المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

-204 -

‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

الأيام التي قضيتها في كيسن في ألمانيا في المؤتمر السنوي لاتحاد الطلاب المسلمين في أوربا طمأنتني إلى أن الإسلام لا يزال بخير، وأنه إن طغى سيل الفساد والكفر والإلحاد وغطّى أكثرَ البلاد فإن فيها رواسي شامخات لا يصل السيل إلى ضهورها (بالضاد) وذُراها، وأنها إن انطلقت الشياطين: شياطين الجنّ وشياطين الإنس تأتي الناسَ عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن أمامهم ومن خلفهم، تخترع كل يوم جديداً يصرفهم عن الصراط ويبعدهم عن طريق الجنة، فإن في الدنيا ملاجئ آمنات مَن التجأ إليها سلم من الخطر ونجا من المهالك، وأعاذه الله الذي يُستعاذ به من كل شيطان رجيم.

ولكن العجب أن أجد ذلك في تلك البلاد، أن ألقى هذه الواحة الخضراء وسط تلك الصحراء، أن أحسّ البرد والسلام ومن حولي لهب النار! أحلف لكم أني رأيت في هذا المؤتمر شباباً قلت عن مثلهم غير مرة -وأنا صادق- أنهم مثل شباب الصحابة؛ أدبروا عن الدنيا حتى كأنهم لا يعيشون فيها، وأقبلوا على العمل للجنة كأنهم ينظرون إليها، يجمع بينهم السعي إلى رضا الله وتؤلّف بين

ص: 271

قلوبهم المحبةُ في الله، إن تنافس لِداتهم وأترابهم على اللذائذ تنافسوا هم على الطاعات، وإن تزاحموا على الكسب والأخذ كان تزاحمهم على البذل والعطاء. أعترف أني استفدت منهم ورأيت نفسي صغيراً أمامهم، وأكبرهم في سنّ أولادي، ومنهم أوربّيون دخلوا في الإسلام من جديد، ولا عجب، فإنكم تقرؤون في القرآن عن سَحَرة فرعون الذين دخلوا المباراة مع موسى وهمّهم إرضاء فرعون، يقولون: إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ فلم تمضِ إلاّ دقائق معدودات حتى آمنوا هذا الإيمان العجيب لمّا رأوا ما بين سحرهم الذي جاؤوا به وبين المعجزة التي أظهرها الله على يد موسى، في دقائق معدودات آمنوا إيماناً أتمنى -ولي عشرون جداً في الإسلام- أن أكون فيه مثلهم: هدّدهم فرعون بكل عظيمة، بأن يقطع أيديهم وأرجلهم وأن يصلبهم في جذوع النخل، فما خافوا ولا جزعوا ورأوا هذه الدنيا بآلامها ولذائذها صغيرة إلى جنب الآخرة بنعيمها الباقي، فقالوا له: افعل ما تشاء، اقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.

* * *

وكان منهم شباب وبنات، ولكن طبيعة الحياة هناك جعلت كل بنت تأتي مع زوجها أو أخيها، فلا تجيء من غير محرم لها. وكان بينهم فتاة ألمانية دخلت في الإسلام حديثاً، طلبوا أن يُسمح لها بالكلام لتخبر عن قصة دخولها في الإسلام، فكانت خلاصة قصتها أنها وحيدة أمها وأنه قد مات أبوها ولم يدع لهما شيئاً، فكانتا تؤجّران غرفة من الدار للطلاب تعيشان من أجرتها، وآخن تكاد تكون بلدة الجامعة التي امتازت من جامعات ألمانيا بالهندسة

ص: 272

وفروعها. وجاءهما طلاب كثير يتداولون هذه الغرفة حتى قدم هذا الشابّ. تقول: كان مَن قبلَه يسهر الليل ثم يجيء متأخراً، وهذا لم يتأخر يوماً عن موعد صلاة العشاء، وكان مَن قبله يعرضون لها بكلمة أو بنظرة أو بمحاولة لمسة أو قبلة فتلقى منهم أذى، وهذا لم يرفع يوماً بصره إليها ولم يمكّنه منها، وكان يكلّمها على أدب واستحياء، ورأت من خلالِه ومزاياه ما دفعها إلى سؤاله عن سرّ اختلافه عن رفاقه، فأجابها بأنه مسلم. وكانت تسأله المرة بعد المرة عن الإسلام فيحدّثها، حتى دخل الإسلام قلبها فأعلنت إسلامها، وتزوّج بها.

