الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-187 -
في الكلية الشرعية في دمشق
الآن وصلتُ إلى الباب الذي أدخله إلى الكلام عن الكلية الشرعية، التي افتتحتُ الفصل بكتاب مديرها الشيخ حسن الشطي رحمه الله. وقد اجتزت إليه هذا الدهليز الطويل لأبيّن لكم أن إنشاء هذه الكلية لم يكن بداية العناية بالعلوم الشرعية، وأنه كان قبلها علماء، دارُ كل واحد منهم ومسجدُه مدرسةٌ مفتّحةُ الأبواب حافلة بالطلاّب، يُقبِلون عليها لا يرجون منها شهادة ولا يطلبون بعد الشهادة وظيفة، بل يطلبون العلم لله، والمشايخ يعلّمونهم لله، يبتغون في ذلك سنّة السلف من هذه الأمة.
بل سنّة متأخّري السلف، حين صارت الحركة العلمية مثل النوافير الصناعية، تعلو كعمود من النور، يتدفّق ماؤها ظاهراً كأنه نوافير دمشق القديمة، وكأنه النافورة الأثرية المشهورة عند باب الأموي الشرقي التي سُمّي الحيّ باسمها، يجري ماؤها أبداً، لا يجري منها في الحقيقة ماء ولا يتبدّل، إنما هو محرّك وسطل ماء يدفعه المحرّك فيعلو ثم يدعه فيعود إلى مستقَرّه، يتردّد ولا يتجدّد. وكذلك كانت الحركة العلمية: وقَفَ الابتكار وكلّت الأذهان وضَعُفَ البيان، وعُدنا نجترّ ما غذّانا به الأولون
مثل اجترار الإبل، نقرأ ولا يكاد أكثرنا يجاوز القراءة والفهم، ومنا من يقرأ ولا يحاول أن يفهم. حتى إن أحد قدماء طلبة العلم في دمشق -وقد ذُكر الشيخ بدر الدين الحسني- فقال لي: ولكن عنده رحمه الله غرائب. فسألته: ما غرائبه؟ فقال: قرأنا عليه كتاباً، فلما أكملناه قال لنا: يابا (وكانت تلك كلمته يخاطب بها الكبير والصغير)، شو فهمتهم؟ (أي ماذا فهمتم؟) فلما لم نُجِبه كما يريد قال:"يابا، باسم الله"، واستأنف قراءة الكتاب. هذا هو الشيء الذي رآه غريباً، استغرب أن يهتمّ الشيخ بما فهم الطلاّب، والعهد بأكثر العلماء أنهم يكتفون بالقراءة.
وكان أقصى ما يتبعه الدارسون أن يفهموا قول المصنّف رحمه الله. ولقد خبّرني الشيخ عبد المحسن الأسطواني، الشيخ العالِم المعمَّر الذي سبق الحديث عنه، وكان من تلاميذ جدّنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من طنطا سنة 1255هـ، أنهم كانوا يقرؤون على أحد المشايخ كتاباً في نسخة مخطوطة، فاستعجمَت عليهم عبارة فلم يفهموها، فذهبوا إليه، فتبسّم وأخذ القلم فصحّح العبارة. فعجبوا من ذلك، أي من جرأته على الكتاب يصحّحه من عند نفسه. ثم وجدوا نسخة أخرى مخطوطة صحيحة، فلما رجعوا إليها وجدوا العبارة كما صحّحها.
جملة فيها تحريف ظاهر من ناسخ من النسّاخ، ربما عرف صوابَه تلميذ صغير، ولكن لم يكونوا يجرؤون على مثل ما فعل الشيخ؛ ذلك لأننا كنا نقدّر السلف، وربما زدنا في تقديرهم عن الحدّ. ولا أزال أحفظ كلمة تلقّيناها من مشايخنا:
وكلُّ خيرٍ في اتّباعِ مَن سَلَفْ
…
وكلُّ شرٍّ في ابتداعِ مَن خَلَفْ
الاتباع وترك الابتداع في العقائد وفي أصول الدين لا في أمور الدنيا؛ فأمور الدنيا لنا، نأخذ منها كل حقّ وندع كل باطل ونتمسّك بكل نافع وننبذ كل ضارّ، جديداً أم قديماً، فما العبرة بالجِدّة ولا بالقِدَم. شرقياً كان أم غربياً، فالحقّ يُعرَف بأنه حقّ لا بالجهة التي جاء منها.
