المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

-208 -   ‌ ‌طريق الحج تلقّيت أربع رسائل تعليقاً على الحلقة الأخيرة من - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: -208 -   ‌ ‌طريق الحج تلقّيت أربع رسائل تعليقاً على الحلقة الأخيرة من

-208 -

‌طريق الحج

تلقّيت أربع رسائل تعليقاً على الحلقة الأخيرة من هذه الذكريات: ثلاث منها تأتي في صلب الموضوع ورابعة على الهامش، أو هي على حرف من الهامش، لا صلة لها بالذكريات ولكن في الجواب عليها نفعاً للقراء. جاءت من فاضل ينمّ أسلوبه الصحيح على فضله، يقول إنه مدرس مدمن للمطالعة مديم للقراءة، وطالما مرّ به وصف بعض الأطعمة أو العقاقير بأنه بارد يابس أو حارّ رطب، فلا يفهم معناها ولا يعرف موردها ومأتاها، قرأها كثيراً في كتب ابن القيّم وغيره وسمعها من أيام قريبة من الشيخ الشعراوي في حديثه اليومي، فلما رآني ذكرتها في الحلقة الماضية ظنّ أن عندي ما يبحث عنه فكتب يسألني.

والثلاث التي هي من صميم الذكريات تسأل عن الخط الحديدي الحجازي الذي أشرت إليه: ما خبره وكيف انقطع، وماذا أعرف عنه، وكيف كان الناس يحجّون قبله؟

وأنا أجيب على السؤال الثاني بما أعرفه مشاهدة وعياناً أو مشافهة وسماعاً. أما السؤال الأول فليس موضوعه من شأني

ص: 321

ولاهو مما اشتغلت به من أصناف المعارف والعلوم، فلا أدّعي القدرة على الجواب الكافي. ولكني أمضيت حياتي كلها في المطالعة؛ هي متعتي وتسليتي وهي شغلي أيام فراغي وعطلتي، من صغري إلى اليوم، وكنت لا أنسى شيئاً قرأته، ولا أزال ولله وحده الحمد أذكر إلى الآن أكثر ما أقرأ، فمما علق بذهني مما قرأت قديماً ما يصلح جواباً على هذا السؤال.

ذلك أن علماءنا، حتى علماء الشريعة المتوسعين في المعارف كابن القيم، أخذوا نظرية عن اليونان اقتنعوا بصحتها وأفاضوا في شرحها، وهي أن في الوجود أشياء بسيطة وأشياء مركَّبة. وكلمة «بسيطة» في أصل اللغة معناها المبسوطة، أي الواسعة، ومن هنا سُمّيت كتب كثيرة باسم «البسيط» أو «المبسوط» ، ولكنني أستعملها الآن بالمعنى الشائع عند الناس. وهذه الأشياء البسيطة، أي المؤلَّفة من عنصر واحد، هي عندهم الماء والهواء والتراب والنار. وأن الحرارة تأتي من النار، والبرودة من التراب، والرطوبة من الماء، واليبوسة أو الجفاف من الهواء. وأن في البدن أربعة عناصر (أو «أخلاط» كما كانوا يسمّونها) تقابلها، هي الدم والمرّة السوداء والبلغم والمرّة الصفراء. والغذاء (ومثله الدواء) يغلب على كل نوع منه واحدٌ من هذه العناصر أو اثنان، وكمالُ الصحّة في أن تتوازن الأخلاط الأربعة في الجسم وأن يأتي الغذاء موافقاً لها، لذلك تجدهم يقولون عن الشيء إنه حار رطب، أو بارد يابس.

فلما كانت النهضة في أوربا واتسعت دائرة المعارف وتمحّص كثير من الحقائق وتقدّم علم التشريح وعلم الكيمياء تبيّن

ص: 322

أن هذا الذي كانوا يقولونه غير صحيح، وأن التراب والماء مركَّب من عناصر كثيرة وليس عنصراً واحداً. والعجيب أن من الفلاسفة المتقدمين من الإغريق (أي من اليونان) من لامس الحقيقة التي عُرفت بعد عصر النهضة والتي نعرفها نحن الآن، وهي أن المادة ليست متصلة الأجزاء بل هي مؤلَّفة من جُسيمات صغيرة جداً هي الأتوم (أي الذرّة)، قال بذلك ديمقريطس، وقد راجعت الآن ترجمته فوجدت أنه مات نحو سنة 370 قبل ميلاد المسيح، وقد سبقه إلى ذلك أستاذه ليوسيبوس.