وكذلك تكون الدعوة بالأفعال لا بالأقوال، وكذلك انتشر الإسلام قديماً بالقدوة والأسوة الحسنة.

فيا أيها الدعاة إلى الله: ابدؤوا بالشباب، بالشباب بنين وبنات؛ فإن الدعوات كلها، الطيب منها والخبيث، إنما قامت على عواتق الشباب. فإن استطعتم الوصول إلى قلوبهم وجدتموهم أسرع استجابة وأهون انقياداً وأعظم أثراً، لأنهم إن اعتقدوا زعيماً مشوا وراءه، وإن قبلوا مذهباً أخلصوا له. وإنهم يندفعون فلا يقفون حتى يبلغوا من الطريق آخره، لا يقبلون -كما يقال اليوم- بأوساط الحلول، إنهم يَفْدون المبدأ الذي آمنوا به والزعيم الذي اتبعوه بنفوسهم وأرواحهم. ومن أكثر المفكّرين المحدَثين فهماً لطبيعة الشباب أندريه موروا، وله في ذلك مقالات ومحاضرات.

إنكم ترون بين الشباب والشيوخ عند النظرة الأولى تبايناً واختلافاً، ولكن إن أمعنتم النظر وجدتم الغاية واحدة ولكن

ص: 273

اختلفت الطرق. كلاهما يبتغي اللذّة ويهرب من الألم ويريد الربح ويفرّ من الخسارة، إنهم كسيارات انطلقت إلى غاية واحدة، ولكن الشيخ يسوق سيارته حذراً متمهلاً يترفق في السير ويجتنب المزالق، والشابّ ينطلق بها مسرعاً لا يبالي العقبات ولا تخيفه العوائق، لا يحوّل بصرَه عن غايته يقحم الأخطار ليبلغها عاجلاً. ثم إن الشيوخ غالباً وبعض الشباب أحياناً يُدخِل عقله في الحساب، فيوازن بين اللذّات ويقوّم الأرباح، فيحتمل الألم العاجل لبلوغ اللذّة الكبرى والخسارةَ القليلة لنيل الربح الوفير، لذلك يؤثِر آخرته على دنياه.

والإسلام كغيره من الدعوات، كان جلّ الذين استجابوا له وتمسّكوا به وذادوا عنه من الشباب. لا أعني الأحداث فقط، فرُبّ حديث السنّ قد شاخ قبل الأوان ورُبّ شيخ يحمل على عاتقه وقر السنين وله صفات الشباب. هذا أبو بكر يوم قُبض رسول الله عليه الصلاة والسلام كان قد جاز الستين، ولكن كل ما وصفنا به الشباب كان فيه: في صدق محبته للزعيم الذي اتبعه وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وعمق ولائه للمبدأ الذي آمن به وهو الإسلام، وما أورثه ذلك من قوة وجرأة لا نكاد نعرف لها مثيلاً حتى عند عمر القوي. لقد قلتُ في أحاديث مائدة الإفطار في رمضان هذه السنة وكتبت في صدر الطبعة الجديدة لكتابي «أبوبكر الصديق» (الذي مرّ على طبعته الأولى ثلاث وخمسون سنة)، قلت: إني ما وزنت عمر بعظيم من عظماء الأمم إلاّ رجح، لأنها إن كانت العظمة بالمزايا الشخصية أو بالسمات الخلقية أو بالأعمال الجليلة أو بالآثار الباقية لم أجد مثل عمر، ولكن إن جئت أوازنه بأبي بكر رجح أبو بكر، حتى في القوة والجرأة. وشاهدي على

