الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-189 -
في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية
أحاول في هذه الذكريات ألاّ أقصر القول على ما كان مني أو ما وقع لي، بل أن أضمّنها شيئاً من الأدب يلذّ ويمتع أو قليلاً من العلم يفيد وينفع. وقد تعلّمت هذا الأسلوب من الإمام السبكي في «طبقات الشافعية» ، فإنه إن ذكر مناظرة بين عالِمين لخّصها وبيّن وجهة كل منهما، وإن عرض لذكر مسألة عرّف بها ولم يكتفِ بالإشارة إليها؛ كما صنع عند الكلام عن محنة خَلق القرآن وموقف الإمام أحمد منها، فقد فصّل القول فيها -على بُعد عهده من عهدها- فكان كتابه أوفى مرجع للباحث فيها، وامتاز من كتب التراجم الكثيرة جداً بأنه كان كتاب علم وأدب فوق أنه كتاب تاريخ وخبر. وما أنا مثله ولكن أتشبّه به:
فتشبّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهمْ
…
إنّ التشبّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
وكان ذلك مزيّة لذكرياتي عند قوم من القراء، كما كان عيباً عند آخرين يأخذونه عليّ، كما يأخذون عليّ أني أشرع في موضوع ثم أنتقل عنه إلى غيره قبل أن أحيط بخبره، ثم أعود إليه.
وهذه سنّة الحياة. والذين يكتبون القصص التي يدعونها
«واقعية» لا يروون حوادثها كما وقعت، بل يجمعون الشيء إلى ما يماثله ويقاربه، فيكون من هذه الأشباه والنظائر ما يُظَنّ واقعاً. وما وقع (1)؛ ما وقع ولكن وقعَت أجزاؤه متناثرة، فجمعها الكاتب فنظمها في سلك فكانت قصة واقعية.
ولعلّي عندما أعيد طبع الذكريات (التي صدر منها جزءان، وجزءان على الطريق قد صدرا ولم يصلا، وثلاثة مُعَدّة للطبع، ولا أزال فيها كلها قبل أكثر من أربعين سنة من يوم الناس هذا) لعلّي حين أُعيد طبعها أبدّل تنسيقها وترتيبها، أو تتولّى ذلك إحدى بناتي أو بعض أحفادي بعد موتي (2).
* * *
أبدأ هذه الحلقة بإنذار، لا أُنذِركم خطراً محقَّقاً ولكن مللاً متوقَّعاً وسآمة وضيقاً؛ ذلك أن هذه الحلقة جاءت أيضاً علمية فقهية. إنها كطعام كله لحم ودهن وبروتينات ومغذِّيات، ولكن ليس معه
(1) ما هنا نافية، ليست موصولة كالتي قبلها (مجاهد).
(2)
صنعت ذلك، فاستللت من الكتاب ذكريات علي الطنطاوي مرتَّبة متسلسلة، لكنني فقدت عندئذ جزءاً كبيراً من مادة «الذكريات» المنشورة لأنني وجدته بعيداً عن الذكريات الحقيقية (كهذه الحلقة والتي قبلها مثلاً). ثم إنني أضفت إلى هذه «الذكريات» الجديدة ما يكمّلها، مما استخرجته من بطون بعض الكتب المنشورة الأخرى أو من مادة مخطوطة، بعضها لم يُنشَر من قبل قط وبعضها نُشِر في بعض الصحف ولم يضمّه أي من الكتب المنشورة، ومن ذلك كله جاء كتاب كبير سمّيته «قصة حياة علي الطنطاوي بقلمه» ، ولا أدري أيُنشَر هذا الكتاب ذات يوم أم يبقى حبيس الأدراج (مجاهد).
أبازير ولا مشهّيات، فمَن صبر عليه استفاد إن شاء الله منه، ومن لا يصبر فليبتعد عنه وسيجد العوض في الحلقات المقبلات.
