الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-203 -
إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير
لمّا أخذت الجريدة يوم الإثنين الماضي أسرعت إلى مقالتك كما أسرع كل مرة، لأني أجد لها طعماً لا أكاد أجده في كثير من المذكّرات التي تنشرها الصحف والمجلات فتكون كالدليل الذي يُري السيّاحَ شوارعَ البلد ويدلّهم على عماراتها وحدائقها ومطاعمها ومشاربها ولكن لا يلج بهم العمارات ليروها من داخلها ولا المطاعم ليأكلوا مما فيها. وأنت تُدخِلهم إليها وتُذيقهم طيباتها.
إن ما تكتبه هو من حديث النفس، يرى فيه القارئُ نفسَه فيحسّ كأنه معك وأنه صديق لك. وكذلك يصنع الأديب؛ الناس يعيشون وحدهم والأديب يُشرِك الناس كلهم معه، إن سُرّ شاركهم سروره وإن تألّم تمنّى أن يشاركوه ألمه.
أخذتُ الجريدة ففوجئت بما أملاه كرم نفسك ووفاؤك لأصدقائك من ذكري وذكر بلدي. لقد سرّني ما كتبت، ولكنه خضّ الكوب فأظهر ما رسب في قرارته:
وذو الشّوقِ القديمِ وإنْ تسلّى
…
مَشُوقٌ حينَ يَلقى العاشقينا
أرأيت ياأخي كوب الماء العكر لا تستطيع أن تسيغه على عكره ولا تملك أن تعيده إلى صفائه، فتتركه للزمان يُنزِل إلى قرارته ما علق به من أدران فيبدو صافياً، وما صفا ولكن رسب فيه العَكَر. كذلك يستقرّ الحزن في أعماق النفس، يستره النسيان حتى لتحسبه ما كان. ولقد طالما تسلّيت، ولكن ما سلوت ولا نسيت، وهل ينسى امرؤ حياتَه؟
لقد سردتَ ياأخي أسماء ما لها في نفسك ظلال ولا لها في أعماقك جذور وما مسّت حياتك إلاّ مسّاً رفيقاً، أما أنا فأحسّ بها دائماً غائصة جذورها في كياني ممتدّة ظلالها على حياتي. حتى إنك ياسيدي نسيت الطريق. وحقّ لك أن تنسى، فقد كانت زيارة لك عابرة مرّ عليها الآن أكثر من خمسين سنة، فسلكت شارع بغداد فوصلت دُمّر والهامَة! فحقّ لي أن أقول لك مقالة ابن أبيربيعة:«عَمْرُك الله، كيفَ يلتقيانِ؟» ؛ شارع بغداد يمضي مشرّقاً ودمّر والهامة في الغرب، وشتّانَ بينَ مشرّقٍ ومُغَرّبِ.
لقد هزّت مقالتك شجوني. فيا شوق نفسي إلى دمشق ومغانيها، وغوطتها وواديها، وشاذروانها وميزانها!
وهلْ لي إلى تلكَ الديارِ ونظرةٍ
…
إلى بردى قبل المماتِ سَبيلُ؟
بردى الذي رآه حسّان مرات معدودات فأحبّه وذكره في شعره، فكيف بي أنا؟ لقد قال في مدح أصحابه من آل غسان (ولم أقُل من بني غسان، لأن «غسّان» ليس إنساناً بل نبع ماء في جبل الدروز، نزلوا عليه فنُسبوا إليه (1)) قال حسان:
(1) قال شاعرهم: الأزدُ نسبتُنا والماءُ غسّانُ.
يَسقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهِم
…
برَدى يُصَفّقُ بالرّحيقِ السَّلْسَلِ
أي يُمزج ماؤه الصافي بالخمرة المعتَّقة التي كانوا يشربونها. أما قصر البريص -إن شاء القرّاء تمام الفائدة- فإنه يقع عند سوق النحّاسين (والسوق قديم، والذي قلته كتبه البلاذري في «فتوح البلدان»)، أمام باب الفرج الذي يُدعى الآن باب المناخِليّة.