ص: 274

ذلك موقفه يوم قبض رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويوم توجيه جيش أسامة، حيث جزع عمر وثبت أبو بكر، ووثب إليه فأمسك بتلابيبه وقال له: أجبّار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟ أنا أحلّ لواءً عقده رسول الله ‘؟ لقد قوي الإسلام، واللهِ لو انفردَت سالفتي لَما رددتُه ولَما قعدت عن نصرة الإسلام.

فيا أيها الدعاة، لقد ضعتم وضيّعتم معكم الشباب! إن الله سيسألكم عنهم، فبماذا تُجيبون ربّ العالمين إذا قال لكم: لقد أنزلتُ عليكم كتاباً واحداً وشرعت شرعة واحدة وديناً واحداً، ففرقتم دينكم وكنت شيعاً: صوفية وحرباً على الصوفية، ومتمسكين بالمذاهب ومعرضين عنها، ومن أمثال ذلك كثير، وكلٌّ يدعو الشباب إلى مذهبه وطريقته.

لقد علّمَنا الرسول عليه الصلاة والسلام أن الإسلام بُني على خمس، على خمس قواعد راسيات راسخات، فأقمناه على أعواد لا تحمل البناء، شغلناهم بالفروع عن الأصول، أوجبنا عليهم أشياء لم يوجبها الله وحرّمنا أشياء ما حرّمها الله، تمسّكنا بالفروع حتى جعلناها أصولاً وأهملنا بعض الأصول لنحفظ هذه الفروع، مزجنا كلام المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى بكلام ناس ما كانوا معصومين، سخّرنا المنابر التي هي لله وحده لا يجوز أن يُلقى منها إلاّ: قال الله أو قال رسوله، أو شرح ما قال الله وما قال الرسول وما أجمع عليه المسلمون، فجعلنا منها خطباً للسياسة وأهلها وللأهواء وأصحابها.

هذه المنابر لله، ليست لحكومة ولا حزب ولا جماعة

ص: 275

ولامذهب ولا نِحلة، ولا لجلب نفع للخطيب ولا لدرء مضرّة عنه؛ فردّوها إلى الله يَرُدَّ عليكم عزّتَكم ويُعِدْ لكم مجدَكم ويُزِل من بينكم فرقتَكم ويُرجِعْ لكم وَحدتَكم، ويوردكم جميعاً يوم القيامة الحوض على رسول الله إن أخلصتم العمل لدين الله وأطعتم الله وأطعتم الرسول، ولو في معصية جميع عباد الله، ولم تعصوا الله لتطيعوا عباده من أهل الثروة والسطوة والحظوة، وممن يقولون إننا من المسلمين ويتركون شرع الله.

* * *

ولمّا قُضي المؤتمر واستعدّوا للعودة جميعاً (ومعهم أهلي) إلى آخن سألني رئيس اتحاد الطلاب المسلمين أن أذهب مع طائفة من الطلاب إلى جامعة فرانكفورت، فإن فيها شباباً يريدون أن يجتمعوا بي ليسألوني، وفي الذهاب إليهم نفع لهم ورضا لله. فكرهت الذهاب أولاً، ولكنني ذكرت ثواب الله فقلت: نعم. ومشوا كلهم شَمالاً ومشيت مع هؤلاء جنوباً حتى بلغنا الجامعة، وكانت في العطلة الصيفية، فأخذونا إلى مهاجع الطلبة (أي مساكنهم وأماكن نومهم)، فرأيت إلى جوارها مهاجع الطالبات، ما أبصرت بينهم سداً ممدوداً ولا حداً حاجزاً، كأن من شاء منهم أو منهن لقي من أراد لقاءه!

