أهل الفضل والعلم. قلت: أنا لست منهم. قال: كيف وأنت سيدنا ومولانا؟ قلت: أستغفر الله. قال: متى أزورك؟ قلت: تعال إلى المحكمة في الساعة الواحدة،
فإن الباب يُفتح للمراجعين. قال: أظنّ البيت أحسن. قلت جازماً: غداً في المحكمة، وتركته ومشيت.
وجاءني في اليوم الثاني وبدأ يتكلم في الصحّة وفي الجوّ وفي أحوال الدنيا، ثم ألقى محاضرة بالثناء عليّ ومدحي وأني شيء عظيم وأثنى على كتبي، فسألته: أي كتاب قرأ منها؟ قال إنه قرأها كلها ولكنه أُعجِب بحديث الأربعاء. قلت: ولكن حديث الأربعاء لطه حسين. فلم يخجل ولم يضطرب وقال: عفواً، قصدت أن أقول كتاب فجر الإسلام. ولم أقُل له إن فجر الإسلام لأحمد أمين لئلاّ يقول إنه كان يقصد كتاب ألف ليلة وليلة!
وبعد هذه المقدمات التي لا آخر لها نطق بالدرة المصونة والجوهرة المكنونة، وعرض حاجته فإذا هو صاحب دعوى في المحكمة يريد أن يوصيني بها.
* * *
ودخلت مرّة دار صديق لي موظف عندنا في المحكمة، عمله تسجيل عقود الزواج وحضور حفلاتها، فوجدت في الدار خزانة كبيرة ملؤها علب السكّر الملبَّس من زجاجية وخزفية وخشبية ومعدنية، من مستديرة ومنبسطة ومربعة ومثلثة وملساء ومحفورة ومزوَّقة ومنقوشة
…
من كل شكل وكل جنس، أرخصها بليرة (كانت الليرة يومئذ تعدل عشرين ليرة في هذه الأيام) ومنها علب من الفضّة عليها اسما الزوجين وتاريخ العقد ثمنها أكثر من عشر ليرات. فوقفت أنظر إليها وأفكّر: كم يُنفَق في دمشق كل سنة في أثمان هذه العلب؟ فرأيت أنه إن كان يُعقد في دمشق مئة عقد
في السنة، وهذا أقلّ من الواقع، وكان في كل عقد مئة مدعوّ، وهذا هو الحدّ الأدنى، فإنه يُصرف في كل حفلة مئة ليرة ثمن هذه العلب إن كانت من العلب الرخيصة، فإن كانت من العلب الغالية أو كان المدعوّون مئتين أو ثلاثمئة صُرف في علب الملبس خمسمئة ليرة في الحفلة الواحدة.
فلو أنه أُلّفت جمعية لحمل الناس على توزيع الملبس في قراطيس وأوراق وأخذ ثمن العُلَب لإنفاقها في مساعدة الفقراء أو في بناء المستشفيات أو في عمل آخر من أعمال البرّ، ولم تشتغل إلاّ بهذا وحده، لاستطاعت أن تجمع من هذا الباب أكثر من ثلاثين ألف ليرة في السنة. فكيف إن أُنشئت جمعيات أخرى لتدفع غير ذلك من وجوه التبذير التي أَلِفَها الناس وتعوّدوا إضاعة الأموال الكثيرة فيها (مع أن الفقراء في أشدّ الحاجة إلى بعض هذه الأموال)؛ كطاقات الزهر التي تُهدى في الأعراس ويُنفَق فيها من مئة ليرة إلى 500 في كلّ عرس (بحساب تلك الأيام)، فإن كان يُقام في دمشق مئة عرس في السنة، والواقع أكثر بكثير، فيكون مبلغ ما يُنفَق في البلد كل سنة ثمن هذه الأزهار التي تُلقى بعد أيام على المزابل من عشرة آلاف ليرة إلى خمسين ألفاً! (1)
وأكاليل الجنائز وكفوف الآس التي تُحمَل فيها في دمشق،
(1) ما أكثر ما نبّه جدي رحمه الله في أحاديثه وكتاباته إلى هذا السرَف الذي لا يعود على أحد من الناس بخير ويضيّع أموال الأمة في كماليات وتُرّهات لا فائدة منها. انظر على سبيل المثال مقالة «بطون جائعة وأموال ضائعة» في كتاب «في سبيل الإصلاح» (مجاهد).