والفكر البشري يتقدم دائماً لا يرجع إلى الوراء أبداً، ولكن قد يُصاب بنكسات تتعثر فيها خطاه ويتأخر فيها سيره؛ من ذلك أن أرسطو (الذي مات سنة 222 قبل ميلاد المسيح) ردّ نظرية الذرة وأعاد نظرية العناصر الأربعة، وبقي القول قوله حتى ظهر بيكون (وينطقها الفرنسيون باكون) في القرن السادس عشر، فنقض ما ذهب إليه أرسطو وأحيا نظرية الذرة. فأرسطو الذي يلقبه الناس بالمعلم الأول ولا يعدلون عن قوله كان له في هذا وغيره كثير من الأخطاء.

* * *

أعتذر إليكم وأرجو عفوكم عني لأني خرجت عن موضوعي، وأعود إليه الآن فأجيب على السؤال الثاني.

إن الذي يريد السفر اليوم من مكة المكرمة إلى دمشق يركب سيارته من باب داره هنا فلا ينزل منها إن شاء الله إلاّ على باب منزله أو فندقه في دمشق، طريق مزفَّت (ولا تقُل مسفلَت) بعضه

ص: 323

لايقلّ في سعته وحسنه وترتيبه والصُّوى (أي الإشارات) فيه وتعدُّد المسارب في جانبه، لا يقلّ في ذلك كله عن أرقى الطرق الدولية في أرقى دول أوربا الغربية، وإن كان يضيق بعد المدينة المنورة، ويستمرّ معبَّداً مزفَّتاً حتى يبلغ دمشق.

هذا الطريق بين مكة المكرَّمة ودمشق الذي تمشي فيه السيارات مستريحة كان لي شرف المشاركة في كشفه، يوم لم يكن طريق ولا أثارة من طريق وكانت الأرض كلها بيداء خالية كما برأها بارئها، وكانت سياراتنا أولَ السيارات التي وطئَت بدواليبها ثَراها، وكان ذلك سنة 1353هـ. وقد مرّ بكم الخبر مفصَّلاً في هذه الذكريات، وعلمتم مما مرّ بكم أن هذه المسافة التي يقطعها الراكب اليوم قاعداً في السيارة الفخمة على المقعد المريح ومن حوله الهواء المكيف، أمضينا نحن في قطعها ثمانية وخمسين يوماً ما كنا فيها مستريحين، بل قاسينا من المشقّات والأهوال ما لا يصمد له إلاّ صناديد الرجال.

كان ركب الحُجّاج الشاميّين قبل هذا الطريق يقطع هذه المسافة في أكثر من أربعين يوماً، في بادية مقفرة تتلظّى شمسها ويلتهب في الصيف حصاها وتتسعّر رمالها، ولا يأمن المسافر فيها على نفسه ولا على ماله لأنها عادت إلى مثل عهد الجاهلية الأولى، لا حكومةَ تجمعها وتُخضِعها ولا قوة تمنع الظلم والعدوان فيها. وكان في كل منطقة شيخ عشيرة يتسلط عليها، إن لم يسترضِه الحُجّاج بالمال أو يغلبوه بالقتال آذاهم أو نهبهم أو قطع الطريق عليهم أو قتلهم، أقول هذا لتعرفوا قيمة ما أنتم فيه من نعمة الأمان، ولتسألوا الله الرحمة لمن جعله سبيلاً لتوحيد البلاد وأمنها.

ص: 324

لذلك كانوا يبعثون مع أمير الحُجّاج ما كان يُدعى «الصُّرّة» ، وهي مبلغ كبير من المال يوزّعه على من يمرّ عليه موكب الحج من الأعراب، وما كان يسلم دائماً منهم، ويبعثون مع الصرة بطائفة من الجند وعدد من المدافع. وكانوا يُقيمون بِرَكاً للماء عندها قلاع ثابتة على الطريق، رأيت في رحلتي الأولى بعضها ووصفتها وقرأتموها، وكانت تحمي كلَّ واحدة منها أسرةٌ من أسر حيّ الميدان بالشام معروفة ببأسها مشهورة بأمانتها وإخلاصها، ولو رجعتم إلى ما نشرتُ من قبل في هذه الذكريات لوجدتم تفصيل هذا الإجمال (1).