وبعض القوم في أوربا قد حُرموا نخوة الرجل وذوده عن عرضه، حتى إنني قلت كلمة من قديم، من عشرات من السنين، أنه ليس في الفرنسية التي أعرفها ولا في الإنكليزية كما فهمت ممن يعرفها كلمة بمعنى كلمة العِرض عند العربي. وحتى قرأت

ص: 276

في إحدى المجلات خبراً قصصته وحفظته، أن القائمين على المدارس المختلطة والجامعات يعلّمون الطالبات فيما يعلّمونهن كيف يتجنّبن الحبل وكيف يتخلصن منه إن وقع! أي أنهم يُبيحون السِّفاح أو يصنعون شيئاً هو قريب من ذلك، فينزلون بالبشر إلى رتبة البهائم. ثم يأتي منا من يريد أن يسلك ببناتنا هذا المسلك، فيحاربون الحجاب ويرغّبون في التكشّف ويحبّذون الاختلاط، ينفذون فينا أول مادة من قانون إبليس، أي التكشّف والسفور والحسور:{يَنْزِعُ عَنهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْءاتِهما} . أليست هذه هي المادة الأولى في قانون إمامهم وقائدهم إلى جهنم إبليس؟

عمّ الاختلاط المدارس كلها حتى الثانوية منها، ومما أحمد الله عليه أنها بقيت في ألمانيا -لمّا كانت حفيدتي تدرس فيها- ثانوية واحدة تقوم عليها مربية قديمة في العمل كبيرة في السنّ، أصرّت على أن تبقى مدرستها للبنات وحدهن، فدرست حفيدتي فيها، حتى إذا ماتت هذه المديرة وتخرجت الحفيدة رجعت هذه المدرسة إلى ما عليه مثيلاتها من الاختلاط بين الشبان والبنات.

وصلنا الجامعةَ فلم نجد فيها إلاّ قليلاً من الطلاب. وكان الموعد في ساعة محدّدة رتّبت أمري على أن أجالسهم فيها ثم أسرع إلى اللحاق بجماعتي، وأنا يؤذيني ويضايقني إخلاف الموعد أو تأخيره، وغضبت لأنهم غيّروا طريقي وقطعوني عن أصحابي ثم لم يُحكِموا أمرهم ولم يضبطوا مواعيدهم. وانتظرت حيناً فجاء الطلاب وامتلأ المكان، وكان مجلساً مبارَكاً مفيداً إن شاء الله، وُجّهت فيه أسئلة وأثيرت فيه مسائل، والفضل في نجاحه لله أولاً ثم للدكتور حبيب زين العابدين ولزوجته المرأة

ص: 277

الصالحة العالِمة الفاضلة التي عملت على إنجاحه.

والعجيب -كما قلت قبل قليل- أني رأيت الاتصال بين الطلبة والطالبات أمراً سهلاً، وأحسب أنه لا يمنعه عندهم قانون ولا يستقبحه عرف، فالقوم في أوربا سابقون في تفكيرهم وفي علومهم المادية وفي مدنيتهم الظاهرة، ولكن إن جاءت الأمور التي يسمّونها ««جنسية» هبطوا عن رتبة بني آدم؛ عوراتهم بادية والاختلاط بينهم عامّ، وهذا ما تصنعه البهائم. هل رأيتم أَتاناً (حمارة) تستر عورتها أو تتوارى إذا جاء موسم اجتماعها بقرينها؟ أفتريدون أن يكون قدوتنا الحمير؟!

وعدنا بالسيارة كما جئنا، ومشينا متمهلين فما كان ينتظرنا موعد، وقعدنا في مقهى على نهر الراين أكلنا فيه وشربنا. ولا تسألوني من أين سرت، فلقد كنت حديث العهد بالبلد لا أعرف مسالكها ولا أسماء مدنها ولا قُراها، وإن كانت قرى على المجاز، وإلاّ فهي مدن صغيرة طرقها وبيوتها ومرافقها ونظافتها مثل ما في المدن. وحقّ لنا أن نُعجَب (بضم النون) بذلك، لكن لا نَعجَب (بفتحها) منه ولا نراه شيئاً صعباً ولا متعذراً، فإن عندنا من المال وعند عامّتنا من الإدراك ما نستطيع أن نعمل مثله وخيراً منه على أهون سبيل، إن تعاونت على ذلك البلديات وأرباب المنابر وأصحاب الأقلام والمدرّسون في المدرسة والوُعّاظ في المسجد.