الفقه الإسلامي -يا أيها القراء- شيء عظيم ليس لأمّة في الدنيا مثله، لا أمس ولا اليوم. ولقد كان لروما قوانين وأبحاث حقوقية مدوَّنة، وفي الدنيا اليوم كلّيات حقوق وعلماء في الشرع (ولا تقُل في التشريع)، وفيه كتب لا تُحصى، ومحاكم فيها قضاة وفيها محامون علوا في منازل السموّ الفكري البشري، وتعمّقوا في البحوث وغاصوا فيها حتى استخرجوا الجواهر من أعماق الفكر ومن زوايا المجتمع ومن خفايا الضمائر.
ولكن ذلك كله لا يشبه الفقه الإسلامي ولا يقاربه. هذا كله للصلات المالية والحقوقية المادّية بين الناس. وإذا قلنا «الفقه الروماني» أو «الحقوق الرومانية» أو قلنا «الفقه القانوني الحديث» فإنما نقوله على نوع من التجوّز الواسع والتشابه البعيد؛ فالفقه الروماني والحديث غايته أن يكون موافقاً للقانون ليكون صواباً، والمؤيِّد له: الشُّرطي والضمير البشري، والشرطي قد يغيب فلا يَرى والضمير قد يغفل فلا يراقب. ومؤيِّد الفقه الإسلامي خوفُ الله الذي لا يغفل ولا يغيب ولا يخفى عليه شيء مما تصنع الجوارح وما يعتلج في القلوب والأفكار.
والفقه الإسلامي يشمل العبادات والمعاملات والمناكحات وأحكام الجنايات والعقوبات، أي أنه يبيّن لنا كيف تكون علاقة المرء بربّه وبأهله وبمن يعامله ومن يعيش معه؛ فهو دين بالمعنى الذي يفهمه غير المسلمين من كلمة الدين، وهو قانون مدني،
وقانون للأحوال الشخصية، وقانون للجنايات، وقانون إداري، ثم إنه -فوق ذلك- أخلاق.
وهذا كله صار اليوم معروفاً وصار القول فيه من الكلام المُعاد، ولكنه لم يكن كذلك من نحو ستين سنة لمّا أصدرتُ رسائل الإصلاح سنة 1348هـ، التي كانت أول ما نشرتُ من الكتب، والتي أحمد الله على أن جعلني فيها من أوائل من عرّف من الشبان في هذا العصر بهذا الذي صار اليوم معروفاً، ومن أوائل من نشره في الناس بوسائل النشر الحديثة مكتوباً بالأسلوب الذي يفهمونه. وإن دار المنارة في جدة تستحثّني الآن على أن أكتب مثل تلك الرسائل وأجدّدها لأصل بها ما انقطع من نحو ستين سنة.
ومباحث الفقه منها ما يهمّ طائفة من الناس كالمعاملات المالية، ومنها ما يهتمّون به جميعاً ويحتاجون إلى معرفته جميعاً كأحكام العبادات: الصلاة والزكاة والحجّ (أعني كيفية أدائها لا تفصيل أحكامها) وأحكام الأحوال الشخصية الإجمالية، لأنها تعرض لكل زوج وزوجة وكل عازم على الزواج من الرجال ومن النساء.
لذلك جعلتُ هذه الحلقة للكلام عن الأحوال الشخصية والقانون الذي وضعتُ مشروعه، كما هو مصرَّح به في مذكّرته الإيضاحية التي تُعتبَر جزءاً منه، والذي كان أولَ قانون جامع للأحوال الشخصية في البلاد العربية، صدر سنة 1953 (1372هـ) ولا يزال العمل به في الشام إلى الآن.
وفي كل كتاب من كتب الفقه بيان أحكام الزواج والطلاق
والمخالعة والتفريق والعدّة والنفقات والنسب والحضانة والرضاعة وأحكام الأولياء والأوصياء وأحكام الوصايا والمواريث، ولكن لم يكن يجمعها هذا الاسم المحدَث، اسم «الأحوال الشخصية» .