* * *
أنا هنا في أكرم البقاع. إن كانت دمشق موطن جسدي وقلبي فإن ها هنا موطن روحي وروح كل مسلم. ومَن ذا يسوّي بالجسد الروح؟ وإن كانت هناك دنياي فها هنا دنياي وآخرتي، وما الدنيا في الآخرة إلاّ متاع. ولكنه وطني، ومَن الذي ينسى وطنه:
وحَبّبَ أوطانَ الرّجالِ إليهِمُ
…
مآربُ قَضّاها الشبابُ هُنالِكا
وإن جفاني موطني وقطع أواصر الودّ بينه وبيني ونسي ما صنعت له بلساني وقلمي، فما وجدتُ هنا واللهِ إلاّ البرّ والإكرام، من الملوك الخمسة رحم الله منهم من ذهب للقائه وأطال عمر مَن بقي وزاده من نعمائه ووفّقه إلى رضائه، ومِن كل من تضمّ هذه البقاع الطاهرة، ما لقيت منهم إلاّ كرماً وعطفاً وإحساناً.
دمشق التي صوّرتَها لي ببيانك حتى كأني أراها من جديد. وأين ياسيدي دمشق التي زرتَها ثم جئت فوصفتها؟
أمّا الخيامُ فإنها كخِيامِهم
…
وأرى نساء الحيّ غيرَ نسائها
هذه المساجد لا تزال كما كانت، ولكن أين الدروس التي
كانت تُلقى فيها؟ وأين العلماء الذين كانوا يُلقون هذه الدروس؟ وأين إقبال الشباب عليها وتسابقهم إليها؟ أين المجالس الدائمة التي كانت كأنها نوادٍ أدبية أو مجامع علمية، يتصدّرها أفاضلُ حديثُهم درسٌ ومطارحتهم أنس، وأبواب هذه المجالس مفتَّحة.
مجلس الشيوخ الذي سبق الحديث عنه في هذه الذكريات، وكنت أحضره مستمعاً لا عضواً، فما كنت قد بلغت سنّ الشيخوخة ولا المنزلة التي كان عليها مَن بلغها من أعضاء المجلس، كالرئيس هاشم الأتاسي والرئيس محمد علي العابد والرئيس فارس الخوري، والعلماء الأجلاّء كالشيخ عبد القادر المغربي وأقرانه الذين سمّيت بعضاً منهم فيما سبق من حلقات هذه الذكريات.
ومجلس محمد كرد علي أستاذ الكاتبين ورائد الصحافيين، ومَن كان أبا المجامع العلمية في البلاد العربية، أنشأ مجمع دمشق سنة 1919 على حين أن مجمع القاهرة قام سنة 1932. ومجلس مصطفى برمدا شيخ القضاء في الشام، الذي حوى صدره موسوعة فيها من كلّ علم طرف والذي ما عرف القضاءُ عندنا مثلَه فكراً وهيبة وعدلاً. ومجلس عبد الرؤوف سلطان، والأمير طاهر الجزائري حفيد الأمير عبد القادر، والسيد بدر الدين ابن أخي الأمير عبد القادر، ومجالس أساتذتنا الذين أضاؤوا لنا الطريق وأخذوا بأيدينا حتى مشينا، سليم الجندي وعبد القادر المبارك والشيخ حسن الشطي، ومجالس من أمثالها لا أريد استقصاءها وأنتم لا تعرفون أصحابها.
أين دمشق التي لم يكن يُرى فيها منكَر معلَن ولا محرَّم
مستباح ولا عورة مكشوفة، وما كان في جمهور أهلها إلاّ كل ديّن صيّن؟
ذكّرتَني ياسيدي المظاهرات أيام النضال للاستقلال، الذي شاركتُ فيه على ضعفي وعجزي بما قُدتُ من مظاهرات وما دعوت إليه من إضرابات. ما كنا ننادي بوجوب الإضراب أيام الفرنسيين حتى تغلق الدكاكين ويخرج الناس متظاهرين يعرّضون صدورهم لرصاص المستعمرين:
لا يسألونَ أخاهم حين يَندُبُهم
…
في النّائباتِ على ما قالَ بُرهانا
وما خطبت وما كتبت في جريدة «فتى العرب» و «ألف باء» و «القبس» و «الأيام» و «اليوم» و «المنار» و «النصر» ، وجرائد غيرها نسيت حتى أسماءها. لقد كنت أخطب في المساجد وفي النوادي وفي الطرق وفي الساحات
…
ولكن هذا كله ياسيدي قد ذهب، ما بقي منه شيء، وإن لم يكتب الله لي عليه شيئاً من الثواب لا أستحقّه بعملي فيا ضيعة أيامي.
