المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حلقة خاصة في تصنيف العلوم - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٧

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌افتتاح أسبوع التسلّح في دمشق

- ‌من أخبار العلم والعلماء في دمشققبل نصف قرن

- ‌فتنة التجانية في الشام

- ‌في الكلية الشرعية في دمشق

- ‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

- ‌في الفقه الإسلامي والأحوال الشخصية

- ‌كيف وُضع مشروعقانون الأحوال الشخصية

- ‌مصر قبل أربعين سنة

- ‌في إدارة التشريع في وزارة العدل

- ‌ترشيحي في انتخابات الشام سنة 1947

- ‌عودة إلى الحديث عن مصر

- ‌حلقة مفردة: وحي صورة

- ‌وقفة استراحة

- ‌بقايا من ذكريات رمضان

- ‌في «آخِنْ» عاصمة شارلمان

- ‌رحلتي من فرانكفورت إلى آخن

- ‌الدعوة الإسلامية في ألمانيا

- ‌في مسجد آخن مع القساوسة والهيبيين

- ‌السفر إلى المؤتمر

- ‌إلى الوزير الشاعر عبد الله بلخير

- ‌صلاة الجمعة في مسجد بروكسل

- ‌أيام لا تُنسى في بروكسل

- ‌في منطقة الآردن

- ‌خواطر في الحياة والموت،في طرق هولندا

- ‌طريق الحج

- ‌الخط الحديدي الحجازي

- ‌في صحبة الحيوان

- ‌كتاب جديدأثار في نفسي ذكريات قديمة

- ‌إلى الأستاذ أحمد أبو الفتح

- ‌عودة إلى ذكريات القضاء

- ‌في محكمة النقض في دمشق

الفصل: ‌حلقة خاصة في تصنيف العلوم

-188 -

‌حلقة خاصّة في تصنيف العلوم

أنبّه قراء هذه الحلقة إلى أمور. الأول: أن فيها بحثاً علمياً جافاً ليس فيها طرفة نادرة ولا حادثة مشوّقة. فهل رأيتم أحداً يبدأ كلامه بالتنفير من كلامه؟

والثاني: أنها كالصلة لِما قبلها، لا تُفهَم إلاّ معها مقرونة بها، فأرجو أن تضعوا سابقتها أمامكم أو أن تُحضروها أذهانكم.

والثالث: أنكم ستقرؤون هنا كلاماً كالذي تجدونه في مدخل كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام» (الذي طُبع بإذني وبلا إذني أكثر من عشرين طبعة)، فالذي تقرؤونه هنا هو ما ألقيته على الطلاب في دمشق سنة 1363هـ، وسبق أن ألقيتُ مثله على طلاب العراق سنة 1356، أي قبل ذلك بسبع سنين، ونشرتُ طرفاً منه في «الرسالة» في عدد 9 جمادى الآخرة سنة 1356، ثم ألقيته على طلاب كلية التربية في مكة سنة 1384 وما بعدها، وطبعوه وكانوا يتداولونه.

كرّرته وأعدته، لكنني كنت أبدّل فيه وأُعدّل حتى نضج في ذهني واختمر، وجاء في كتاب «التعريف» خميراً ناضجاً.

* * *

ص: 61

أنا أقدَم (أو مِن أقدم) مَن درّس هذه المادة المحدَثة: مادة الثقافة الإسلامية، في دمشق أولاً ثم في مكة. ولم أكن مقيَّداً بمنهج محدَّد لأنه لم يكن أمامي مثل ذلك المنهج، فكنت أبدّل موضوعاتها تبعاً لما أجد من حال الطلاب وحاجتهم إلى ما يُلقى عليهم.

والغريب أني وجدت في عدد «المسلمون» الصادر يوم 13 جمادى الآخرة سنة 1406، أي بعد ثلاث وأربعين سنة من شروعي في تدريسها، خبراً بأن اللجنة العليا للدعوة الإسلامية في الأزهر انتهت من إعداد منهج متكامل (يقصدون أنه كامل) للثقافة الإسلامية التي تَقرّر تدريسها في الجامعات المصرية اعتباراً من العام الجامعي المقبل.

