الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-205 -
أيام لا تُنسى في بروكسل
لم ينتهِ الكلام عن بروكسل؛ ختمتُ الحلقة الماضية في المسجد وأبدأ حلقة اليوم من المسجد. ومن المسجد يبدأ كل عمل إسلامي، لأن المسجد عندنا هو المعبد وهو المدرسة وهو الندوة (البرلمان)، ليس المسجد للعبادة فقط، وليست العبادة في المسجد فقط فالأرض كلها للمسلم مسجد، وكل عمل نافع يعمله المؤمن احتساباً عبادة.
ولئن فرّق غيرنا بين الدنيا والآخرة وقسموا الرجال إلى رجال دين ورجال دنيا، فإن كل مسلم رجل دين. إن كانت الدنيا والدين عند غيرنا كطريق الرياض وجدة لمن كان في مكة، أو كطريق الإسكندرية والجزائر لمن كان في تونس، يمشي أحدهما شرقاً والآخر غرباً، فهما عندنا كالطائف والرياض أو الجزائر والرباط، طريق واحد. لكن من الناس من تقعد به همّته عن إكماله فيقف في أول محطة منه، يقنع بها ولا يمتدّ عزمه إلى أبعد منها، وهذا الذي يطلب الدنيا وحدها:{وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاق} ، ومَن يمرّ على هذه ليصل إلى الأخرى، ذلك الذي يجمع الغايتين يقول:{رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسَنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً} .
وقد أرشدنا الله إلى أن الآخرة هي المُراد وقال للمسلم: {وابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرةَ} ، ولكنه عقّب فقال:{ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدّنيا} . وما أحسنَ الدينَ والدنيا إذ اجتمعا، وإن كان الدين لا يقابل الدنيا ولكن تقابلها الآخرة، والدين منهج كامل لكليهما يضمن لمن يتبعه السعادةَ فيهما.
هذا هو الإسلام وكذلك يكون إحياؤه، لا كإحياء الغزالي الذي كان حُجّة الإسلام وكان المفكّر الإسلامي الأول، ولكنه لمّا جنح إلى الصوفية وظنّ أنها «المُنقِذ من الضلال» اختلط عليه الأمر فلم يَعُد يتبيّن الطريق، والحمد لله على أن المسلمين ما نهجوا منهجه في «الإحياء» . تصوروا ماذا يكون حال المسلمين لو أن كل واحد منهم قلل الطعام حتى ذوى جسمه وأصابه السقام، وترك طلب العلم انتظاراً لعلم يأتي عن طريق الكشف والإلهام، وأوى إلى ركن مُنزَوٍ غارق في الظلام؟ وهذا ما حثّ عليه الغزالي ودعا إليه، الغزالي الصوفي لا الغزالي المفكّر الفقيه الإمام. لو فعلنا هذا (ونحن يومئذ بين أخطر عدوَّين عرفهما تاريخنا القديم: الصليبيين، والمغول والتتار)، ماذا كان يبقى من دولة الإسلام؟
وأنا أحب الغزالي من يوم أهدى إليّ شيخُنا الشيخ عيد السفرجلاني (وأنا تلميذ عنده في المدرسة الابتدائية سنة 1338هـ) رسالته «بداية الهداية» ، على أنني من حبي للغزالي أحمد الله على أنه ما مات حتى عرف أن المنقذ من الضلال ليس الصوفية، بل المنقذ من الضلال الدليلان الظاهران على جانبَي الطريق والنيّران الهاديان إلى الغاية المقصودة، اللذان لا يضلّ مَن استضاء بضوئهما ومشى على هديهما، وهما: الكتاب والسنّة.
والحمد لله أن الغزالي ما مات -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- إلاّ وصحيح البخاري على صدره.
رحمه الله فلقد كان عظيماً، وكتابه الإحياء عظيم، ولكن فيه أيضاً من أخطاء الصوفية وأخطارها الشيء العظيم.