يحسب ناسٌ أن الاستقلال قد جاءنا عفواً بلا تعب، وأننا وجدنا يوماً مائدة مُعَدّة فقعدنا على كراسي مصفوفة من حولها ومن فوقها الزهر والورد وطبق مغطّى فتحناه فإذا فيه الاستقلال المطلوب! لقد نسي كثير منا ولم يدرِ كثير من ناشئتنا ما الذي دفعناه ثمناً له، من دمائنا الزكية التي أريقت، ومن نفوسنا البريئة التي أُزهقت، ومن بيوتنا التي كانت جنّات تجري في صحونها المياه نوافير تشرح الصدر دكّوها بالمدافع دكاً فتركوها خراباً.
فيا ليتنا، ياليت العرب كلهم، ياليت المسلمين جميعاً
حافظوا على استقلالهم، ياليتنا لم نصنع (أو لم يصنع بعضنا بأيدينا) ما كان يبتغيه المستعمر منا.
لقد خضضتَ ياسيدي الكوب فصعد ما كان في قرارته من الفكر، لقد ذكّرتني ما كنت ناسياً. إنني عشت بحساب السنين ثمانين، ولكن عمري بحساب ما رأيت من الأحداث الكبار مئتان. رأيت حكم العثمانيين، وعهد الحكومة العربية، وميسلون التي دخل علينا بعدها الفرنسيون، وعهد النضال، ثم الاستقلال، وعهداً لا بارك الله فيه هو عهد الانقلابات، وعهوداً بين ذلك كثيراً
…
ما كان يومٌ منها إلاّ بكينا فيه منه وبكينا بعده عليه. وما ظلمَنا اللهُ ولكنْ ظلَمْنا أنفسَنا.
إن الله جعل لكل شيء سبباً، فالفلاّح الذي يقعد عن شقّ الأرض وبذر البذر ثم يقول:"اللهم أنبت لي الزرع" لا يُنبت الله زرعَه. والتلميذ الذي يدع الدرس ويشتغل باللهو واللعب ويقول: "اللهم اكتب لي النجاح في الامتحان" لا يكتب الله له النجاح. والأمّة التي تلعب حين الجدّ ويتربّص بها العدو فلا تُعِدّ القوة للعدوّ وتطلب من الله النصر لا يكتب الله لها النصر.
لأن الله لا يبدّل سننه في كونه وقوانينه في مخلوقاته من أجل فلاّح مهمل ولا تلميذ كسلان ولا شعب غافل. فإذا أردنا معشر المسلمين أن يغيّر الله ما نحن فيه من التفرق والانقسام وتكالُب الخصوم وغلَبة الأعداء فلنغيّر أولاً ما بأنفسنا: {إنّ اللهَ لا يُغيّرُ ما بِقَومٍ حتّى يُغَيّروا ما بأنفسِهِم} ؛ هذا هو القانون، فهل غيّرنا ما بأنفسنا؟ أنا أتكلم عن نفسي فأعترف صادقاً أنني ما غيّرت!
* * *
ذكّرتَني ياسيدي دمشق، فهل لي من عودة إليها؟ وإن عُدت إليها فهل أعرفها؟ لقد تبدّل بعدي كل شيء: المسالك والطرق وحال البلاد ووجوه الناس. وهل بقي فيها أحد من ناسي؟ لقد صرت إذا لقيت هنا رجلاً من دمشق جاء يسلّم عليّ أسأله: مَن أبوك؟ وربما سألته: مَن جدّك؟ لأن الطبقة التي أنا منها لم يكَد يبقى من أفرادها إلاّ قليل.