وكان المشايخ يقرؤونها ويُقرئونها تلاميذهم، لكنهم يقتصرون غالباً على الكتب المتأخرة التي تبيّن الحكم ولا تذكر دليله، أي أنها كانت كنصوص القوانين. وكانوا يُقبِلون عليها ويحيطون بما فيها ويحفظونه، وقد سلك بعض لِداتي وإخواني هذا الطريق فكانوا فقهاء فقه رواية وإحاطة بالمذهب، وبعضٌ سلك طريق الدراسة الحديثة في المدارس وعرف كثيراً من الجديد الذي لم يكن يعرفه المشايخ، وإن كان قد جهل كثيراً مما كانوا يعرفون.
وقدّر الله لي أن أسلك الطريقين، من غير أن أتمكّن من إحدى الحسنيَين، فلم أستوعب فروع الفقه ولم أحفظها كما استوعبها وحفظها إخواننا هؤلاء، ولم أُحِط بالجديد مثل إحاطة الآخرين، ولكن لم أهبط إلى الدرك الذي قيل في صاحبه:
هوَ في الفقهِ شاعرٌ لا يُبارى
…
وهْوَ في الشعرِ أفقهُ الفقهاءِ
لا إلى هؤلاءِ -إن نسبوهُ-
…
وجدُوهُ، ولا إلى هؤلاءِ
لا، لم أصل إلى هذا. ولماذا أنسى فضل الله عليّ فأُنكِر ما كرّمني به؟ ولماذا لا أحمده على أن وفّقني فأخذت حظاً من الفقه وحظاً من الأدب؟ أنا لا أتواضع حتى أسلب نفسي حقّها ولا أستكبر حتى أدّعي لها ما ليس فيها.
أقول إني قرأت من الفقه على المشايخ أكثر ما كانوا يُقرؤون، وإن لم أقرأ كل ما قرؤوا. وفهمت والحمد لله كل ما قرأت وحفظته، ورُبّ قارئ لا يفهم وفاهم لا يحفظ. قرأت ما يُدعى اليوم بالأحوال الشخصية في كتب الفقه على أبي وأنا صغير مع تلاميذه الكبار، فلما مات من ثلاث وستين سنة (أي سنة 1343هـ، وكنت أناهز السابعة عشرة) وذهبوا يقرؤون على الفقيه الكبير المفتي الشيخ عطا الكَسْم ذهبت معهم، فحضرت أكثر «فتح القدير» لابن الهُمام، وقرأت على جماعة من المشايخ كشيخنا الشيخ أبي الخير الميداني وغيره رحمة الله عليهم جميعاً.
ولكن جلّ انتفاعي كان بمجالسة العلماء والرجوع إلى الكتب، فما أسمعه منهم يُنقَش في ذهني فلا أنساه (وهذه المنّة من الله باقية عندي إلى الآن) وإن سمعت باسم كتاب أو قرأت شيئاً منقولاً عنه أو معزوّاً إليه بحثتُ عنه حتى وجدته فقرأته. وقد اطّلعت على مذهب أحمد لمّا طبع ولدي الفاضل النابغة الأستاذ زهير الشاويش كتبَه كلها بأمر الشيخ علي آل ثاني رحمه الله وعلى نفقته، واستفدت من إدمان النظر في كتب الفقه غير المذهبي مثل «نيل الأوطار» و «سبل السلام» و «فتح الباري» ، واستفدت الفائدة الكبرى من مجموع الفتاوى لابن تيمية رحمه الله وجزاه خيراً وجزى مَن جمعها ومن طبعها.