وشيء آخر أنبّه إليه، هو أنه ليس من عادتي في هذه الذكريات أن أفيض في الكلام على المسائل العلمية ولا أن أضمّنها مباحث أو خلاصة عن هذه المباحث، ولكني خالفت عادتي هذه المرة فتكلمت عن تصنيف العلوم عند علمائنا، لأنني لم أجده مجموعاً في كتاب، بل نقّبت عنه حتى وفّق الله فجمعتُه (1)، فهو جزء من عملي لذلك ساغ أن أضمّه إلى ذكرياتي، ثم إنه يُفيد قارئ الجريدة كما يُفيد طالب الجامعة.

قلت إن الثقافة تشمل عادات المرء كلها: في شرابه وطعامه، وفي مشيه وقيامه، وفي صوته وكلامه، وفي لبسه وهندامه (2). ومن

(1) سنة 1363، أي قبل ستّ وأربعين سنة.

(2)

الهندام كلمة فصيحة.

ص: 62

الثقافة نظافة الثياب وأناقتها ولو رخص ثمنها، وأن يشرب الماء مصّاً بلا صوت لا يَشرقه شَرقاً، وألاّ يفتح فمه والطعام في فيه، وألاّ يمضغه مضغ الجمل عند الاجترار، وأن يلبس ما يلبس الناس ما لم يكن مخالفاً للشرع لئلاّ يكون موضع سخريتهم أو ازدرائهم، والمسلم يترفّع عن أن يضع نفسه موضع السخرية والازدراء.

ولو قرأتم وصف الحياة الاجتماعية أيام العباسيين في الكتب القليلة التي عرضَت لها، ككتب القاضي التنوخي (مثل «الفرج بعد الشدة») وبعض ما كتب الجاحظ، وهو قليل جداً، لرأيتم أن للمائدة عندهم آداباً متّبَعة وأساليب مقرَّرة كالذي عند الإفرنج اليوم، ومنها أن الطعام إما أن يُقدَّم جملة واحدة فيختار الضيف ما يعجبه، أو أن يُقدَّم صنفاً بعد صنف. وكان لكل طعام أسلوب في تناوله، وفي «البخلاء» للجاحظ نقد لمن يأكل أكلة على غير أسلوبها.

ووجدتُ أرجوزة في بيان آداب المائدة. ولا تعجبوا منها، فإن أول مَن وضع آداب المائدة هو المعلم الأعظم ‘، حين أمر بغسل اليد قبل الطعام، وقال:«كل بيمينك وكل مما يليك» ، وأمر بتصغير اللقم، وألاّ نستعمل أكثر من ثلاثة أصابع، وبيّن ما يؤخذ منه واحدة واحدة وما يؤخذ اثنتان، ووضع لتقديم الشراب قواعد، أولاً لكبير القوم ثم مَن على يمينه، واستعمل السكّين في قطع اللحم، وأحسب أنه لو كانت الملعقة والشوكة في أيامه لغلب على الظنّ أنه يستعملها، لأن الإسلام لا يعارض الأوضاع المدنية ولا ينافي الأعراف الاجتماعية التي ليس فيها مخالفة ظاهرة لشرع الله.

ص: 63

ولكن الثقافة المقصودة ليست في شيء من هذا وإن كان هذا كله معدوداً منها. وهي لا تقتصر على أسلوب المرء في التفكير ولا على مبلغه في العلم، وإن كان ذلك أكبر مظاهرها وأكثر ما يدلّ عليها، لذلك اقتصرتُ هنا عليه، فبدأت دروسي في الكلية الشرعية التي أحدّثكم عنها بالكلام على مصادر الثقافة.

مصادر الثقافة: للثقافة أو العلوم مصدران: كسبي وتوقيفي. وعند الكلام على العلم المكتسَب لا بدّ من تصوّر العالِم الذي هو الإنسان، والمعلوم الذي هو الكون، وطريق العلم.

ومصادر العلم المكتسَب وطرقه هي الحواسّ والخيال والعقل. فالحواسّ هي منافذ النفس التي تطلّ منها على العالَم الخارجي، والحسّ يُفيد العلم حتماً، فإذا مارى الإنسان فيما يسمع خبره فلا يستطيع أن يماري فيما يراه أو يلمسه. غير أن الحواسّ لا تُطلِعنا على كل شيء في الوجود؛ أنا لا أدرك ببصري نملة تمشي على بعد أميال ولا أسمع لها صوتاً، مع أن لها وجوداً وصوتاً. والحواسّ ربما تُخطئ، كأن ترى بعينك القلم المستقيم الموضوع في الماء منكسراً أو ترى السراب ماء. والحواسّ ليست كاملة، بدليل أنهم اكتشفوا حواسّ غير الخمس المعروفة، كحاسّة البرودة والحرارة، وحسّ التوازن، والحسّ الداخلي.