فإن رأيتني عدت -يا سيدي أبا الخير- ووجدتُ الأماكن التي طرّزتَ مقالتك بأسمائها وعطرتها بأريج العطر من غوطتها وجمال الينابيع من واديها، فهل أجد الرجال الذين تحدّثت عنهم فيها؟ هل أجد الإخوان الذين مرّوا في حياتي مرور النسمة الناعشة في اليوم القائظ، مرور البرق المنير في الليلة الداجية، مرور الحلم الهنيء الذي كان ملء يديّ وعينَيّ وكنت أعيش فيه، فصحوت وما في يدي منه شيء؟
لقد ذهبوا جميعاً فمَن يُعيدهم إليّ؟ مَن يُرجع لي أيام شبابي التي تفضّلتَ فأثرت في نفسي ذكراها؟
لقد جعلتني أبكي مع الصديق الشاعر خير الدين الزركلي الذي قال غداة ميسلون، غداة ضاع الاستقلال وماتت الدولة العربية في الشام وكانت الفجيعة، ورأينا وجه الاستعمار البغيض أول مرة حين رأينا جنود الغزاة الفرنسيين تصكّ بنعالها أرض العرب المسلمين، وما عرفنا من قبلُ مستعمراً أجنبياً، أمّا الذين يسمّون الحكم التركي استعماراً فهؤلاء قوم لا أخلاق لهم ولا يعبأ الله بهم. قال خير الدين رحمه الله:
أبكي دياراً خُلِقَتْ للجَمالْ
…
أبهى مثالْ
أبكي تراثَ العزِّ، والعزُّ غالْ
…
صعبُ المنالْ
أبكي نفوساً قعدَت بالرجالْ
…
عنِ النضالْ
أبكي جلالَ المُلكِ كيفَ استحالْ
…
إلى خيالْ
ما لرحابي وحنانِ الرحابْ
…
أضحَت يبابْ
ما لبنيها كلُّهمْ في اكتئابْ
…
أسرى عذابْ؟
أينَ أُولو طِعانِها والضِّرابْ؟
…
أينَ الحِرابْ؟
ما بالُ شِيبِ عُربِها والشبابْ
…
غَيرُ غِضابْ؟
لقد قعدت أبكي تلك الأيام، ويحقّ لفقدها البكاء، وتهون عند ذكرها العبرات وتنفطر أسفاً على ما كان فيها القلوب.
* * *
هؤلاء الذين ذكرتَ ياسيدي أن المجمع الأدبي تألّف منهم، هل علمت أن منهم أربعة كانوا طلاّباً في المدرسة الإعدادية وبدؤوا ينظمون الشعر، فأقام لهم الأستاذ كرد علي رحمة الله عليه حفلة تكريمية في المجمع العلمي في دمشق سنة 1344هـ؟ وكلهم من رفاقي في المدرسة، هم أنور العطّار وجميل سلطان وزكي المَحاسني وعبد الكريم الكَرْمي، وأنه دعا إلى هذه الحفلة كبار القوم ووجوه البلد ليسمعوا القصائد التي نَظَمها هؤلاء الشباب.
أُسمِعك -إن أذنتَ- فقرات من قصيدة أنور العطار التي كان عنوانها «الشاعر» ، وأنت ياسيدي شاعر تزن الكلام وتنقده،
وتعرف الذهب الخالص من النحاس المطليّ بالذهب وتميز المطبوع من المصنوع، فاستمع هذه المقاطع ثم خبّرني: هل يقول اليوم تلميذٌ مثلَ هذا الشعر؟ هل يقوله طالب في الجامعة؟ كم من الشعراء المعروفين مَن يقدر على مثله؟ لا تعجب ياسيدي واسمع، وهذه فقرات منها:
خلّياهُ يَنُحْ على عَذَباتِهْ
…
ويَصُغْ مِن دُموعِهِ آياتِهْ
ويرتّلْ ألحانَهُ بخشوعٍ
…
مُستمِداً منَ العُلا نَغَماتِهْ
قدْ رواها فمُ الزّمان بِشَجْوٍ
…
فحَسِبْنا بُناتِهِ من رُواته
إلى أن قال:
كتَبَ البؤسُ فوقَ خدَّيهِ سطراً
…
تتراءى الآلامُ في كلماتِهْ
للهوى قلبُهُ وللشجوِ عينا
…
هُ وللعالَمينَ كلُّ هِباتِهْ
شاعرٌ صاغَهُ الإلهُ مِنَ البُؤ
…
سِ وأبدى الأسى على نَظَراتِهْ
وحَباهُ السحْرَ الحلالَ فغنّى
…
شاكراً ربَّهُ على نَفَحاتِهْ
وسَرِيُّ النَّظيمِ ما كانَ وحياً
…
فالهوى والشعورُ في طيّاتِهْ
وسَرِيُّ النَّظيمِ ما كانتِ الحكـ
…
ـمةُ فَيّاضةً على جَنَباتِهْ
إلى أن قال:
يَخْلُدُ الشاعرُ الحَزينُ إذا قطّ
…
ـرَ أنفاسَهُ على صَفَحاتِهْ
يومُهُ مِثلُ أمسِهِ في شَقاءٍ
…
ولعلَّ الرّجاءَ طيُّ غَداتِهْ
كيف رأيت ياسيدي هذا الشعر؟ ألا تعجبون إن علمتم أن قائله تلميذ في المدرسة الإعدادية لم تصل سنّه إلى العشرين؟ فإذا
بكى شاعرُنا الزركليّ رحمه الله ما حلّ بالشام بعد ميسلون وبكينا معه، فدعنا نبكي العربيةَ التي ذلّت وهانت، نبكي الزمانَ الذي كان يقول فيه تلميذ في الإعدادية مثل هذا الشعر.