ولقد كان عندنا في الشام قديماً مدارس للقرآن وللحديث ولفقه كل إمام من الأئمة الأربعة، ومدارس جامعة كالمدرسة العمرية التي أنشأها الشيخ أبو عمرابن قُدامة، أخو صاحب «المغني» . وآل قدامة هم الذين أقاموا حيّ الصالحية، وكان أول حي يُقام على سفح قاسيون. وفي كتابي «دمشق» المطبوع مراراً فصل عن إنشاء حي الصالحية. وقد أُولِعتُ مرة بتتبّع أخبار هذه الأسرة فوجدت من نسائها العالِمات بضعاً وعشرين، كلهن كانت تُعَدّ إذا عُدّ مشايخ البلد. ثم فترت هِمّتي ووقفت عن العمل، وضاعت الأصول، وذهب الكتاب الذي كنت أنوي إصداره عن آل قدامة.
ومن عيوبي التي أعترف بها هنا (ولولا أن انتظار الأجل يسدّ عليّ طريق الأمل لطلبت دعوة منكم لخلاصي منها) من عيوبي أنني أمشي دائماً مشي الأرنب في قصّة لافونتين لا مشي السلحفاة. فأنا أجمع قوّتي وأثب وثبة واحدة، فإما أن أصل وإما أن أقعد فلا أحاول بعدها؛ أي أنني على مذهب أبي فراس في بيته المشهور:«لنا الصدرُ دونَ العالَمين أو القبرُ» . ورُبّ بيت أضلّ وما هدى وأفسد وما أصلح، كقوله:«إذا مِتُّ ظمآناً فلا نزَلَ القَطْرُ» ، وبيت المتنبي:«والظلمُ مِن شِيَمِ النفوسِ» ، وما صدق المتنبّي ولا برّ، فما الظلم من شيم النفوس ولكن العدل، لأن الله فطر النفوس
على الخير لا على الشرّ، وعلى العدل لا على الظلم، وعلى الإيمان لا على الكفر.
عفوكم يا أيها القراء. أرأيتم ماذا يصنع بي الاستطراد وكيف أتنكّب الطريق؟ كالراعي يرى بقعة فيها كلأ كثير فيسوق قطيعه إليها، فيحيد عن وجهته ويبتعد عن غايته. إنها علّتي وعلّة كل من نشأ على كتب الأدب العربي القديم.
* * *
قلت إن المدارس كانت تملأ حارات الشام (كما كانت تملأ المدارس حارات مصر ومسالكها)، وفي كثير من بلاد الإسلام مثلها. ومن قرأ «الدارس في المدارس» (1) أو «منادمة الأطلال» للشيخ عبد القادر بدران (وهو مقتبَس من «الدارس») ومَنمشى في طرق دمشق القديمة رأى العشرات من المدارس (وقد صار كثير منها بيوتاً مملوكة بأسناد رسمية!) وعلى بابها الحجرُ المنقوشُ عليه أنه وقَفَ هذه المدرسةَ فلانٌ الفلاني، ووقف عليها كذا وكذا من البساتين ومن المباني.
ومَن مشى مِن حيث يمشي نهر يزيد (وهو أحد أبناء بردى) على سفح الجبل من تحت قبّة السَّيّار إلى آخر حيّ ركن الدين، رأى أنقاض المدارس قائمة يأخذ بعضها بأيدي بعض كأنها صفّ النوادب في المآتم يبكين ما مضى. والعجب العجيب أن أكثر هذه
(1) اسمه الكامل «الدارس في تاريخ المدارس» ، تأليف عبد القادر النّعيمي (مجاهد).
المدارس أنشئ في عهد المماليك في مصر وفي الشام، بل وفي دهلي في الهند.