* * *

يكون عند الطفل عشرون لعبة من نفائس اللُّعَب الغوالي، ثم يرى مع ابن الجيران حصاناً من الخشب ما له قيمة ولا فيه فنّ

ص: 278

فيبكي يريد مثله! ذلك لأن الإنسان يزهد فيما يملك ويشتهي ما لا يملك. وأنا لم أجد في تلك الديار من شمالي ألمانيا وبلجيكا وهولندا -على جمالها- شيئاً ليس في بلادي أجملُ منه، بل إن في جبال الشام (ولبنان وفلسطين من الشام) وفي أوديتها وفي عيونها وينابيعها وفي جداولها وأنهارها وفي خضرة شجرها وتنوع ثمرها ما ليس في تلك البلاد، وما هو أجمل منه، ولكن الإنسان مفطور على حبّ الجديد وعلى الرغبة في كشف المجهول، لذلك أسرعت إلى قطع تذكرة لي ولزوجتي في الدرجة الأولى من القطار الذاهب إلى بروكسل.

ولم يسألني أحدٌ عن جواز السفر ولا عن سمة (تأشيرة) الدخول. وكان لي في بروكسل صديق قديم وأخ كريم هو ابن شيخنا الشيخ علي ظبيان وأخو صديقنا الأستاذ تيسير ظبيان، صاحب جريدة «الجزيرة» التي كنا مع إخواننا في المجمع الأدبي لما أنشأناه نكتب فيها، هو الأستاذ نديم ظبيان. وهو أكبر سناً من أخيه تيسير، وتيسير أكبر مني، مدّ الله في عمر الأستاذ نديم ورحم أباه وأخاه.

ركبت القطار مطمئناً معتمداً على الأستاذ نديم، وقد مسّني طائف من الشيطان فنسيت أن أجعل اعتمادي على ربّ نديم لا على نديم. وخبّروني أن القطار يصل بي إلى المحطة الكبرى في بروكسل، وما عليّ إلاّ أن أهتف به (أكلّمه بالهاتف) فيحضر إليّ، وإن لم أجده خرجت من باب المحطة فإذا أنا في وسط البلد، فتتفرّج زوجتي بأسواقها وتتأمل ما يُعرض فيها، فتُسَرّ بذلك مرة وأحرم أنا المسرة مرتين: مرة لأنني لا أحب التجوّل في الأسواق

ص: 279

ولا التأمّل في معروضاتها، ومرة لأن عليّ دفع ثمن ما تشتريه! والمرأة إن دخلت السوق لم تستطع أن تخرج منه من غير أن تشتري شيئاً وإن كانت لا تحتاج إليه.

ومدة السفر بالقطار من آخن في ألمانيا إلى بروكسل ساعة واحدة، مررنا فيها بما لست أُحصي من القرى والضواحي، وجزنا بلييج، المدينة الكبيرة؛ لم تختلف علينا المشاهد، ولكن أحسسنا باختلاف العادات ونظام السير واختلاف اللسان، أحسسنا بأننا انتقلنا من بلد إلى بلد، على حين لا أشعر إذا سافرت من دمشق إلى بغداد أو مصر أو المغرب بأنني فارقت بلدي. على أن في بلجيكا نفسها شعبين ولسانين: لساناً فرنسياً ولساناً آخر فَلمَنْكياً، لعلّه (ولست متحققاً) قريب من الألمانية. ولا تزال المنازعات والمنافسات تقع بين الشعبين وتكتب عنها الصحف، حتى إن أسماء المدن في المحطات وعلى الطرق تُكتب باللسانين (بروكسل وبروسل، وأنفرس وأنتورب).