فهل أجد إن ذهبت إلى الشام هؤلاء الإخوان؟ هل أركب الترام إلى الميدان فأمضي إلى جامع الدقّاق فأستمع خطبة شيخنا الشيخ بهجة البيطار ثم أصلّي وراءه، ثم نمشي معه إلى داره التي نلقى فيها دائماً المائدة منصوبة ونجد فيها مجمع الإخوان، ونخرج منها بفوائد تنفعنا في ديننا ودنيانا؟ وأنّى؟ وقد خُلع خطّ الترام فلم يعُد يمشي، وتوفّى الله الشيخَ بهجة فلم نعُد نراه، وخرج أهله إلى ظاهر الميدان إلى الحي الجديد. وهل أجد أنور العطار، صديقي من سنة 1920، رفيقي الذي سار معي أكثر طريق العمر، عمري وعمره؟ ونحن سَنينان مولودان في سنة واحدة، ولكنه تركني ومشى وحده. أستغفر الله، بل دعاه الله كما سيدعوني بعده، ومن دعاه الله أجاب، لا يملك خياراً ولا يستطيع اعتذاراً ولا يجد فراراً.
إنني كلما قرأت هذه الآيات خشع قلبي وارتعدَت فرائصي، ثم أنسى وتشغلني الشواغل التافهة عن رؤية الحقيقة الكبرى. ما نسبة كفّ الإنسان إلى عرض السماوات والأرض؟ ولكن إذا أدنيتَ كفّك من عينك حجب عنك السماوات والأرض؛ كذلك تشغلنا التوافه عن الحقيقة الكبرى.
هذه الآيات: {فلَوْلا إذا بلَغَتِ الحُلْقومَ، وأنتمْ حينئذٍ تَنظُرونَ، ونحنُ أقربُ إليهِ مِنكُم ولكنْ لا تُبصِرونَ} . نحفّ
بالمحتضَر، نعانقه، نقبّله، نضمّه إلينا، نتمسّك به لئلاّ يذهب من أيدينا، وننسى مَن هو أقرب إليه منا ومَن يفعل به وبنا ما يريد ما لا ما نريد. ننظر إليه ولا نملك له شيئاً، والروح تخرج ونحن نرى ولا نستطيع عملاً:{فلولا إنْ كُنتُمْ غيرَ مَدِينينَ، تَرْجِعونَها إنْ كُنتُمْ صادقينَ} ، هل سمعتم يامعشر الملحدين الذين يكفرون بربّ العالَمين ولا يؤمنون بيوم الدين؟ إذا كنتم غير مدينين ترجعونها! هل تستطيعون؟ من يستطيع أن يردّ الروحَ إلى المُحتضَر إذا خرجت منه الروح؟ هل تُرجعها قوة الروس والأمريكان؟ هل أرجعَتها من قبلُ سطوة الفرس والرومان وفرعون وهامان، وكل متكبر يحسب من جهله أنه يشارك الله في ملكه؟ إنه لا يقدر أن يمدّ في عمره هو ولا في عمر من يحب لحظة واحدة من الزمان.