وكان مكتب عنبر هو الثانوية الرسمية الوحيدة في دمشق، وإن كان فيها ثانويات أكثر أهلية ونصرانية. وكان عندنا في المكتب دروس في الفقه، وستعجبون إن علمتم أن كتاب «مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح» كان مقرَّراً تدريسُه والامتحان فيه لتلاميذ
الصف السابع، أي السنة الأولى من المدرسة المتوسطة! وهو كتاب مُغلَق الأسلوب صعب الفهم كثير التفريعات والاستطرادات، وربما يعسر فهمه اليوم على بعض المدرّسين.
وبعد ذلك بسنتين (أي في سنة شهادة «الكفاية» التي يسمّيها الناس «الكفاءة») كان مقرَّراً علينا كتاب «الأحكام الشرعية» لقدري باشا، الوزير المصري الفقيه المتمكّن. وهو كتاب جامع لأحكام الأحوال الشخصية في المذهب الحنفي، يأخذ بأصحّ الأقوال في المذهب. ولا يستطيع كل من تفقّه أن يختار الأصحّ عند تعدُّد الأقوال، ولا كان ذلك بالأمر السهل، بل إن عندنا علماً ألّف فيه ابن عابدين إحدى رسائله، هو علم «رسم المفتي» الذي يعلّم قارئه كيف يميّز القول الأصحّ والقول الصحيح عند ازدحام الأقوال.
وكان يدرّسه لنا الشيخ عبد القادر المبارك. وما عرفت بين أساتذتي في الدراسة وبين زملائي في التدريس أقدرَ منه على الشرح والإيضاح؛ يرفع صوته ويخفضه، ويبدّل لهجته وإيقاعه، ويشير بيديه ويمثّل بوجهه، ويكتب بالخط الثُّلُث على اللوح الأسود، ويضرب الأمثال، فلا نخرج من الفصل ولا تمرّ الساعة حتى تُنقَش المعلومات على ظهور قلوبنا نقشَ الإزميل الحادّ على الصخر فلا تُمحى أبداً.
وكنا نرجع بعد الدرس وأحياناً قبله إلى الشروح والحواشي، كحاشية ابن عابدين، والفتاوى الهندية العالِمْكيرية التي أمر بوضعها وشارك في تأليفها إمبراطور الهند المسلم الذي حكم
شبه الجزيرة كلها، أورانك زيب عالمكير، وانظر الكلام عنه في كتابي «رجال من التاريخ» (1).
وكنا نضيع بين التفريعات الكثيرة جداً، ما وقع من أحداثها وما تصوّر الفقهاءُ وقوعَه ليبيّنوا للناس الحكم فيه. وهذا الذي نقدتُه في رسائل الإصلاح التي كانت أول ما نشرتُ من كتب وقد سبق الكلام عنها.
* * *
وأشير هنا إلى أمر فيه فائدة للقارئ، تنبّهتُ إليه لمّا كنت مشغولاً بوضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي عقدت هذه الحلقة للحديث عنه؛ هو أن أكثر المذاهب تفريعاً المذهبُ الحنفي، ثم المذهب المالكي، ثم الشافعي، ثم الحنبلي. وقد علّلت ذلك بأن المذهب الذي تتخذه الدولة مذهباً رسمياً لها: الفتوى عليه والقضاء وفق أحكامه، تكثر فروعه لأنه يواجه مشكلات الناس.
والمذهب الذي صار شبه رسمي للدولة العباسية -منذ تولّى الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة منصب قاضي القضاة، وهو بمثابة منصب وزير العدل أو رئيس مجلس القضاء الأعلى اليوم- ثم غدا المذهب الرسمي للدولة العثمانية هو المذهب الحنفي.
(1) انظر مقالة «بقية الخلفاء الراشدين» في كتاب «رجال من التاريخ» ، وفيها أن أورانك زيب ألّف كتاباً في الحديث وشرحِه وترجَمَه إلى الفارسية، وأمر بوضع الفتاوى التي نُسِبت إليه فسُمّيت «الفتاوى العالمكيرية» وأشرف عليها وشارك فيها. قال:"وهي من أشهر كتب الأحكام في الفقه الإسلامي وأجودها ترتيباً وتصنيفاً"(مجاهد).