وحطّ بنا القطار في المحطة الكبرى، وخرجنا من الباب كما قالوا لنا فلم نجد السوق الحافلة بالناس ولا الحركة الدائمة للبائعين والشارين، ولكن رأينا شارعاً كامداً شبه خالٍ فيه بيوت مفتوحة على أبوابها نسوة لا يختلفن عمّن نرى من نساء تلك البلاد، قاعدات متكشفات ساكتات لا ينطقن، ولكن هيأتهن تُريب ونظراتهن تستغرب، وكان عجبهن منا أكثر من عجبنا منهن إذ يرين كهلاً عجوزاً وامرأة كبيرة متحجبة وما في هذا الشارع أثر لحجاب. فمشينا إلى آخره وعدنا فما وجدنا تجارة ظاهرة ولا بضائع معروضة، ما وجدنا إلاّ مناظر قليلة لا يألفها أمثالنا،

ص: 280

فرجعنا إلى المحطة (وهي في أول الشارع) ننوي العودة بالقطار الذي جئنا به إذ لم نجد غايتنا، لا الأستاذ نديم وجدناه ولا السوق الذي حدّثونا عنه ولجناه، وهممت بركوب القطار، وإذا نحن بالأستاذ نديم ظبيان. فقصصنا عليه القصص فضحك، وأفهمنا أن للمحطة بابين: باباً يُفضي إلى السوق وباباً هو باب السوء يُفضي إلى مكان الفحش والبغاء. فاستغفرْنا الله من هذا الخطأ وحمدناه على السلامة.

وكنا في ضحى يوم الجمعة فقال: هلمّ بنا إلى المسجد.

وفي بروكسل مركز إسلامي ومسجد متسع يمتلئ يوم الجمعة بالمصلّين، وجمهرتهم من الأتراك. فجال بنا جولة في الشوارع حتى وصلنا إلى المسجد. ومن عظمة الإسلام أن أخوّة الإيمان تظهر في المسجد ولو اختلفَت الألسُن والألوان وتناءت البلدان، فإذا دخلتَه لم تجد إلاّ إخوة متعارفين يجمع بينهم هذا النداء القدسي: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وتوحّد بينهم هذه الكعبة التي يتجهون إليها؛ فكل دعوة إلى رابطة غير الإسلام بين المسلمين تُولَد ميتة، فلا الدعوات القومية ولا العنصرية ولا العصبيات الحزبية بالتي تستطيع أن تنقض ما أبرمه الله حين قرّر في كتابه أُخُوّة الإيمان:{إنّمَا المُؤمنونَ إخوةٌ} .

سلّموا عليّ (والترجمان بيننا) كأنني أعرفهم ويعرفونني من قديم، تعارفَت القلوب قبل الألسنة. وكلّفوني أن أخطب الجمعة، فخطبت خطبة كانت تُترجَم فقراتها -على عادتهم في تلك البلاد- فأجد أثرها على وجوه القوم لا سيما الإخوة الأتراك، هؤلاء الذين

ص: 281

عملت القوى كلها، قوة السلطان وقوة المال وقوة الإعلام، على صرفهم عن الإسلام منذ ستين سنة، فما استطاعت أن تصنع شيئاً وبقي الإسلام مستقراً في قلوبهم. ولمّا أعاد عدنان مندريس رحمة الله عليه الأذان باللغة العربية وسمعوه تصدح به منارات إسطنبول (إسلام بول، أي مدينة الإسلام كما سمّاها السلطان محمد الفاتح) فركوا آذانهم ولم يصدّقوا ما سمعوا، فلما تيقّنوه فاضت دموعهم فرحاً وانطلقت ألسنتهم لله شكراً ولمن حقّق هذا الحلم ثناء ومدحاً، وكان ذلك اليوم عيداً لا تُمحى ذكراه من نفوسهم.

* * *

ص: 282