* * *
لمّا وصلت إلى هذه الجملة وأنا أُعِدّ هذه الحلقة من الذكريات حمل إليّ البريد مجلة المسلمون عدد السادس من ذي القعدة سنة 1406، وفيها نبأ عن مؤتمر اتحاد الطلاب المسلمين في أوربا سنة 1406 (1986)، وأنا أتكلم هنا عنه في مؤتمر 1390 (1970). ووجدت في الجريدة أنه سيتمّ في اجتماع هذه السنة وضع أسس العمل الإسلامي.
لا أكتمكم أنني وقفت عند هذه الجملة: وضع أسس العمل الإسلامي؟!
لقد كنت أحسب أن هذه الأسس قد وُضعت ياإخوان من قديم الزمان، وقامت عليها الأركان وشُيّد فوقها وعلا البنيان، فلماذا ندع ذلك كله ونحاول أن نبدأ من جديد؟ أو لعلّ الذي نشر الخبر في الجريدة زاد فيه أو نقص منه أو بدّله تبديلاً حتى جعلنا نفهم منه هذا الذي لا أظن أن اتحاد الطلبة المسلمين يريده أو يقصده.
أنترك مثلاً ما وصلَت إليه الطيارات اليوم وأنها صارت عمارات تطير وأنها تحمل معها مئات من الناس وجبالاً من السلاح والمتاع، نترك هذا كله ونعيد قصة رايت وأخيه لمّا طيّرا
أول مرة تلك اللعبة التي افتُتح بها تاريخ الطيران؟ أندع مئات المجلَّدات التي أُلّفت في النحو ونعود إلى ما قالوا إن أبا الأسود الدؤلي قد وضعه مفتتِحاً به النحو حين قال: إن الكلام اسم وفعل وحرف؟ أو ما زعموا أن علياً رضي الله عنه هو الذي وضعه وقال له: انحُ هذا النحو، فسُمّي «نحواً» .
ليس علينا، بل لا حقّ لنا، أن نضع أساس العمل الإسلامي؛ بل أن نجدّد من جوانب البناء ما أبليناه وأن نُصلِح ما أفسدناه ليعود كما كان. فإذا شئتم أن تعرفوا أسس العمل الإسلامي وأن تُقيموها في شباب أوربا فاذكروا أن العربي، بل الأعرابي، كان يَفِد على رسول الله عليه الصلاة والسلام فيبقى عنده يوماً أو بعض يوم، فيتعلم من الإسلام ما تصحّ به عقيدته ويسلم به دينه، ويعود إلى قومه داعياً إليه مبشّراً به معلّماً له.
وإن عند من حولكم من شباب أوربا، إن لم يكن عندهم جميعاً، من صفاء القلب مثل الذي كان عند أولئك الأعراب الوافدين على الرسول عليه الصلاة والسلام، بل إن عندهم فوق ذلك من العلوم الجديدة ما ليس عند أولئك، فأعطوهم الإسلام صافياً خالياً من آراء المتكلمين وخلافات المجتهدين ومن طرق الصوفية ومن بدع المبتدعين، فلعله إذا صادف قلوباً نظيفة فارغة تمكّن منها واستقرّ فيها، ولعلّ من هؤلاء الشباب الذين يُقبِلون اليوم عليكم ويستمعون إليكم مَن سيكون هو المصلح المنشود والقائد المنتظَر وحامل لواء الدعوة إلى الإسلام.
لقد كان ابن باديس يوماً وكان حسن البنا يوماً وكان
المودودي والندوي وأمثالهم، كان كل منهم واحداً من آلاف طلبة العلم لا يدري أحدٌ ما أعدّه الله إليه وما سيكون من الخير على يديه. ولعلّ كلمة أنتم قائلوها في هذا الجمع تنسونها وينساها أكثر السامعين، ولكنها تنزل على قلب واحد منهم منزلَ الغيث على الأرض الغنيّة العطشى فتُنبت النبتَ المرتقَب. إنكم لا تعلمون وأنتم تحاضرون هذه المئات من الشباب في النوادي والآلاف من التلاميذ في المدارس، مَن بينَهم هو الذي كُتب في اللوح المحفوظ أن يكون الرجل المنشود؟ هل تعرفون كم بينهم من بذور العبقرية الكامنة في نفوسهم؟
كم كان مع شوقي من لِدات في المدرسة؟ كان شوقي يومئذ تلميذاً من التلاميذ، نسخة من كتاب مطبوع، ولكن الأيام تمرّ وسنوات المدرسة تنقضي، فإذا هم جميعاً تلاميذ في المدرسة كغيرهم من التلاميذ ورجال في الحياة كغيرهم من الرجال، وإذا شوقي وحده هو شوقي. وكذلك ظهر محمدبن عبد الوهاب، ومن قبله ابن تيميّة والأئمة الكبار، والشعراء والأدباء والعباقرة والنابغون، وكل عظيم كان في صغره كنزاً مطموراً فكشفه الله للناس.