والمذهب المالكي صار مذهب الدولة في الشمال الإفريقي كله من الزمن القديم إلى الآن. والمذهب الشافعي لا أعرف أنه صار مذهباً رسمياً إلاّ في عهد الأيوبيين، ولمّا جعل الملك الظاهر المذاهب الأربعة رسمية وأنشأ لكل واحد منها محاكم يتولاها قضاة يحكمون به، وصار لها في المدارس -على أيامه وبعده- فروع، كالذي ترونه في مدرسة السلطان حسن في القاهرة في أواوينها الأربعة وفي أروقة الأزهر وغيره من المدارس. أما المذهب الحنبلي فلا أعرف أنه صار مذهباً رسمياً للإفتاء والقضاء، أو كالمذهب الرسمي، إلاّ بعد قيام الدولة السعودية. وإن كان القضاة والمفتون هنا لا يلتزمون بالمذهب الحنبلي بل يبحثون عن الدليل الصحيح، فحيثما وقفوا عليه وقفوا عنده وأفتوا به (1).
(1) يقسّمون الفقهاء إلى أصحاب الرأي وأهل الحديث. وليس المراد الرأي المجرَّد، فالرأي وحده لا يُعتبر دليلاً شرعياً، والدليل قول الله وما صحّ من قول رسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن أهل الرأي ينظرون -كما يُقال اليوم- إلى مقصد الشارع، وأهل الحديث يقفون عند حرفية النص أو قريباً منها. وبعبارة أخرى: إن أصحاب الرأي يأخذون بالأدلّة مجتمعة ويفهمونها معاً، فإن وجدوها تجتمع على شيء جعلوه قاعدة، فإن ورد حديث على خلافها قلّبوا الوجوه في فهمه حتى يوافق القاعدة المستنبَطة من مجموع الأدلة. والآخرون يأخذون به ولو خالف القاعدة، أي ولو جاء على خلاف القياس.
وهاكم حديث المُصرّاة مثلاً، وهي الدابّة (الشاة مثلاً) التي يُربَط ضرعها حتى يجتمع فيه اللبن فيحسبها المشتري كثيرة الحلب، فإذا حلبها رجع ضرعها إلى ما كان عليه. لقد رُفعت هذه القضية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على المشتري الذي يريد ردّها بعد حلبها بأن يردّها =
فلما دخلت كلية الحقوق كان يدرّس لنا الأحوالَ الشخصية الشيخُ أبو اليسر عابدين، وهو عالِم واسع الاطّلاع عالي الهمّة كان يعيش للعلم، يقرأ ويُقرئ نهاره وليله، يكتب كل ما يجد في الكتب من غرائب المسائل، في الفقه وفي الاجتماع وفي الأدب وفي التاريخ، ويدوّن كل ما يخطر على باله مما ينفع الناس. ولم تكن العوائق لتعوقه عن طلب العلم مهما طال الطريق وتوعّرت المسالك؛ أراد -وهو كبير- أن يدرس الطب فاقتضاه ذلك تعلّم اللغة الفرنسية، فتعلّمها ودخل كلية الطب مع تلاميذه ومَن هم في سنّ أبنائه، وثبت على الدراسة فيها حتى خرج منها طبيباً. وكانت له عيادة يطبّب فيها المرضى كما كان يُفتي المستفتين، ثم صار مفتي الشام، أي مفتي الجمهورية السورية. وكان أبوه من قبله
= وصاعاً من تمر (وأنا أكتب الحديث من حفظي لم أراجعه). فهل يكون الصاع من التمر بدلاً دائماً للحليب، أم أن المشتري حين جاز له ردّها كان عليه أن يردّها على الحالة التي كانت عليها، وقد أخذ الحليب بغير حقّ، فكان هذا بدله (أي ما يعادله)؟ فقال أصحاب الرأي بأن عليه ما يعدل ثمن الحليب، والرسول صلى الله عليه وسلم حدّد الصاع من التمر لأنه كان يومئذ معادلاً لِما حلبه. وقال الآخرون: بل الصاع هو الواجب عليه في كل حال.