فالحواسّ إذن تُفيد العلم ولكنها لا تُطلعنا على كل الموجودات، فلا يحقّ لنا أن نُنكِر أشياء (كالجنّ أو الملائكة مثلاً) لمجرَّد أننا لا نراها ولا نحسّ بها.

ثم يأتي بعد الحواسّ الخيال. والخيال هو القوة التي

ص: 64

تستحضر بها النفس المُحَسّات (أي المحسوسات) عند غيابها، فأنا أستطيع أن أتخيّل داري في دمشق وأنا في مكة، أي أنني أرى بعين الخيال كل ما كنت أراه فيها بعين الحقيقة. والخيال أحد طرق العلم، وإن لم يكن يُفيد العلم وحده، فالرياضي يتخيّل نتيجة المعادلة قبل حلّها، والشاعر يتخيّل القصيدة قبل أن يُتمّ نَظْمها، والعالِم يتخيّل ثمرة البحث قبل أن يكمله.

غير أن الخيال له حدود، فنحن لا نستطيع أن نتخيّل إلاّ ما أدركناه أو أدركنا أجزاءه من طريق الحواسّ. وإن أبعد الخيال (كتخيّل رائحة حمراء مثلاً، أو ما يقوله المذيع كل يوم: تسمعون تلاوة عطرة من سورة كذا

) هذا كله مأخوذ من الواقع، ولكننا وضعنا الرائحة حيث يجب وضع اللون والصوت. لذلك يستحيل أن نتخيّل شيئاً من أمور الآخرة على حقيقته، وهذا مصداق قول ابن عباس:«ما في الدنيا ممّا في الآخرة إلاّ الأسماء» .

ثم يأتي العقل. والعقل هو القوة المميّزة في الإنسان وهو طريق العلم الصحيح، غير أن العقل لا يستقلّ بإدراك الموجودات كلها لأنه مقيَّد بالزمان والمكان فلا يدرك ما وراء المادّة، ولأن عمله لا يزيد على ترتيب وتحقيق المعلومات التي جاءته من طريق الحواسّ، ولأنه محدود لا يتصوّر غيرَ المحدود (أي اللانهاية)؛ ولذلك يبقى الإنسان على جهل بما وراء المادة حتى يمنحه الله طريقاً آخر للعلم هو «المصدر التوقيفي» ، أي طريق الوحي. لا الوحي الذي يفهمه الكتّاب والشعراء ويعنون به الإلهام النفسي، بل الوحي الذي هو نزول الملَك بمعلومات ليست من عند العقل.

ص: 65

هذا المصدر هو المصدر الأهمّ، لا في رأي علمائنا فقط بل في رأي أعلام الفلاسفة الغربيين كديكارت ولايبنتز ودوركايم. وتفصيل هذا كله في كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام» الذي أُلّف وطبع بعد إلقاء هذه الدروس بسنين طويلة (1).

* * *

ثم بحثت في دروسي التي ألقيتها في مادة «الثقافة الإسلامية» في العلم: ما هو وما حقيقته؟ ثم تذكّرت ما درَسناه في شعبة الفلسفة (وقد نلتُ شهادتها سنة 1929) من تصنيفات العلوم لبعض فلاسفة اليونان وبعض أعلام الغرب، فحاولت أن أجد مثلها لعلمائنا. وعكفت على الكتب وحبست نفسي في المكتبة أياماً، فوجدت الكثير، فوضعته إلى جنب ما كنا درسناه في علم المنطق التجريبي وجعلت منه فصلاً طويلاً يصلح أن يُطبع في رسالة أو كُتيّب، ولكني فقدته فضاع.

والمنطق التجريبي، أو المنطق العلمي، هو غير المنطق الصوري، منطق أرسطو الذي عُني به علماؤنا وأولَوه ما لا يستحقّ من هذه العناية، وأدخلوه في البلاغة وفي النحو، بل وفي العقائد (أي في علم الكلام) فأفسد كل علم دخل فيه.