ولقد أقيمت من نحو ستين سنة مدرسة دينية حديثة افتتحَتها إدارة الأوقاف في المدرسة السميساطية الأثرية القائمة عند باب الأموي الشمالي، والتي كانت يوماً دار عمربن عبد العزيز، وجعلوا مديرها العالِم الوجيه الشيخ توفيق الأيوبي، رحمه الله ورحم كل من ذكرت وأذكر من الصالحين. كما كانت دار هشامبن عبد الملك عند المدرسة النورية التي دُفن فيها الملك البطل المجاهد نور الدين زنكي، أما المقرّ الرسمي للخلفاء من بني أمية ففي الدار الخضراء، دار معاوية، وراء جدار القبلة في الجامع الأموي، ولا يزال الباب الذي كان يدخل منه إلى المقصورة ظاهراً أعلاه تسدّه الدكاكين التي أنشئت هناك.
وقد سمعت الآن أنهم أزالوا ما حول الأموي وكشفوه كما كُشف الحرم المكّي والمسجد النبوي، وتلك أمنية كنا نتمناها، وقد سُررت بهذا الخبر إن صحّ.
* * *
أعود إلى حديثي عن الكلية الشرعية، وأقول قبل أن أدخل فيه أن لاسم «الكلية» اليوم معنى محدداً يقابل كلمة «فاكولته» بالفرنسية. ففي كل جامعة كليات، أي مدارس عالية تتبع الجامعة، وفي فرنسا مدارس عالية لا تتبعها، كالمدرسة المركزية للهندسة (إيكول سنترال) ومدرسة بولي تكنيك والمدرسة العسكرية. هذا الاصطلاح لم يكن عاماً في الأيام التي أتحدّث عنها، فلقد كان
في دمشق الكلية العلمية الوطنية التي انتهى أمرها إلى الدكتور منيف العائدي فكان صاحبها ومديرها، وكان في بيروت الكلية الإسلامية قديماً، والكلية الشرعية التي أنشأها مفتي لبنان الشيخ توفيق خالد وكنت أدرّس فيها.
بل لقد مرّ في هذه الذكريات اسم «الجامعة العربية» التي افتتحها سليمان سعد. وهذه الجامعة وتلك الكليات لم تكن إلاّ مدارس ثانوية. والعجيب أن الكليتين اللتين كانتا في الجامعة السورية كانت كل منهما تُسمّى معهداً: المعهد الطبي، ومعهد الحقوق الذي تخرّجت فيه سنة 1933.
فالكلمات يتبدّل مدلولها ثم يستقرّ الاصطلاح على واحد منها. حتى كلمة «الدكتوراة» يختلف مدلولها باختلاف الجهة التي تمنحها، فلها في فرنسا نوعان: دكتوراة الدولة والدكتوراة التي تعطيها الجامعة، والأولى هي التي تنفرد بالتقدير. والدكتوراة في ألمانيا لا تكاد ترتفع إلاّ قليلاً عن الإجازة (الليسانس أو البكالوريس)، وأعلى منها عندهم لقب «دكتور هابيل» أي الدكتور الماهر. والدكتوراة المجلوبة من أمريكا ألوان وأصناف، تختلف أقدارها باختلاف الجامعة التي نالها حاملها منها، وما كل جامعة في أمريكا هارفارد.
* * *
كانت الكلية الشرعية هي الثمرة الباقية لمؤتمر العلماء، والفضل فيها بعد الله الذي منه كل فضل للشيخ كامل القصاب. والشيخ كامل من أعظم رجال التعليم في الشام، وكانت مدرسته
«الكاملية» تُدعى أيام العثمانيين بالمدرسة العثمانية، وقد بنى لها بناء حديثاً من ثلاث طبقات في البزوريّة قرب الجامع الأموي، بين دار أسعد باشا العظم (التي تُعَدّ من أكبر الدور الشامية، والتي ملكَتها الحكومة وأقامت فيها متحف الفنون الشعبية، والدارُ نفسها من الفنون الشعبية) وبين الخان العظيم الذي بناه ولا يزال يُنسب إليه، فيقال خان أسعد باشا، وهو أجمل الآثار العثمانية الباقية في دمشق وأعظم الخانات التي كانت منتشرة في بلاد الإسلام، تقوم مقام الفنادق ومقام الأسواق المركزية.