فلعلّ مِن هؤلاء الشباب الصغار الذين يحضرون هذا الاجتماع وأمثاله بنّا آخر أو محمد عبده جديداً أو مثل ابن عبدالوهاب أو أولئك الأئمّة الأعلام.
* * *
قلت لكم إن كل عمل إسلامي يبدأ من المسجد، لكن لا
يبقى فيه. لا يغلق المسلم عليه باب المسجد ويحبس نفسَه فيه إلاّ أياماً معدودة في السنة يَحسن فيها الاعتكاف لمن أراد الاعتكاف، فإذا انقضت حمل روح المسجد ونزل متسلحاً بها إلى معركة الحياة، يعمل في السوق وفي الدائرة وفي المصنع وفي المعركة مع العدوّ لإعلاء كلمة الله، ورُبّ رجل في السوق يبيع ويشتري وقلبُه مع الله وجوارحه مقيَّدة بشرع الله أقربُ إلى الله من قاعد في المسجد وقلبُه معلَّق بالدنيا.
لذلك خرجنا بعد انقضاء الصلاة مع طالبَين من الشام صلّيا معنا ودعوانا إلى دارهما، أنا والأستاذ نديم وأهلي معي، أحدهما ابن الشيخ حسين عزيزيّة الذي كان ممن يلازم الشيخ بدر الدين، والآخر رجل أحسست لمّا رأيته بميل إليه وشعرت بأن له قلباً مؤمناً ونفساً طيبة، هو محمد الجمّال من تلاميذ الشيخ عبدالكريم الرفاعي. وقد خبّرني الدكتور عدنان الهوّاري الذي درس مع أخيه في بلجيكا وأقام فيها سنين طوالاً، ثم رجع فافتتح مَخبراً في مكة وبقي أخوه الأكبر في آخن، خبّرني أنهما لا يزالان باقيَين في بلجيكا، أمّا الأول فقد تَبَلْجَك فاستقرّ فيها وتزوّج منها، وأمّا الثاني فبقي ثابتاً عاملاً مع الدعاة إلى الله في تلك البلاد.
ذهبنا معهما وسُررت بزيارتهما، ووجدناهما يطبخان لأنفسهما، فأكلنا أكلة شامية خالصة في عاصمة بلجيكا وأكل معنا الأستاذ ظبيان. وهو في العادة مثلي لا يأكل عند أحد، ولكن صفاء نفس الشابّين والصلاح الذي كان بادياً على وجهيهما والكرم الصادق الظاهر في دعوتهما حمَلنا على القَبول. وكانت وليمة لافخمة ولا حافلة بالألوان ولا تُعَدّ من الولائم الفاخرة المترفة،
ولكنها كانت طيبة وكانت لذيذة.