لمّا بحثت عن أوراقي فلم أجدها سألت عنها من هو في المملكة ممن كان يومئذ من الطلاب، وكلهم الآن من الأساتذة الكبار، فما وجدتها عند أحد منهم. ولو أني تعودت أن أكتب كل

(1) انظر فصل «قواعد العقائد» في كتاب «تعريف عام بدين الإسلام» ، ومقالة «العقيدة بين العقل والعاطفة» في كتاب «فِكَر ومباحث» (مجاهد).

ص: 66

ما أُعِدّه من محاضرات ومن أحاديث ومن دروس، ونشرتها يومئذ في مجلة أو طبعتها في رسالة، لانتفعت بها وانتفع بها الناس. ولكن «لو» تفتح عمل الشيطان.

ما وجدت إلا مسوَّدات فيها رؤوس المسائل التي ألقيتها، بل فيها إشارات إلى رؤوس المسائل مكتوبة على عجل، قرأت بعضها ولم أستطع -لسوء الخط- قراءة بعضها وأنا كاتبها! وكثيراً ما يقع لي مثل هذا: أُعِدّ محاضرة أو مقالة علمية، فأكبّ على المراجع وأغرق في صفحات المجلَّدات وبيدي قلم وورق أدوّن ما أجده نافعاً لي في مقالتي أو محاضرتي، أشير إليه ولا أدلّ عليه، أُجمِل ولا أفصّل وألمّح ولا أصرّح، وفي ظني حينئذ أن الإشارة والإجمال والتلميح بلا تصريح يكفي. فإذا مر الزمان وعُدت إليها -كما أعود الآن- لم أستطع أن أحلّ رموزها ولا أن أدرك المُراد منها، فضلاً عن أن أكتفي بها. ولقد أضعت على نفسي وعلى الناس بهذه الخطة الحمقاء مقالات وفصولاً ومباحث لو أنها كُتبت في حينها لكان منها الكثير الطيب.

وجدت مسوَّدات أرجو أن تأذنوا لي أن أُثبِتها هنا كما وجدتها.

تكلمت أولاً عن العلم: ما هو العلم؟ فوجدت أن العلم بالمعنى اللغوي هو ما يقابل الجهل، وأن العلم بالمعنى الأصولي المنطقي هو الذي يقابل الظنّ، أي أن مراتب الوجود الذهني عند علمائنا ثلاث:«الشكّ» ، وهو تَساوي جانبَي الإثبات والنفي. فإن سُئلتَ وأنت في المدينة: هل في القرية مطر؟ قلتَ: لا أدري. لأن احتمال نزول المطر كاحتمال عدمه، وليس لديك دليل لنفيه ولا

ص: 67

لإثباته. فإن لمحت في الأفق من جهة القرية سحاباً رجح عندك جانب الإثبات رجحاناً قليلاً، 55 بالمئة مثلاً، فقلت:«أظنّ» أن فيها مطراً. فإن تراكب السحاب وتراكم واسودّ ولمعت خلاله البروق صار عندك «غلبة الظنّ» . فإن ذهبت إلى القرية فرأيت المطر، أو تواتر به إليك الخبر، فهذا هو «العلم» .

فالعلم هنا بمعنى اليقين، ولذلك قال جمهور العلماء إن حديث الآحاد لا يُفيد العلم ولو صحّ، وإنما يُعمَل به بغلبة الظنّ. وقال أهل الحديث وكثير من فقهاء الحنابلة إنه إن صحّ أفاده. فمن أنكر -على رأي الجمهور- عقيدةً جاءت في حديث آحاد لم نحكم بكفره، لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن الرسول ‘ قاله كما نجزم بأن القرآن هو كلام الله، وإن كان المحدّثون بذلوا من الجهد في تحقيق الأسانيد غاية ما في طاقة البشر.

أقسام العلم

والعلم بمعنى اليقين قسّمه علماؤنا إلى «علم ضروري» ، وهو اليقين الذي يجيء من طريق الحسّ، و «علم نظري» ، وهو ما يحتاج إلى دليل.