افتتح فيها الشيخ كامل مدرسته الشرعية سنة 1937. وقد كنت أعمل يومئذ مدرّساً في العراق كما عرفتم، ثم انتقلتُ إلى بيروت، فلما رجعت إلى الشام درّست عند الشيخ كامل في الكلية التي أنشأها مدّة يسيرة بين العراق وبيروت.
وقد نسيت بعض خبرها، فرجعت إلى أخي الأستاذ الدكتور عبد الحميد الهاشمي (وقد كان من تلاميذها الصغار وهو اليوم من أساتذة الجامعة الكبار) ليُعينني على تذكّر أخبارها، كما رجعت إلى أخي الآخر الشيخ محمد القاسمي الذي كان زميله فيها، لكن بعد أن صارت رسمية تابعة لمديرية الأوقاف العامّة وانتقلت إلى زقاق النقيب، إلى الدار التي كان يُقيم فيها الأمير عبد القادر الجزائري والتي آلت إلى السيد مكي الكتاني، رحمة الله عليهم جميعاً.
والذين كانوا طلاّباً في الكلية الشرعية وكنت أدرّس لهم كبروا وصاروا زملاء لي في التدريس، ثم جازني كثير منهم وفاقني
علماً وفضلاً وسبقني في كثرة المؤلَّفات وطيبها، كالأخوين اللذين ذكرت الهاشمي والقاسمي، والدكتور أديب صالح، والأستاذ أحمد الأحمد، والدكتور وهبة الزحيلي، الذي لا أذكره تماماً لأنه لم يكن في صف من سمّيت ولكن كان -كما أظنّ- بين من هو أصغر منهم من الطلاّب، ثم صار من كبار المؤلّفين في الفقه والباحثين فيه.
لمّا افتتح هذه الكلية دعا جماعة من أجلّ علماء الشام ليدرّسوا فيها، كان منهم الشيخ عبد القادر الإسكندراني، وهو مصري نزل دمشق وأقام فيها، وصار من أهلها ولم يدع لهجته المصرية، وكان جميل الصورة مَهيب الطلعة، بليغ اللسان نيّر الذهن، له مؤلَّفات صغيرة في البلاغة لا تدلّ على فضله.
ومنهم الشيخ محمود العطار، وهو نموذج لعلماء تلك الأيام، وقد كانت قراءته على الشيخ بدر الدين. وهو متمكن من العلوم الإسلامية مطّلع على كتبها عارف بما حوت هذه الكتب، ولكنه لم يكن يجاوزها ولم يكن يبحث في غير ما جاء فيها، ولم يؤتِه الله مع هذا العلم الكثير لساناً بليغاً فلم يكن خطيباً ولا محدّثاً. وكان منهم رجل على الضدّ منه: خطيب طَلق اللسان قوي البيان، يخطب في كل مناسبة خطباً فنّية يشدّ فيها الحروف ويحسن إيقاع الجمل، وليس وراء ذلك علم كثير ولا اطّلاع واسع.
ومنهم الشيخ محمود ياسين، وقد مرّت الإشارة إليه. والشيخ محمود من العلماء المتمكنين الذين يدأبون على العمل. ومنهم أستاذ لا يزال حياً، وقد قارب المئة مدّ الله في عمره، هو الأستاذ
درويش القصّاص، أقدم مدرّس للرياضيات (الحساب والهندسة) في دمشق، وكانت له براعة عجيبة في الإفهام، فهو يُدخِل العلم في الأدمغة التي يُظَنّ أنها أُغلقَت أبوابها وسُدّت مسالكها دون العلم فلا يدخلها. وقد خبّرني الدكتور عبد الحميد الهاشمي أنه هو الذي دفعه إلى الإعداد لشهادة الكفاية (الكفاءة) ثم الشهادة الثانوية، ثم وفّقه الله حتى أكمل الدراسة العالية ونال الدكتوراة. فهو، أي الهاشمي، من الذين جمعوا بين الدراسة الشرعية والدراسة الحديثة.