فكانت رحلة الحج تمتد أكثر من ثلاثة أشهر محفوفة بالأخطار، كلها متاعب ومصائب، فكأنها البحر الذي وصفوه قديماً بأن الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود.

تلك الرحلة التي كانت تمتد ثلاثة أشهر يستطيع الحاجّ اليوم أن يؤدّيها (أي أن يؤدّي حجه) في أربعة أيام: يخرج من دمشق بالطيّارة من بعد صلاة العشاء ليلة العيد فيصل جدة بعد ساعتين، ويكون مُحرماً فيمضي رأساً إلى عرفات فيقف فيها ولو دقائق، فيكون قد أدّى الفرض والواجب، ثم يتوجه منها إلى مزدلفة فيقف فيها دقائق بعد نصف الليل، ثم يخرج منها فيصلّي صلاة الصبح في الحرم مع الجماعة، ويطوف طواف الإفاضة ويسعى بعده، ثم يحلق أو يقصّر، فيتحلل ولا يبقى عليه من أعمال الحجّ إلاّ رمي

(1) أخبار الرحلة ممتدة من الحلقة السبعين إلى الحلقة الثانية والثمانين، وهي في الجزء الثالث (مجاهد).

ص: 325

الجمرات والمبيت في مِنى. أما مِنى فيستطيع أن يخرج بسيارته إليها أول أيام التشريق قبل المغرب، فيبقى فيها راكباً في السيارة أو قاعداً على الأرض أو على صخرة في الجبل، أو حيث شاء من مِنى إلى أن يمضي أكثر الليل، فيرجع إلى مكة فيبيت إن أراد فيها. ثم يصنع مثل ذلك الليلة المقبلة، فإذا كان اليوم الثالث من أيام العيد خرج بعد العصر إلى مِنى فرمى الجمرات كلها معاً، يرمي جمرة العقبة وينويها عن اليوم الأول، ثم يعود إلى الصغرى فالوسطى فالعقبة فيرميها عن اليوم الثاني، وكذلك يصنع عن اليوم الثالث والرابع.

هذا هو الحج. ولكن لكل عمل في الدنيا درجات كدرجات التلاميذ في الامتحان: راسب ومقبول وجيد وأجود منه وممتاز؛ فمن صنع الذي ذكرتُ هنا صحّ حجّه لكنه كان كالطالب الذي ينجح في الامتحان بدرجة مقبول، لم يرسب ولكن لم ينَل الدرجات العُلى. ومن وقف في عرفات من الظهر إلى ما بعد غروب الشمس، ثم مضى إلى مزدلفة فبقي فيها إلى ما بعد صلاة الفجر، ثم مشى فرمى جمرة العقبة، وحلق ونحر إن كان عليه نحر، ثم قصد الحرم فطاف وسعى، فهذا كالذي نجح بدرجة جيد.

ومن ذهب في اليوم الثامن إلى منى فصلّى فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم الوقفة، ثم مضى إلى عرفة فصلّى مع الجماعة وسمع الخطبة ثم وقف إلى ما بعد غروب الشمس يدعو الله متوجهاً إليه مخلصاً له، ثم مضى إلى مزدلفة فصلّى فيها المغرب والعشاء جمعاً وأكل ونام (لا كما يقول بعض الوعاظ من أن قيام تلك الليلة والصلاة فيها أفضل، لأن الرسول عليه الصلاة

ص: 326

والسلام -وهو إمام المتقين وأعبد العابدين- نام، ومن زعم أنه يعلم طريقاً أرضى لله مما شرع رسول الله ‘، وما صنع هو الأسوة والقدوة، فليعلم أنه على خطر عظيم) هذا نال درجة جيد جداً.

ومن قرأ حجّة الرسول عليه الصلاة والسلام التي ما حجّ غيرها (وصِفَتُها في كتب الحديث، وقد أفردها محدّث الشام الشيخ ناصر الدين الألباني في كتاب مطبوع) ففهمها وصنع كل ما صنع رسول الله ‘ مقتدياً به متبعاً له، فهذا نال درجة ممتاز.