ثم إن عندنا «العلم» الذي يقابل «الفنّ» ، ومن هنا قلنا «علم الكيمياء» و «علم النحو» ، وقلنا «فنّ التصوير» و «فنّ الإنشاء» .

والعلم يمتاز من الفنّ بالغاية وبالوسيلة وبالأداة. فالعلم غايته الحقيقة والفنُّ غايته الجمال، والعلم وسيلته المحاكمة والفنّ وسيلته الشعور، والعلم أداته العقل والفنّ أداته العاطفة أو القلب كما يقولون. ومما يلاحَظ أن الأمم كلها قديمها وحديثها تخصّ القلبَ

ص: 68

بالعاطفة والعقلَ بالفكر، ولعلّ منشأ ذلك أن الإنسان الأول كان يجد أنه إذا فكّر أصابه الصداع وإذا رأى الجمال أو هاج به الغرام أحسّ الخفقان، فظنّ أن هذا من ذاك وأن الفكرَ بالعقل والعاطفةَ بالقلب. على أنه إذا أُطلق القلب في القرآن أريدَ به مُطلَق اللبّ، لا هذا القلب المادي الذي يضخّ الدم، فكأن المُراد بالقلب في القرآن الفكر والشعور ولو خصّه بأنه الذي في الصدور، والله أعلم.

ومن العلماء المحدَثين مَن يضيّق دائرة العلم حتى لا تتّسع إلاّ للعلوم التجريبية، وليس ذلك بمسلَّم لهم.

وكان علماؤنا يفرّقون بين العلم والأدب، فالعلم تخصُّصٌ وتعمُّق في علم واحد، والأدب أخذٌ من كل شيء بطرف؛ فكان معنى كلمة «الأديب» قديماً كمعنى كلمة «المثقَّف فكرياً» الآن.

وقد جعل الصوفية العلم عِلمَين: علم الظاهر وعلم الباطن، فجاؤوا فيما سمّوه بعلم الباطن بطامّات وبلايا يُنكِرها العقل ويردّها النقل.

تصنيف العلوم

أمّا تصنيفات العلوم فهي كثيرة متعددة بتعدّد الأسس التي يمكن بناؤها عليها، فمن العلماء مَن صنّفها تبعاً لحكمها في الشرع كالغزالي تارة، وتبعاً لغير ذلك تارات أخرى. ومنهم من صنّفها باعتبار أصلها كابن خلدون والحفيد (1)، ومنهم من صنّفها

(1) لعله ابن رشد الحفيد، صاحب «بداية المجتهد» في الفقه و «تهافت التهافت» في الفلسفة (الذي ردّ فيه على الغزالي في «تهافت =

ص: 69

بحسب طبيعة موضوعها كطاشْكُبْري زاده، ومن صنّفها بغايتها كأرسطو، أو بالملَكة البشرية المتعلقة بها مثل بيكون ودروكايم، أو بموضوعها مثل مُلاّ كاتب جَلَبي (1) وأوغست كونت. والتصنيف يختلف باختلاف الأزمنة، إذ قد تظهر علوم جديدة ويتبدّل محتوى بعض العلوم بازدياد موضوعاتها أو نقصها، أو اندماجها في علوم أخرى.

وقد وجدتُ خلال مطالعاتي تصنيفات أخرى كثيرة اخترت منها كالمثال عليها بعض هذه التصنيفات.

تصنيف الغزالي: صنّفها الغزالي باعتبار حكمها في الشرع إلى مُهمّة وغير مُهمّة. وقسّم المُهمّة إلى ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، أي أنه فرض على المجموع لا على كل فرد منه فإذا قام به بعض سقط الإثم عن الباقين. وقسّم غير المُهمّة إلى ما هو مُباح وما هو مذموم. وشرح اختلاف العلماء في العلم الذي هو فرض عين في حديث «طلب العلم فريضة على كل مسلم» ، وذهب فيه مذهباً وسطاً، وقال بأن العلم المفروض يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأزمنة والأحوال، فمَن أسلم ضُحى من نهار وجب عليه أن يعرف ما يصحّ به إيمانه، فإذا كان

= الفلاسفة»)، وهو ليس من المشهورين بالكتابة في هذا الموضوع (أي تصنيف العلوم). ولعل في كتابه «فصل المقال» شيئاً من ذلك، أقوله ظانّاً غير واثق، والله أعلم (مجاهد).