ثم أخذونا يُروننا جانباً من البلد، فبلغنا ساحة فيها جسر من الحديد منصوب يعترض الشارع يوصل بين شارعين جانبيَّين، لا أستطيع تحديد طوله ولكنه يزيد عن مئة متر، فدُهش الأستاذ نديم والشابّان، وقلت: ما أدهشكما وأنتما تقيمان هنا وتمرّان كل يوم من هنا؟ قالا: هل تصدّق أن هذا الجسر لم يكن قبل أيام موجوداً؟ وقالوا -بعدُ- أنه أُقيمَ في ثمان وأربعين ساعة. قلت (كما كان يقول صاحب كليلة ودمنة): وكيف كان ذلك؟ قالوا: إنهم حفروا أساس الدعائم وغطّوها وأعدّوا زُبَر الحديد وأوصالها وما يحتاج إليه الجسر بحيث لم يبقَ إلاّ تركيبه، فلما جاءت العطلة الأسبوعية شرعوا يركّبونه، فاشتغلوا به ليلة الأحد ويومَه وليلة الإثنين حتى كمل، وكان صباحَ يوم الإثنين منصوباً يمرّ عليه الناس والسيارات.
* * *
وكان أقرب متنزَّه هو ترفورين، حفظت اسمه لأن عندي صوراً له كنت أودّ نشرها مع هذه الحلقة ونشر غيرها، لولا أنني أمليها بالهاتف إملاء من مكة فيطبعها الأخ طاهر أبو بكر جزاه الله خيراً. وإذا وفّق الله وصدر جزء جديد من الذكريات وضعت هذه الصورة فيه. وترفورين جنّات متصلة لا تعرف أولَها من آخرها: بساط أخضر فوقه سقف أخضر، مكان جميل وماء عذب سلسبيل، وأهم ما فيه بناء كبير جداً كأنه قصر من قصور الملوك الأوّلين فيه متحف يجسّد تاريخ الكونغو لمّا كانت تحكمها
بلجيكا. ويكفي أن تنظروا في الخريطة إلى حجم بلجيكا وحجم الكونغو (التي تبدّل اسمها بعد الاستقلال فرجعت إلى اسمها القديم، زائير) لتعجبوا من شاة تبلع فيلاً! ما مثلها في ذلك إلاّ جارتها هولندا لمّا كانت تحكم أندونيسيا.
في هذا المتحف من نفائس الآثار المنقولة من تلك الديار ما لا تتسع له الروايات والأخبار. ومن أعجب ما فيه رسالة من المهدي (السوداني) إلى ملك بلجيكا يدعوه فيها إلى الإسلام: "أسلم تسلم"، وأعلام وأسلحة قالوا إنهم غنموها من المهدي. وأنا أعلم أن المهدي حارب الإنكليز وحاربوه، ولكن ما علمت (وما أكثر الذي لم أعلمه) أنه حارب ملك البلجيك.
وفي متاحف أوربا وأميركا، لا في هذا المتحف وحده، نفائس لا يبلغ التقدير حقيقة أثمانها، هي لنا، سُرقت منا في ليل غفلتنا وهجوعنا، لا ندري متى يصبح الصباح علينا فننهض من نومنا ونستردّ هذا الذي سرقوه منا؟ بل نستردّ قبل ذلك فلسطين والبلادَ التي عدا عليها اللصوص في ذلك الليل الطويل الذي نام فيه المسلمون؟
ثم أخذونا إلى «الأتوميوم» . وهو صورة مجسَّمة لما يُرسَم في كتب التلاميذ عن الذرّة وتحطيمها، باقٍ من أيام معرض بروكسل الكبير الذي أقيمَ قبل سبع وعشرين سنة على أغلب الظن. وما رأى الذرةَ أحدٌ ولا يمكن من صِغَرها أن يراها أحد، وكان علماؤنا الأولون يسمّونها «الجوهر الفرد» أو الجزء الذي لا يتجزأ، أخذوا ذلك عن اليونان، على أن لهذا الكلام تفصيلاً لا
موضع له الآن. وكان من الخرافات التي أخذناها منهم وحسبناها يومئذ -كما حسبوها- من العلم أن في الدنيا أربعة عناصر مُفرَدة (أي ليست مركَّبة) هي الماء والهواء والتراب والنار، وأن البرودة من الماء والحرارة من النار والجفاف من الهواء والرطوبة من الأرض، ثم بنوا على ذلك كلاماً طويلاً عريضاً طبّقوه على ما دُعي بالأخلاط الأربعة في جسم الإنسان، ثم قسّموا الأطعمة والعقاقير إلى حارّ وبارد ورطب ويابس. ومن شاء رأى مثال ما قالوه في كتب الأولين، والغريب أن الإمام ابن القيم في كتابه «زاد المعاد» شغل نحواً من ربع الكتاب بهذا وأمثاله، الذي صار اليوم أقرب إلى أوهام العوامّ وغرائب الأفهام.