* * *

كان ركب الحج الشامي أشبهَ بجيش، إذا مشى سدّ عرض الفلاة وإن نزل قامت لنزوله مدينة، فكان كما قال ابن هانئ:«إذا حلَّ في أرضٍ بناها مدائنا» . وابن هانئ شاعر بليغ كانوا يسمّونه «متنبي المغرب» ، ولكنه زائغ العقيدة فاسد الدين. وقصيدته هذه العينية من روائع الشعر الوصفي، ومثلها، بل أبلغ منها أسلوباً وأعلى في البلاغة طبقة، قصيدة بشار التي يقول فيها:

فراحوا: فريقٌ في الإسارِ ومثلُهُ

قتيلٌ ومِثْلٌ لاذَ بالبحرِ هاربُهْ

ولمّا كنا ندرس الأدب الفرنسي وجدت في مسرحية «السيد» (Le Cid) لكبير الأدباء الفرنسيين في عصره كورناي، بيتاً يكاد يكون ترجمة حرفية لمعاني بيت بشار. والثالثة ميمية المتنبي في وصف الجيش التي يقول فيها:

خَميسٌ بشرقِ الأرضِ والغربِ زحفُهُ

وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منهُ زَمازِمُ

ص: 327

تَجمّعَ فيهِ كلُّ لِسنٍ وأمّةٍ

فما يُفهِمُ الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ

وميزته أنه حقّ، وأن جيش سيف الدولة وإن كانت جمهرته من العرب فإن فيه كثيراً من غيرهم يتكلمون بألسنهم (اللسان بمعنى العضو جمعه ألسنة، واللسان بمعنى اللغة جمعه ألسن).

أما مواكب الحجّ قديماً فإن أحسن مَن وصفها عبد القادر الأنصاري الجزيري في كتابه «دُرَر الفوائد المنظمة» الذي طبعه محب الدين الخطيب في «السلفية» بطلب من الشيخ محمد نصيف رحم الله الاثنين، وهو الذي وقع على نسخته واشترك في تصحيحها صديقنا الأستاذ محمد سعيد العامودي، فاقرؤوا هذا الوصف في الصفحة 95 منه. ومن هذا الكتاب عرفت أن «المَحْمِل» كان موجوداً في مطلع القرن الثامن الهجري، أي من ستمئة سنة، ولم أجد إلى الآن نصاً أعرف منه منشأ هذه البدعة ومتى وكيف كانت وما سببها، والذين يقولون إن أصله هودج شجرة الدرّ لا يأتون على قولهم بدليل، فمن كان عنده علم من ذلك فليُعلِمني.

والمحمل شبه هرم كانوا يغطّونه بالديباج الأخضر، أي المخمل منقوشاً عليه آيات من القرآن، ويعظمونه ولا يذكرونه مرة إلاّ قالوا «المحمل الشريف» ، وكان لوداعه في دمشق وفي القاهرة مشهد عظيم، وكان بعض العامّة من الجَهَلة يتبرّكون بالجمل الذي يحمله ويُلبِسونه عادة مثل الثوب من الجلود ومن القماش الملوَّن. ولقد شهدت آخر موكب حُجّاج خرج من دمشق مع المحمل وأنا

ص: 328

صغير جداً، وقد نسيت هل كان ذلك خلال الحرب الأولى أو كان قبلها، فأنا أكتب هذه الذكريات كلها من ذهني ما عندي شيء مكتوب أرجع إليه وأعتمد عليه.

وكان مشهد خروج المحمل أعظمَ المشاهد في دمشق، يليه مشهد «السّلامْلك» يوم العيد إذ يخرج الموكب من قصر المشير، أي «المشيرية» التي صارت من بعدُ دارَ المندوب السامي الفرنسي، ثم هُدمت وأُقيم مكانها القصر العدلي الذي يجمع اليوم المحاكم كلها وفيه وزارة العدل.