(1)

هو المعروف باسم «حاجي خليفة» ، وكتابه الذي صنّف فيه العلوم وعرّف بكتبها تعريفاً بِبْليوغْرافيّاً هو «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» (مجاهد).

ص: 70

الظهر وجب عليه معرفة الوضوء والصلاة، فإن أدركه رمضان وجب عليه معرفة أحكام الصيام، فإن امتلك النصاب وجب عليه معرفة أحكام الزكاة

ومن أراد زيادة الوقوف على رأيه فليرجع إلى كتبه: «الإحياء» و «فاتحة العلوم» (1) وكتاب «ميزان العمل» .

وقسّم العلوم باعتبار أصلها إلى شرعية وغير شرعية، فغير الشرعية منها ما هو عقليّ كالرياضيات، أو تجريبي كالطب، أو سماعي كاللغة. والشرعية تقسم عنده إلى أصول وفروع ومقدّمات ومتمّمات.

تصنيف ابن خلدون: قسّمها إلى «طبيعية» يهتدي إليها الإنسان بفكره، و «نقلية» يأخذها عمّن وضعها. فالطبيعية هي العلوم الحكمية الفلسفية، وهي عامّة لجميع البشر. ويلاحَظ أن الفلسفة على عهد ابن خلدون كانت تنتظم العلومَ كلها، أي أنها كانت لها كالأم الحاضنة للأولاد الصغار، فكلما كبر علم استقلّ عنها، وآخر علم استقلّ (أو كاد) هو علم النفس. وصارت الفلسفة في أيامنا قاصرة على مسائل المغيَّبات (الميتافيزيقا). وقال إن العلوم النقلية مستمَدّة من الخبر إلى الواضع الشرعي، وهي خاصّة بالمسلمين ولا مجال للعقل فيها إلاّ في إلحاق الفروع بالأصول، وأصلها الكتاب والسنة.

تصنيف ابن النديم: أمّا ابن النديم المتوفّى سنة 385 صاحب «الفهرست» فليس له تصنيف كامل للعلوم، وإنما يُستنبَط من كتابه

(1) ورد باسم «فاتحة العيون» في الطبعات السابقة من الذكريات، وهو خطأ صوابه ما أثبتُّه هنا (مجاهد).

ص: 71

الذي جعله عشرة فصول (أو عشر مقالات كما سمّاها) وجعل كل طائفة من العلوم في مقالة منها، وتكلّم عن لغات الأمم وخصائصها، ثم عن كتب الشرائع المنزلة، ثم النحو واللغة، ثم التاريخ، ثم الشعر، ثم علم الكلام، ثم الفقه والحديث، ثم الفلسفة والعلوم القديمة، ثم الأسمار والخرافات والسحر والشعوذة، ثم المذاهب والاعتقادات (انظر مقدّمة الفهرست).

تصنيف شمس الدين السنجاري المتوفى سنة 749: قسّم العلوم إلى مقصودة في ذاتها ومقصودة لغيرها. فالأولى هي العلوم الحكمية، وهي عنده إما نظرية كالفلسفة والطبيعيات والهندسة، وإما عملية كالسياسة والأخلاق وتدبير المنزل. والثانية علوم الأدب، فهي عشرة: اللغة والتصريف والمعاني والبيان والبديع والعَروض والقوافي والنحو والخط والقراءة. ثم العلوم الشرعية وهي ثمانية: القراءات ورواية الحديث ودرايته والتفسير وأصول الدين وأصول الفقه والجدل وعلم الخلاف. ثم العلوم العقلية وهي الطب والبيطرة والبيزرة (وهو طب البُزاة، وقد كتبت عنه في مجلة الرسالة من أكثر من خمسين سنة (1)) والفراسة وتعبير الرؤيا (والحقيقة أن تعبير الرؤيا ليس بعلم) والنجوم والسحر والطلّسْمات (وهذه كلها ليست من العلوم) والكيمياء والسيمياء

(1) في مقالة عنوانها «كتاب في البَيْزَرة» ، نُشرت في «الرسالة» سنة 1935، وفي مطلعها أنها وصف لنسخة فريدة من كتاب مفقود في هذا العلم. وهي ضمن مجموعة من المقالات جمعتها لتصدر في كتاب جعلت عنوانه «فصول في الثقافة والأدب» ، وأرجو أن يصدر غيرَ بعيد بإذن الله (مجاهد).