ولست أُفيض في وصف «الأتوميوم» ، فإن عندكم في جدة إلى جنب الجامعة مثالاً له: ثماني كرات تفصل بينها أعمدة مجوَّفة. ونسبة هذا المثال من الأصل في بروكسل كنسبة الفيل الذي يوضع في غرفة الاستقبال (ولا يجوز شرعاً وضعه) من الفيل الحقيقي. إن سقف الكرة العليا -كما خبّرني الدكتور عدنان الهواري- يعلو مئة وعشرة أمتار، ولكنه لضخامته لا يبدو عالياً. وقد صعدنا إليه بمصعد كهربائي، ثم انتقلنا على أدراج متحرّكة من كرة إلى أخرى، وفي أكثرها أجهزة علمية وأشياء لم أعُد أذكرها، ولو أنني ذكرتها ووصفتها لما فهمت تفاصيلها ولا فهم القراء عني. وكيف يفهمون وأنا غير فاهم؟ ولِتتصوروا ضخامة هذه الكرات أبيّن لكم أن واحدة منها اتُّخذت مطعماً، دخلنا إليه وأكلنا فيه وعددتُ الموائد (أي طاولات الأكل) فقاربت في العدد الأربعين، أمضينا فيه ساعات كانت فيها متعة الجِدّة، فهي شيء
لم نكن نعرفه، وفيها جَلوة النظر، فهي تطلّ بعلوّها على بسيط من الأرض ينطلق فيه البصر وتأنس النفس. فأكلنا طعاماً لا أقول إنه طيب (فما عندهم طعام طيب) ولكن يدفع الجوع ويغذّي الجسد.
ولمّا جئنا ننزل وجدنا المصيبة في النزول. فقد أعلنوا بالمكبرات أن وقت الزيارة قارب النهاية، ثم أعلنوا أنه انتهى، قالوا ذلك بلسانهم ولا نعرف نحن لسانهم، فلما جئنا ننزل إذا المصاعد والسلالم الكهربائية قد وقفت، وإذا أنا أمام سلّم من الحديد يكاد يكون قائماً فيه مئات من الدرجات، ما عددتها ولكن زاغ بصري لمّا نظرت إلى أسفلها. وخفت أن تزلق عليه رجلي أو أن يزيع منه بصري، وما ثَمّ حواجز (دَرابزين) أمسك بها ولا جدران أستند عليها، فرأيت الموت عياناً لأنني لا أستطيع أن أبقى في مكاني ولا يُسمح لي بالبقاء، والهبوط على هذا السلّم يكاد يكون هلاكاً محقَّقاً! ولولا أن أمسك بي بعض الناس وأعانني الله لَما بلغت الأرض.
وقد وقع لي مثل ذلك مرة في عمّان. وعمّان قائمة على أحد عشر جبلاً، وكنت يومئذ على جبل الحُسين، فأردت النزول ماشياً فسلكت درباً بين العمارات منحدراً، حتى إذا جاوزت ثلث الجبل لم أعُد أجد العمارات وبقي الدرَج وحده وليس على جانبيه شيء أستند إليه، فدارت بي الأرض وأحسست أنني واقع لا محالة، فقعدت على درجة منه أنتظر الفرج، فمرّ بي جماعة من الشبان فرجوتهم أن يمسكوا بيدي وقلت لهم: إنني كنت شاباً مثلكم أنحدر من أعلى جبل قاسيون في خطّ مستقيم أقتحم كل ما
أجد أمامي، يتدحرج الحصى والحجارة تحت قدمَيّ وأنا ماضٍ قُدُماً ويعترضني الصخر فأقفز عليه، ثم انتهيت إلى ما ترون. وأنتم سيأتي عليكم يوم تصيرون فيه مثلي، فأمسكوا بيدي حتى أدعو لكم يومئذ أن يأتي مَن يُمسك بأيديكم. فضحكوا وضحكت وأمسكوني.