في هذا وأمثاله نجد المذهب الحنفي والمذهب المالكي يتفقان، كاتفاق الشافعي والحنبلي. ومن تتبّع فروع المذاهب وجد أمثلة كثيرة على هذا، فلماذا عدّوا مالكاً على رأس أهل الحديث مع أنه أقرب إلى أهل الرأي؟ هذا ما عجبتُ منه ولم أفهمه، بل إنني كلما زاد اطلاعي على فروع المذهبَين وجدت مالكاً أقرب إلى أصحاب الرأي، فما قول السادة العلماء؟
الشيخ أبو الخير مفتي الشام، وعمّ أبيه هو صاحب الحاشية ابن عابدين، أفقه حنفي ظهر من نحو مئة وخمسين سنة.
كان يُقرئنا الأحكامَ على المذهب الحنفي من كتاب الأحكام الشرعية لقدري باشا، الذي ألّفه نحو سنة 1328هـ وصاغه على أسلوب القوانين، مادّة بعد مادّة، صياغة عربية صحيحة فصيحة (لا كصياغة القوانين التي أخذناها من غيرنا فما وُفِّقنا في اختيار أحكامها ولا في أسلوبها ورصف كلامها) وضمّنها أصحَّ الأقوال في المذهب الحنفي. وكان الشيخ أبو اليسر مُحيطاً بالمذهب الحنفي إحاطة عجيبة مطّلعاً على كتبه كلها، ولولا أنني عرفته بملازمتي إياه سنين طوالاً لشككت إن حدّثني محدّثٌ بما أعرفه عنه. ولقد أرسلَت إليّ إحدى المكتبات العامّة هنا من سنين صورة عن كراس مخطوط في الفقه ما له عنوان وما عليه اسم المؤلف ولا تاريخ النسخ، فلم أعرفه، فكلمتُ شيخَنا بالهاتف من مكة وتلوت عليه فقرات من الكتاب، فعرفه وسمّى مؤلّفه! ثم تحققت أن ما قاله الشيخ هو الصحيح.
ولكن عيبه (وما خلا من العيوب إلاّ ملَك مقرَّب أو نبيّ مُرسَل، أو عبد من عباد الله المخلَصين) عيبه أنه كان يختار لنا ونحن طلاّب في كلية الحقوق نقولاً من أغرب كتب المذهب وأقلّها ذيوعاً وأكثرها تعقيداً، لنَأْلف -كما يقول- أسلوبها، ولا سيما في أصول الفقه. ولست أكتمكم أني خرجت من كلية الحقوق وأنا لم أستوعب علم الأصول، حتى قرأته في كتاب الشيخ محمد الخضري أولاً ثم في كتاب الشيخ عبد الوهاب خلاّف ثانياً، ثم درسته على أستاذنا الأديب اللغوي الأستاذ سليم
الجندي. ثم رأيت أن أقرب الطرق إلى إتقان علم هو أن تعلّمه الطلاب، فجمعت في سنين متتاليات كثيراً من مدرّسي الدين في المدارس الرسمية، وبينهم علماء أفاضل، فدرسته معهم ووزعنا كتبه بيننا حتى وفق الله ففهمته.