وعشرات من أمثالها لا عشرة واحدة. لو أن ما يُنفَق فيها جمعته أيدٍ أمينةٌ وأنفقته في جهات صالحة لصارت دمشق في عشر سنين فقط جنّة في الأرض، ولَما بقي فيها فقير ولا جاهل ولا مريض، لأن هذه الأموال تُنشئ كل سنة عشرة مستشفيات (1) وعشرة ملاجئ وعشر مدارس.
وهذا كلام نشرته من أكثر من ثلاثين سنة.
* * *
وذهبتُ مرة إلى الكوّاء الذي يكوي لي ثيابي فلم أجده، فسألت عن غيره، فدلّوني على آخر له مكان واسع وعلى بابه لوحة كبيرة، وعلى شفتيه ابتسامة لا تفارقهما، فهما دائمتا الانفراج كأن قد انحلّت عضلاتهما فلا تنطبقان، وفي فيه لسان رطب ليّن طويل كأنه لسان الثعبان. فخدعني مظهره حتى دفعت إليه حُلّتي الجديدة التي ألبسها في المواسم وأتجمل بها في المجامع، ووصّيته أن يكويها لي كياً فقط وألاّ يغسلها، وأن يبعث بها إليّ في غده. فقال: أمرك ياسيدي، على عيني ورأسي، بِدْنا (2) خدمة.
وانصرفت آمناً مطمئناً، وجاء الغد ولم تُرسَل، ومرّ يوم ثانٍ وثالث وسابع وثامن، وانصرفَت عشرة أيام والحلة عنده، وأنا
(1) المستشفى مذكَّر.
(2)
«بدنا» كلمة من عامية الشام بمعنى نريد، ولعلها محرفة من «بِوِدّنا» أقول هذا ظانّاً ولا أحقق. وهم يصرّفونها على كل الوجوه، فيقولون «بِدّي» للمتحدث المفرد و «بِدَّك» للمخاطب، وهكذا (مجاهد).
أستحثّه فيقابلني بهذا الفم الباسم أبداً وهذا اللسان الدافئ دائماً، ويبتدع لي كل يوم عذراً جديداً. وكان آخر أعذاره اشتغاله بموت أبيه الذي علمت -فيما بعد- أنه مرّ على وفاته رحمه الله على هذه الخلفة الطاهرة تسع سنين!
وأعاد لي الحلة بعد ستة عشر يوماً، فإذا هو قد غسلها فأفسد حشوتها ومزّق أزياقها، وجعل لها رائحة مثل رائحة الخنازير البرّية، ذلك لأنه غسلها بصابون رديء استرخصه وحكّ أطرافها بالحجر الذي تُنظَّف به الأقدام في الحمام!
وهذه واقعة لا أريد أن أعلّق عليها.
* * *
وليس في بلاد الناس شيء أسهل من الشراء. يدخل الرجلُ المخزنَ فيرى البضائع المعروضة وعليها أثمانها، فيختار ما يشاء ويدفع الثمن ويمضي، ولو جاء من بعده أمهر الناس ما استطاع أن يأخذ بثمن أقلّ ولو جاء أغفل الناس ما أُعطيَ بثمن أكثر.
أما الشراء في بلادنا فهو معركة تحتاج إلى أسلحة شتّى، من الكذب أحياناً، واليمين الكاذبة، والكرّ والفرّ، والذهاب والرجوع، ومعرفة أجناس البضائع، وتحتاج فوق ذلك إلى مفاوضات دبلوماسية أصعب من المفاوضات على نزع السلاح بين أميركا والسوفييت.
لذلك عوّدت نفسي من الصغر ألاّ أقف على بائع ولا أشتري بنفسي شيئاً، لا اللحم ولا الخضرة ولا الثياب ولا الأثاث، وإنما
أوكّل من يشتري لي. وإذا أنا خالفت عادتي واضطُررت إلى شراء شيء رجعت في كل مرة بقصة من أعجب القصص.