وإذا كان الشيء بالشيء يُذكَر -كما يقول الناس- فلقد وجدت مثل هذا الموقف مرات، لا عليّ أن أعرض إليها فإنها ذكريات من الذكريات.
لمّا كنا في العراق ذهبت مع ثلاثة من الطلاب إلى إيوان كسرى في قرية سلمان باك (ومعنى «باك» في الفارسية الطاهر) أي أن مدينة الإيوان نُسي ملكها كسرى أنوشروان ودُعيت باسم سلمان لمّا شرّفه الله بالإسلام. وكان الناس يصعدون إليه على جدار من اللبِن متهدم، يمسكون باللبنة بأيديهم ويصعدون على التي تحتها بأقدامهم، واللبنات متينة مستمسكة فلا يُخشى عليهم أن تفلت واحدة أمسكوا بها. فلما بلغتُ ثلث الجدار صاح بي أحد الطلاب من تحت: التفت ياأستاذ حتى نصوّرك. فلما التفتُّ ورأيتهم على الأرض صغاراً كأنهم النمل وشعرت بنفسي معلَّقاً بين السماء والأرض لم أعُد أدري أين أنا. لقد دار رأسي وزاغ بصري، ولا أعرف إلى هذا الساعة كيف وفّق الله فنزلت.
وقد وقع مثل ذلك للأستاذ السنهوري باشا لمّا كان في العراق، وقد صعد إلى ظهر الإيوان ولكنه لم يعُد يستطيع النزول، واهتمّت به الحكومة لأنه كان ضيفاً عليها، ولم تكن هذه الطائرات
الوثّابة (الهلكوبتر) فجاؤوا بطائرة عادية وكلّموه بمكبر الصوت أن يتمسك بسلّم من الحبال ينزل إليه منها، وصارت الطيارة تمرّ من فوقه متباطئة ما استطاعت ولكنها لا تزال بالنسبة إليه مسرعة، فيمرّ الحبل به حتى يكاد يلامس وجهه ثم لا يستطيع أن يتمسك به، وأعادوا ذلك مرات كثيرات، حتى تمسّك به مرة وشدّد قبضته من شدة الخوف ورفعوا الحبل فنجا. وقد خبّرني هو رحمه الله أنه لم يصدق بالنجاة، ولمّا رأى نفسه على الأرض أحسّ أنه عاد إلى الحياة بعدما مات (1).
* * *
أعود إلى حديثي. لقد انتهت جولاتنا في البلد ومضى هزيع من الليل ولم يبقَ إلاّ أن نجد مكاناً نبيت فيه، والأستاذ نديم حفظه الله مقيم في بروكسل من أكثر من أربعين سنة، فقال لي: هلمّ إلى فندق نظيف رخيص خالٍ مما تكره أعرف صاحبه وأوقن أنه سيعتني بكم. ومضينا معه، حتى إذا وصل إلى المكان لم يرَ فندقاً وإنما رأى عمارة جديدة عالية، فتعجّب وقال: أين ذهب الفندق؟ ومرّ بنا ناس فسألناهم، فكتموا ضحكهم علينا وقالوا بأن هذه العمارة قائمة من خمس سنين. والأستاذ لا يدري بها!
وذهبنا نفتّش عن فندق غيره فما وجدنا غرفة خالية، ولم ندع مكاناً نظنّ أنه يؤوينا إلاّ ذهبنا إليه، قال: هلمّ إلى نُزُل (بانسيون). فطرقنا أبواب عدد منها فلم نلقَ فيها مكاناً، ثم ذهب بنا إلى حيّ
(1) وقد مرّ بنا هذا الخبر والذي قبله في الحلقة 101 من هذه الذكريات (مجاهد).