وكان المراقب الذي يُشرف على الطلاب، على إدخالهم وإخراجهم وصفّهم ويتولّى شؤونهم هو الشيخ رضا الحلو. وهو رجل له في تاريخ الرياضة في الشام ذِكر، ذلك أنه كان من تلاميذ البطل القديم صائب بك العظم (الذي مرّ ذكره)، وكان يوماً بطل العالَم في المصارعة الحرّة، وخبّرني أخي ورفيقي محمود البحرة رحمه الله أن الشيخ رضا كان يمتلك جسماً يُعَدّ في مقاييس كمال الأجسام نادراً. بلغ الثمانين وهو مستمرّ على التدرُّب وعلى التمرين، لم يُثِنه الكبر عنها ولم يَقِفْه دونها.
ثم انتقلَت الكلية إلى الإدارة العامة للأوقاف، ولم تكن قد صارت وزارة، فغدت كلية رسمية فيها خمسة صفوف، كما كانت أختها في حلب (المدرسة الخسروية)، وأنشأت الأوقاف في كل من حمص وحماة مدرسة شرعية فيها ثلاثة صفوف (أي أنها من ثلاث سنوات). ولا بد لي إن شاء الله من عودة للكلام عن الكلية وأهلها.
وربما جاء الخير مما يبدو لك أنه شر. فهذا الخلاف الذي
كان بين الشيخ كامل القصاب والشيخ علي الدقر، لمّا حَسُنت النيات وصفت القلوب، آلَ إلى تنافس شريف؛ فأنشأ الشيخ علي مدرسة مثل الكلية الشرعية، افتتحها في جامع تنكز (وتنكز كان نائب الشام على عهد المماليك) بعد أن جمع له أهل الخير ما جدد به بناءه. وكانت لجامع تنكز واجهتان على أكبر شارعين في دمشق، الواجهة الأصلية على شارع النصر الذي افتتحه جمال باشا سنة 1916 كما أذكر، وكان يُدعى باسمه، وعلى ساحة المرجة التي كانت لبّ دمشق.
* * *
قرأتم في كتاب الشيخ حسن الشطي الذي افتتحتُ به الكلام على الكلية الشرعية أنهم كلفوني بأن أدرّس فيها الثقافة الإسلامية. وكان درساً جديداً، وليس في العلوم المقرَّرة المعروفة ما يُدعى «الثقافة الإسلامية» ، ولم يكن في مثله بُدّ من شيء من الفوضى والبعد عن التبويب أحياناً واختلاط مسائله بمسائل غيره من العلوم، لذلك يبقى أمداً تعتوِره الزيادة والنقصان والتعديل والتبديل، حتى يستقرّ وتَضِح (أي تتّضح) معالمه ويصبح علماً من العلوم.
والذين اخترعوا هذه العلوم الجديدة أرادوا أن يخرجوا بها عن الأسلوب النمطي وعن اجترار ما كتب الأولون، يُبدئون فيه ويُعيدون ولا يأتون فيه بجديد. وقد أرادوا الخير كل الخير من اختراعها، ولكن لم يوضّحوا سبيلها ولم يحدّدوا غايتها، لأنه لم يكن في أذهانهم -كما أظنّ- صورة واضحة لها؛ لذلك كان
المنهج الذي رسموه لها متداخل الحدود خفيّ المعالم.
وكان أول من كُلِّف بتدريس هذه المادة الجديدة الأستاذ الشيخ دهمان، درّسها مدّة قصيرة جداً، ثم كُلّفت أنا بها أدرّسها في دمشق، ويدرّسها في الكلية الخسروية في حلب العالِم المؤلف الشيخ راغب الطبّاخ. فاختلف طريقانا في الفروع، وإن كنا اتفقنا على الأصول وأخذنا من مراجع واحدة. ولكن الشيخ الطبّاخ أُعطيَ -على كبَر سنّه- هِمّة لم أُعطَ أنا مثلها، ويسّر الله له أسباباً لم يتيسّر لي ما يشبهها، فكان على علمه وفضله يعمل على طبع الكتب ونشرها، وأظنّ أنه كان يملك مطبعة. وكان أمثاله من الناشرين العلماء كثيرين، منهم السيد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، وخير الدين الزركلي حيناً، والأستاذ أحمد عبيد، والشيخ منير الدمشقي، وحسام الدين القدسي. فطبع الشيخ الطبّاخ ما أعدّه في كتاب بقي في الأرض ينفع الناس، وذهب ما أعددتُ أنا جفاء، وأسأل الله أن يجعله زبدة لا زَبَداً. كما أنني ألقيت في أحاديثي في الإذاعة وفي الرائي من سنين طويلة مسائل في أصول الشريعة وفي نظام الحكم والنظام المالي والاجتماعي في الإسلام كانت أكثر مما أعدّ الأستاذ المبارك رحمه الله، ولكنه أسرع فجمع ما هيّأه في كتاب فبقي، وما أعددته أنا ضاع ولم يبقَ عندي إلاّ مذكّرات لا تُغني ولا تُفيد. ولعلّ الله يرزقني الإخلاص فيه فلا يضيع عند الله ثوابه.