* * *
لقد أدرتَ أمامي -يا أخي الأستاذ بلخير- شريطاً مطولاً، فيه نعيم وفيه بؤس وفيه مسرة وفيه كدر، تكرّ مناظره متلاحقة مسرعة حتى لا أستطيع أن أدقّق النظر فيها. إذا تركتَ لي السنوات الخمس الأولى من عمري التي لم أكن أدرك فيها تماماً ما هو حولي بقي ثلاثة أرباع القرن، خمس وسبعون سنة. كم يوماً فيها؟ وكم تقلّبَ عليّ من حالات النفس كل يوم؟ إنه عالَم، عالَم كامل ياسيدي ظننت أنه طُوي إلى الأبد، فإذا مقالتك تمسك بطرفه فتنشره أمامي. لا أحد يستطيع أن يُعيد الماضي حياً كما كان، ولكن أديباً شاعراً كالأستاذ بلخير يستطيع أن يُقيم صورتَه أمام عينيك حتى كأنك تراها رؤية عيان.
ماضٍ لا أحصي ما كان فيه من مسرّات وأحزان، وعلوّ وانخفاض، ونشاط وخمول
…
إنها حياة طويلة، وكل حياة فيها كل هؤلاء. أدركت عهد العثمانيين والسلطان محمد رشاد، والاتحاديين وجمال باشا، والحرب العامّة الأولى، ولا تزال مشاهد آثارها في دمشق ماثلة أمام عيني، مرّت هذه الأدوار كلها فأعدتَها لي كما يعود شريط السينما حين يكرّ مسرعاً.
كانت لي أسرة هي عالَمي الصغير، فما زالت الأيام تأخذ منها واحداً وتضيف واحداً حتى (اللهم عفوك، ما هي الأيام ولكن أنت الآخذ وأنت المعطي وأنت مالك الملك)، حتى لم يبقَ من أسرتي الأولى إلاّ أنا. ركبتُ القطار من المحطة الأولى، وكلما وقف نزل ناسٌ من الركّاب وصعد ركّاب، حتى لم يبقَ من الذين كانوا معي لمّا ركبت إلاّ أنا. إني لأتخيل أحياناً ماذا تكون حالي لو أن هذا التبدّل وقع في ساعة واحدة أو يوم واحد: أُمسي وأنا بين أبي وأمي وجدي وجدّتي وعمّتي، وأُصبِح وقد ذهب هؤلاء جميعاً وجاءت أسرة من البنات والأحفاد وأولاد البنات والأحفاد، أسرة فيها أكثر من أربعين إنساناً جديداً لا أعرفهم!
لو بِتّ ودمشق كالتي تفضّلتَ فوصفت جانباً منها لمّا زرتَها قبل خمسين سنة، أيام العربات التي تجرّها الخيل المطهّمات، أيام النضال والمظاهرات، أيام المشايخ والعلماء والأدباء
…
لو بتُّ فيها وأصبحتُ في دمشق التي نراها الآن، أكنتَ تظنني أبقى في عقلي الكامل؟ هل يبقى لي ذهن يعي وقلم يكتب، أم أُحمَل حملاً إلى شهار عند الطائف؟
إن كل هؤلاء الذين أراهم حولي من أهلي ومن ذرّيتي شهدت ميلادهم ورأيت نموهم، وما أحدٌ رأى مولدي. لم يبقَ إلاّ واحد في الشام مدّ الله في عمره هو ابن خالة أمي، ووالدُ صهري زوج بنتي هو الشيخ مراد الطباع، وحماتي (هي السيدة عائشة بنت المحدّث الأكبر شيخ الشام الشيخ بدر الدين الحَسَني) التي كانت عائشة إلى ما قبل قليل ثم استأثر الله بها فتوفّاها عن خمسة وتسعين عاماً.
لم يبقَ أحدٌ ممن عرفني وأنا صغير، مضوا جميعاً وأنا ماضٍ على أثرهم، والذين يكتبون عني يُثنون عليّ والذين يحبّونني ويريدون أن يحسنوا إليّ ما عدت أريد منهم إلاّ دعوة صالحة بأن أبقى ماشياً على رجلَيّ لا أقعد ولا أحتاج إلى أحد، ثم أنال من الله بكرمه ورحمته -لا بعملي- حسنَ الخاتمة، وأن يُحسِن خلافتي في أهلي وذريتي. هذا ما أطلبه لنفسي، أما ما أطلبه للناس فأن يعيدهم الله إلى الإسلام وأن يعيد إليهم عزّ الإسلام. أما أنت ياأيها الأستاذ الكريم ياأبا الخير، فجزاك الله خيراً.
* * *