يبدو أنه من أحياء المترَفين الأغنياء فقرع باباً، فخرجَت لنا عجوز متكبرة شامخة الأنف، فلما أبصرَتني وأبصرت زوجتي بحجابها أنكرتنا ولوَت وجهها عنا وأبت أن تستقبلنا، فهممت بالرجوع، فقال الأستاذ نديم: انتظر. وعاد إليها قال لها: هؤلاء أصدقاء الدكتور الهوّاري.
فرأينا شيئاً أدهشنا؛ تبدّلَت سحنتها وانبسط ما كان منقبضاً من وجهها، فكأننا كنا في يوم من أيام شباط (فبراير) في رعده وبرقه وزمهريره فانجلت السحب وطلعت الشمس وبدا وجه السماء! ورحّبت بنا وأدخلَتنا إلى غرفة عالية واسعة فاخرة الفرش، ولكنها قالت لنا إنها لا تخدم أحداً وإن علينا إذا أردنا شيئاً أن ننزل بأنفسنا إلى المطبخ فنأخذ ما نريد. وأبَت غير ذلك وأبينا عليها ما عرضته علينا. وذهبنا نفتّش عن مكان غيره فلم نجد، فوقف الأستاذ عند كوخ الهاتف في الطريق وأخذ الدليل وجعل يسأل فندقاً بعد فندق فلم يجد فيها كلها مكاناً، وكان مَوْهن من الليل (أي نصف الليل) وكدنا نسقط من التعب، وعرفت عندئذ مبلغ نعمة الله على الإنسان أن يكون له بيت، ينام وهو آمن أن يدخل عليه أحد ينازعه مكانه ويسرق منه نومه ينغّص عليه ليلته.
وهنا عرفت مدى ضلال الذين يقولون للمرأة: اخرجي من بيتك حرام أن تبقي سجينة بين أربعة جدران. ويحكم ما أجهلكم! من الذي ضحك عليكم فقال لكم إن البيت سجن وإن من الظلم للمرأة أن تقعد بين أربعة جدران؟ إن السجين مَن لا يجد في مثل هذه الليلة وقد كدّه التعب وهدّه النعاس أربعةَ جدران ينام بينها ويغلق عليه بابها. نحن السجينان أنا وزوجتي، لأننا نتيه في
الشوارع لا نلقى فراشاً نُلقي بأنفسنا عليه، ونحن في بروكسل التي يراها الناس إحدى المدن الكبار.
إن كل إنسان يحبّ بلده، ولكن البعيد عنه يزداد حبه إياه وشوقه إليه. فواشوقاه إلى دمشق وإلى بيتي فيها! ما لي ولبروكسل وغير بروكسل؟ إن الذي يسافر إلى أوربا من غير حاجة للدراسة في جامعاتها أو التداوي في مستشفياتها أو لمقصد معيّن له فيها إنما يُتعِب نفسه في غير طائل، حتى الدراسة الجامعية فإن عندنا هنا في المملكة وفي البلاد العربية ما يُغني عن طلبها في غيرها، وكذلك المستشفيات ومَن فيها من الأطباء، اللهمّ إلاّ في بعض التخصصات الجامعية النادرة أو الأطباء العالَميين الكبار، وقليل ما هم.
مَن ذهب إليها فليذكر عظمة ماضيه ونموّ حاضره، ولا ينظر إلى ما فيها نظر البدوي الذي يرى الحضَر أول مرة فيدهشه كل ما فيه، بل نظر الغنيّ لمَن هو أغنى منه والعالم لمن هو أعلم. وما زالت الأمم تتفاوت في المزايا تفاوُت الأفراد، ولا يغضّ من قَدْر الإنسان أن يستفيد من مزايا غيره والحكمةُ ضالّة المؤمن. والضالّة مُلكٌ له ندَّتْ عنه وفرّت منه، فهو يلتقطها حيثما وجدها لأنه أحقّ بها فهو صاحبها.
مرّت هذه الخواطر كلها في نفسي، ولكن لم تُرِح جسدي ولم تُغنِ عني ولم توصلني إلى فراش أستطيع أن أُلقِي بجنبي عليه. ولبثنا ننتظر، فانتظروا معي إلى الحلقة الآتية.
* * *