بدأت أنا دروسي بتعريف الثقافة وبيان أصل الكلمة. ولقد كتب في ذلك جملة من العلماء والأدباء، ولكنهم أخذوا غصن الشجرة ولم يمسكوا بساقها، فجعلوا أصلها «ثَقِفَ يَثْقَف» ،
وكذلك صنعت المعاجم من القاموس المحيط إلى المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية في مصر، وبينهما المعاجم كلها، حتى المعجم الذي لم يؤلَّف مثله وهو «مقاييس اللغة» للإمام أحمدبن فارس.
وهذا من عيوب معاجمنا (أي قواميسنا)، فإنها لا تراعي التسلسل التاريخي لمعاني الكلمات. بل ينسى الأساتذة العصريّون ممن كتب في موضوع الثقافة إن الاسم يوضع قبل الفعل، فهو الأصل والفعل مشتَقّ منه ومتفرّع عنه. ولي تعليقات كثيرة على المعاجم، منها بحث في المعنى الأصلي من معاني الكلمة التي توردها، ولكنني -على عادتي في إضاعة ما أكتب وما أُعِدّ- لم أجمعها، وإنما تركتها في ذهني تأتي بها المناسبة ويذهب بها النسيان.
ومما لاحظته على المعاجم أنها أساءت في شيء كانت تستطيع الإحسان فيه؛ وهو أنها تسرد المعاني المتعددة للكلمة الواحدة، أو اختلاف وزنها الصرفي، تحشدها كلها حشداً. ولو أنها بيّنَت أن كل واحدة منها لغةُ قبيلة من قبائل العرب، فنسبَتها إليها وعَزَتها إلى مصدرها، لأفاد الناس من ذلك أكبر الفائدة. ذلك أن قبائل العرب لم تكن في منزلة واحدة من الفصاحة، وأن المعاني المختلفة أو الأوزان المتعددة بعضُها مثل الحديث الصحيح، وبعضها مثل الحديث الحسن، وبعضها مثل الحديث الضعيف. فلو أن علماء اللغة الذين دوّنوها وألّفوا معاجمها ميّزوا بينها وفعلوا فعل المحدّثين لكان من ذلك نفعٌ كبير.
فأصل مادّة الثقافة من «الثِّقاف» ، وهو اسم لخشبة مثقوبة،
فإذا أرادوا أن يقوّموا قناة الرمح قطعوا الغصن الذي يصلح لذلك ثم أحموه على النار ثم أدخلوه في هذا الثقب المثقوب في الخشبة وقوّموه وأزالوا اعوجاجه. هذا هو الأصل في مادّة الثقافة، ثم اشتقّوا من هذا الاسم فعلاً فقالوا: رمحٌ مُثقَّف، أي مقوَّم. ولمّا كانت الألفاظ توضَع للموجودات المدرَكة بالحسّ ثم تنتقل إلى ما وراء الحسّ من الصور المعنوية والمعاني المجردة، فقد نقلوا معنى «المثقَّف» من القناة التي قوّمنا عِوَجها بالثّقاف إلى الإنسان الذي قوّمنا طباعه وفكره بالثقافة.
وكذلك نجد معناها في الفرنسية، فهو فيها معنى مجرّد لا حقيقي، فهم يدعونها «كولتور» ، وهي كلمة تدلّ في حقيقتها على الحرث والزرع. ويقولون للرجل «كولتيفه» ، أي محروث أو مزروع.
ولا يقتصر معنى الثقافة على تلقّي العلوم، بل تشمل سلوك الإنسان في كلامه وفي طعامه وفي يقظته ومنامه.
* * *