وكانا محملين لا محملاً واحداً، المحمل الشامي والمحمل المصري. فإذا وصل المحمل الشامي إلى مزيريب (وهي أدنى قرى حوران) توجّه منها إلى عمّان. وأنا أعرف عمان قبل ثلاث وخمسين سنة، لمّا مررنا بها وهي قرية صغيرة أكثر سكانها من الشركس وأقلهم من الشاميين، ولم يكن أُقيمَ إلاّ بيوتٌ معدودة على جبل عمّان.

ثم يتوجهون منها إلى معان، ويأتي المصريون بقافلة مثلها أو أعظم منها من طريق العقبة، فيلتقي المحملان غالباً في معان، ثم يمشيان معاً إلى تبوك فإلى المدائن، مدائن صالح قرب العُلا، فالمدينة المنورة فمكة المكرمة.

والمحمل الشامي محفوظ في متحف دمشق اليوم ليراه من لم يكن قد عرفه. وآخر ما عُرف من خبر المحمل واقعة مشهورة يعرفها الكهول والكبار من رجال المملكة، واقعة لولا شجاعة الملك عبد العزيز التي جاوزت الأمثال المضروبة للشجاعة

ص: 329

ولولا حكمته التي منحه الله منها ما لم يمنح مثله إلاّ القليل، لولا ذلك لكانت فتنة لا يدري إلاّ الله عواقبها، ومن شاء معرفة خبرها وجده في كتاب «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» للأستاذ الشاعر وكيل وزارة الخارجية السعودية سابقاً خير الدين الزركلي (1). وكان ذلك آخر العهد بالمحمل المصري، والمحمل الشامي كذلك وقف قريباً من ذلك الوقت.

كان يخرج الموكب من دمشق في أوائل شعبان، فيه مَن يمشي على رجليه ومن يركب الدوابّ ومن يسافر على الإبل، وكان للرّحال (2) على الإبل أنواع تتفاوت مراتبها وأجورها، يركب على البعير اثنان متقابلان من الجانبين، وللنساء هودج هو أشبه بغرفة صغيرة جداً من العيدان تُسدَل الستائر على جوانبها فلا يبين للرجال مَن فيها. وكان «العكّامة» (وفيهم الجمّالون والحمّالون وطوائف من العمال) يسبقون الركب فينصبون الخيام ويُعِدّون الطعام، فإذا وصل الحاجّ وهو تعبان استراح وأكل وصلّى ونام.

وكان يجري كل عام للمحمل ومن معه من الحجّاج في القاهرة وفي دمشق وداع حافل، فكان الموكب في الشام يمتد من قصر الحكومة إلى جنوبي البلد حتى يخرجوا منها، وتجتمع هذه الجموع كلها قرب مسجد العسّالي، وهو قريب من قرية «القَدَم»

(1) مرّ خبر هذه الحادثة في آخر الحلقة الثمانين (في الجزء الثالث) من هذه الذكريات (مجاهد).

(2)

الرحال جمع رَحْل، وهو للإبل كالسرج للفرس، ومنه اشتُقّت كلمة رَحَل وارتحل والرحلة.

ص: 330

التي يزعم أهلنا في الشام أن الرسول ‘ زارها وأن آثار أقدامه لا تزال ظاهرة على صخرة فيها، وذلك كله كذب.

كان الذي يرى هذه الجموعَ يظنّ أنه لم يبقَ من أهل دمشق أحدٌ في بيته! ثم تُتلى آيات وتُلقى قصائد، ويكون الوداع يتصدره الوالي وهو الرئيس المدني، والمشير وهو الرئيس العسكري قائد الجيش وأمير الحج. ثم يبدأ الركب المسير وتلوّح الأيدي بالمناديل، ويكون الدعاء والتهليل والبكاء والعويل، حتى يغيب آخر الركب في طريق الكِسْوة على الجبل الجنوبي من دمشق (1).

* * *

(1) في الطبعات السابقة من «الذكريات» صفحتان بعد هذه الصفحة حذفتُهما في هذه الطبعة، لأن ما فيهما مكرَّر قد سبق بنصّه في الحلقة الخامسة والسبعين، ولا بد أن إعادة نشره هنا كان سهواً لم ينتبه إليه الشيخ ولم يلاحظه الناشر. ومثله نحو صفحتين في الحلقة الآتية حذفتُهما أيضاً، وسأشير إلى موضعهما (مجاهد).

ص: 331