من ذلك أني دخلت دكاناً في سوق الحميدية مع صديق لي يحبّ أن يشتري قماشاً لأهله، فتلقّاني صاحب الدكان مسلّماً ومعظّماً، وأهوى لتقبيل يدي لأني كما يقول أستاذه وصاحب الفضل عليه: أهلاً وسهلاً بسيدنا، يامرحباً، مَن علّمني حرفاً كنت له عبداً، قُل لي ياأستاذ ماذا تأمر لأخدمك بعيوني؟
ولم أكن آمر بشيء، ولكن هذا المدح وهذا التعظيم وأن الرجل سيخدمني بعيونه قد خدّر أعاصبي، كما يخدّر الصيادُ الأسدَ والنمر بإبرة يطلقها عليه أو كما يخدّر الحاوي في الهند الحية الخطرة حتى ترقص بين يديه. والإنسان مفطور على محبّة الثناء. فنظرت فاخترت لوناً من الحرير أعجبني، فسألته عن ثمنه فضحك وقال: أي ثمن؟ محلّك ياأستاذ.
فحسبته أنه سيُهديه إليّ وحلفت أني لا آخذ إلاّ بالثمن، ولكن أطلب أن يبيعني بربح معقول. قال: برأسمالي، لا أريد منك ربحاً أبداً. وراح يحلف بذمّته ودينه وأبيه وأمانته وشرف آبائه وعظم أجداده، وما لا أذكر الآن من الأيمان التي لا يجوز أن يحلف بها مسلم، أنه لا يبيعني إلاّ برأس المال. وكان في داري يومئذ خمس نسوة، عمّتي وأختاي وزوجتي وبنتي الكبرى، وبناتي الصغيرات، فاشتريت لهن جميعاً، وبلغ الثمن قريباً من ثلث الراتب.
وذهبت إلى الدار فقال النساء: متى كنت تشتري؟ وبكم
اشتريته؟ قلت: احزرن. قلن: بالله عليك إلاّ أن قلتَ. فأخبرتهن بأن الرجل تلميذي وقد خدمني بعيونه فباعني برأس المال وهو كذا. قلن: لقد زاد عليه ثلاثين بالمئة. قلت: مستحيل. قلن: ما قولك إن ذهبَت فلانة الآن (لجارة لهن خيّاطة) فجاءت بالقماش نفسه من المحلّ نفسه بحسم ثلاثين بالمئة؟ قلت: أنا أدفع الثمن وأُهدي إليها القماش.
وذهبَت من فورها إلى الدكان التي اشتريت منها، ورجعَت بعد ساعة وقد أخذته بثلثَي الثمن الذي دفعته أنا، لتلميذي البارّ الذي حلف أنه لا يبيعني إلاّ برأس المال!
* * *
ورأيت يوماً في طريقي إلى المحكمة امرأة كأنها جبل من الشحم واللحم، تميس لا كغصن البان بل كجذع السنديان على ساق أضخم من خصر إنسان، ومعها خادمة رقيقة العظم نحيلة الجسم بادية السقم، ما أظنّ أن عمرها يزيد على سبع سنين. وتحمل للمرأة ولداً عمره ثلاث، ولكنه صورة مصغَّرة لها يُشبِهها كما يشبه الفيلُ الصغير الفيلَ الكبير، منفوخ نفخ الكرة لا يُعرَف طوله من عرضه إلاّ بالحساب والجبر والمثلثات، ولا يُحيط به ذراعها النحيل ولا ينهض به جسدها الهزيل، وهي تخطو به تجرّ قدمها جراً من الإعياء وتلهث من التعب، والمرأة تخطر متعالية.
ففكّرتُ أن أكلّمها وفتّشت في ذهني عن الكلمات التي تصلح لها، ولكني رأيت رجلاً مكتهلاً قد سبقني إليها فقال لها: ياستّ حرام هذه البنت، خذي الولد منها. فوقفت الستّ
ووضعت يديها في خاصرتيها، ورفعت أنفها ثلاثة أصابع ومدّت شفتيها إصبعين، وقلبت وجهها حتى صار كوجهِ مَن أكل ليمونة بقشرها، وصبّت عليه من فمها سيلاً من أوساخ اللغة وفضلات الكلام، وهرب كل من كان في الطريق من قذارته وسوء رائحته، وهربتُ مع الناس وتركت هذه الصورة بلا تعليق!
* * *