ص: 72

والفلاحة والمرايا المحرقة والمساحة والمياه (راجع كتابه «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد»).

تصنيف طاشْكُبْري زاده: قال في كتابه العظيم «مفتاح السعادة» إن الأشياء لها وجود في أربع: في الكتابة، وفي الألفاظ، وفي الأذهان، وفي الأعيان (وأقول أنا إن هذا التقسيم مأخوذ من الغزالي في كتابه «المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى»).

وصنّف طاشكبري زاده العلوم تبعاً لذلك، فجعل من القسم الأول الكتابة وعلم الخط والإملاء. ومن الثاني اللغة وعلم الوضع (أقول: وقد كان يُدرَّس على أيامنا ثم أهملَته المدارس) والاشتقاق والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعَروض والقافية والإنشاء وقرض الشعر والشروط والسجلاّت والأحاجي (أي الفوازير) والأغلوطات والتاريخ والمغازي.

ومن الثالث المنطق والجدل والمناظرة والخلاف (وهو ما نسمّيه اليوم «الفقه المقارن»). وقسّم الرابع إلى: «إلهيّ» ومنه علم النفس (وهو غير ما ندرسه باسم السيكُلوجي) وعلم المَعاد (أي الآخرة) ومقالات الفِرَق. و «رياضيّ» ، كالعدد (أي الحساب) والهندسة والهيئة (أي علم الفلك) والموسيقى. و «طبيعي» ، وهو الطب والبيطرة والبيزرة والنبات والحيوان والفِلاحة (أي الزراعة) والمعادن والفراسة وتعبير الرؤيا والنجوم والسحر (وهذه ليست علوماً) والكيمياء والكحالة (أي طب العيون) والصيدلة والجراحة.

ص: 73

وقد جمعتُ تصنيفات أُخَر، ولكنني أجتزئ هنا بالذي كتبته وأعتذر إلى القارئ بأنني جعلت هذه الحلقة من الذكريات بحثاً علمياً قد ينفع ولكنه لا يمتع.

* * *

إن لذكرياتي في الكلية الشرعية صفحات أربعاً:

صفحة تدريسي فيها. وقد درّست الثقافة الإسلامية كما بيّنت لكم، ثم درّست لطلاب القسم العالي في الكلية لمّا أُنشئ الجزءَ الثاني من أمالي القالي.

وصفحة عملي في رياسة مجلس العمدة، الذي كان المرجع الأعلى للكلّيات الشرعية (أو الثانويات الشرعية كما سُمّيت بعدُ) في سوريا كلها.

والثالثة أنهم لمّا وحّدوا المدرستين، كليتنا هذه ومعهد العلوم الشرعية الذي أنشأته الجمعية الغرّاء، كنت رئيس هذه العمدة الموحَّدة بحكم كوني القاضي الممتاز في دمشق، أي لوظيفتي الرسمية لا لعلمي ولا لفضلي.

وصفحة رابعة هي لمّا كلّفني السرّاج (وزير الأوقاف أيام الوحدة مع مصر) بوضع مناهج الكليات الشرعية، فوضعتُها كلها وحدي بعد أن استشرت علماء الشام وحاورتهم، ثم ذهبت إلى مصر وقابلت الشيخ شلتوت شيخ الأزهر، الذي عرفته قديماً في مجلس الشيخ عبد المجيد سليم وفي إدارة «الرسالة» وشرّفني حقاً بصداقته، وإن أنكرتُ عليه ما ذهب إليه في آخر عمره -رحمه

ص: 74

الله- في مسألة الربا. قابلت الشيخ شلتوت والدكتور البهي وفريقاً من علماء الأزهر، ثم وضعت هذه المناهج التي تسير عليها المدارس الشرعية اليوم.

ولكل واحدة من هذه الصفحات الأربع قصة أرجو أن أوفَّق إلى روايتها إن شاء الله. وسأكتب إن وفّق الله عمّن عرفت من الرجال في الكلية؛ أروي أخبارهم وألخّص سِيَرهم، وفي بعض أخبارهم ما يُفيد وفي بعضها ما يسرّ ويسلّي.

* * *

ص: 75