ثم قرأنا في كلية الحقوق قرار حقوق العائلة، وهو القانون الذي كان معمولاً به في المحاكم الشرعية أيام العثمانيين واستمرّ العمل به إلى أن وفّق الله فصدر قانون الأحوال الشخصية سنة 1373هـ (1953). وقرارُ حقوق العائلة أصدرته الدولة العثمانية سنة 1336هـ وأخذَت غالب أحكامه من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد انصرفتُ وأنا طالب في الحقوق سنة 1350هـ إلى المقابلة بين أحكام المذهب وبين هذا القرار، وأحصيت المسائل التي وردَت فيه مخالفة للمذهب فبلغَت سبع عشرة مسألة، أكثرها اعتمد على بقية المذاهب الأربعة فلم يكن عليه اعتراض. وجاء فيها ما يخالف المذاهب كلها وما لم يقُل به فقيه من الفقهاء، بل ما يخالف السنّة الثابتة وصريح القرآن، وهو اعتبار زواج مَن كانت دون التاسعة من العمر زواجاً فاسداً. وقد زعم واضعو هذا القانون أنهم استندوا إلى قول لابن أبي ليلى الذي كان معاصراً لأبي حنيفة. ولم تصحّ نسبة هذا القول إليه، ولو صحّت لما التُفت إليه ولما عُوّل عليه، لأنه مخالف للدليل القطعي وهو كتاب الله وما صحّ من سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومخالف لإجماع المسلمين الذين اتفقوا على أن للأب أن يزوّج ابنته الصغيرة مهما كانت سنّها، ومخالف لصريح القرآن في قوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ منَ المَحيضِ مِن نِسائِكُم
إنِ ارْتَبْتُمْ فعِدّتُهُنَّ ثَلاثةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ}. ويكون عقد رسول الله عليه الصلاة والسلام على الصدّيقة بنت الصدّيق عقداً فاسداً بموجب هذا القانون الأحمق، لأنه عليه الصلاة والسلام عقد عليها وهي بنت سبع سنين! ولطالما حملتُ على هذا القانون بقلمي ولساني أكتب فيه وأخطب وأحاضر، حتى وفق الله فصدر القانون الجديد خالياً منه.
* * *
أنا إلى هنا كالمحارب الذي يتعلّم رسم الخطط وأساليب الهجوم والدفاع، يقرؤها في الكتب ويسمعها من المدرّسين، لم يخُض المعارك ولم يواجه العدوّ، يقاتل بالمنظار من فوق الجبل. فلما وليتُ القضاء نزلت إلى ميدان المعركة وواجهت مشكلات الناس، فوجدت حقاً ما قيل من قديم من أن النصوص -مهما كَثُرَت وطالت- محدودة ووقائع الحياة لا حدّ لها، والشريعة القويمة التي تصلح لكل زمان ومكان هي التي يكون في عموم نصوصها المحدودة وشمولها مبادئُ يُستنبَط منها حكم كل واقعة من الوقائع التي لا تُحَدّ. وهذا هو شأن الإسلام.
وكنت أجتهد رأيي في هذه الوقائع فأجد في الإسلام حلّ كل عقدة ودواء كل داء، ولكن يحول بيني وبين الحلّ ويمنعني من الوصول إلى الدواء القانونُ الذي أوجبوا علينا الحكم به، أو المذهب الذي ألزمونا الاقتصار عليه. فكنت أبعث بالرسائل تترا (1)
(1) تترا أي متواترة، اسمٌ يظنّها كثير من الناس فعلاً من الأفعال، في مثل قوله تعالى:{ثمَّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا} ، وما هي بفعل.
إلى وزارة العدل، أضمّنها اقتراحات أرجو العمل بها أو تعديلات للقوانين أطلب تحقيقها، أو أحكاماً في المذاهب الثلاثة أقوى دليلاً من الحكم في المذهب الحنفي وأرفق بالناس وأضمن للمصلحة، استأذن بالعدول إليها. حتى إذا كثر ذلك مني بدأت الوزارة تفكّر بجمع هذه المقترَحات وبأن تضمّنها مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية.
وسألخّص إن شاء الله في الحلقة الآتية مراحل وضع هذا المشروع.
* * *